كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-28-0
الصفحات: ١٦٨
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الناس في كلّ عصر ومصر.

وأمّا التقليد : فإنّه بعد ما ذكرنا من عدم استطاعة الجميع لتلقّي علوم الشريعة وبلوغ مرتبة الاجتهاد يتّضع لدينا أنّ عامّة الناس وهم الغالبيّة العظمي في كلّ زمان عليهم أن يأخذوا أحكامهم وتكاليفهم من أحد الفقهاء والمجتهدين الأحياء الجامعين لشرائط المرجعيّة الدّينيّة وهو الذي يسمّي ب‍ « التقليد » (١).

وأمّا الاحتياط : فهو الجمع بين أقوال الفقهاء بحيث يكون قد برئت ذمّته قطعاً وعلى كلّ حال ، وهو قد يكون في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته ، أو في الترك كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته في الصّلاة هي القصر أو التمام ، فإنّه يجمع بينهما بالتكرار ، أي يصلّي قصراً

__________________

(١) نعم يشترط بعض الفقهاء ـ دامت بركاتهم ـ في صحّة التقليد وتحقّقه الالتزام بالعمل بما جاء في الرّسالة العمليّة لمجتهدٍ معيّن ، ومعناه الاكتفاء بمجرّد النيّة ـ وهو أن ينوي العمل بما فيها ـ واشترط آخرون أن يكون مستنداً الى فتوى الغير في العمل ، وقال بعضهم : التقليد هو متابعة المجتهد في العمل بأن يكون مستنداً في عمله إلى رأي المجتهد وهو لا يختلف عن القول السابق ، كما اكتفي آخرون بمجرّد التعلّم ـ أي تعلم المسائل ـ بقصد العمل بها.

٢١

ثمّ يصلّي تماماً أو العكس.

لكنّ الاحتياط رغم كونه سيبلاً للنّجاة إلا أنّه غير ممكن للجميع ، إذ يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط إمّا بالاجتهاد أو بالتقليد ، لعصوبة تشخيص موارده إذ قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط.

وعمل العامّي بلا تقليد ولا احتياط باطل إلا إذا طابق الواقع ـ أي انكشف له أنّه مطابق للحكم الواقعي ـ أو تبيّن له أنّه مطابق لفتوى الفقيه الجامع لشرائط التقليد.

والحمد لله ربّ العالمين

٢٢

الدرس الرابع

الحكم الواقعي والحكم الظاهري

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) بعد ما تبيّن أنّ طلب علوم الشّريعة وبلوغ مرتبة الاجتهاد فَرْضُ كفايةٍ إذا قام به من يعتدّ به ، وإلا فهو فَرْضُ عينٍ على جميع المؤمنين ، بل هو من أهمّ الفرائض لأن به يستقيم الدّين وتحفظ بيضة الإسلام ، وبعد ما تبيّن أن هناك طائفة قد نذروا أنفسهم في كلّ زمان للقيام بهذه الفريضة العظيمة كي يستخرجوا الحكم الشرعي وينشرونه بين النّاس كافّة حتى يرفعوا عن كواهلهم عبثاً ثقيلاً ومسئوليّة جسيمة ، ويسهّلوا عليهم طريق الهداية الى معرفة أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ ومعرفة تكاليفهم السّماويّة ، وهذه الحركة ـ أعني حركة الاجتهاد والتقليد ـ مستمرة الى يومنا هذا وإلى قيام الحجّة ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ وباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه ، فا السؤال الذي يطرأ على أذهاننا هو : أليس حكم الله ـ تعالى ـ واحد لا يتعدّد ، وأليس لله ـ تعالى ـ في

٢٣

كلّ مسألة وواقعة حكم واحد ؟ فلماذا نجد في الكثير من الأحيان عدّة أحكام في المسألةٍ الواحدة ، لكلّ فقيهٍ ومجتهدٍ رأي يختلف عن غيره ؟!

ج) : نعم الله ـ تعالى ـ في المسألةٍ الواحدة حكم واحد ، ولكلّ مسألة حكم خاصّ بتلك المسألة يسمّى ب‍ « الحكم الواقعيّ » ، ولكن بما أنّ الحكم الواقعي يحتاج إلى نصّ جليّ قطعي ، وأكثر ما وردتنا من الأخبار والرّوايات قابلة للتأويل ومنها ما هو ضعيف السّند ، فالمجتهد يسعى الى استنباط الحكم الشرعي من ظواهر الآيات والرّوايات وأحياناً يستند فيه الى إجماع العلماء أو حكم العقل ولهذا فقد يصيب ، أي يوفّق ليكون الحكم الذي استنبطة مطابقاً للحكم الواقعي ، وقد يصيب فيكون الحكم الّذي توصّل اليه الفقيه حجّة عليه وعلى مقلّديه سواء كان مصيباً عند الله ـ تعالى ـ أو كان مخطئاً ، اذا الشّرع المقدّس عفا عن خطئه هنا ، ولا أحد يستطيع أن يجزم هل ما استنبطه هو الحكم الواقعي أم لا ؟ سوي المعصوم عليه‌السلام والمعصوم عليه‌السلام فرض علينا اتّباع المجتهد في كلّ حكم توصّل إليه ، وحكم له بالأجر والثواب على كلّ حال ، حيث أنّه يؤجر على الجهد الذي بذله في سبيل استنباط الحكم الشرعي ، فإذا أصاب الواقع وأدّى جهده إلى معرفة الحكم

٢٤

الواقعي اُعطي أجراً ثانياً لذلك ، وكلّ ما يستنبطه المجتهد فهو من الأحكام الظاهرية ويسمّي ب‍ « الحكم الظاهري » الذي اُمرنا باتّباعه والعمل به في زمن الغيبة الكبرى ، ولا يعني هذا أنّ كلّ ما أفتى به المجتهد يعدّ حكماً ظاهريّاً ، بل هناك فتاوىٰ مأخوذة من النص القرآني الجليّ كقوله ـ تعالى ـ في الإرث : ( فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) (١) ، ومثل قوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (٢) ، أو مأخوذة من النصوص الروائية الجليّة كأوقات الصّلاة وعدد ركعات الصّلوات وما شابه ذلك وهي غالباً من الضّروريات وهي قطعاً من الأحكام الواقعية التي لا تقبل التأويل والتعدّد.

س) : اشرحوا لنا ما هي الرّسالة العمليّة ؟

ج) : الرّسالة العمليّة عبارة عن كتاب يدوّن فيه المجتهد الأحكام الشرعيّه التي استخرجها واستنبطها من مصادر التشريع الأربعة ، وهو قد يكون مفصَّلاً يحتوي على جملة كبيرة من الأحكام وفي جميع أبواب الفقه من التقليد الى الدّيات ، أو في بعضها ، وقد يكون مختصراً لكن يشمل جميع أبواب الفقه أيضاً ،

__________________

(١) سورة النساء : ١٧٦.

(٢) سورة النور : ٢.

٢٥

وقد يختار الفقيه اسماً خاصاً لرسالته العمليّة مثل « المختصر النافع » أو « وسيلة النجاة » أو « العروة الوثقى » أو « تحرير الوسيلة » أو « منهاج الصّالحين » أو « توضيح المسائل » أو « الأحكام الواضحة » أو غير ذلك من الأسماء ، وربما تكون الرّسالة العمليّة خاصّة ببيان أحكام باب واحد من أبواب الفقه كالحج ـ مثلاً ـ وتسمّى حينئذٍ بتسميةٍ خاصّة مثل « رسالة في أحكام الحج » أو « مناسك الحج » ، أو في أبواب اُخرى مثل « أحكام المسافر » أو « رسالة في الخمس » أو « رسالة في صلاة المسافر » وما شابه ذلك.

ولمّا كانت الرّسالة العمليّة ـ رغم أنها مكتوبة لعامّة الناس ـ تحتوي على جملة غير يسيرة من العبارات والألفاظ والمصطلحات الخاصّة وعبارات قد لا يستوعبها الجميع ، فقد لجأنا الى كتابة هذا الكتيّب آملين أن يزيل كلّ غموضٍ من شأنه أن يحول دون الوقوف على المقصود فيها ، ويرفع كلّ ما من شأنه أن يمنع المقلّد من معرفة الحكم الشّرعي الصّحيح ، كما سيكون بأذن الله ـ تعالى ـ معيناً للقارىء الكريم على سهولة استخراج الحكم الشرعي الّذي يبحث عنه في الرّسالة العمليّة.

والحمد لله ربّ العالمين

٢٦

الدرس الخامس

التقليد نوعان : ممدوح ومذموم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : لقد ذكرتم في الدّرس الثالث أهمّية التقليد وأنّ عمل العاميّ بلا تقليد ولا احتياط باطل ، لكنْ أليست الآيات والرّوايات قد منعت عن التقليد كما في قوله ـ تعالى ـ في ذمّ المقلّدين ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (١) ، وأما نهتنا الشّريعة عن التقليد في الدّين ؟!

ج) : التقليد الذي منعت عنه الشّريعة وذمّه الإسلام غير التقليد الذي تحدّثنا عنه هناك ، وقد ذكرنا أنّ سيرة العقلاء وعملهم وإمضاء الشارع المقدّس وتأييده أو عدم منعه عن تلك السّيرة هو الذي جعل التقليد مشروعاً بل مطلوباً لا مفرّ منه ، ولو قلنا أن العقل يحكم بضرورة رجوع الجاهل الى أهل الخبرة

__________________

(١) سورة الزخرف : ٢٣.

٢٧

والعالم أو أن الفطرة تحكم بلزوم رجوع الجاهل الى أهل الخبرة ، فالشّرع المقدّس لا ولن ينهىٰ عن حكم العقل ولا عن حكم الفطرة ، وحينئذٍ فكلّ أمر يصدر في الشّريعة المقدّسة بوجوب التقليد أو الحثّ عليه فإنّما هو إرشاد وتنبيه الى العمل بحكم العقل أو الفطرة ، ولكن قد يحكم العقل أو الفطرة بقبح العمل بتقليدٍ ما ، أو قد يذمّ العقلاء نوعاً من التقليد ، وهنا أيضاً فالشارع المقدّس ينهي عن هذا النّوع من التقليد ، ولمّا كان رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والى العالم من القسم الأول دون القسم الثاني فإنّه ممّا أمر به الشارع الحكيم وهو رئيس العقلاء.

وبعبارة أصحّ وأوضح فإنّ أقصى ما قد يقال أنّ العقل والفطرة يحكمان بقبح التقليد ، وأنّ عمل العقلاء وسيرتهم جرت على ذمّ التقليد وتركه ، إلا في مورد خاص وهو لزوم ووجوب وضرورة رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والعلماء فيما يجهل من اُمور دينه ودنياه ، وحينئذٍ فهذا النّوع والمورد الخاص خارج عن ذلك الحكم العام ، ويكون مطلوباً في الشريعة لابدّ منه ، هذا أوّلاً.

ولهذا فإنّ الشريعة الغرّاء منعت عن التقليد المذموم والمنهيّ عنه بحكم العقل أو الفطرة أو سيرة العقلاء ، مثل تقليد الجاهل للجاهل ، وتقليد من ليس بمجتهد مطلقاً ، وكتقليد الفاسق الذي لا

٢٨

يؤمَّن على الدّين أو الدُّنيا ، فالعقل والفطرة يحكمان بعدم جواز رجوع الجاهل إلى الجاهل الذي مثله ، ويمنعان من الرجوع إلى غير أهل الخبرة مطلقاً ، والعقلاء لا يعتمدون على قول الفاسق ويذمّون متّبعيه ، ومن لا أمان له عندهم في اُمور دنياهم ، فهو بطريق أولى لا أمان له في اُمور دينهم.

وقد أجمع الفقهاء على عدم وجوب التقليد في الضّروريّات كأن يقلّد في أصل وجوب الصّلاة والصّوم والحج وغيرها من الواجبات لأنها واجبة بضرورة الدّين واُمور مفروغ عنها في أصل الشّريعة وإنكار وجوبها إنكار لأحد ضروريات الدّين ، وهكذا بالعكس ، لا يجب التقليد في أصل حرمة الكذب مثلاً أو الغيبة أو الزّنا أو غيرها من المحرّمات الثابتة بضرورة الدّين ، لأنّ إنكار حرمة المحرمات أيضاً إنكار لضرورة من ضرورات الدّين ، فإنكار وجوب الواجبات المسلّمة وإنكار حرمة أحد المحرّمات المسلّمة إن كان عن عمدٍ وعلم يوجب ويستلزم الخروج من الدّين.

وكذا لا يجب التقليد في اليقينيّات إذا حصل له اليقين بها ، كما لو قال المجتهد : هذا السّائل خمر يحرم شربه ، ولكن أيقن العاميّ أنّه ماء طاهر ـ مثلاً ـ فإنّه لا يجب عليه الإجتناب عن ذلك

٢٩

السّائل بل يجوز له شربه واستعماله خلافاً لرأي المجتهد الذي يقلّده ، لأنّه من قبيل تشخيص الموضوع الّذي يعدّ من شؤون المقلِّد والمكلَّف لا المجتهد.

وثانياً : قد نهت الشريعة عن التقليد في اُصول الدّين كالتّوحيد والعدل والنّبوّة والإمامة والمعاد يوم القيامة ، نعم أجازت التقليد في المسائل الجزئية والخلافيّة التي تتعلق بكلّ أصل من اُصول الدّين ، لأنها اُمور تخصُّصيّة لا يتسنّي لكلّ أحدٍ من المؤمنين أن يخوضها ويطلبها ويعرفها بنفسه ، ولأنها اُمور استدلالية يعجز عن استخراجها من أدلّتها ، فهي حينئذٍ لا تختلف عن فروغ الدّين والأحكام العمليّة إلا أنّها أحكام عقائديّة علميّة ، كما في كيفيّة علم الله ـ تعالى ـ بالأشياء ، وكيفيّة إرادته ـ تعالى ـ وهل هي من صفات الذّات أو هي صفة فعل ؟ وتفاصيل المعاد ، وكيفية الحشر والنّشر والحساب والجزاء ومعنى العدالة الإلهيّة ، وكيفيّة خلود أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة ، ومعنى العصمة لدى الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، وعلم النبيّ والإمام عليهما‌السلام ، إذن لا يجوز التقليد في أصل وجود الله ـ تعالى ـ ، ولا في أصل توحيده ووحدانيّته ـ تعالى ـ ، ولا في أصل صفات كماله ـ أي صفات الجمال والجلال ـ ، ولا في أصل المعاد والحشر والنشر

٣٠

والحساب ولا في أصل نبوّة الأنبياء عليهم‌السلام وعصمتهم ، لا سيّما نبيّنا الخاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا في إمامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، ولا في أصل عدالة الله ـ تعالى ـ وأنّه يجزي المحسن بالإحسان ويعاقب المسيء بمثل إساءته.

ومعنى عدم وجوب التقليد أو عدم جواز التقليد فيها أنّه لا يكفيه أن يعتقد ويقول لأن المجتهد الفلاني ـ أي مرجع تقليدي ـ يقول : إنّ الله ـ تعالى ـ موجود فأنا أعتقد بوجوده ـ تعالى ـ ، أو لأنّه يقول إنّ الله ـ تعالى ـ عادل ، فأنا أعتقد بعدالته ـ تعالى ـ ، أو لأنّه يقول : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّنا ، فأنا أعتقد بنبوّته ، أو لأنّه يقول : عليُّ عليه‌السلام أو أحد الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام إمام ، فأنا اعتقد بإمامته أو إمامتهم ، وهكذا بل يجب عليه في هذه الاُمور أن يفكّر ويتأمّل فيها ويبحث عن أدلّتها ، نعم طالما هي من ضروريّات الدّين والمذهب يكفيه أن يعتقد بها عن جزمٍ ، ولو لم يؤفّق إلى البحث والتحقيق والبرهنة والاستدلال ، وإن كانت المعرفة عن دليل وبرهان أتمّ وأكمل وأفضل.

والحمد لله ربّ العالمين

٣١

الدرس السادس

اُصول الدين والعقائد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : يبدو أنّكم تريدون أن تشرحوا اُصول العقائد ، فما علاقه اُصول الدِّين بالرّسالة العمليّة والأحكام الشرعيّة ؟

ج) : إعلم أن علماءنا في الأزمنة الماضية كانوا يبدأون رسائلهم العمليّه ببيان أهمّ ما يتعلّق باُصول الدّين ، وبيان نبذة عن المسائل العقائديّة التي هي مورد ابتلاء المكلّفين ، وهي المسائل الأساسيّة التي يسأل عنها المسلم في قبره وعند الحساب يوم القيامة كما دلّت عليه كثير من الأخبار والأحاديث ، وعلى نهجهم سار بعض علمائنا المعاصرين في زماننا هذا حيث بدأوا رسائلهم العمليّه بنفس تلك الطريقة ، وللأهميّة التي لاحظناها في ذلك فقد بادرنا الى شرحٍ موجزٍ وبيانٍ مبسوطٍ لاُصول العقائد تيمّناً وتبرُّكاً بها ، وليكون عوناً للجليل الصّاعد والقادم في معرفة اُصول دينه التي هي أهمّ من الفروغ ، ولا ينفع العمل إذا كانت العقيدة فاسدة ،

٣٢

إذا العقيدة هي المبنى والأساس الذي يُبتنىٰ ويُبنىٰ عليه الدّين ولا يصحّ عمل ولا يُقبل عند الله ـ تعالى ـ إلا إذا كان مبنياً على أساسٍ سليم صحيح ونابعاً من عقيدة سليمة بعيدة عن كلّ الشبهات ، خالية من الشوائب ، وذلك أن الإنسان قد يعذَّب بل قطعاً يعاقب ويعذَّب يوم القيامة على ترك الواجب أو فعل الحرام عالماً عامداً ، غير أنّه لا يخلّد في النار إذا كانت عقائده سليمة ، أمّا من كانت عقائده فاسدة فإنّه يخلّد في النار ، إلا إذا كان معذوراً عند الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وعليه فلا يجوز التهاون في العقائد بل يجب الاهتمام بها ، وبذل الجهد في سبيل ذلك ، والبحث عن أدلتها وبراهينها ، إذ كيف يجوز أن يسعى الإنسان ويبذل قصارى جهده من أجل دنياه ودنيا غيره أحياناً ، لكنّه يغفل الجانب الأساسي والمهمّ الذي خلق من أجله ويحاسب عليه ، وهو حياته الاُخروية والدّار الآخرة التي لا تنقطع ، إمّا نعيم خالد أبدي ، أو شقاء وعذاب وخلود في النار ـ أجارنا الله تعالى من ذلك ـ ولهذا فقد قال عليه‌السلام : « اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل » (١) ، ولهذا أيضاً قال ـ تعالى ـ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (٢)

__________________

(١) نهج البلاغة ج١ / ٩٣ ( محمد عبده ) ، الكافي ج ٨ : ٥٨ فمن ح ٢١ ، ارشاد المفيد ج ١ : ٢٣٦ امالي المفيد : ٩٣ و ٣٤٥.

(٢) سورة البقرة : ٢٥ ، و ....

٣٣

في مواضع عديدة من القرآن الكريم ، فجعل العمل الصّالح في كلّ موضع مقروناً بالإيمان والعقيدة السّليمة ، وفسّر هذا الإيمان بقوله ـ تعالى ـ ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) (١) ، وقال ـ تعالى ـ : ( الم. ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (٢) بل جعل الإيمان والعقيدة السّليمة سبيل النّجاة حيث قال ـ عزّ شأنه ـ : ( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٣) فالقلب موضوع العقيدة ووعاء الإيمان ، ولا يكون سليماً إلا بسلامة المظروف والموضوع الّذي بداخله وهو العقيدة والإيمان ، فلا يجوز التّهاون والتّقصير في هذا المجال ، بل على المسلم أن يقضي شطراً من عمره منكبّاً على المعرفة ، وأعلى مراتب المعرفة معرفة اُصول الدّين ، وهي الّتي سمّيت ب‍ « الفقه الأكبر » مقابل الأحكام والمسائل الشرعيّة وفروع الدّين التي اُطلق عليها « الفقه الأصغر » ، ولهذا قيل : « أوّل العلم معرفة الجبّار وآخر العلم تفويض

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٥.

(٢) سورة البقرة : ١ ـ ٣.

(٣) سورة الشعراء : ٨٩.

٣٤

الأمر اليه » (١).

ثم إنّ أهمّ القضايا المتعلّقه بالعقائد فطريّة « كوجود الخالق والصّانع الحكيم » لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلّ مولود يولد على الفطرة » (٢) أي مؤمناً بالخالق الحكيم ، أو عقليّة « كوحدانيّة الله ـ تعالى ـ » ، لقوله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) إذ يحكم العقل بأن تعدّد الصّانع يوجب الخلاف والاختلاف المقتضيان للفساد ، أو فطريّة عقلية كالإيمان بالعدل الإلهي.

وكيف كان فأهمّيّة اُصول العقائد الّتي هي أول شيء يُسأل عنه الإنسان بعد الموت ، تدعونا وتحفّزنا إلى أن نبدأ كتابنا هذا بأهمّ ما يتعلّق بها من المسائل التي يُسأل عنها المسلم اُسوةً بفقهائنا الأبرار ومحدّثينا الأخيار الّذين بدأوا كتب الفقه والحديث بما يخصّ اُصول الدّين ، عسى أن نوفّق في تحقيق ما نرمي إليه.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) الذريعة ج ٢٣ : ١٥٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٢ / ١٠٤ ، عوالي اللئالىء ج ١ / ٣٥ ح ١٨ ، الكافي ج ٢ / ١٣ ، توحيد الصدوق : ٣٣١.

(٣) سورة الشعراء : ٨٩.

٣٥

الدرس السابع

طرق الوصول إلى معرفة اُصول الدين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : هل اُصول العقائد في الأديان واحدة أم أنها تختلف من دينٍ إلى دين ؟

ج) : لا شك أنّ الحاجة إلى الدّين حاجة فطريّة نشأت منذ أن خلق الله ـ تعالى ـ أبانا آدم عليه‌السلام إذ كان نبيّاً ، فلم يخلُ زمان من نبيٍّ أو وصيّ نبيّ ، وعليه فهناك ثلاثة اُصول اجتمعت عليها وأطبقت عندها جميع الأديان السّماويّة هي التوحيد والنّبوّة والمعاد ، لكن يمكن إضافة عقائد اُخرى إليها إمّا لأنها مأخوذة ومستقاة منها ، أو لأنها من توابعها ، لتكون جميعاً من اُصول العقائد ، فالاعتقاد بوجود الله ـ تعالى ـ أصل من اُصول جميع الأديان السّماويّة ، وأمّا الاعتقاد بتوحيده ـ تبارك وتعالى ـ فهو أصل آخر لكنّه مأخوذ من الاعتقاد بوجود الله ـ تبارك وتعالى ـ أو من توابعه ولوازمه ، وهكذا العدل فإنّه من توابع التوحيد ومتفرّع عليه إلا أنّه

٣٦

أصل من اُصول المذهب الجعفري الاثني عشري ، كما أنّ الإمامة أيضاً من توابع النّبوّة.

والنتيجة : أنّ اُصول الدّين قد ترد بالمعنى العام الذي يقابل فروع الدّين وهي حينئذٍ تشمل جميع العقائد المعتبرة ، وقد ترد بمعنىً خاصّ يقتصر على الاُصول الثلاثة التي أجمعت عليها جميع الأديان السّماويّة وهي « التّوحيد والنّبوّة والمعاد ».

س) : علمنا ضرورة معرفة ما يتعلّق بالدّين من اُصول وفروع ، فما هي الوسائل والطرق التي بها نتوصّل إلي معرفة هذه الاُمور ؟

ج) : إعلم أن طرق المعرفة التي بها يتوصّل الإنسان إلى معرفة الأشياء تنقسم إلى أربعة أقسام :

١ ـ المعرفة التجربيّة الحسّيّة ، وهي المعرفة التي تتحقق بواسطة الآلات الحسّيّة كالجوارح والأعضاء ، ولا تخلو هذه المعرفة من الاستعانة بالعقل في التجربة والمشاهدة والاستنتاج ، وتسمّى المعرفة العلميّة.

٢ ـ المعرفة العقلية : أو بواسطة العقل والبراهين العقليّة ، وتسمّى المعرفة الفلسفية.

٣ ـ المعرفة التّعبّديّة : وهي التي تحصل بواسطة مصدر معتمد ، كالمعرفة الحاصلة بالشيء عن طريق المخبر الصّادق الأمين ، كما

٣٧

هو الحال فيما يتعلّق بأحكام الدّين ، وتسمّى المعرفة الدّينية.

٤ ـ المعرفة الشّهوديّة : التى تحصل بواسطة الرياضات النفسانيّة والعبادات الرُّوحانية ، وتسمّى المعرفة العرفانيّة.

ثم إنّ الطّريقة الّتي تنحصر فيها معرفة أصول الدين هي الطريقة العقلية الفلسفيّة ، كما أن الطّريقة الّتي تحصر بها معرفة فروع الدّين هي المعرفة التّعبّديّة ، نعم يمكن الاستعانة بالتّجربة الحسّيّة أو الكشف والشهود أيضاً لمعرفة أصول العقائد ولإثبات الأدلة العقليّة ، كما يمكن الاستعانة بالعقل لمعرفة بعض الأحكام الشّرعيّة وفروع الدّين إذ « كلّ ما به العقل حكم به الشّرع » (١) ، وقال عليه‌السلام : « العقل ما يُعبد به الرَّحمن وتُكتسب به الجِنان » (٢).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) المراجعات : ٣٢٨ ، اصول الفقه ( محمد رضا المظفر ) ج ١ / ١٨٩ ، دروس في علم الاصول ( محمد باقر الصدر ) ج ١ /١٠١.

(٢) الكافي ج ١ / ١١ ح ٣ ، وسائل الشيعة ج ١٥ / ٢٠٥ ح ٣ ، بحار الأنوار ج ١ /١١٦ ح ٨ وج ٣٣ / ١٧٠ ح ٤٤٧ ، معاني الاخبار ص ٢٤٠.

٣٨

الدرس الثامن

ضرورة التفقّه باُمور الدين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : ذكرتم في الدّرس السّابع أنّ طرق المعرفة أربعة ، وأنّ طريق معرفة اُصول الدّين هو العقل ، وطريق معرفة فروع الدّين هو التعبُّد والشرع ، سواء كانت هذه الفروع من أحكام اُصول الدّين أو من الأحكام الفرعيّة الشرعيّة ، أعني سواء كانت من الأحكام العقائديّة أو الأحكام العمليّة ، والسؤال المطروح هنا : ما هي الضّرورة التي تدعو الى تحصيل العلم والمعرفة بشؤون الدّين ـ سواء الاُصول أو الفروع ـ ؟! وما الحاجة إلى هذه المعرفة ؟

ج) : يكفي في الحاجة الى معرفة ما يتعلّق بنا من أحكام الدّين وشؤونه وضرورة السّعي وراء هذه المعرفة احتمال وجود المبدأ والمعاد ، بيان ذلك : أن الإنسان العاقل الذي بلغ سنّ التكليف يحتمل أن يكون لهذا العالم مبدأٌ أوجده وخلقه وهذا المبدأ حكيم في صنعه وفعله ، وجميع الخلائق تدلّ على ذلك ،

٣٩

ويحتمل أيضاً أن يكون هناك معاد وآخرة ويحاسب على أفعاله وأعماله فيها ، فمجرّد هذا الاحتمال يستلزم ضرورة البحث والتحقيق عن المعرفة ، والسّعي إلى معرفة ما يجب عليه من الاعتقادات والمعتقدات القلبية ، ومعرفة ما يجب عليه من الأفعال المطلوبة منه عند الخالق الحكيم ، إذ لمّا كان للإنسان والعالم بأسره خالق حكيم عليم ولم يكن الموت انقراضاً وانعداماً ، بل كان بداية لحياة أبديّة وخلود أبدي ، وكان مخلوقاً لغاية سامية ، وقد أعدّ له الخالق الحكيم برنامجاً خاصّاً وسلوكاً معيّناً وتكاليف محدودة ، وكان التخلّف عنها موجباً للشّقاء والخسران الأبدي ، فإنّ الفطرة الإنسانيّة توجب عليه أن يعتني بهذا الاحتمال ويسعى الى معرفة ما يحتمل أن يدفع عنه للشّقاء الدّائم ويضمن له السّعادة الأبديّة مهما كان الاحتمال ضعيفاً ، و ذلك نظراً إلي عظمة المُحتمَل وأهمّيّته ، والمحتمَل هو الشّقاء الأبدي أو النعيم الأبدي ، فشدّة ما قد يلاقيه من العذاب الأخروي ، أو حلاوة ما قد يجده من النعيم الأبدي يكفي لأن يدفع الإنسان إلى تحصيل المعرفة ثم العمل بما توصّل إليه علمه لدفع العذاب المحتمَل أو لجلب المنفعة المحتمَلة أو لكليهما ، إذ العمل متوقّف على المعرفة ، والمعرفة شرط في صحّة العمل ، كما

٤٠