كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرّسالة العمليّة - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-28-0
الصفحات: ١٦٨
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وتأبى عن ذلك ، تقدّم أيضاً في الدروس السَّابقة أنّ الله ـ تعالى ـ يخلق أفعال البشر ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) ، ولا ريب أنّ كثيراً من أفعالنا قبيحة وشرور ، فكيف نجمع بين هذا وذاك ؟

ج) : لا منافاة بينهما ، وذلك لأننا ذكرنا أيضاً بأنّ الله ـ تعالى ـ يقدّر ما يريده ويقصده الإنسان ثم يقضي بوقوعه أو عدم وقوعه ، بمعنى أنّه ـ تعالى ـ أوجد القدرة والإرادة في الإنسان ثمّ خيّره فهو الذي يأتي بالأفعال مباشرة خيرها أو شرّها ، « ذلك بما كسبت أيديهم » ، ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٢) ، وقال علي عليه‌السلام « كلُّ ما استغفرت منه فهو منك ، وكلُّ ما حمدت الله عليه فهو منه » (٣).

س) : لماذا يجب أن يكون الله ـ تعالى ـ عادلاً ؟

ج) : لأمور ، أوّلاً : لأنّ العدل حَسَنٌّ والظُّلم قبيح ، وقد ذكرنا أنّ الله ـ تعالى ـ منزّهٌ عن فعل القبيح ، ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) (٤) ، ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) (٥).

__________________

(١) سورة الصافّات : ٩٦.

(٢) سورة الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٣) الطرائف : ص ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، بحار الأنوار ج ٥ / ٥٩ ذ ح ٨.

(٤) سورة النحل : ٩٠.

(٥) سورة الأعراف : ٢٩.

١٠١

ثانياً : العدل كمال ، والله ـ تعالى ـ « مستجمع لجميع الكمالات » (١).

ثالثاً : الظّلم عيب ونقص ، والله ـ تعالى ـ منزّه عن كلّ عيب ونقص.

رابعاً : أنّ الظّلم إمّا ناشىء عن الجهل بقبح الظلم ، أو عن العجز عن بلوغ الهدف ، أو عن اللغو والعَبَث ، والعليم الحكيم القادر المتعال منزّه عنها جميعاً.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) شرح الزيارة الجامعة ( عبد الله شبر ) : ص ١٠٩ ، نهج السعادة ج ١ / ٢٠٨.

١٠٢

الدرس الخامس عشر

النبوّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ينبغي أن نعلم أنّ هناك طريقة اُخرى وطريق آخر لمعرفة حقائق الوجود ، والاهتداء إلى الحياة السَّعيدة سوى طريق الحس والتعقّل ، بل لا يمكن معرفة اكثر الحقائق وما وراء الطّبيعة والاهتداء الى حكم الله ـ تعالى ـ وقوانينه ، إلا بهذا الطّريق ، وهو « الوحي » الذي ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (١) خلافاً للمعرفة الحسّيّة أو العقليّة القابلة للخطاء والمعرَّضة للاشتباه ، والوحي نوع خاصّ من التّعليم الإلهي الذي يختصّ بفئة من عباد الله ـ تعالى ـ ممّن اختارهم واصطفاهم لأنهم أفضل عباده ، والقادرون على حمل رسالته وإبلاغها الى النّاس ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٢.

١٠٣

الْعَالَمِينَ ) (١) ، وبما أنّ الوحي أمر خاصّ ذو حقيقة خاصّة فلا يتسنّى لعامّة الناس إدراك حقيقته لأنّهم لم يتلقّوه بالوجدان ولم يباشره وبأنفسهم ، نعم ، بوسعهم أن يعرفوه بواسطة آثاره والعلائم الدّالّة عليه ، ومن ثمّ يصدّقوه ، ويبادرون إلى تصديق النبيّ الموحىٰ إليه ، فإذا ثبت ذلك وتمّ التّصديق والإيمان بنبوّته وجب عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا في كلّ شيء ، ولا عذر حينئذٍ لمن يخالف له أمراً أو نهيّاً ، إلا إذا استثناه من ذلك التكليف ، وأسقط عنه الإلتزام به.

س) : ما الحاجة إلى بعثة الأنبياء ؟

ج) : بعد ما ثبت وجود الله ـ تعالى ـ بالضّرورة والبداهة ، وثبت أنّه تعالى ـ حكيم عليم منزّه عن اللّغو والعبث فيما يفعل ويخلق ويصنع ، وبعد ما ثبت أنّه ـ تعالى ـ خلق الإنسان عاقلاً يطلب الكمال بعقله وفطرته ، ويسعى الى السَّعادة الأبديّة بفطرته ، وثبت أن له غرائز وشهوات وأهواء ورغبات تحول دون معرفة كثير من الأسرار والحقائق إضافة إلى أنّه قاصر عن معرفة كلّ شيء بعقله وحواسّه المجرّدة ، بعد ما ثبت ذلك كله يتبيّن جليّاً

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٣.

١٠٤

ضرورة أن يعدّ الله ـ تعالى ـ له قوانين ويرسم له الشرائع وأحكاماً تضمن له تلك السَّعادة ، وتميّزه عن الحيوان والملائك ، ولئلاّ يكون خلقه عبثاً ولغواً ـ تبارك الله عما يصفون ـ ولهذا جاء في الخبر « عن عبد الله بن سنان ، قال سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصَّادق عليه‌السلام ، فقلت : الملائكة أفضل أم بنو آدم ؟ فقال : قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه‌السلام : إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة ، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل ، وركّب في بني آدم كليهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلب شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم » (١).

ولمّا ثبت أنّ الإنسان عاجز عن التوصُّل إلى وضع قوانين تكفل جميع حوائجه الماديّة والمعنويّة ، وتتكفّل بسعادته في الدُّنيا والآخره ـ والقوانين الوضعيّة التي صاغتها أيدي البشر ونتجت عن أفكارهم العاجزة عن التكفّل بجانب واحدٍ من حياته الماديّة الدنيوية ، وقد ثبت فشلها بالضرورة والوجدان لهي أدلّ دليل على ضرورةٍ التشريع الإلهي والتّسنين السّماوي ـ لهذا وذلك كان من الضّروري جدّاً حاجة الإنسان إلى تشريع سماوي

__________________

(١) علل الشرائع ج ١ / ٤ ح ١ ، وسائل الشيعة ج ١٥ / ٢٠٩ ، بحار الأنوار ج ٥٧ / ٩٩ح ٥.

١٠٥

وأحكام الهيّة.

ثم لمّا ثبت أيضاً أنّ جميع النّاس غير مؤهّلين لتلقّي الوحي من الله ـ تعالى ، ولا من ملائكة الموكّلين بالوحي وإنزاله ، وليسوا مؤهّلين جميعاً لتلقّي الأحكام الإلهيّة بواسطة الإلهام والإلقاء في القلوب ، لكثرة ما تحيط بهم من الحجب المادّيّة ، وما تلوّث نفوسهم من المعاصي والذنوب ، وكثرة ما تشين قلوبهم من الشّهوات والغرائز الحيوانيّة ، ويعكّر صفوة عقولهم من الوساوس الشّيطانية والنّفسانية ، لهذا الأسباب وتلك لم يبق إلا أن يصطفي الله ـ تعالى ـ صفوة عباده وخيرة خلقه ليكونوا وسطاء بينه وبين خلقه وعباده ، وتكون قلوبهم أوعية لوحيه ومصادر لتشريعه.

س) : ما هي الفائدة من بعثة الأنبياء ؟

ج) : الثمرة والفائدة من بعثة الأنبياء بالإضافة الى ما تقدّم من كونهم وسطاء بين الناس وبين الوحي ومكلّفين بتبليغ الشّريعة وتعليم الشّعوب وهدايتهم وقيادتهم إلى سُبُل الكمال ، فإنّهم يباشرون مهمّة التذكير الدّائم بأحكام الله ـ تعالى ـ ونظام الفطرة ، والإرشاد المتواصل بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ( وَذَكِّرْ

١٠٦

فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، ( إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) (٢) ، وقال مولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « ليستأدونهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيَّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ » (٣) ، والأنبياء اُسوة عمليّة للنّاس ، يتأسّي بهم المؤمنون ويقتدي بهم أهل الخير ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٤) ، كما أنّهم يعملون على توفير الحياة الاجتماعية والسياسية الطيبة ، ويعلّمون النّاس كلّ ما من شأنه أن يوفّر لهم الرّاحة والاستقرار ، ويحرّرونهم من العبودية لغير الله ـ تعالى ـ إلى العبوديّة لله ـ تعالى ـ ، ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٥) ، ويفكّون عنهم القيود النفسانيّة والقيود الجاهليّة ويخلّصونهم من براثن الظّالمين : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (٦).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥٥.

(٢) سورة الغاشية : ٢١.

(٣) نهج البلاغة ج ١ / ٢٣ ، بحار الأنوار ج ١١ / ٦٠.

(٤) سورة الأحزاب : ٢١.

(٥) سورة النحل : ٣٦.

(٦) سورة الأعراف : ١٥٧.

١٠٧

تتمة الدرس الخامس عشر

خصائص النبي عليه‌السلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

س) : ما هي خصائص النّبي عليه‌السلام ؟

ج) : إعلم أنّ الحديث عن النّبوة ينقسم الى النّبوّة العامّة ، والنّبوّة الخاصّة ، والنّبوّة العامّة عبارة عن الخصائص والصّفات العامّة التي يجب توفّرها في جميع الأنبياء ، لا تختصّ بنبيٍّ دون نبيّ ، وأمّا النّبوّة الخاصّة فالمراد منها ما ينفرد به كلّ نبيٍّ من الخصائص والأوصاف والمعجزات ، مثلاً لو كان الحديث عن النّبيّ موسى ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ ذكرنا له أوصافه الخاصّة وما اختص به من الكرامات ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (١) وما انفرد بها من المعجزات ( أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ) (٢) ، ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ

__________________

(١) سورة النساء : ١٦٤.

(٢) سورة الأعراف : ١٦٠.

١٠٨

فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ) (١) ، ( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (٢) ، وخُصّ أيضاً بالتوراة ، وما شابه ذلك ، وإن كان الحديث عن النبيّ عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ : ذكرنا أنّه ولد من غير أبٍ ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) (٣) ، ( مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) (٤) ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (٥) ، ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ ) (٦) ، وخُصّ بالإنجيل ، وما شابه ذلك من خصائصه ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ ، وهكذا عن سائر الأنبياء عليه‌السلام.

أمّا النّبوّة العامّة فمن خصائصها :

أوّلاً : العصمة : لأنّه يجب أن يكون أميناً على وحي الله ، ومعصوماً من كلّ زلّةٍ أو خطأ أو نسيان أو توجّه الى غير الله ـ تعالى ـ وإلا لم يكن وجيهاً عند النّاس ، إذ النّاس بحاجةٍ إلى

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٠.

(٢) سورة الأعراف : ١٠٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٩١.

(٤) سورة آل عمران : ٥٩.

(٥) سورة آل عمران : ٤٦.

(٦) سورة آل عمران : ٤٩.

١٠٩

اُسوة كاملة متكاملة ، مبرّأة من جميع العيوب الخَلْقيّة والخُلُقيّة ، والغاية من بعثة الأنبياء هي الطّاعة ، وطاعة النبيّ عليه‌السلام واجبة في كلّ ما يأمر به وينهى عنه ، فإذا جاز عليه الخطأ والمعصية سقطت طاعته ، بل حرمتْ طاعته ، فلم تتحقّق الغاية من بعثته ، كما أنه لو جاز له الخطأ والسّهو والنسيان والمعصية ، لم يحصل اليقين بصدقه وصحّة ما يدّعيه وما ينسبه إلى الله ـ تعالى ـ في تبليغ الوحي الإلهي ، ولو صدر منه شيء من الخطأ والمعصية سقط من أعين النّاس ، ولم يعيروه اهتماماً أو ثقة ، وكان عمله مخالفاً لقوله فكان مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ : ( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (١) وهذا نقض للغرض من بعثته ، وأخيراً : إنّما تصدر المعصية ويقع الخطأ بسبب ما يعاني منه العاصي والمخطىء من ضعف في العقل أو فتور في العقيدة أو هشاشة في الإرادة ، فمن اتّصف بواحد منها كان في غاية العجز والنقصان ، وهو حينئذٍ لا يكون حجةٍ على العباد ، إضافة إلى أنّ هذا الشّخص لا يكون لائقاً لأن يكون وسيطاً بين الله ـ تعالى ـ وبين عباده ، إذ الوحي الإلهي يأبىٰ إلا أن يكون وعاؤه العقل الكامل الّذي بلغ مرتبة حقّ اليقين

__________________

(١) سورة الصفّ : ٣.

١١٠

وحاز عليها ، ويحتاج إلى إرادةٍ فوق كلّ الإرادات لارتباطها المباشر والوثيق بالله ـ تعالى ـ وتبعيتها التّامّة لإرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ.

فهو لا يريد إلا ما أراد الله ـ تعالى ـ ، ولا تتأثر إرادته إلا بإرادته ، ولا تتخلّف إرادته عن الإرادة الإلهيّة قيد شعرة ولا طرفه عين ، ومن كان ذلك كان معصوماً بالبداهة والضَّرورة ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١) و ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) (٢).

ثمّ الأهمّ والأعظم من ذلك كلّه أنّ المتعارف بين النّاس كون الممثّل والسّفير ـ لا سيما إن كان تامّ الاختيار ومطلق الصّلاحية ـ مرآةً ودليلاً وآيةً يعبّر عن مستوىٰ من ينوب ويمثّل عنه علماً وحكمةً وقدرةً ورحمةً وصدقاً ووفاءً وهلمّ جرّا من الصّفات ، ولمّا كان النّبيّ سفيراً وممثلاً ، وكان الأنبياء سفراء الله ـ تعالى ـ في الأرض ينوبون عنه في كلّ شيء من التبليغ إلى التّطبيق ، وكانوا أدِلاءَ على الله ، كأنّ النّاظر إليهم ناظر الى صفات الله ـ تعالى ـ ، وكان ـ في أعين الناس ، وفي الواقع ، كلّ ما يصدر منهم محسوباً

__________________

(١) سورة النجم : ٣ ـ ٤.

(٢) سورة الشعراء : ١٩٣.

١١١

على الله ـ تعالى ـ ، لهذه الأسباب ، كان على الله ـ تعالى ـ أن لا يختار للنّبوّة إلا من كان كاملاً في صفاته ، تامّاً في ذاته ، مبرءاً من العيوب ، وإلا كان المعتقد بنقص أو عيب في الذات الالهية المتعالية معذوراً ، وسبحان الله عمّا يصفون ، فالأنبياء معصومون منذ ولادتهم إلى أن يودّعوا الحياة الدُّنيا وتُقبض أرواحهم الطّاهرة الى الرّفيق الأعلى.

س) : ما معنى العصمة ؟

ج) : العصمة على قسمين ، أو للعصمة مرتبتان :

١ ـ العصمة الصغرى : وهي الإلتزام بالشّريعة المقدّسة وأحكامها بحيث تحصل له الملكة في طاعة الله ـ تعالى ـ وترك المعصية واجتناب كل ما من شأنه أن يُبعد الإنسان عن الله ـ تعالى ـ وإن كان مكروهاً ، والإتيان بكلّ ما من شأنه أن يقرّب إلى الله ـ تعالى ـ وإن كان مستحبّاً ، وهذه الملكة تردعه وتحجبه عن المعصية العمديّة ، وينالها صاحبها بعد ممارسة طويلة لجملة من الرياضات والتزكية النفسية من خلال التزامه بأحكام الشريعة والعبادات ، وقد يوفَّق إليها كثير من العباد.

٢ ـ العصمة الكبرى : وهي الملكة النفسانيّة التي توجد في الفرد منذ نشأته وترافقه منذ ولادته ، فهي تولد بولادة صاحبها

١١٢

وتموت بموته ، لا تكاد تفارقه لمحة بصر ولا طرفة عين ، وهي منحة إلهيّة وعطاء ربّاني تحجب صاحبها عن الوقوع في المعصية وكلِّ خطأ وسهوٍ ونسيانٍ ، وهي علامة كمال المتمتّع بها والحائز عليها كمالاً فوق كمال المخلوقات جميعاً ، تعصم صاحبها حتى في منامه ، إذ المعصوم تنام عيناه ولا ينام قلبه ، ويغفو بصره ولا يغفو فؤاده قطّ ، بل منتبه يقظ حسّاس في كلّ لحظة من لحظات حياته ، لا يغفو ولا يغفل ولا يسهو ولا ينسى ولا يَخطأ طرفة عين ، علاوة على أنّه يتمتّع بالعلم التّام والمعرفة الكاملة بقبح الامور وحسنها ، لأنّه يرى الأشياء والأعمال والأفعال على حقيقتها رأي العين ، ويعلم بها علمَ اليقين ، ويَبْصُرُ بها عينَ اليقين ، ويدركها حقّ اليقين ، وهي عطاء ولطف من الله ـ تعالى ـ ، وهي مختصّة بالأنبياء الأئمة عليه‌السلام وحالات نادرة اُخرى نصّت عليها الشّريعة الغرّاء وأكدتها النّصوص الصّحيحة أو كان من ضروريّات الدّين والمذهب كما هو الحال في الصّديقة الطاهرة السّيّدة فاطمة الزّهراء عليه‌السلام ، والسّيّدة مريم ابنة عمران عليه‌السلام ، وسيّدنا الخضر عليه‌السلام.

س) : إذا كانت عصمة الأنبياء والائمّة عليه‌السلام من الله ـ تعالى ـ كما تقولون ، فما هو فضلهم على النّاس ؟ وبماذا يستحقّون هذه الدّرجات الرّفيعة والمنازل العالية ؟

١١٣

ج) : ذكرنا أنّها عبارة عن ملكة نفسانية وإرادة قويّة وهي عناية خاصّة ربانيّة ولم نقل أنّها تسلب الاختيار من صاحبها ، إذ أنها لا تجعله مسخَّراً منقاداً ، بل يتمتّع بكامل الحريّة وتمام الاختيار في عمله وسلوكه الّذي يصدر منه لكنّه بطبيعة الحال لا يكون إلا شَكُوراً ، وكما تُنسب جميع الأعمال إلى الله ـ تعالى ـ : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) فإنّ هذه العصمة تنسب اليه أيضاً ، بمعنى أنّه ـ تعالى ـ قد ضمن عصمته وصيانته وترفّعة عن كلّ نقص وعيب وقبيح ، فهو يستحقّ الدّرجات الرّفيعة والمنازل العالية بعمله الدؤوب وجهده المتواصل ، ثم لمّا كانت هذه العصمة أوسع دائرة وأشمل موضوعاً وأشدّ ابتلاءً من العصمة الصغرى لأنّها لا تقتصر على ترك المعصية العمديّة بل تتّسع لتشمل الخطأ والسّهو والنّسيان ، ولا تقتصر على ترك الحرام والالتزام بالفريضة ، بل تتّسع لتشمل ترك المكروه والالتزام بالمندوب والمستحب ، ولا تقتصر على ذلك أيضاً بل تتّسع لتشمل « ترك الأولى » ، لمّا كانت العصمة هكذا كان صاحبها أفضل من غيره ، ولا يدانيه أحد في فضله وكماله.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٩٦.

١١٤

س) : ما معنى « ترك الأولىٰ » ؟

ج) : إعلم أنّ هناك اموراً مباحة لجميع النّاس بما فيهم المعصومين عليه‌السلام ، لكنّها قد لا تناسب شأنهم دائماً أو أحياناً فالإتيان بها قبيح لهم لأنها من قبيل « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين » (١) ، مثلاً لو أنك رأيت عالماً خرج في الشّارع دون عمامة ورداء ، أو رأيته يأكل في الطريق أو يمشي بعمامته في بعض الأسواق ، أو يهرول على بعض الشواطىء ، أو وجدته جالساً على قارعة الطريق دون سبب معقول ، لأنكرتَ عليه فعلته هذه رغم أنّه لم يقترف حراماً ولا مكروهاً ، وذلك لأنّه أتى بما لا يليق بشأنه ومقامه العلميّ ، وإن كان ما أتى به مباحاً ، بل قد يسقط من عينك بسبب ذلك العمل المباح ، إذا تبيّن هذا فانتقل بذهنك وخيالك إلى المعصوم عليه‌السلام لو صدر منه شيء من ذلك ، ألا تراه أشدّ قبحاً ، ولهذا فالمعصوم عليه‌السلام منهيٌّ عن « ترك الأولى » ، وسمّي بالأولى ، لأنّ المعصوم أولى بتركه ، أو لأن الأولويّة تقتضي تركه والاجتناب عنه لما قد تحمله من مفاسد نفسية أو اجتماعيّة ، ومن هذا المنطلق قال مولانا اميرالمؤمنين علي بن

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١١ / ٢٥٦ ، تفسير الصافي ج ١ / ٤٤٦ ، الشفاء ( قاضي عياض ج ٢ / ١٧٠.

١١٥

أبي طالب عليه‌السلام : « والّذي نفسي بيده لو اُعطيتُ الأقاليمَ السَّبعة بما تحتَ أفلاكها على أن أعصى اللهَ في نملةٍ أسْلِبُها جِلْبَ شعيرٍ ما فعلتُ » (١) ، وقال أيضاً عليه‌السلام في كتابه الى عثمان بن حنيف : « ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضيءُ بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بِطمْرَيْهِ ، ومن طَعْمِهِ بقُرْصَيْهِ ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بِوَرَعٍ واجتهادٍ وعِفّةٍ وسَدَادٍ ، فواللهِ ما كَنَزْتُ من دنياكم تِبْراً ، ولا ادّخَرْتُ من غنائمها وِفْراً ، ولا أعْدَدْتُ لِبالي ثوبي طِمْراً ، ولا حُزْتُ من أرضها شبراً ، ... (٢) وإنّما هي نفسي اُرَوِّضُها بالتّقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر ... الخ ».

وأمّا أبونا آدم عليه‌السلام فإنّه اُخرج من الجنّة ولم يُجعل من اُولي العزم لأنّه ترك الأولى أو أتى بترك الأولى ، قال تعالى : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ ) (٣) بعد أن قال تعالى : ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) (٤) ولم يكن النهي عن الأكل من تلك الشّجرة نهياً محرّماً وإنّما نهياً شأنيّاً أي من شأنك يا آدم أن تأكل أنت

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ / ٢١٨ ، بحار الأنوار ج ٤٠ / ٣٤٨ ، وج ٤١ / ١٦٢.

(٢) نهج البلاغة ج ٣ / ٧٠ كتاب ٤٥ ، بحار الأنوار ج ٣٣ / ٤٧٤ ح ٦٨٦.

(٣) سورة طه : ١٢١.

(٤) سورة الأعراف : ٢٢.

١١٦

وحوّاء من هذه الشّجرة والأولى ترك أكلها ، ولهذا فإنّهما أكلا : ( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ) (١) ، وكانت النتيجة هى الخروج والإخراج من الجنّة : ( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) (٢) ، وأيضاً سقوط آدم عليه‌السلام من درجة اُولى العزم ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (٣) ، والاكتفاء بدرجة النّبوّة.

س) : ذكرتم مصطلح النبيّ والرّسول واُولي العزم ، فما الفرق بينها ؟

ج) : إعلم أنّ النّبي لفظ عامّ يُطلق على كلّ من بعث بالنّبوّة من عند الله ـ تعالى ـ ، لهداية النّاس وإرشادهم ، وإخراجهم من الظُّلُمات الى النُّور. ولفظ النبيّ إن كان أصله النبأ فمعناه : « صاحب الخبر المهم » و « ذو الخبر الهام » ، وإن كان أصله « النُّبوّ » فمعناه : « صاحب المنزلة الرّفيعة والمقام السّامي » ، وكلا المعنيين ينطبق على النبيّ عليه‌السلام ، وعدد الأنبياء كما في الأخبار والمتفق عليه عند جمهور المسلمين مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٣٦.

(٣) سورة طه : ١١٥.

١١٧

وأمّا الرّسول فهو قسم خاصّ من الأنبياء ، وأخصّ من النّبي لأنّه صاحب شريعة سماوية وكتاب من الله ـ تعالى ـ يحمل بين دفّتيه أحكام الله في العبادات والمعاملات وقوانينه الّتي شرّعها لأهل ذلك الزّمان ، وكلّ شريعة جديدة تنسخ الشريعة الّتي قبلها ، فشريعة نبيّنا الخاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نسخت شريعة عيسى عليه‌السلام ، وشريعة سيّدنا المسيح ـ الإنجيل ـ نسخت شريعة سيدنا موسى عليه‌السلام وهكذا.

فجميع الرُّسل أنبياء ، وبعض الأنبياء رُسُلٌ ، وبعضهم ليسوا برُسُلٍ ، ولكلّ رسول شريعة وكتاب ، وأمّا الأنبياء فإنّهم يتّبعون شريعة الرَّسول الذي كان قبلهم ، كما أنّ الأنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا بعد موسى عليه‌السلام كانوا على شريعة موسى عليه‌السلام والّذين قبله كانوا على شريعة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، أو يكون النّبيّ تابعاً لشريعة الرَّسول الّذي كان يعاصره في الزّمان ، ولا يجوز له أن يتّبع شريعة من قبله من الرُّسُل إن كان هناك رسول يعاصره ويزامنه بل كان تابعاً لشريعة الرَّسول الذي يعاصره ، مثل النّبيّ لوط عليه‌السلام الّذي كان معاصراً لسيّدنا ابراهيم عليه‌السلام وكان تابعاً لشريعته كتابه وهكذا يحيى عليه‌السلام الذى كان تابعاً لشريعة عيسى عليه‌السلام ، وهارون الذي كان تابعاً لموسى عليه‌السلام ، وعدد الرّسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً هم

١١٨

الخواصّ من الأنبياء ، ولا شكّ أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض والرُّسُل أفضل من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلاً ، كما أنّ بعض الرّسل أفضل من البعض الآخر ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ).

وأمّا اُولوا العزم فهم خمسة من الرُّسُل اُرسلوا بشرائع إلى جميع الخلائق ، فكلُّ اُولي العزم رُسُل ، وبعض الرُّسُل أولوا عزمٍ ، وبعضهم ليسوا كذلك ، واُولوا العزم خمسة هم : النبي الأكرم سيدنا محمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيّدنا إبراهيم وسيّدنا نوح ، وسيّدنا موسى ، وسيّدنا عيسى ـ عليهم الصّلاة والسَّلام أجمعين ـ ، وقيل أصحاب الكتب السّماوية والشّرائع هم اُلوا العزم من الرُّسل لا جميع الرُّسل ، ويبدو أنّه ليس بصحيح لأنّا نجد أن لداوود عليه‌السلام كتاباً هو الزّبور ، نعم ربما تكون الشرائع مختصّة باُولي العزم منهم.

الحمد لله ربّ العالمين

١١٩

تتمة الدرس الخامس عشر

خصائص النبي عليه‌السلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ثانياً : المعجزة : لا بدّ لكلّ دعوىٰ من دليل ساطع وبرهان قاطع يؤدّي الى اليقين بصحّة الدّعوىٰ والمدَّعىٰ ، ولمّا كان الرَّسول والنّبيّ يدّعي السّفارة من الله ـ تعالى ـ ، وأنّه سفير يمثّل الحقّ ـ جلّ وعلا ـ وحجّته على عباده ، فلابدّ من إقامة برهان لا يداخله الشك ، ولا يطرو عليه الترديد ، وينقطع معه ريبُ كلِّ مريب ، وحجّة كلّ لبيب ، حتّى يُثبت ما أدّعاه ، ويتمّ الحجّة على العباد ، ولا شيء أدلّ على هذا المدعىٰ ، وأقْطَعَ للشّك والتّرديد فيه من المعجزة.

س) : فما هي المعجزة ؟

ج) : المعجزة عبارة عن التّصديق العملي من الله ـ تعالى ـ للنّبي ، وحقيقتها عبارة عمّا يكون خرقاً للعادة والطبيعة ، ولإحداث فعل من غيره أسبابه أطّبيعيّة ، بل خلافاً للأسباب والعلل

١٢٠