كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-28-0
الصفحات: ١٦٨
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

حجم بعضها حجم الكرة الأرضيّة بملايين المرّات ، وبينها فواصل مرسومة ، تدور في فلكٍ معيّن ، يحكمها قانون الجاذبيّة العام ، يرسم تعادلاً بينها ، وتوازناً في حركتها ليحول دون وقوع الصّدام بينها ، وإصطدام بعضها ببعض ، ويمنع تزاحم بعضها لبعض : ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (١).

ج : كافّة التّطورات التي تحصل للمادّة ، والتغيّرات التي تجري في الطّبيعة تدلّ على قدرة تفوق المادّة وأعظم من الطّبيعة ، إذ تأثير المادّة والمادّي مرهون بالوضع والمحاذاة فالنار التي تسخّن بحرارتها جسماً ـ مثلاً ـ ، أو المصباح الذي ينير بأشعّته وضيائه فضاءً ومساحةً ، لم يكن ليتحقّق منهما هذان الأثران في الجسم والمكان ـ الفضاء ـ لولا حصول نسبة وضعية خاصة ومحاذاة بينهما وبين الجسم والمكان المنفعل والمتأثّر بهما ، هذا قانون تكويني ثابت يعمّ كلّ مادة ومادّي ، ولا يستثنى منه شيء ، إذا لابدّ من حصول هذه النّسبة المعيّنة وهذا الوضع الخاص لوقوع التأثير بين المؤثر والمتأثر ، والفاعل والمنفعل ، ولمّا كان حصول هذه النّسبة وهذا الوضع بين الموجود والمعدوم محالاً ، فإنّ تأثير

__________________

(١) سورة يس : ٤٠.

٦١

المادّة والطّبيعة في الحوادث المادّيّة والمستجدّات الطّبيعيّة محال أيضاً ، فكلّ معدوم يكتب له الوجود في السَّماوات والأرضين يكون آيةً بيّنة ودليلاً قاطعاً على وجود قدرة غنيّةٍ في تأثيرها عن الوضع والمحاذاة ، وهي خارقة للطّبيعة ، وفوق الجسم والجسمانيّات : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١).

د : الإنسان مفطور مجبول على الإيمان بالله ـ تعالى ـ ، فالإيمان يجري في فطرته مجرى الدّم في عروقه ، لأنّه لا يستغني في ذاته وفطرته عن سند يستند إليه ، وعن كنفٍ يكتنف به ، وحصنٍ حصينٍ يلوذ إليه ، وقدرة يعتمد عليها ، بل بفطرته يحتاج إلى من يستند إليه ويتكوّل عليه ، غير أنّ انشغاله وتعلّقه بالعلائق المادّيّة يفرضان عليه حجاباً يمنعه من العثور على ذلك الحصن الحصين والكنف المنيع.

فإذا ادلهمّتْ به الخطوب ، ونزل به البلاء ، وأحاطت به النوائب من كلّ حدبٍ ومكان ، وحلّ به اليأس والشّقاء والحرمان ، وأيقن بأنّ مصابيح الأفكار عن هدايته منطفئة ، وأيدي القدرة عن نصرته عاجزة ، وأبواب الرَّشاد بوجهه

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.

٦٢

موصدة ، انتبه وجدانه ، واستيقظ ضميره النّائم ، ليولّي وجهه بلا إرادةٍ ودون اختيار الى ساحة قدس الغنيّ بالذّات ، ويستعين بلا انتظار بالقادر المتعال ، الذي كان مفطوراً على الاتكاء والتّوكّل عليه والاستناد إليه فانشغل عنه بغيره ، ( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (١) ، و ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (٢).

قال رجل للإمام أبي عبد الله الصّادق عليه‌السلام : « يابْنَ رسولِ اللهِ دُلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليَّ المجادِلونَ وحيّروني ، فقال له : يا عبد الله ، هل ركبتَ السّفينة قطّ ؟ قال : نعم ، قال : فهل كُسِرَ بك حيثُ لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ ، قال : نَعَم ، قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ قال : نعم ، قال الصّادق عليه‌السلام : فذلك الشّيءُ هو الله القادر على الإنجاء حيث لا مُنجِي ، وعلى الإغاثة حيثُ لا مغيثَ » (٣).

__________________

(١) سورة الحشر : ١٩.

(٢) سورة يونس : ٢٢.

(٣) التوحيد ( للصدوق ) : ص ٢٣١ ، معاني الاخبار ( للصدوق ) : ص ٤ ، بحار الأنوار ج ٣ / ٤١ ح ١٦ وج ٨٩ / ٢٣٢ ح ١٤ ، تفسير الامام العسكري : ص ٣٢.

٦٣

ثم هذه المعرفة والعلاقة الفطرية بالله التي تحصل عند حلول البلاء واليأس والشّفاء قد تحصل أيضاً في حال الاختيار والرخاء ، لكن بجناحين هما العلم والعمل :

أوّلاً : بأن يمزّق المرء حجاب الجهل بنور العقل والعلم والمعرفة ، ليرى بعين اليقين ويعلم علم اليقين بأنّ وجود الموجودات وكمالاتها الوجوديّة ليست من صنعها ولا من صنع نظائرها وأشباهها ، بل تبدأ وتنتهي جميعها إلى ذات قُدّوسيّة حكيمة تبدأ منه وتنتهي إليه ، وجودها جميعاً منه وبه وله وإليه ، ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١).

ثانياً : أن يلتمس طريق الخير ويدفع عن نفسه دنس الرذائل والصفات المذمومة باتّباع التقوى وطهارة الروح وتزكية النّفس ، إذ لا حجاب بين الله ـ تعالى ـ وعبده سوى حجاب الجهل والغفلة والمعصية : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (٢) ، ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (٣).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) سورة الحديد : ٣.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٣) سورة الشمس : ٧ ـ ١٠.

٦٤

الدرس الحادي عشر

صفات الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : تقدّم أنّ وجود الله ـ تعالى ـ أمر ثابت بالفطرة والوجدان ، وأنّ جميع الأشياء من حولنا تدلّ على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ، فما هي الصّفات الّتي يتّصف بها الله ـ سبحانه وتعالى ـ ؟

ج) : لله ـ تعالى ـ نوعان من الصّفات ، الأول : الصفات الثبوتيّة ، وتسمّى « صفات الجمال » ، الثاني : الصفات السّلبيّة ، وتسمّى « صفات الجلال » ، وهي جميعاً ـ أي النوع الأول والثاني ـ تسمّى « صفات الكمال ».

س) : ما معنى الصّفات الثبوتيّة والصّفات السّلبيّة ؟

ج) : الصفات الثبوتيّة هي التي تتّصف بها الذات الإلهيّة المقدّسة ، بل يجب أن يتّصف بها الله ـ تعالى ـ ، والسّلبية هي الّتي تتنزّه عنها الذّات المقدّسة ، أي يجب أن لا يتّصف بها الله ـ تعالى ـ.

٦٥

س) : ما هي الصّفات السّلبيّة ؟

ج) : كل صفة تدلّ على النقص والمحدوديّة والحاجة إلى الغير تعدّ صفة سلبيّة ويجب نفيها عن ذاته المقدّسة ، كالجسمانيّة وتوابعها من التكاثر والتناسل وكونه ذا أجزاء ، وكالجهال بجميع مراتبه ، والفقر ، والضّعف ، وما شابه ذلك.

س) : ما هي الصّفات الثبوتيّة ؟

ج) : الصّفات الثبوتيّة على قسمين :

أ ـ الصّفات الثبوتيّة الذاتية.

ب ـ الصّفات الثبوتيّة الفعليّة.

س) : ما هي الصّفات الثبوتيّة الذاتيّة ؟

ج) : هي الصّفات التي يتصف بها الله ـ تعالى ـ في ذاته المقدّسة ، ومنتزعة من ذاته المقدّسة ، كالحياة والعلم والقدرة ، وهو ـ تعالى ـ متّصف بها من غير نظر إلى شيءٍ من أفعاله ومخلوقاته ، وتسمّى « صفات الذات ».

س) وما هي الصّفات الثّبوتيّة الفعليّة ؟

ج) : هي الصّفات التي يتّصف بها الله ـ تعالى ـ من جهة ارتباطها بأفعاله ومخلوقاته ، وهي منتزعة من علاقته ـ تبارك وتعالى ـ بمخلوقاته ، كالخالقيّة ، الرّازقيّة ، وتسمّي « صفات الفعل ».

٦٦

واعلم أنّ صفات الذّات هي النّواة الأصليّة لصفات الفعل ، وأنّ أصل صفات الفعل يرجع إلى صفات الذات ، مثلاً الخالقيّة صفة يتّصف بها الله ـ تعالى ـ بعد ما يخلق شيئاً ، ولكنّه ـ تعالى ـ قبل أن يخلق الأشياء كان في الذاته المقدّسة متّصفاً بالقدرة المطلقة ( إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) ، فالخالقيّة صفة فعليّة قائمة بالقدرة وهكذا سائر صفات الفعل فإنها متوقّفة على صفة ذاتيّة ، وصفات الذّات متقدّمة عليها.

س) : عدّد لنا صفات الذّات المقدّسة ؟

ج) : أهم هذه الصّفات واُصولها ثلاث :

الحياة وقد قال تعالى في آية الكرسي : ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) (٢).

العلم : قال تعالى : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) (٣) ، قال ـ تعالى ـ أيضاً : ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (٤) ، وقال ـ تعالى ـ : ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٥).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٠ ، ١٠٩ ...

(٢) سورة البقرة : ٢٥٥.

(٣) سورة غافر : ١٩.

(٤) سورة الأنعام : ٧٣.

(٥) سورة البقرة : ٢٩ ، سورة الأنعام : ١٠١.

٦٧

القدرة : قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١).

س) : عدّد لنا صفات الفعل ؟

ج) : أهمّ هذه الصّفات واُصولها أيضاً ثلاث :

الخالقيّة : قال ـ تعالى ـ : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (٢) ، ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (٣) ، الرُّبوبيّة : قال ـ تعالى ـ : ( رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) (٤) وقال ـ تعالى ـ : ( الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٥) ، وقال ـ تعالى ـ أيضاً : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٦) ، والرُّبوبيّة معناها أنّ الله ـ تعالى ـ مدبّر لشؤون خلقه من مبدء الخلق الى المعاد وفي جميع الأحوال ، إذا المخلوق كما يحتاج في نشأته إلى الله ـ تعالى ـ فإنّه يحتاج إلى الله ـ تعالى ـ أيضاً في بقائه ، ولهذا فالرُّبوبيّة تنقسم إلى الربوبيّة التكوينيّة : هي أن الله ـ تعالى ـ يقوم بإدارة شؤون جميع المخلوقات ويوفّر لها سبل الحياة والبقاء والكمال ، وبعبارة أدقّ :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٠.

(٢) سورة لقمان : ٢٥.

(٣) سورة الصافّات : ٩٦.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ ، سورة الدخان : ٨.

(٥) سورة الفاتحة : ١ ، سورة يونس : ١٠.

(٦) سورة الإسراء : ١٠٢ ، سورة الكهف : ١٤.

٦٨

القيام بتدبير اُمور الكون الكائنات ، والرُّبوبيّة التشريعيّة : وهي تختص بتدبير اُمور تضمن سعادة ذوي العقول والشّعور ، كالإنسان ، وذلك بإرسال الرّسل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب السّماويّة ، وتسنين القوانين والأحكام الكفيلة بسعادة الإنسان وكماله الاُخروي.

فالرّبوبيّة المطلقة عبارة عن حاجة المخلوقات إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ في كافّة شؤونها التكوينيّة والتشريعيّة.

الاُلوهيّة : والإله ، هو الّذي يستحقّ العبادة ، والعبادة محرّمة لغير الله ـ تعالى ـ ، ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ) (١) ، ( لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللهُ ) (٢) ، « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » (٣).

وهناك صفات فعليّة اُخرى لابدّ من الإشارة إليها :

الإرادة : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٤).

الحكمة : قال ـ تعالى ـ ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (٥) وأيضاً :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٥.

(٢) سورة محمد (ص) : ١٩.

(٣) رسائل المرتضى ج ٢ / ٢٦٣.

(٤) سورة يس : ٨٢.

(٥) سورة الأنعام : ١٨ ، ٧٣.

٦٩

( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) (١). لأنّه لا يفعل شيئاً إلا بحكمة ولحكمة.

الكلام : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ... الخ ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (٣).

الصّدق : قال ـ تعالى ـ : ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا ) (٤).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨٤.

(٢) سورة الشورى : ٥١.

(٣) سورة النساء : ١٦٤.

(٤) سورة النساء : ٨٧.

٧٠

الدرس الثاني عشر

مراتب التوحيد وأقسامه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

التّوحيد هو الاعتقاد بوحدانيّة الله ـ تعالى ـ بنفي التّركيب في ذاته المقدّسة وصفاته التي هي عين ذاته ، ونفي الشّريك له في خلقه وأمره ، ونفي أن يكون له والد أو ولد : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (١) ، ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ) (٢).

والتّوحيد على أقسام :

١ ـ توحيد الذّات ، أي الواحد الذي لا شبيه له ولا نظير ، والأحد الذي لا يقبل القسمة العقليّة ولا القسمة الوهميّة ، وليست وحدانيّته وحدانيّة عدديّة « واحدٌ لا بالعدد » ، ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ

__________________

(١) سورة الاخلاص : ١ ـ ٤.

(٢) سورة البقرة : ٢٥٥.

٧١

قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) (١) ، وليست وحدانيّته ـ تعالى ـ وحدانيّة نوعيّة بأن يقال : الله ـ تعالى ـ فرد من النوع الكذائي ، كما يقال : أنّ زيداً فرد من أفراد النوع الإنساني.

٢ ـ توحيد الصّفات : والمراد هنا صفات ذاته المتعالية ، دون صفات الفعل ، إذ أنّ صفات الذات عين ذاته المقدّسة كالحياة والعلم والقدرة ، إذ تعدّد الذّات والصّفات يستلزم التركيب والتجزئة ، والتركيب يستلزم حاجة المركَّب إلى أجزائه وإلى مركِّب تلك الأجزاء ، كما يستلزم زيادة الصّفات على الذّات ، المستلزم لأن يكون فاقداً لصفات الكمال محتاجاً إلى من يفيض عليه بتلك الصّفات ، وهذه الحاجة تناقض كونه ـ تعالى ـ غنيّاً بالذّات.

٣ ـ التّوحيد في الاُلوهيّة : ( وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ) (٢).

٤ ـ التّوحيد الرّبوبي : أو التّوحيد في الربوبيّة ـ ( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (٣)

__________________

(١) سورة المائدة : ٧٣.

(٢) سورة البقرة : ١٦٣.

(٣) سورة الأنعام : ١٦٤.

٧٢

٥ ـ التّوحيد في الخلق : ( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١).

٦ ـ التوحيد في العبادة : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) (٢) ، ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ) (٣).

٧ ـ التّوحيد في الأمر والحكم : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٤).

٨ ـ التّوحيد في الخوف والخشية : ( فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٥).

٩ ـ التّوحيد في الملك : ( وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) (٦).

١٠ ـ التّوحيد في النّفع والضّرر : ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ) (٧).

١١ ـ التّوحيد في الرّزق : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٢.

(٢) سورة الفاتحة : ٥.

(٣) سورة المائدة : ٧٦.

(٤) سورة الأعراف : ٥٤.

(٥) سورة آل عمران : ١٧٥.

(٦) سورة الإسراء : ١١١.

(٧) سورة الفتح : ١١.

٧٣

وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ ) (١).

١٢ ـ التّوحيد في التوكّل : ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (٢).

١٣ ـ التّوحيد في العمل : ( وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ) (٣).

١٤ ـ التّوحيد في التّوجّه : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) (٤) قال عليٌّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام لابنه : « واعلم يا بُنيّ أنّه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته » (٥). (٦)

عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : سمعته يقول : ما من شيءٍ أعظم ثواباً من شهادة أن لا إله إلا الله ، لأنّ الله عزّ وجلّ لا

__________________

(١) سورة سبأ : ٢٤.

(٢) سورة التغابن : ١٣.

(٣) سورة الليل : ١٩ ـ ٢٠.

(٤) سورة الأنعام : ٧٩.

(٥) ترجمة وتلخيص مع شيءٍ من التصرّف ، من مقدمة كتاب توضيح المسائل لسماحة المرجع الدّيني الأعلى آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني دام ظلّة الوارف.

(٦) نهج البلاغة ج ٣ / ٤٤ ، تحف العقول : ص ٧٢ ، بحار الأنوار ج ٣ / ٢٣٤.

٧٤

يَعْدِلُهُ شيء ، ولا يُشركه في الأمر أحد » (١).

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما جزاء من أنعم الله عزّ وجلّ عليه بالتوحيد إلا الجنّة » (٢).

وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٣).

والنتيجة : أنّ التوحيد والاعتقاد به مطلوب في جميع المجالات السَّابقة ، الدّليل على توحيده ـ تعالى ـ ما جاء في الآيات والأحاديث السَّابقة ، ويجب أن ينعكس ذلك على سلوك المؤمن وتصرّفاته وأعماله ، كما أنّ ثمرة هذا التوحيد والاعتقاد به يظهر في تكامل الفرد والمجتمع الموحِّد ، بعدما أشرقت أشعّة الكمال ونور السّداد في أعماق النّفس والعقل الإنساني حتى يملأ الخافقين سعادة وكمالا بحثاً عن الحقائق والآيات الباهرات التي تعبّر عن منظومة موحَّدة ، ودُرٍّ نضيد وسلسلة مترابطة متكاملة في عالم الوجود ، وهي حقيقة تنبثق من

__________________

(١) التوحيد ( الصدوق ) : ص ١٩ ، ثواب الاعمال : ص ٣ ، بحار الأنوار ج ٣ / ٣.

(٢) التوحيد ( الصدوق ) : ص ٢٢ ح ١٧ ، مشكاة الانوار : ص ٣٧ ، بحار الأنوار ٣ ص ٥.

(٣) سورة الرعد : ٢٨.

٧٥

كلمة « لا إله إلا الله » التي تتألّف من حروف يمكن أداؤها والتّلفّظ بها بالجهر والإخفات ، فهي كلمة جامعة للذكر الجليّ والذكر الخفيّ ، كما أنّ مؤداها وحقيقتها قلبية ، فهي من الأذكار القلبيّة واللّسانيّة.

والحمد لله ربّ العالمين

٧٦

تتمة الدرس الثاني عشر

ثمرات التوحيد العمليّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تبيّن من الدّرس الماضي مراتب التوحيد وأقسامه ، وأن أعلى مراتبه مرتبة التوجّه الكلّيّ إلى الله ـ تعالى ـ ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) (١).

وتبيّن أيضاً أهمّ معاني التوحيد وهي :

١ ـ نفي التّعدد : وهو عبارة عن نفي الشريك لله ـ تبارك وتعالى ـ.

٢ ـ نفي التركيب : وهو عدم كونه جسماً مركّباً من أجزاء.

٣ ـ نفي الصّفات الزائدة على الذّات المقدّسة ، بل صفاته الذاتيّة عين ذاته المتعالية.

٤ ـ التوحيد الأفعالي : وهو أنّ جميع أفعاله منه ـ تعالى ـ لا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٧٩.

٧٧

يحتاج في خلق شيء أو فعل شيء إلى غيره ، بل لا غير له ولا معه حتى يحتاج اليه ، وكلّ ما عداه وجودات ظلّيّة اعتباريّة في قبال وجوده الذي هو عين الحقيقة.

٥ ـ التأثير الاستقلالي : ومعناه أنّ ما يصدر من الخلائق قاطبة إنّما هي أفعال الله ـ عزّ وجلّ ـ ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) فالمخلوق أيّاً كان لا يستغني فيما يفعله عن الخالق الحكيم ، بل لا يصدر منه شيءٍ إلا بإدارة من الله ـ تعالى ـ ومشيّته ، وكلّ ما للمخلوق من تأثير وتأثّر إنّما يتمّ بإذن الله ـ تعالى ـ وإرادته التكوينيّة.

أمّا الثّمرة العمليّة والعقائديّة للتّوحيد في فعله ـ تعالى ـ وتوحيد أفعاله ، فهي أنّ الإنسان حينئذٍ لا يرى ولا يعتقد بمعبود سوي الله ـ تعالى ـ ، إذ الاُلوهيّة من لوازم الخالقيّة والرّبوبيّة.

وأمّا التّوحيد بالمعنى الأخير ـ وهو التأثير الاستقلالي ـ فثمرته ونتيجته أن يجعل الإنسان عمله خالصاً لوجه الله ـ تعالى ـ ، ولا يستعين بغيره ، بل يعتمد ويتوكّل على الله وحده ، ولا يرجونّ غيره ، ولا يطلب الأجر إلا منه ، ويقطع كلّ أملٍ بغيره ، ولا

__________________

(١) سورة الصافّات : ٩٦.

٧٨

ييأس في قضاء حوائجه وتحقق أفعاله وتحقيق أهدافه ، ويسأل الله التوفيق ، فهو حينئذ يكون في كنف الله ـ تعالى ـ وتحت ولايته الخاصّة ، وينجو من وساوس النّفس ومكر الشيطان ، ليشعر بالأمل والتفاؤل ، وراحة النّفس والاستقرار والسكينة ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١).

س) : إذا كانت الاستعانة والتوسل بغير الله ـ  تعالى ـ شركاً وحراماً فما بالنا نجد في كثير من الرّوايات والأدعية والزّيارات وفعل العلماء والمؤمنين خلاف ذلك ، إذ نجدهم يأمرون بالتوسّل الى الأئمّة والأنبياء عليهم‌السلام وهكذا ببعض الصّالحين ؟

ج) : الجواب واضح إذ المنهيّ عنه والّذي يعدّ شركاً بالله ـ تعالى ـ هو التوسّل والاستعانة بمعنى أن نعتقد بالّذي نتوسل أو نستعين به أنّه يقضي لنا حاجة باستقلاله ودون الحاجة إلى الله ـ تعالى ـ ، ولا إذنٍ منه ـ تعالى ـ ، بلىٰ هذا شرك و ( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) (٢) ولا يختلف حينئذ بين كون التوسّل بالحيّ أو الميّت ، ولكنّ هذا خلاف ما عليه سيرة العقلاء والمؤمنين فإنّهم لا يتوسّلون بأحد إلا ليكون واسطة بينهم وبين خالقهم لأنّه وجيه

__________________

(١) سورة يونس : ٦٢.

(٢) سورة النساء : ٤٨.

٧٩

عند الله ـ تعالى ـ ، وصاحب مقام وقرب ومنزلة ، كالأنبياء والأولياء والصّالحين ، وأنّ الفاعل الحقيقيّ هو الله ـ تعالى ـ لا هؤلاء : الأخيار الأبرار ، بل يعتقد المؤمن أنّ هؤلاء أيضاً من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً.

س) : إذا كان الأمر كذلك ، أليس المشركون كانوا يعتقدون بأنّ آلهتهم تقرّبهم إلى الله ـ تعالى ـ ؟! قالوا ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ ) (١) ، وقد ذمّهم القرآن الكريم وحكم عليهم بالخلود في نار جهنم ؟!

ج) : جواب هذا الإشكال واضح بعد ما ذكرنا من أنّ العبادة محرّمة لغير الله وشرك أو كفر بالله العظيم ، فهم أوّلاً : كانوا يعبدونها ، أو يعبدون بعض الخلق ، وهذا ما لا يصنعه المؤمن ، وثانياً : هناك فرق بين التوسّل والاستعانة بمن نهى الله ـ تعالى ـ عن التوسّل به وبين التوسّل بمن أمر الله ـ تعالى ـ بالتوسّل به وإليه إذ هناك من هو وليٌّ من أوليائه ـ تعالى ـ فهو قطعاً وسيلة مقرِّبة إلى الله ـ تعالى ـ ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٢) ، و ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٣) ،

__________________

(١) سورة الزمر : ٣.

(٢) سورة القصص : ٥٦.

٨٠