كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-28-0
الصفحات: ١٦٨
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أنّ صحّة العمل وإخلاص العامل شرطان لقبول العمل ، أليس الإنسان إذا احتمل وجود تيّار كهربائي في ما الحوض ـ مثلاً ـ وأنّ إدخال يده في الماء قد يودي بحياته ، ويؤدّي الى هلاكه ومماته ، أليس هذا الاحتمال مهما كان ضعيفاً يكفي لكي يتجنّب الانسان ويمتنع من إدخال يده في ماء الحوض ؟! لأنّ المحتمَل وهو الهلاك والموت أمر عظيم عنده ؟

إلا إذا كان مختلاً عقلاً أو مجازفاً بحياته ، هذا في العذاب المنقطع وهو الموت ، فكيف به هو يحتمل عذاباً أبديّاً لا ينقطع ، ألا يجب أن يبحث ويحقّق عمّا يؤمّنه ويضمن له الأمان من ذلك العذاب والشَّقاء ؟

وهكذا العكس : لو احتمل أحدنا أنّ عملاً معيّناً مهما كان هذا العمل شاقّاً وخطيراً قد يؤدّي إلى حصوله على ثروة عظيمة وكنز كبير ، كالغوص تحت الماء رغم مشقّته ومخاطره الاحتماليّة ، ورغم أن احتمال حصوله على اللؤلؤ والثروة ضعيف ، فإنّه بمجرّد هذا الاحتمال يتحمّل المشاق ويغوص بحثاً عن اللؤلؤ أو الكنز المحتمَل ، وذلك أن أهمّيّة المحتمَل عنده ـ وهو العثور على اللؤلؤ أو الكنز تحت الماء ـ تجعله لا يعتني بما قد يصيبه من أذىً ومشاقٍّ في سبيل العثور على مبتغاه ، ويحتمل ذلك في سبيل

٤١

الغنى والثروة ، فما حاله إذا كان يحتمل ثروة عظيمة وغنىً دائماً ، ونعيماً ورخاءً وسعادة أبديّة ، ألا يجدر به أن يبذل أقصى ما في وسعة للعثور على طريق يهتدي إليها ، ثم يبذل قصارىٰ جهده لنيلها بالعمل الصالح النافع الذي يوصله إليها والّذي يمكّنه من الفوز بها ؟!

س) : قرأنا فيما مضى عن طرق المعرفة وأهمّيتهاوالحاجة إليها ، فهل هناك شروط للحصول على هذه المعرفة ؟

ج) : لا شك أنّ المعرفة علم و « العلم نورٌ يقذفه الله في قلب يشاء » (١) ، وإذا كان هذا العلم يتعلّق بمعرفة الله ـ تعالى ـ واُصول العقائد وأحكام الشريعة ، فهو غاية الكمال وأعلى مراتب المعرفة ، وتسمّى هذه المعرفة « حكمةً » ، و « الحكمة ضالّة المؤمن » (٢) يبحث عنها أينما كان وهي الكنز الذي لا يعثر عليه كلّ أحد ، ولا تُمنح لكلّ النّاس ، بل تعطى للمجاهدين بالجهاد الأكبر وهو جهاد النّفس ، والّذين روّضوا أنفسهم على طاعة الله ـ تعالى ـ وخالفوا أهواءهم لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ

__________________

(١) مصباح الشريعة ص ١٦ ، الدر المنثور ( السيوطي ) ج ٥/٢٥٠.

(٢) نهج البلاغة : ٤٨١ حكمة ٨٠ ، الكافي ج ٨ / ١٦٧ ح ١٨٦ ، بحار الأنوار ج ٢ / ٩٩ ح ٥٧ وص ١٠٥ ح ٦٦.

٤٢

سُبُلَنَا ) (١) ولهذا قال تعالى : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) (٢) ، وهكذا ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (٣).

ولا شكّ أن الإنسان مفطور مجبول على حبّ العلم والمعرفة ويميل إليهما بفطرته ، لأن إنسانيّة الإنسان بعقله والعلم ثمرة العقل ، ولهذا فالإنسان يكره الجهل والجاهل ، ويكره أن يوصف بهما حتى وإن كان جاهلاً ، وقد شبّه الإسلام العلم بالنّور ، والجهل بالظلام ، وشبّه الجاهل بالميّت والعالم بالحيّ في قوله عليه‌السلام « العالم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات » ، إلا أن بعض العلوم أشرف من بعض ، وشرف العلم بشرف موضوعه ، فمثلاً علم معرفة الإنسان أشرف من علم معرفة الحيوان لأنّ الإنسان أشرف من الحيوان وعلم الأحياء أشرف من علم الجماد ، فأشرف العلوم على الاطلاق هو العلم الباحث عن الله ـ تعالى ـ وما كان موضوعه الواجب ـ جلّ وعلا ـ لأنّ الله ـ تعالى ـ أشرف ما في الوجود ، لا يقاس بشرفه أحد من خلقه ، ولا يدانيه في الشّرف شريف ، وثمرة

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) سورة البقرة : ٢٦٩.

(٣) سورة الفصّلت : ٣٥.

٤٣

هذا العلم هو الإيمان والعمل الصّالح الكفيل بسعادة الدّارين ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) (١) ، وهو علم مبني على العلم والبرهان : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (٢) ، و ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٣) ، ( إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٤).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) سورة النحل : ٩٧.

(٢) سورة النحل : ١٢٥.

(٣) سورة الإسراء : ٣٦.

(٤) سورة يونس : ٣٦.

٤٤

الدرس التاسع

التوحيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : تقدّم في الدّرس الخامس أن اُصول الدّين خمسة هي : « التّوحيد ، العدل ، النُّبوّة ، الإمامة ، والمعاد يوم القيامة » فما معنى التوحيد ؟

ج) : قبل أن نخوض في مسألة التّوحيد ينبغي أن نعرّج على ما هو أهمّ من التّوحيد ، لأنّ التوحيد مبنيٌّ عليه ، وهو متقدّم رتبةً على التوحيد ، ويرد في مرتبة متقدّمة على التوحيد ، ألا وهو « وجود الله ـ تبارك وتعالى ـ » وإنّما لم يُجعل وجوده ـ تبارك وتعالى ـ أصلاً مستقلاًّ في الاُصول والعقائد لأنا أوّلاً : إذا أثبتنا التّوحيد فقد أثبتنا الوجود لأن التّوحيد كما قلنا متفرّع على أصل الوجود ، وتوحيده ـ تعالى ـ متوقّف على وجوده ـ عزّ وجلّ ـ ، وثانياً : لأنّ التوحيد أمر عقلي ، والوجود أمر فطري ، والفطري أشدّ وضوحاً من العقليّ ، نعم هما متلازمان ، أي يلزم من وجوده

٤٥

ـ تعالى ـ توحيده ولهذا فقدا اعتبروا وجوده ـ تعالى ـ أمراً مسلّماً مفروغاً عنه ، لا يحتاج الى دليل وبرهان ، بل يكفي في التصديق والاعتقاد بوجوده ـ تعالى ـ العودة الى الوجدان والفطرة السّليمة ، ولا ينكر وجوده ـ تعالى ـ إلا مكابر معاند ، بل منكر وجوده ـ تعالى منكر لكلّ مخلوق ولأصل الخلقة والخليقة ، ومنكر لنفسه بطبيعة الحال ، إذ كيف يمكن للفطرة والوجدان والعقل السّليم أن تحكم باستحالة أن توجد البعرة من غير بعير ، وامتناع أن يوجد الدّخان بلا نار ، وهكذا في سائر الأشياء الجزئيّة البسيطة ، ولكنّها إذا وصلت إلى هذا الكون العظيم والخلق العجيب تزعم بأنّها وجدتْ بالصّدفة ومن غير خالق ، فتنكر وجود خاق للكون والكائنات ، أليس هذا سفسطة وباطل وهراء ؟! وأليس هذا مغالطة صريحة وافتراء وانحراف عن الجادّة والصّراط المستقيم ، وخروج عن الفطرة والوجدان والعقل السّليم ؟! قال ـ تعالى ـ : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ) (١).

وثالثاً : لأن وجوده ـ تعالى ـ لكثرة ما يدلّ عليه وشدّة

__________________

(١) سورة الطور : ٣٥.

٤٦

وضوحه وبيانه غنيٌّ عن البيان والاستدلال ولهذا قيل : « توضيح الواضحات من أشكل المشكلات » (١) أليست كلّ هذه الآيات والعلامات والبيّنات تدل عليه ؟! ، انظر الى آيات الآفاق والأنفس أما تكفي دليلاً وشاهداً على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ؟! ، ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (٢).

وهكذا : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (٣) ، وقوله ـ تعالى ـ : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ).

ثم كيف يمكن الاستدلال على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ وذاته المقدّسة وهو النّور الذي ملأ الخافقين ، ولشدّه نوره لا يمكن النظر الى حاقّ ذاته والوصول الى حقيقة صفاته سيّما للمخلوق الملوّت بالمادّة والمتعلّق بالمادّيّات ، هذا فضلاً عن إمكان إنكار وجوده المقدّس ـ جلّت عظمته ـ إذ كيف يمكن إنكاره ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٤) ، ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ

__________________

(١) لم أجده.

(٢) سورة الذاريات : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) سورة فصّلت : ٥٣.

(٤) سورة الحديد : ٤.

٤٧

إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ) (١) ، و ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) (٢) ، ( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ، و ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٤) ، أيضاً ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ) (٥).

ولهذا فقد ورد في دعاء الصباح : « يا مَنْ دلَّ على ذاتِهِ بذاتهِ » (٦) وهل هناك شيءٌ بعد هذا يمكن أن يستدلّ به على وجوده ـ سبحانه وتعالى ـ ؟ ، إذ مَنْ دلّ على ذاته بذاته ، وعلى وجوده بوجوده ، وعلى عظمته بعظمته ، وعلى علمه بعلمه ، وعلى صفاته بصفاته ، هل يحتاج الى الاستدلال والبرهان على أصل وجوده ـ سبحانه وتعالى ـ ؟! ولهذا قال الإمام الحسين ـ عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم ـ في دعاء يوم عرفة : « سبحانك متى غبت حتّى تحتاج الى دليل » (٧) ، وقال أيضاً عليه‌السلام : « عَمِيَتْ عينٌ لا تراك عليها رقيباً » (٨).

__________________

(١) سورة المجادلة : ٧.

(٢) سورة الحديد : ٣.

(٣) سورة الأنعام : ١٠٣ ، سورة الملك : ١٤.

(٤) سورة البقرة : ١١٥.

(٥) سورة الزخرف : ٨٤.

(٦) الامالي ( الشيخ المفيد ) : ٢٥٤.

(٧) بحار الأنوار ج ٦٤ / ١٤٢ ، وج ٩٥ / ٢٢٦.

(٨) بحار الأنوار ج ٦٤ / ١٤٢ ، وج ٩٥ / ٢٢٦.

٤٨

س) : إذا كان وجوده ـ تعالى ـ أوضح من أن يحتاج إلى دليل وبرهان ، فما بال القرآن الكريم قد احتوى على جملة من الآيات الدّالّة على هذه البراهين والاستدلال على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ، كما في آيات الآفاق والأنفس التي استشهد بها القرآن الكريم ؟! وهكذا ماورد في السُّنّةَ الشريفة من الأخبار والأحاديث المتعلّقة بهذا الأمر ؟!

بالإضافة إلى ما في كتب الفلاسفة الاسلاميين وغيرهم من الموحّدين وعلماء الكلام من التعرض مفصّلاً للاستدلال على إثبات أصل وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ؟! أليس هذا دليلاً على عدم كونها مسألة فطريّة بديهيّة ، بل أنّها مسألة نظريّة تحتاج إلى الأدلّة والبراهين ؟!

ج) : ما ذكرتموه من الآيات والأخبار وآراء الفلاسفة في هذا الخصوص صحيح لا غبار عليه ، وإنّما الإشكال في ادّعاء أنّ ذلك يدلّ على كون مسألة أصل وجوده الواجب ـ تعالى ـ التي تعرّضنا لها في هذه الدّرس من المسائل النظريّة المحتاجة إلى الدّليل والبرهان ، لأنّ جميع ما ورد في هذا الشأن من الآيات والأحاديث وأقوال الفلاسفة ما هي إلا إرشادات وتنبيهات إلى حكم الفطرة والعقل ، ولا يُعدّ شيءٌ منها استدلالاً مستقلاً أو دليلاً

٤٩

في حدّ ذاته ، فمثلاً قوله ـ تعالى ـ : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (١) ، أو قوله عليه‌السلام « بك عرفتك ، وأنت دللتني عليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت » (٢) ، أو قوله عليه‌السلام « عرفت ربّي بربّي » (٣) وغيرها من الآيات والأخبار إنّما هي صريحة واضحة في أنّها إرشادات وتنبيهات إلى حكم العقل أو الفطرة ، وأمّا أقوال وبراهين الفلاسفة الإلهيّين ، مثل « برهان الصّدّيقين » وهو كيفية معرفة الله ـ تعالى ـ باالله ، الذي يعدّ إشارة إلى قول المعصوم عليه‌السلام : « عرفتُ ربّي بربّي » أو « بك عرفتك » ، وهو يتضمّن هذه المعاني ، وكيف يعرف الإنسان ربّه بربّه ؟ وهكذا البراهين التي أقامها الفلاسفة الطبيعيّون مثل « برهان الحركة » أو « برهان المعرفة »أي معرفة النفس أو « برهان الحدوث » أو « برهان الإمكان » ، وما شابهها من البراهين إنما هي تنبيهات وإرشادات إلى حكم الفطرة والعقل ليس إلا.

والحاصل أنّ مَنْ تجلّت ذاته لمقدّسة ، ونوره الأنور ، ووجوده الأقدس ، وعظمته وكبرياؤه في كل مخلوقاته ، لا يخفى

__________________

(١) سورة الطور : ٣٥.

(٢) الصحيفة السجادية ( الابطحي ) : ٢١٤ و ٢٤٨ ، اقبال الاعمال ج ١ / ١٥٧ و ٢٩١ ، بحار الأنوار ج ٣ / ٢٧٠.

(٣) فيض القدير ج ٦ / ٢٣٥ ، شرح الأسماء الحسنى ج ١ / ٣٦.

٥٠

على أحد ، وحاشاه أن يغيب عنهم أو يحتاج الى دليل ، ولهذا قال الشاعر :

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تدلٌّ على أنّهُ واحِدُ (١)

وقال عليه‌السلام « سبحانك متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ » (٢) ، وقال الفلاسفة والعرفاء : « الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق » (٣) ، فهو ـ تعالى ـ أدلّ دليل على ذاته المقدّسة.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) المجازات النبوية : ص ٢٢١ ، ديوان أبي العتاهية ص ٩٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٦٤ / ١٤٢ ، وج ٩٥ / ٢٢٦.

(٣) بحار الأنوار ج ٦٤ / ١٣٧.

٥١

الدرس العاشر

الدليل على وجود الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وقد جاء في مقدّمة الرِّسالة العمليّة للمرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني ـ دام ظله ـ باللّغة الفارسية ، عن وجود الله ـ تعالى ـ وطرق الإيمان به ـ تعالى ـ ونِعْمَ ما جادت به بنانه ، وبوركت صفقة يمينه ، وإليكم خلاصة ما ورد هناك مترجماً من الفارسية : (١)

طرق الإيمان بالله ـ تعالى ـ متعدّدة : فإنّ أهل الله دليلهم على الله ووسيلة معرفتهم إلى الله تعالى ـ هو الله ـ تعالى ـ ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٢) ، « يا من دلَّ على ذاته بذاته » (٣) ، « بك عرفتك وأنت دللتني عليك » (٤).

__________________

(١) من الصفحة ٢٧ حتى الصفحة ٤١ من الكتاب.

(٢) سورة فصّلت : ٥٣.

(٣) الامالي الشيخ المفيد : ٢٥٤.

(٤) الصحيفة السجادية ( الابطحي ) : ٢١٤ و ٢٤٨ ، اقبال الاعمال ج ١ / ١٥٧ و ٢٩١ ، بحار الأنوار ج ٣ / ٢٧٠.

٥٢

وأمّا غيرهم ـ فباختصار ـ نشير إلى بعض الطرق التي تناسبهم والمؤدّية إلى معرفة الله ـ تعالى ـ والإيمان به عندهم :

ألف : حين يتأمّل الإنسان ذاته وما يحيط به من المدرَكات ، ثم يتأمّل ويلاحظ كلّ جزء من أجزائها ، فإنّه يجد أنّ عدم ذلك الجزء وتلك الذّرّة ليس بالأمر المحال ، وأنّ وجوده وعدمه سيّان ، فليس لذاته ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم ، وكلّ ما كان وجوده وعدمه سيّان فهو يحتاج إلى سبب يوجده ، ولمّا كان وجود كلّ جزء من أجزاء العالم محتاجاً إلى منعم الوجود ومانح الوجود فإنّ معطي الوجود ومانحه إمّا نفس الوجود ، أو غيره من سائر الموجودات ، ولكنّه يستحيل أن يكون هو الّذي منح نفسه الوجود ، وأوجد نفسه ، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه ، وأنّي له أن يمنح نفسه الوجود وهو بعدُ لا وجود له ـ أي قبل أن يوجَد ـ ، وإمّا أن يكون الموجِد له موجوداً آخر مثله ونظيره ، وهذا محال أيضاً لأنّ من يعجز عن إيجاد نفسه فهو أعجز عن إيجاد غيره ، وهذا الحكم الجاري على أجزاء العالم فهو جارٍ على العالم بأسره.

ولهذا السبّب فإنّ وجود الكائنات وكمالات الوجود ـ كالحياة والعلم والقدرة ـ تدلّ على وجود حقيقة يكون وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها ذاتيّة ، نابغة من حاقّ ذاتها ، غير متعلّقة

٥٣

بغيرها ، ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (١) ، عن أبي الحسن الرّضا عليه‌السلام أنّه دخل عليه رجل فقال له : يابن رسول الله ما الدّليل على حدوث العالم ؟ فقال : « أنت لم تكن ثم كنت ، وقد علمتَ أنّك لم تكوّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك » (٢).

وسأل أبو شاكر الدّيصاني الإمام الصّادق عليه‌السلام : ما الدّليل على أنّ لك صانعاً ؟ فقال عليه‌السلام : « وجدتُ نفسي لا تخلو من إحدى الجهتين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة ، أو صنعتها وكانت معدومة ، فإنْ كنتُ صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيتُ بوجودها عن صنعها ، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربُّ العالمين » (٣).

فضرورة العقل تقتضي أنّ ما لم يكن ثم كان ، لا بدّ أن يكون له موجِد وصانع لا طريق للعدم إلى ذاته ، وهو محض الوجود.

ب : إذا عثرنا على ورقة في صحراء كُتِبَ عليها حروف الهجاء من الألف إلى الياء بالترتيب الصّحيح ، فإنّ ضمير كلّ إنسانٍ يشهد بأنّ رسم هذه الحروف وترتيبها لم يأتِ إلا عن إدراك

__________________

(١) سورة الطور : ٣٥.

(٢) عيون أخبار الرضا (ع) ج ٢ / ١٢٣ ح ٣٢ ، أمالي الصدوق : ص ٤٣٣ ح ٦ ، التوحيد ( للصدوق ) : ٢٩٣ ح ٣ بحار الأنوار ج ٣ / ٣٦ ح ١١.

(٣) التوحيد ( للصدوق ) : ص ٢٩٠ ح ١٠ ، بحار الأنوار ج ٣ / ٥٠ ح ٢٣.

٥٤

ومعرفة ، ولو وَجَدَ فيها كلمةً مؤلَّفة من تلك الحروف ، أو كلاماً مؤلَّفاً من الكلمات ، فإنّه بقدر ما فيها من الدّقة في التأليف والتركيب ، يؤمن ويصدّق بمدىٰ علم المؤلّف ووعيه وثقافته ، ثم يستدلّ بذلك على مدىٰ علم القائل والمؤلّف وحكمته ، أفهل تركيب نباتٍ من العناصر الأوّلية أقلّ أهميّة للاستدلال على عظمة صانعه وعلمه وحكمته ، من تلك العبارات والجمل التي لا ينكر دلالتها على علم المؤلف لها ؟!

مجرّد التأمّل في صنع شجرة وإيجاد عروقها التي تتفرّع منها آلاف الأوراق في نظام محيّرٍ مدهش ، والقدرة التي اُودعتْ في كلّ خليّةٍ من خلايا الورق كي تمتصّ الماء والغذاء بواسطة الجذور من أعماق الأرض ، يكفي للإيمان بالعلم اللامتناهي والحكمة اللامتناهية للصّانع الحكيم : ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) (١) ، ( أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ) (٢) ، ( وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ) (٣). فالتأمّل في كلّ نباتٍ وفي كلّ شجرة من

__________________

(١) سورة النمل : ٦٠.

(٢) سورة الواقعة : ٧٢.

(٣) سورة الحجر : ١٩.

٥٥

جذورها إلى ثمارها يكفي لمعرفة أنّها آيةٌ من آياتِ علم الله ـ تبارك وتعالى ـ وقدرته وحكمته ، وقد انحنت جميعاً وخضعت واستسلمت بتمامها وكمالها للنظام التكويني الَّذي أحاط بها وسيطر عليها : ( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) (١).

وخلاصة القول أنّ النظام الدَّقيق في تكوين نباتٍ من البذرة الميّتة المدفونة تحت التُّراب ، ثم صعودها وارتفاعها نحو السّماء وتفرّعها الى الأغصان والخضرار الأوراق على الأغصان ، وخروج ثمره خاصّة منها ، بحيث لا يخرج من بذرة الباقلاء سوى نبتة الباقلاء ، ولا يخرج من نبتة الباقلاء سوى الباقلاء ، ولا يخرج من بذرة البنفسج ، سوى نبتة البنفسج وزهرتها ولا يخرج من حصى النخيل إلا النّخيل ولا يخرج من النخيل سوى الْبَلَح والرّطب والتّمر ، بل لا تختلط ثمره نخلة بنخلة اُخرى ، ولا أوراق شجرة أو ثمارها بشجرة اُخرى ، ولا زهرة نباتٍ بزهزة نباتٍ اُخرى ، وهلمّ جرّا ، كلّ ذلك وآلاف الأنظمة والقوانين الدّقيقة التي اُودعت في الطّبيعة لهي أدلّ دليل وأسطع برهانٍ وأبْيَنُ آياتٍ على وجود الصّانع الحكيم والقادر العليم.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) سورة الرحمن : ٦.

٥٦

تتمّة الدرس العاشر

الدليل على وجود الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهكذا النظر إلى اليضة وحصارها المكنون بجلدة غليظة تحتها جلدة رقيقة ، وتحت الجلدة الرَّقيقة ذهب سائل وفضة جارية لا تختلط إحداهما بالاُخرىٰ ، وكيف يتكوّن فيها الجنين بين ذهبها وفضّتها ويتغدّي عليهما ليخرج منها فرخاً إمّا ديكاً أو دجاجةً ، فإنّك لو تأمّلت في هذه البيضة الصّغيرة وما يخرج منها والحرارة التي تحتاجها لكي يتكوّن الجنين بداخلها ويتحوّل الجنين إلى الفرخة بعد أن تكاملت أعضاؤه وجوارحه ، وعناية الدَّجاجة بتلك البيضة من الرّقاد عليها وقلبها من جانب إلى آخر وبثّ الحرارة اللازمة إليها وإحاطتها بكلّ وجودها حتى تنفس وتخرج فرخةً متكاملة ، لو تأمّلت في البيضة هذه والفرخة لوجدت عشرات القوانين الدَّقيقة التي تحيط بها ممّا لا محيص معها دون الإقرار بوجود الصّانع الحكيم القادر العليم ، ولا مفرّ

٥٧

منها دون الاعتراف بالخالق العظيم ، لأنها آيات باهرات تحكي عظمة الخالق ، بل تصرخ بأعلى الصّوت عن وجود يدٍ غيبية حكيمة عليمة تصنع وترعى ذلك.

هذا قطرة من بحر أسرار عالم المادة والطّبيعة ، وقيد شعرة من عالم النبات والحيوان المحيّر للعقول ، فكيف لو تأمّلت في خلق الإنسان ببُعديه المادّي الجسدي ، والمعنوي الرُّوحي ، فالتأمُّل في أبسط تركيبة من جسد الإنسان يكفي للإقرار بوجوده ـ تعالى ـ ووحدانيّته ، فعلى سبيل المثال : جعل الأسنان على ثلاثة أقسام ، الثّنايا في الأمام ، والأنياب بعدها ، ثم الطّواحن الصغرى ، ثم الطّواحن الكبرى ، لو غيّرنا مواضعها لوجدنا خللاً كبيراً في عملها ولعلّ قبحاً فاحشاً في منظر وجوهنا. وماذا لو كان الحاجبان تحت العينين لا فوقهما ، أو كانت فتحة الأنف إلى الأعلى دون الأسفل ؟

عمارة الأرض وعمرانها من حرثها وزرعها حتى إقامة أضخم المباني وإنشاء ناطحات السّحاب عليها وأدقّ الصنائع وأظرفها ، كلّ ذلك متوقّف على رؤوس الأصابع والظّفر الذي عليها.

والعجب كلّ العجب في أنّ الغذاء الذي عُدّ لتكوين مادّة الظّفر بصلابتها هو نفسه الّذي تخرج منه مادّة رقيقة شفّافة للعين

٥٨

والبصر ، تصل إلى العين بعد أن تطوي مراحل الهضم والجذب.

هذه أمثلة لأبسط آثار العلم والحكمة ، لا تحتاج إلى مزيد تأمّل وتدقيق ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (١) ، فكيف بأدقّ الأسرار وأخفاها الّتي تفتقر إلي التخصُّص في علم الطّب البشري والتشريح ، وعلم وظائف الأعضاء ، والفحص بالأجهزة الخاصّة كالمناظر ، ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ) (٢) ، ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) (٣).

هذه الكتابة الحكيمة وهذه القوانين المتقنة بأيّ دواةٍ ومدادِ علمٍ وقلم حكمةٍ ، وبأيّة قدرةٍ كُتبت على قطرة ماء ؟

( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ) (٤) ، ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ) (٥).

ثم ما هذا العلم والقدرة والحكمة التي خلقت من الحيوان المنويّ الذي لا يُرىٰ بالعين المجرَّدة في ذلك الماء البشري المهين ما يرقى ويتكامل ليغوص بمشعل إدراكه وشعلة فكره في

__________________

(١) سورة الذاريات : ٢١.

(٢) سورة الروم : ٨.

(٣) سورة إبراهيم : ٣٤ ، سورة النحل : ١٨.

(٤) سورة الطارق : ٥ و ٦.

(٥) سورة الزمر : ٦.

٥٩

أعماق الآفاق والأنفس ويُسبر أغوارها ، فيستخرج دفائن كنوزها ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (١) ، ويتّخذ الأرض ةالسَّماء مسرحاً لاستعراض مواهبه ومحطة لجولان قدرته وفكره ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) (٢).

فما عسى أن يقوله الإنسان في مقابل عظمة هذا العلم والقدرة والرَّحمة والحكمة سوي ما نطق به كتابه الكريم ( فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ، وما عساه أن يصنع سوي أن يعفّر خدّه وجبينه بالتّراب ويقول : « سبحان ربّي الأعلى وبحمده ».

بمقتضي الآية الكريمة : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (٣) ينبغي التّأمّل في آفاق العالم وأطرافه ، المليء والمزدحم بملايين الكواكب والنّجوم والشّمس والقمر ، التي لا يُرىٰ أكثرها بالعين المجرّدة ، ولا تصلنا لتطلّ علينا أنوارها وأشعّتها إلا بعد آلافٍ من السنين الضّوئية ـ التي تبلغ سرعتها قرابة ثلاثمائة ألف كيلومتراً في الثانية الواحدة ـ ، ويفوق

__________________

(١) سورة العلق : ٣ ـ ٥.

(٢) سورة لقمان : ٢٠.

(٣) سورة الفصّلت : ٥٣.

٦٠