حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

اولادي ، يوسف وبنيامين واخوهم الاكبر ، « اخاهم الاكبر الذي لم يرجع معهم وبقي في مصر حزنا وتألما على ابيه الذي اخذ منهم المواثيق بان يردوا له بنيامين ، وقال : لا ابرح من هذه الارض حتى اموت فيها ، او ان يفتح الله سبحانه وتعالى لنا سبيلا للنجاة ، او عذرا مقبولا عند ابينا ».

ثم بعد هذه المحاورات بين يعقوب واولاده ، استولى عليه الحزن والالم ، وتذكر ولده يوسف ، وتذكر تلك الايام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ، وعلى اثر ذلك ابتعد يعقوب عن اولاده واخذ يبكي على ولديه يوسف وبنيامين حتى فقد بصره وصار بصيرا ، وكان يقول : ( انما اشكوا بثي وحزني الى الله واعلم من الله ما لا تعملون ).

اللقاء وجمع الشمل :

كان القحط والغلاء والمجاعة وشحة الطعام يشتد يوما بعد يوم في مصر وما حولها ، ومرة اخرى يامر يعقوب اولاده بان يسيروا صوب مصر للحصول على الطعام ، ولكنه في هذه المرة يطلب منهم ان يبحثوا عن يوسف واخيه بنيامين.

لكن اولاد يعقوب كانوا مطمئنين من موت يوسف وهلاكه وعدم بقاءه ، فتعجبوا من توصية ابيهم وتأكيده على يوسف ، لكن يعقوب كان قلبه يعلم بان ولده يوسف حي ، ونهاهم عن اليأس والقنوط ووصاهم بالاعتماد على الله سبحانه والاتكال عليه وقال : ( ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون ).

توجه الاخوة نحو مصر ، ولكن خلافا للسفرتين السابقتين ، كانوا مطاطئي الرؤوس ويشعرون بالخجل حيث كانت ضمائرهم معذبة ، وفي نفس الوقت لم

١٦١

يحملوا معهم هذه المرة من المتاع والنقود ما يستحق ان يعاوضوه بالطعام والحبوب ، الا ان الذي كان يبعث في نفوسهم الامل ويعطيهم القدرة على تحمل الصعاب هو وصية ابيهم في قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ).

واخيرا استطاعوا ان يقابلوا العزيز يوسف فقالوا له وهم في غاية الخجل والالم : ( يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فاوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزي المتصدقين ).

وقد روي في هذا المقام ، ان الاخوة كانوا يحملون معهم رسالة من ابيهم الى عزيز مصر يوسف ، حيث مدح يعقوب في رسالته عزيز مصر واكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب ، ثم عرفه نفسه والانبياء من اهل بيته ، واخبره بفقد اعز اولاده واحبهم الى نفسه يوسف واخيه بنيامين ، وما اصابهم من القحط والغلاء ، وفي ختام الرسالة طلب منه ان يمن عليه ويطلق سراح ولده بنيامين ، وذكره ان بنيامين سليل النبوة والرسالة وانه لا يتلوث بالسرقة وغيرها من المعاصي.

وحينما قدم الاولاد رسالة ابيهم الى العزيز شاهدوا انه فض الرسالة باحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث الدموع بلت ثيابه ، وقد حير هذا التصرف الاخوة وبدأوا يفكرون بعلاقة العزيز مع ابيهم ماهي ، ولعل هذه الرسالة اثارت عواطف العزيز وشعوره ....

وفي تلك اللحظة ، وبعد ان مضت ايام الامتحان الصعب ، عرف يوسف نفسه لاخوته وقال لهم : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه اذ انتم جاهلون ) ، فابتسم يوسف ونظر اخوته الى اسنانه الجميلة وتذكروا الشبه بينه وبين اسنان اخيهم يوسف الجميلة ، ومن جهة اخرى شاهدوا ان العزيز يتحدث معهم ويستفسرهم عما فعلوه بيوسف.

١٦٢

حينما لاحظوا هذه الامور وغيرها تجرأوا اخيرا وسألوه مستفسرين منه وقالوا له : ( اءنك لانت يوسف ) كانت هذه اصعب اللحظات على الاخوة ، وكانت اللحظات تمر بسرعة والانتظار يعصر قلوبهم ويزيد في قلقهم ، رفع يوسف الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم الحقيقة ( قال انا يوسف وهذا اخي قد منّ الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين ).

لا يعرف احد كيف مرت هذه اللحظات الحساسة على الاخوة وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا اخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حين التقوا باخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، ولكنهم في كل الاحوال كانوا لا يطيقون النظر الى وجه اخيهم يوسف بسبب الذنب والجريمة التي اقترفوها في حقه ، وقالوا له : لقد آثرك الله علينا وفضلك بالحلم والعلم والحكومة علينا ونحن كنا خاطئين ونعتذر الى الله واليك.

فقال لهم يوسف بلغة المحبة والعطف والرضا : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين ). اي العتاب والعقاب مرفوع عنكم واطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ، وان الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لانه ارحم الراحمين.

انتهاء حزن يعقوب :

وبعد ان علم يوسف بحال ابيه وفقد بصره تألم كثيرا وقال لاخوته ( اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه ابي يأت بصيرا واتوني باهلكم اجمعين ).

رجعوا اولاد يعقوب الى كنعان يحملون قميص اخيهم يوسف معهم فرحين ومستبشرين ، وعندما تحركت القافلة وخرجت من مصر هب نسيم عليل

١٦٣

وحمل ريح يوسف الى يعقوب.

وبينما يعقوب جالس في زاوية البيت يفكر بمصير اولادهم ومصير يوسف وبنيامين واذا بالنسيم يمر على بيته ويشم منه رائحة يوسف ، ينهض من مكانه فجأة نشطا متحركا بكل صراحة وجرأة واطمئنان وقال : لو لم تتحدثوا عني بسوء ولم تنسبوا كلامي للسفاهة والجهل لقلت لكم : اني لأشم ريح يوسف ، فاني احس بان ايام المحنة والالام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانه قد حان وقت اللقاء مع الحبيب ، وارى ان آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور.

تعجب الذين كانوا يحيطونه من اهله واحفاده والنساء من كلامه ، وقالوا له : يا ابانا لقد مضت سنين طويلة على موت يوسف ، لكنك تزعم انه حي ، وتقول : انك تشم رائحته من مصر؟ اين مصر واين الشام وكنعان؟ ، فقال لهم : اني اعلم من الله ما لا تعلمون ».

تمضي الليالي والايام ويعقوب في حالة الانتظار ، الانتظار الذي يصحبه القلق والسرور والفرح.

وبعد ايام عديدة من الانتظار ، والتي لا يعلم الا الله كيف قضاها يعقوب ، ارتفع صوت المنادي معلنا وصول القافلة التي تحمل البشائر ليعقوب ، والطعام لقومه.

دخل اولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجهوا مسرعين الى بيت ابيهم ، وسبقه البشير الذي كان يحمل قميص يوسف وبشره بحياة يوسف والقى قميصه على وجهه ، فارتد بصيرا ، وشع النور في جميع ذرات وجوده ، ورأى السماء والارض والجدران وكل شيء حوله كأنه يضحك معه ، وفتح عينيه ورأى جمال العالم مرة اخرى ....

١٦٤

القرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة ويقول عز من قائل : ( فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيرا قال الم اقل لكم اني اعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين * قال سوف استغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم ).

توبة اولاد يعقوب :

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت اولاد يعقوب يعودون الى انفسهم ويتساءلون عنها ويفكرون في ماضيهم الاسود المليء بالذنوب والاخطاء والحسد. ولكن ما اجمل التوبة والعودة الى الله والى طريق الصواب ، حينما ينكشف للانسان خطأه ، وما احلى تلك اللحظات التي يتمكن بها المذنب ويحاول ان يطلب العفو ممن جنى عليه ، ليطهر به نفسه ويبعده عن جادة الخطأ والانحراف وذلك قبل فوات الاوان ....

مع وصول القافلة التي تحمل اعظم البشائر من مصر الى كنعان ، ومع عودة البصر الى يعقوب ، ارتفعت اهازيج الفرح والسرور في بيت يعقوب وذهب عنهم الحزن والاسى ، وتجهز اهل هذا البيت للسفر الى مصر ـ حسب وصية يوسف ـ وتهيأت مقدمات السفر من جميع النواحي ، وركب يعقوب على راحلته وشفتاه لا تهدأ من ذكر الله وتمجيده وتحميده ، وتحركت القافلة نحو مصر تطوي الليالي والايام ، وكانت كل دقيقة تمر عليهم تحسب بيوم لشدة شوق الوصال.

واخيرا تحقق الحلم :

ولاحت معالم مصر وابنيتها من بعيد ، بمزارعها الخضراء واشجارها الباسقة ، وعماراتها الشاهقة.

١٦٥

واخيرا تحققت احلى سويعات الحياة ليعقوب عندما دخل على يوسف واحتضنه ، ولا يعلم الا الله ما كانت لديهما من احاسيس في تلك اللحظات الحلوة ، واية دموع انسكبت من عينيهما من الفرح.

وعندها التفت يوسف الى اخوته وابويه وقال لهم : ادخلوا مصر ، لانها اصبحت تحت حكم يوسف في امن وامان ، لان يوسف كان قد خرج الى خارج المدينة لاستقبال والديه واخوته.

فلما دخلوا القصر رفع ابويه على العرش واكرمهم وقدرهم ، وهم في المقابل شكروا الله وحمدوه وسجدوا لله شكرا وتعظيما.

ثم التفت يوسف الى ابيه يعقوب وقال له : ( يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد احسن بي اذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ان ربي لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم ) (١).

انتهت قصة يوسف عليه‌السلام مع ابيه واخوته بكل دروسها وعبرها التربوية ، وختم الله ليعقوب عليه‌السلام حياته بالخير والسعادة ، وليوسف عليه‌السلام بالبركة والملك والسلطان ، ولاخوته بالمغفرة والرضوان ، واجتمعت العائلة الكريمة بعد النجاح من هذا الامتحان الصعب ، تحت شوق واحد وقلوبهم مطمئنة ومملوئة بالايمان والعشق الالهي.

زواج العزيزة من العزيز :

روي انه لما مات عزيز مصر زوج زليخا وكان ذلك في السنين الجدبة

__________________

١ ـ يوسف : ١٠٠.

١٦٦

وايام المجاعة ، افتقرت امرأة العزيز ـ زليخا ـ وهرمت واحتاجت الى المساعدة حتى سألت البعض ، فقالوا لها : لو قعدت للعزيز يوسف وطلبتي منه المساعدة ، قالت : استحي منه ، فلم يزالوا بها حتى قعدت له في الطريق ، فاقبل يوسف في موكبه ، فقامت اليه وقالت :

الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا ، وجعل العبيد بالطاعة ملوكا.

فقال لها يوسف ، وهي هرمة : ألست فعلت بي كذا وكذا؟ اي ولماذا فعلت كذا وكذا.

فقالت : لا تلمني يا نبي الله ، فاني بليت بثلاثة لم يبل بها احد ، قال : وما هي؟

قالت : بليت بحبك ولم يخلق الله لك نظيرا ، وبليت بحسني بانه لم تكن بمصر امرأة اجمل مني ولا اكثر مالا ، وبليت بان زوجي كان محصورا بفقد الحركة ـ يعني عنّينا ـ.

فقال لها يوسف : ما حاجتك؟

قالت : تسأل الله ان يرد علي شبابي ، فسأل الله ، فرد عليها شبابها فتزوجها وهي بكر.

وفاة يوسف عليه‌السلام :

روي انه كان عمر يوسف لما القي في البئر سبع سنين وقيل : عشر سنين وقيل غير هذا ، ولما اجتمع مع ابيه كان عمره اربعين سنة. (١)

وعاش يوسف بعد موت يعقوب عليهما‌السلام ثلاث وعشرين سنة ، ومات يوسف

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ١٨٣.

١٦٧

وهو ابن مائة وعشرين سنة. (١)

وروي ان يوسف عليه‌السلام لما مات دفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك انه لما مات تشاجر الناس عليه ، كل يقول يجب ان يدفن في محلته ، لما كانوا يرجون بركته ، وبعد ذلك هموا ان يدفنوه في النيل فيمر الماء عليه ثم يصل الى جميع اراضي مصر ، فيكون كلهم فيه شركاء وفي بركته سواء ، فكان قبره في النيل.

وكان قد اوصى يوسف علمائه لما حضرته الوفاة ان ينقلوا عظامه معهم اذا خرجوا مع موسى عليه‌السلام من مصر الى فلسطين. فلما اراد موسى الخروج من مصر مع علمائه سأل عن قبر يوسف ، قالوا له ان عجوز من بني اسرائيل تعلم قبره ، فبعث اليها موسى فاتته فقال : دليني على قبر يوسف ، فقالت : لا اخبرك حتى تعطيني اربع خصال ، تطلق رجلي ، وتعيد الي بصري ، وشبابي ، وتجعلني معك في الجنة ، فكبر ذلك على موسى فأوحى الله تعالى اليه ان اعطها ما سألت ، ففعل ، فانطلقت بهم الى موضع عين في مستنقع ماء فاستخرجوه من شاطئ النيل في صندوق من مرمر ، فلما حملوا التابوت ، طلع القمر واضاء الطريق مثل النهار فاهتدوا به وحملوه (٢) معهم ودفنوه مع آباءه في فلسطين.

واما يعقوب عليه‌السلام روي انه عاش مائة وسبعا واربعين سنة ، ودخل مصر على يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة ، وكان عند يوسف بمصر سبعة عشر سنة ، وقيل : اربعا وعشرين سنة ثم توفي بمصر ، ونقل جسده الى بيت المقدس في تابوت من ساج.

__________________

١ ـ قصص الانبياء للثعلبي : ص ١٢٥

٢ ـ نفس المصدر

١٦٨

دروس وعبر :

١ ـ الاعتماد على الله :

كان يوسف يبكي من شدة اللكمات والضربات من اخوته ، ولما ارادوا ان يلقوه في البئر اخذ يضحك ، فتعجب اخوته وسألوه عن سبب الضحك فقال :

عندما نظرت الى عضلات ايديكم القوية وقواكم الجسدية الخارقة فسررت وقلت في نفسي : ما عسى ان يخشى ويخاف من الحوادث والملمات من كان عنده مثل هؤلاء الاخوة ، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم ، والآن وقد اصبحت اسيرا بين ايديكم واستجير بكم من واحد لآخر فلا اجار ، وقد سلطكم الله علي لاتعلم هذا الدرس ، وهو الا اعتمد واتوكل على احد سوى الله عزوجل ، حتى ولو كانوا اخوتي.

٢ ـ دعاء يوسف :

عندما استقر يوسف في قعر البئر انقطع امله من كل شيء ، وتوجه بكل وجوده الى الله عزوجل ودعاه بهذا الدعاء :

« اللهم يا مؤنس كل غريب ، ويا صاحب كل وحيد ، ويا ملجأ كل خائف ، ويا كاشف كل كربة ، ويا عالم كل نجوى ، ويا منتهى كل شكوى ، ويا حاضر كل ملأ ، يا حي يا قيوم ، اسألك ان تقذف رجائك في قلبي ، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك ، وان تجعل لي من امري فرجا ومخرجا ، انك على كل شيء قدير.

٣ ـ الالتجاء الى الله :

وقول يوسف لزليخا عزيزة مصر عندما قالت له هيت لك : ( قال معاذ الله انه ربي احسن مثواي ) علمنا درسا وقال :

١٦٩

ان في مثل هذه الظروف الصعبة ، لا سبيل الى النجاة من وساوس الشيطان واغراءاته ، الا بالالتجاء الى الله ، الله الذي لا فرق عنده بين السر والعلن ، بين الخلوة والاجتماع ، فهو مطلع ومهيمن على كل شيء ، وموجود في كل مكان.

٤ ـ الحياء من الله :

هناك رواية يستفاد منها انه كان في قصر امرأة العزيز صنم تعبده ، وفجاة وقعت عيناها عليه ، عندما ارادت ان تراود يوسف ، فانها احست بالصنم ينظر اليها والى حركاتها الخيانية ، فنهضت في غضب والقت عليه سترا ، فاهتز يوسف لهذا المنظر.

وقال : انت ايها الصنم الذي لا تملك عقلا ولا شعورا ولا احساسا تستحي منك العزيزة ! ، فكيف لا استحي من ربي الخبير بكل شيء ، والذي لا تخفى عليه خافية.

فهذا الاحساس منح يوسف قوة جديدة ، واعانه على الصراع الشديد في اعماق نفسه بين الغريزة والعقل ، ليتمكن من التغلب على امواج الغريزة النفسية.

٥ ـ جهاد النفس

نحن نعرف ان اعظم الجهاد في الاسلام هو جهاد النفس ، الذي عبر عنه في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بـ « الجهاد الاكبر » وجهاد العدو الذي عبر عنه ـ بالجهاد الاصغر ـ ، وقصة يوسف ، وما كان من عشق امرأة العزيز الملتهب ، واحد من هذه الصور الجهادية بالنسبة الى يوسف عليه‌السلام.

لقد انتصر يوسف عليه‌السلام في هذا الصراع بوجه مشرق ابيض لثلاثة اسباب:

الاول : انه التجأ الى الله واستعاذ به ، وقال : « معاذ الله ».

١٧٠

الثاني : لاحظ نعم الله التي لا تحصى والتي انقذته من غيابة الجب الموحشة ، واوصلته الى محيط الامان والهدوء ، وجعلته يفكر في ماضيه ومستقبله ، ولا يستسلم للتيارات العابرة.

الثالث : بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالاخلاص التي عبر عنها القرآن الكريم ( انه من عبادنا المخلصين ).

وهذا درس كبير لجميع الناس الاحرار الذين يريدون ان ينتصرون على عدوهم الخطير في ميادين جهاد النفس.

٦ ـ الاستغاثة بالله :

روي عن ابي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : « جاء جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا يوسف من جعلك احسن الناس؟ قال : ربي.

قال : فمن حببك الى ابيك دون اخوتك؟ قال : ربي.

قال : فمن ساق اليك السيارة؟ قال : ربي.

قال : فمن صرف عنك الحجارة؟ قال : ربي.

قال : فمن انقذك من الجب؟ قال : ربي.

قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربي.

قال فان ربك يقول : ما دعاك الى ان تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث بالسجن بما قلت بضع سنين.

وذلك قول يوسف الى صاحبه في السجن عندما خرج : « اذكرني عند ربك » استغاث بالمخلوق دون الخالق.

١٧١

٧ ـ بعض الهزيمة انتصار :

في بعض من الاحيان تكون الهزيمة انتصارا ، وهذه الهزائم تكون سبب لانتصار الانسان معنويا وحتى ماديا وتكون سببا لليقظة.

فامراة العزيز ـ زليخا ـ اصبحت في عملها مبتلاة باشد الهزائم ، ولكن هذه الهزائم كانت سببا لان تنتبه ويتيقظ وجدانها النائم ، وان تندم على ما فات من عملها ، والتفتت الى ساحة الله ، وقالت عندما التقت بالعزيز يوسف : « الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ، وجعل الملوك عبيدا بمعصيته ».

السعداء هم اولئك الذين يصنعون من الهزائم انتصارا ، ومن سوء الحظ حظا حسنا ، ومن اخطائهم طريقا صحيحا للحياة.

٨ ـ الامتحان :

لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لاخوته ، حتى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا الى ابيهم ويخبرونه عن مصير يوسف ، وبذلك تنتهي آلامه لاجل فراق يوسف ، وكان قد مر ثمان سنوات على تحرير يوسف من السجن عندما التقى باخوته في المرة الاولى؟

ولماذا لم يبعث يوسف الى ابيه ويخبره بما وصل اليه من عز قبل ان يأتي اخوته .....؟

حاول جمع من المفسرين الاجابة على هذه الاسئلة ، ولعل احسنها واقربها ، هو :

ان يوسف لم يكن مجازا من قبل الله عزوجل في اخبار ابيه ، لان قصة يوسف مع غض النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وامتحانه ، فلابد من ان يؤدي يعقوب امتحانه ويجتاز فترة الاختبار قبل ان

١٧٢

يسمح ليوسف باخباره.

٩ ـ من هو الشاهد :

هناك اقوال مختلفة في انه من هو الشاهد الذي ختم ـ ملف يوسف وامرأة العزيز ـ بسرعة واوضح البريء من المسيء بجلاء !

قال البعض : هو احد اقارب امرأة العزيز ، وكلمة من « اهلها » في « شهد شاهد من اهلها » .. ويقال ان هذا الرجل كان ايضا من مشاوري عزيز مصر وكان معه حينما دخل البيت ، وكان رجل حكيم وعارف بحيث استطاع بسرعة ان يعرف من المعتدي وذلك من قميص يوسف الذي قد من دبر ...

القول الآخر : ان الشاهد كان طفلا رضيعا من اقارب العزيزة ، وكان على مقربة من الحادث ، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر ان يحتكم الى هذا الطفل ، فانطقه الله وتكلم ـ كما تكلم المسيح في المهد ....

وهناك احتمالات اخرى ولكن هذان القولان اقوى من البقية والله العالم.

١٠ ـ حماية الله والطافه الخفية :

الدرس الآخر المهم الذي نتعلمه من قصة يوسف ، هو حماية الله ورعايته الواسعة والطافه الخفية للانسان وفي اشد الحالات ، حيث يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ـ ويكون ذلك القميص المبارك اكبر عون ومدرك للعزيز يوسف عليه‌السلام ، ذلك القميص الذي يصنع العجائب ، وفيه ثلاث آيات وهي :

يكون يوما يفضح اخوة يوسف لانهم جاؤوا اباهم ملطخا بدم كذب وهو غير ممزق ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ).

ويوما يفضح امرأة العزيز ، لانه قد قدّ من قبل : ( ان كان قميصه قد من

١٧٣

قبُل ).

ويوما آخر يكون واهبا البصر والنور ليعقوب : ( اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه ابي يأت بصيرا ) وعلى كل حال فان لله الطافا خفية ، غير مطلع على عمقها احد ، وحين يشاء الله تتغير المسارح بشكل لا يمكن حتى لاذكى الافراد ان يتنبأ عنها : ...

١١ ـ التوسل بغير الله :

يستفاد من الآية المباركة في قول يوسف عليه‌السلام عندما اظهر اخوته الندامة له : ( يغفر الله لكم ) وفي قول يعقوب عليه‌السلام لابنائه عندما اعترفوا بالذنب وطلبوا منه الاستغفار قال : ( سوف استغفر لكم ربي ... ) ، يستفاد ان طلب الاستغفار من الآخرين جائز وغير مناف للتوحيد ، ـ كما يتصور البعض ـ بل هو سبيل الى الوصول الى لطف الله سبحانه ، والا فكيف يمكن ليعقوب ان يستجيب لطلب ابنائه في ان يستغفر لهم وان يجيبهم جوابا مثبتا على توسلهم به.

وهذا الأمر يدل على ان التوسل باولياء الله جائز ....

١٢ ـ المحاورة :

روي انه لما ارادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه الى نفسها ، وهو يردها ويعضها ، ونحن هنا نذكر هذه المحاورة التي دارت بينهما كي نتعض بها :

قالت : يا يوسف ما احسن شعرك؟ قال : هو اول شيء يبلى اذا مت.

قالت : يا يوسف ما احسن وجهك؟ قال : ربي تعالى صورني في الرحم ، وقال : التراب ياكله.

١٧٤

قالت : يا يوسف قد انحلت جسمي بصورة وجهك؟ قال : الشيطان يعينك على ذلك.

قالت : يا يوسف الجنينة قد التهبت نارا قم فاطفئها؟ فقال : ان اطفأتها فمنها احتراقي.

قالت : يا يوسف الجنينة قد عطشت قم فاسقها؟ قال : فمن كان المفتاح بيده فهو احق ان يسقيها مني.

قالت : يا يوسف بساط الحرير قد بسط لك قم فاقضي حاجتي؟ قال : اذا يذهب نصيبي من الجنة.

قالت : يا يوسف ادخل معي تحت الستر فاسترك به؟ قال : ليس شيء يسترني من ربي تعالى ان عصيته.

قالت : يا يوسف ضع يدك على صدري تشفني بذلك؟ قال : سيدي احق بذلك مني.

قالت : يا يوسف ما احسن عينيك ، قال : هما اول ما يسيل في الارض من جسدي.

قالت : اما سيدك فأسقيه كاسا فيه زئبق الذهب فيتناثر لحمه ، ويتساقط عظمه ، ثم القيه في استبرق والقيه في المخدع لا يعلم به احد من الناس ، واوليك ملكه قليله وكثيره.

قال : فان الجزاء يوم الجزاء.

قالت : يا يوسف اني كثيرة الدر والياقوت والزمرد فاعطيك ذلك كله حتى تنفقه في مرضاة سيدك الذي في السماء ...

فابى يوسف.

١٧٥

١٣ ـ العقوبة :

روي ان يعقوب عليه‌السلام لما دخل مصر ورأى يوسف ومملكته ، فكان يطوف يوما من الايام في خزائنه ، فراى خزانة مملوءة قراطيس بيضاء ، فقال له : يا بني لقد تغيرت بعدي ، لك كل هذه القراطيس وما حملت بطاقة منها تكتب الي كتابا.

فقال يوسف : هذه القراطيس كلها لك ، كنت كلما زاد شوقي وكثر حنيني آخذ ورقة حتى اكتب اليك يا ابت فيمنعني جبرئيل ان اكتب اليك فاتركها في هذه الخزانة حتى بلغت هذا المبلغ.

فسأل يعقوب جبرئيل عن ذلك ، فقال : منعني ربي.

فسأل الله عن ذلك ، فأوحى الله اليه : لانك قلت اخاف ان ياكله الذئب ، فهلا خفتني؟ هذه العقوبة لاجل تخوفك من غيري.

١٤ ـ الدعاء للفرج من الشدة :

ومن دعاء يوسف عليه‌السلام للفرج ، وضع خده على الارض ثم قال :

« اللهم ان كانت ذنوبي قد اخلقت وجهي عندك ، فاني اتوجه اليك بوجه آبائي الصالحين : ابراهيم ، واسماعيل ، واسحاق ، ويعقوب ، ففرج الله عنه.

فقيل لابي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك اندعوا نحن بهذا الدعاء؟ فقال : ادع بمثله : « اللهم ان كانت ذنوبي قد اخلقت وجهي عندك فاني اتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين والائمة عليهم‌السلام » ـ فرج عنا يا الله.

وكان من دعاء يعقوب عليه‌السلام ايضا :

« يا من لا يعلم احد كيف هو وحيث هو وقدرته الا هو ، يا من سد الهواء بالسماء وكبس الارض على الماء ، واختار لنفسه احسن الاسماء ، ائتني بروح

١٧٦

من عندك وفرج قريب ».

فما انفجر عمود الصبح حتى اتي بالقميص وطرح على وجهه فرد الله عليه بصره وولده.

١٥ ـ سبب ابتلاء يعقوب عليه‌السلام :

روي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : انما ابتلي يعقوب بيوسف انه ذبح كبشا سمينا ، وكان رجل من اصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عليه ، فاغفله ، ولم يطعمه ، فابتلي بيوسف ، وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي ! من لم يكن صائما ، فليشهد غداء يعقوب ، فاذا كان المساء ، نادى : من كان صائما ، فليشهد عشاء يعقوب. (١)

١٦ ـ براءة يوسف :

واعلم ان العامة والمنحرفين عقائديا ، نسبوا الى يوسف عليه‌السلام روايات مختلقة لا يليق للمؤمن نقلها ، فكيف باعتقادها ، واتهموه بانواع التهم لا اطيق ذكرها.

نذكر هنا وباختصار الادلة على براءته وعصمته :

ان الذين لهم تعلق بهذه الواقعة هم : يوسف عليه‌السلام ، وامرأة العزيز ، وزوجها ، والشهود ، والنسوة ، ورب العالمين ، وابليس ، وكل هؤلاء قالوا ببراءة يوسف من الذنب :

١ ـ اما يوسف ، فقوله : ( هي راودتني عن نفسي ) وقوله : ( رب

__________________

١ ـ تفسير كنز الدقائق : م٦ ص ٢٧٩.

١٧٧

السجن احب الي مما يدعونني اليه ).

٢ ـ واما العزيزة ، فقولها : ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) ، وقالت : ( الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه ).

٣ ـ واما زوجها العزيز ، فقال : ( انه من كيدكن ان كيدكن عظيم ).

٤ ـ واما النسوة ، فقولهن ( امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين ) ، وقلن : ( حاش لله ما علمنا عليه من سوء ).

٥ ـ واما الشهود ، فقوله تعالى : ( شهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل ... ) الآية.

٦ ـ واما شهادة الله بذلك ، فقوله عز من قائل : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين ).

٧ ـ واما اقرار ابليس بذلك ، فقوله : ( لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين ). فقد اقر ابليس بانه لم يغوه.

وبعد هذا نقول لهؤلاء الجهال الذين نسبوا الى يوسف عليه‌السلام الفضيحة ، ان كانوا من اتباع دين الله ، فليقبلوا شهادة الله بطهارته ، وان كانوا من اتباع الشيطان وجنوده ، فليقبلوا اقرار ابليس بطهارته. !

١٧ ـ بكاء يوسف :

روي انه لما كان يوسف في السجن ، وقال للفتى : ( اذكرني عند ربك ). اتاه جبرئيل فضرب بجناحه الارض حتى كشط له عن الارض السابعة.

قال له : يا يوسف ، انظر ماذا ترى؟ فقال : ارى حجرا صغيرا ، ففلق الحجر ، فقال : ماذا ترى؟ قال : ارى دودة صغيرة ، قال : فمن رازقها؟ قال : ربي.

قال : فان ربك يقول : لم انس هذه الدودة في ذلك الحجر في قعر الارض

١٧٨

السابعة ، اظننت اني انساك ، حتى تقول للفتى : ( اذكرني عند ربك ) ، لتلبثن في السجن بمقالتك هذه بضع سنين.

قال : فبكى يوسف عند ذلك ، حتى بكى لبكائه الحيطان ، فتأذى به اهل السجن ، فصالحهم على ان يبكي يوما ، ويسكت يوما ، فكان في اليوم الذي يسكت به اسوأ حالا.

١٧٩
١٨٠