حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

( ١٣ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي ايوب عليه‌السلام

١٨١
١٨٢

قصة النبي ايوب عليه‌السلام

قال الله تعالى : ( وايوب اذ نادى ربه اني مسني الضر وانت ارحم الراحيمن * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه اهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) (١).

من هو ايوب؟

تتحدث لنا الآيتان عن نبي آخر من انبياء الله العظماء ، وقصة النبي ايوب عليه‌السلام قصة حزينة ، ولكنها في نفس الوقت عظيمة وسامية وتحمل لنا تجارب وحكم ومواعظ كثيرة في الصبر والتحمل والاستقامة ، وتعلمنا درسا مهما في كيفية الاستقامة امام المشاكل والمصاعب الحياتية ، وكيف ننتصر على ابليس وجنوده.

خاصة نحن في زماننا هذا والازمنة القادمة ، حيث نواجه في مسيرة حياتنا الاجتماعية ، والدينية ، والسياسية ، مختلف المشاكل والمصاعب والطرق الشائكة ، فيجب علينا ان نعالجها بحكمة وحنكة وتدبر وصبر ، حتى نتمكن من الانتصار عليها.

__________________

١ ـ الانبياء : ٨٣ ـ ٨٤.

١٨٣

كان ايوب النبي عليه‌السلام رجلا من الروم ، وكان رجلا طويلا عظيم الرأس ، جعد الشعر ، حسن العينين والخلق ، وكان دينه التوحيد والصلاح والاصلاح بين الناس ، وكان اذا اراد حاجة سجد وطلبها ، وكان صابرا محتسبا ، وابتلي باصعب الابتلاءات فصبر وخرج منها منتصرا ناجحا ، وضربت بصبره الامثال ، وسمي « ايوب الصابر ».

وهو ايوب بن اموص ، بن رازخ ، » او تارخ « بن روم ، بن عيص ، بن اسحاق ، بن ابراهيم ، وكانت امه من ولد لوط بن هاران عليه‌السلام.

وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له » البثنة « (١) من ارض الشام كلها ، سهلها وجبلها بما فيها ، وكان له فيها من اصناف المال كله من الابل والبقر والخيل والغنم والحمر ، ما لا يكون للرجل افضل منه في العدة والكثرة ، وكان له بها خمسمائة فدان (٢) يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال .....

وكان النبي ايوب عليه‌السلام برا تقيا رحيما بالمساكين ، يتكفل الارامل والايتام ، ويكرم الضيف ، ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكرا لانعم الله تعالى ، مؤديا لحق الله تعالى ... ، وكان نموذجا حيا للصبر والاستقامة.

ابتلاء ايوب :

روي عن ابي بصير عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : سالته عن بلية ايوب عليه‌السلام التي ابتلى بها في الدنيا لاي علة كانت؟ قال : لنعمة انعم الله عزوجل عليه بها في الدنيا وادى شكرها.

__________________

١ ـ البثنة : هو اسم ناحية من نواحي دمشق ، وقيل هي قرية بين دمشق واذرعات ، وكان ايوب منها.

٢ ـ الفدان : الثوران يقرن بينهما للحرث.

١٨٤

وكان في ذلك الزمان لا يحجب ابليس دون العرش ، ـ كما كان لقاءه بآدم عليه‌السلام ـ.

فلما صعد ابليس ورأى شكر نعمة ايوب عليه‌السلام ، حسده ، فقال : يا رب ان ايوب لم يؤد اليك شكر هذه النعمة الا بما اعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما ادى اليك شكر نعمة ابدا ، فسلطني على دنياه حتى تعلم انه لم يؤد اليك شكر نعمة ابدا ، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ..

» كان هذا من اجل ان يوضح البارئ عزوجل اخلاص ايوب عليه‌السلام للجميع ، ويجعله نموذجا حيا للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، ولذلك سمح البارئ عزوجل للشيطان في ان يتسلط على دنيا ايوب «.

عندما اخذ ابليس الاجازة من الله ، انحدر الى الارض ، فلم يبق له مالا ولا ولدا الا اهلكه ، فازداد ايوب شكرا وحمدا.

قال ابليس لله عزوجل : فسلطني على زرعه يا رب ، قال : فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا.

فقال يا رب سلطني على غنمه ، فسلطه على غنمه فاهلكها ، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا.

فقال : يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينه ، فنفخ فيه ابليس فصار قرحة واحدة من قرنه الى قدمه ، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره.

والخلاصة : فقد كانت النعم تسلب من ايوب عليه‌السلام الواحدة تلو الاخرى ، حتى ابتعد عنه جميع الناس وعاش منعزلا عنهم خارج المدينة ولم يبقى معه احد سوى امرأته ، مع كل هذا كان شاكرا وصابرا ، ويناجي ربه بلسان الشكر والحمد والثناء.

١٨٥

امراة ايوب عليه‌السلام :

كانت امرأة ايوب عليه‌السلام اسمها رحمة بنت افراييم بن يوسف بن اسحاق بن ابراهيم عليهم‌السلام ، وكانت تشتغل للناس وتأتيه بما تحصل عليه ، وكانت وفية ومطيعة لزوجها طوال فترة مرضه ولم تفارقه مما ادى ذلك قعود الشيطان لها واراد ان ينتقم بها من ايوب.

فتمثل اليها الشيطان بصورة طبيب وقال لها : اني اعالج زوجك بشرط ان تقولي حينما يتعافى : اني الوحيد الذي كنت السبب في معافاته ، ولا اريد اي اجرة على معالجته ، الزوجة التي متألمة متأثرة بشدة لاستمرار مرض زوجها وافقت على الاقتراح ، فلما عرضته على زوجها ايوب فيما بعد ، فتأثر ايوب كثيرا لوقوع زوجته في شرك الشيطان ، وحلف ان يعاقب زوجته ، ويجلدها مئة جلدة ، ان شافاه الله.

وروي غير ذلك من الاسباب ، ولكن عندما شافاه الله ، اوحي اليه : ( وخذ بيدك ضغثا (١) فاضرب به ولا تحنث ) (٢) فضربها ضربة واحدة وبر بقسمه ، وهنا ايضا شمل البارئ عزوجل ايوب عليه‌السلام مرة اخرى بالطافه ورحمته.

الشماتة :

روي انه لما طال بلاء ايوب ورأى ابليس صبره ، اتى الى اصحاب له كانوا رهبانا في الجبال ، فقال لهم : مروا بنا الى هذا العبد المبتلى نسأله عن بليته ، فركبوا وجاؤوه ، فلما قربوا منه نفرت بغالهم فقربوها بعضا الى بعض ثم مشوا اليه ، وكان فيهم شاب حدث ، فسلموا على ايوب وقعدوا عنده وقالوا :

__________________

١ ـ ضغث : تعني ملء الكف من العواد الرقيقة ، كسيقان الحنطة والشعير وقيل : حزمة من سعف النخيل.

٢ ـ ص : ٤٤.

١٨٦

يا ايوب لو اخبرتنا بذنبك ، فلا نرى نبتلي بهذا البلاء الا لامر كنت تسره » اي لم يعلم به احد الا الله فعاقبك الله عليه بهذه العقوبة « ـ فتألم ايوب عليه‌السلام ـ وقال : وعزة ربي انه ليعلم اني ما اكلت طعاما قط الا ومعي يتيم او ضعيف يأكل معي ، وما عرض لي امران كلاهما طاعة الا اخذت باشدهما على بدني ، فقال الشاب : سوءة لكم عمدتم الى نبي الله فعنفتموه حتى اظهر من عبادة ربه ما كان يستره.

فعند ذلك توجه ايوب الى الله بقلب منكسر من شدة تالمه من كلام اصحابه ، والذي كان اشد عليه من جميع ما ابتلي به وقال : ( اذ نادى ربه اني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) (١).

وقيل لايوب بعدما عافاه الله تعالى : اي شيء اشد ما مر عليك؟ قال : شماتة الاعداء.

حقا ان شماتة اصحابه كانت اكثر الما عليه من اية مصيبة اخرى حلت به ، ورغم هذا لم يفقد ايوب صبره ، ولم يلوث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر ، وانما توجه الى البارئ عزوجل وناجى ربه وقال : ( اني مسني الضر وانت ارحم الراحمين ) (٢) فهنا اظهر اقصى حالات الادب والخضوع امام الله تعالى عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية ، ولم يظهر الشكوى ولم يطلب حل مشكلته بل قال مسني الضر وانت ارحم الراحمين فتامل.

النجاح في الامتحان :

بعد دعائه الى الله وخروجه من الامتحان الالهي بنجاح ونتيجة جيده ، فتح

__________________

١ ـ ص : ٤١.

٢ ـ الانبياء : ٨٣.

١٨٧

البارئ عزوجل مرة اخرى ابواب رحمته على عبده الصابر والشاكر ايوب عليه‌السلام واعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الاخرى ، بل اكثر مما كان يمتلك من المال والزرع والغنم والاولاد.

كل ذلك من اجل ان يفهم الجميع ماهي العاقبة الحسنة للصبر والتحمل والشكر.

وجاءه النداء من الله عزوجل ان يا ايوب ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) (١) اي دك الارض برجلك فدكها وتفجرت عين ماء باردة ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافة الامراض التي اصابته.

وروي ان ايوب عليه‌السلام لبث في البلاء ثماني عشرة سنة وقيل سبعة سنين وقيل غير ذلك ....

وروي ان عمر ايوب عليه‌السلام كان ثلاثا وتسعين سنة ، وقيل : كان عمره مائتي سنة ، وانه اوصى عند موته الى ابنه حومل ... (٢)

دروس مهمة :

في قصة النبي ايوب عليه‌السلام توجد دروس وحكم مهمة جدا علينا ان نتعض منها ونجعلها منهجا نسير عليه في حياتنا اليومية من اجل الوصول الى سعادة الدارين. منها :

١ ـ الامتحان الالهي.

لقد بنيت الحياة الانسانية على اساس الامتحان والتجربة ، ومن دون هذا الامتحان لا تتفجر الامكانيات والطاقات الكامنة في الانسان ، وعلى هذا

__________________

١ ـ ص : ٤٢.

٢ ـ البحار : ج ١٢ ص ٣٧٢.

١٨٨

الاساس يشمل الامتحان الالهي الواسع كل البشر وبالاخص السالكين الى الله والانبياء والرسل ، وهؤلاء يكون امتحانهم اشد واصعب من الآخرين ....

٢ ـ الفرج بعد الشدة :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من هذه القصة ، هو : عندما تشتد الامور وتتكاثر امواج الحوادث والبلاء على الانسان وتحيط به من كل جانب ، عليه ان لا ييأس ويفقد الامل ( ولا تيأسوا من رَوح الله انه لا ييأس من رَوح الله الا القوم الكافرون ) (١) وانما عليه ان يدرك انها بداية تفتح ابواب الرحمة الالهية عليه ، كما يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام : « عند تناهي الشدة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلَق البلاء يكون الرخاء » (٢).

٣ ـ فلسفة البلاء والحوادث الصعبة :

توضح لنا هذه القصة بصورة جيدة فلسفات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة ، وتجيب على اولئك الذين يعتبرون وجود الآفات والبلايا مادة متناقضة ضد برهان النظم في بحوث التوحيد ، وان وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الانسان ـ من انبياء الله الكبار وحتى عموم الناس ـ يعد امرا ضروريا ، لان الامتحان وكما ذكرنا ـ يفجر طاقات الانسان الكامنة ، ويوصله في آخر الأمر الى التكامل في وجوده.

لذا فقد ورد في الروايات الاسلامية عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « ان اشد الناس بلاءا الانبياء ، ثم الذين يلونهم ، الامثل فالامثل » (٣).

__________________

١ ـ يوسف : ٨٧.

٢ ـ نهج البلاغة : الكلمة ٣٥١.

٣ ـ سفينة البحار مادة ( بلاء ).

١٨٩

وروي عنه عليه‌السلام : « ان في الجنة منزلة لا يبلغها عبد الا بالابتلاء » (١).

٤ ـ دروس في الصبر :

يعلمنا النبي ايوب عليه‌السلام كيف نصبر وكيف نتحمل الصعاب والمشاكل وكيف نقف امامها ، وخاصة اذا ابتعد عنا اصدقاءنا واهلنا والتحقوا بالاعداء وتركونا ، كما فعلوا بالنبي ايوب ، فعندما فقد امواله وثرواته وصحته ، تفرق عنه اصحابه ، واتحدت السنتهم مع السنة اعدائه في الشماتة به والقاء اللائمة عليه.

فان ايوب عليه‌السلام كان يتالم من جراح السنتهم اكثر من تالمه من بقية الآلام.

فالصبر الجميل والشكر الجزيل يعقبه الظفر والانتصار في كل المجالات ، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند البارئ عزوجل ....

٥ ـ من هم احباء الله :

احباء الله ليسوا اولئك الذين يذكرون الله ان انعم عليهم ، وانما احباء الله الواقعيون هم اولئك الذين يذكرون الله دائما ، في السراء والضراء ، وفي البلاء والنعمة ، وفي المرض والعافية ، وفي الفقر والغنى ، ويشكرون الله ويحمدونه على كل حال من الاحوال ، وان تاثيرات الحياة ومشاكلها المادية لا تترك على ايمانهم وافكارهم ادنى اثر.

وصف امير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الخاصة بالمتقين واستعرض فيها اكثر من « ١٠٠ » مئة صفة للمتقين التي بيّنها لصاحبه المخلص همام ، وقل في احدى تلك الصفات :

« نزلت انفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء » ....

واعلم ان الامكانات المادية والثروة ليس دليلا على بعد الانسان عن الله

__________________

١ ـ سفينة البحار مادة ( بلاء ).

١٩٠

سبحانه وتعالى ، وانما الكلام هو : ان لا يكون الانسان عبدا لامواله واولاده ومقامه الدنيوي ، وان فقدها لا يفقد الصبر معها.

كم من اثرياء احسنوا الاستفادة من ثرواتهم واموالهم وانفقوها في سبيل الله كما كان يفعل الانبياء والائمة الاطهار عليهم‌السلام ومحبيهم.

شكر ايوب عليه‌السلام :

عندما تسلط الشيطان على ابناء ايوب ورقيقه ولم يترك له شيئا غير غلام واحد وزوجته ، فاتاه الغلام فقال :

يا ايوب ما بقي من ابلك ولا من رقيقك احد الا وقد مات ، فقال ايوب : الحمد لله الذي اعطاه ، والحمد لله الذي اخذه.

فاتاه الغلام مرة ثانية : فقال : قد مات خيلك فلم يبقى منها شيء الا هلك ، فقال ايوب : الحمد لله الذي اعطى ، والحمد لله الذي اخذ.

وكذلك اخبره ببقره وغنمه ومزارعه وارضه واهله وولده ، وهو يقول : الحمد لله الذي اعطى ، والحمد لله الذي اخذ ، حتى مرض مرضا شديدا وهو يشكر الله ويحمده.

حكمه ومواعظه عليه‌السلام :

روي انه يؤتي بالمراة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها ، فتقول : يا رب حسّنت خَلقي حتى لقيت ما لقيت ، فيجاء بمريم عليها‌السلام فيقال : انت احسن او هذه؟ قد حسناها فلم تفتتن.

ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتنه في حسنه ، فيقول : يا رب حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت ، فيجاء بيوسف ويقال : انت احسن او هذا؟

١٩١

قد حسناه فلم يفتتن.

ويجاء بصاحب البلاء الذي قد اصابته الفتنة في بلائه فيقول : يا رب شدّدت علي البلاء حتى افتتنت ، فيؤتى بايوب عليه‌السلام فيقال : ابليّتك اشد او بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن. (١)

وروي ان ابليس تمثل للنبي ايوب باحد عبيده وجاء اليه وقال له : يا ايوب : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بابلك ورعاتها؟ قال ايوب : انها ماله اعارنيه ، وهو اولى به اذا شاء تركه وان شاء نزعه ، وقديما ما وطّنت نفسي ومالي على الفناء.

فقال ابليس : وان ربك ارسل عليها نارا من السماء فاحترقت كلها.

قال ايوب : الحمد لله حين اعطاني ، وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن امي ، وعريانا اعود في التراب ، وعريانا احشر الى الله تعالى.

ليس ينبغي لك ان تفرح حين اعارك الله ، وتجزع حين قبض عاريته. (٢)

__________________

١ ـ روضة الكافي : ص ٢٢٨.

٢ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٢٣٥.

١٩٢

( ١٤ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي لقمان عليه‌السلام

١٩٣
١٩٤

قصة لقمان الحكيم

قال الله عزوجل في محكم كتابه الكريم : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ان اشكر لله ومن يشكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غني حميد ) (١).

من هو لقمان :

لقد ورد اسم لقمان في آيتين في القرآن وفي هذه السورة ، « اي في سورة لقمان ».

لا يوجد في القرآن دليل صريح على ان لقمان كان نبيا ام لا ، وكما ان اسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي انه لم يكن نبيا.

نرى في القرآن المجيد ان الكلام في شان الانبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة الى التوحيد والتبليغ ، ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة ، وكذلك بشارة الامم وانذارها ، في حين لم نرى ايّا من هذه الامور لم يذكرها القرآن في شأن لقمان.

بل الذي ورد في حقه هو جملة مواعظ وحكم مع ولده ، وان كانت في الظاهر مواعظه خاصة لولده ولكن في الحقيقة هي عامة للجميع ، وهذا دليل على

__________________

١ ـ لقمان : ١٢.

١٩٥

انه كان رجلا حكيما وحسب.

اختلف الاقوال في لقمان عليه‌السلام هل كان نبيا او حكيما ، ويذهب الاكثر الا انه كان حكيما ، لذلك سمي لقمان الحكيم ...

وقد روي في المجمع عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : حقا اقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر ، حسن اليقين ، احب الله فاحبه ومنّ عليه بالحكمة. (١)

وقد جاء في بعض التواريخ : ان لقمان كان عبدا اسود من سودان مصر ، وكان له الى جانب وجهه غير الحسن ، قلب مضيء وروح صافية ، وكان صادق القول ، ولا يمزج الامانة بالخيانة ، ولم يكن يتدخل فيما لا يعنيه.

وروي : ان شخصا سأل لقمان قال له : الم تكن ترعى معنا الغنم؟ قال نعم ، فقال الرجل : فمن اين اتاك كل هذا العلم والحكمة؟

قال : قدر الله ، واداء الامانة ، وصدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني (٢).

وقيل انه كان ابن اخت ايوب ، وقيل كان ابن خالة ايوب.

وكان رجلا قويا في امر الله ، متورعا في الله ، ساكتا مستكينا عميق النظر ، طويل الفكر ، مستغنن بالصبر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره احد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعمق نظره وتحفظه في امره ، ولم يضحك من شيء مخافة الاثم ولم يغضب ، ولم يمازح انسانا قط ، ولم يفرح بشيء اتاه من امر الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قط ، وولد له من الاولاد الكثير وقد مات اكثرهم ، فما بكى على موت احد قط.

ولم يمر برجلين يختصمان او يقتتلان الا اصلح بينهما ... ، ولم يسمع قولا

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٢١.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٥ ص ٥٢ تفسير سورة لقمان.

١٩٦

قط من احد استحسنه الا سأل عن تفسيره وعمن اخذه. (١)

انتخاب الحكمة :

روي انه عندما كان لقمان نائما نصف النهار ان الله امر بعض من الملائكة فنادوا : يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس بالحق؟

فأجاب الصوت : ان خيرني ربي قبلت العافية ولم اقبل البلاء ، وان هو عزم علي فسمعا وطاعة ، فانني اعلم انه ان فعل بي ذلك اعانني وعصمني.

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لِمَ يا لقمان؟ قال : لان الحكم اشد المنازل وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان ان وفى فبالحري ان ينجو ، وان اخطأ اخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من ان يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا ، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصب الآخرة.

فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فاعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ، ثم كان يوازر داود بحكمته ، فقال له داود : طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى ، واعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة. (٢)

ماهي الحكمة :

قال الله عزوجل : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ان اشكر لله ... ) (٣).

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٢٢.

٢ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٢١.

٣ ـ لقمان : ١٢.

١٩٧

ذكر البعض عن ماهية الحكمة ، ان لها معاني كثيرة ، مثل : معرفة اسرار العالم ، والاحاطة والعلم بحقائق القرآن ، والوصول الى الحق من جهة القول والعمل ، ومعرفة الله.

ويمكن جمع كل هذه المعاني في مكان واحد ، اذ قيل في تفسير الحكمة : ان الحكمة التي يتحدث عنها القرآن ، والتي كان الله قد آتاها لقمان عليه‌السلام ، كانت مجموعة من المعرفة والعلم ، والاخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

وفي حديث عن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، انه قال لهشام بن الحكم في تفسير قوله تعالى : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ... ) : بمعنى ان الحكمة هي الفهم والعقل. (١)

وعلى كل حال ، فان لقمان عليه‌السلام بامتلاكه هذه الحكمة قد هب واجتهد لشكر الله ، وكان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الالهية ، وكيفية استغلالها والاستفادة منها ، وبناء على هذا فان الشكر والحكمة يعودان الى نقطة واحدة.

ونتيجة الشكر والكفران للنعم ، هي : ان شكر النعمة سيكون من صالح الانسان ومنفعته ، وان كفران النعمة سيكون سببا لضرره ايضا ، لان الله غني عن العالمين.

فلو ان كل الممكنات شكرته فلا يزيد في عظمته شيء ، ولو ان كل الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء.

وان حكمة لقمان توجب عليه ان بتوجه قبل كل شيء الى اهم المسائل الاساسية ، وهي مسألة التوحيد ، التوحيد في كل الابعاد والمجالات.

وعلى هذا اشارت الآية المباركة الى اولى مواعظه واهم وصاياه الى

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ص ١٣.

١٩٨

ولده : ( واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم ) (١).

كل حركة هدامة ضد التوجه الالهي تنبع من الشرك ، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وامثال ذلك ، والذي يعتبر كل منها فرعا من الشرك ، لذلك نرى ان لقمان الحكيم قد اعتبر الشرك ظلما عظيما.

حكم من القرآن :

لاهمية الحكمة والموعظة ذكرها الله عزوجل في كتابه السماوي العظيم ، وعكست لنا الآيات الثمانية المباركة من سورة لقمان الحكيم عليه‌السلام والتي ذكرناها في بحثنا هذا ، وقد بينت لنا جانب مهم وباسلوب رائع المسائل العقائدية في التوحيد ومحاربة الشرك ، اضافة الى المسائل الاخلاقية والاجتماعية والدينية المهمة وذلك في مواعظ لقمان لابنه.

لقد كانت اولى مواعظ لقمان الحكيم عليه‌السلام في مسألة التوحيد ومحاربة الشرك وهما اساس كل الحركات الصحيحة والبناءة ، وعقد القلوب مع الله عزوجل ، واطاعة اوامره ، وكسر كل الاصنام في ساحة كبريائه.

احترام الوالدين :

وبعد ذلك يوصي لقمان ابنه باحترام الوالدين مع العلاقة القوية فيما بينهما وخلوص النية ، وما هي خير وصلاح الولد ، فتقول الآية المباركة المحكيّة عن الله تعالى : ( ووصينا الانسان بوالديه ). وبعد ذلك تشير الآية الى جهود ومتاعب

__________________

١ ـ لقمان : ١٣.

١٩٩

وآلام الام العظيمة ، فتقول : ( حملته امه وهنا على وهن ).

اثبتت التجارب من الناحية العلمية ان الامهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن ، لانهن يصرفن خلاصة ارواحهن في تغذية وتنمية الجنين ، ولذلك فان الامهات اثناء فترة الحمل يبتلين بنقص انواع الفيتامينات فيسبب لهن آلاما ومتاعب كثيرة ، ويستمر هذا الأمر حتى فترة الرضاعة ، لان اللبن عصارة روح الام ، وتستمر هذه الرضاعة مدة سنتين ، وذلك قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين ) (١) وقوله تعالى : ( وفصاله في عامين ) (٢).

وعلى هذا فان الام خلال هذه الفترة ، فترة الحمل وفترة الرضاعة ومابعد الرضاعة ، تقدم اعظم تضحية لولدها ، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي ، او الجسمي ، او من جهة الخدمات والرعاية.

وقد روي في الكافي : انه جاء رجل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله من ابر؟ قال : امك ، قال : ثم من؟ قال : امك ، قال : ثم من؟ قال : امك ، قال : ثم من؟ قال : اباك. (٣)

وبعد ذلك يقول تعالى : ( ان اشكر لي ولوالديك ) هنا يتزامن شكر الله وشكر الوالدين « رضا الله من رضا الوالدين » الشكر يكون اولا لله تعالى لانه الخالق والمنعم الاصلي علينا ، والذي منحنا مثل هذين الابوين العطوفين الرحيمين ، وبعد ذلك يكون الشكر للوالدين ، لانهما الواسطة لهذا الفيض ، فما اجمل ان يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله ! ..

__________________

١ ـ البقرة : ٢٣٣.

٢ ـ لقمان : ١٤.

٣ ـ الكافي : عنه تفسير الميزان ، سورة لقمان.

٢٠٠