حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

ويمن به على القوم ، الا انه قال بأدب كامل وتواضع : ( قال هذا رحمة من ربي ) ، لان اخلاقه كانت اخلاقا الهية.

اراد ذو القرنين ان يعِضَهم فقال : انني لا املك شيئا من عندي كي افتخر به ، اذا كنت املك العلم والمعرفة ، وقابلت الكلام والحديث المؤثر ، كل هذا من فضل الله ومن قبل الخالق جل وعلا.

واذا كانت مِثل هذه الوسائل والافكار في اختياري فان ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة.

ثم استطرد قائلا متواضعا لله تعالى : لا تظنوا ان هذا السد سيكون ابديا خالدا لا يتزعزع : ( فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ) (١).

لقد اشار ذو القرنين في النهاية من كلامه هذا الى فناء الدنيا وتحطيم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث ويوم تقوم القيامة.

واعتبر بعض المفسرين ـ الوعد الالهي ـ اشارة الى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات والصواريخ والقنابل الذرية وما شابهها تستطيع ان تعبر جميع هذه الموانع ....

من هم يأجوج ومأجوج :

لقد ذكر القرآن الكريم في سورتين اسم ـ يأجوج ومأجوج ـ ، وردت في المرة الاولى في الآيات التي نبحثها من سورة ـ الكهف ـ والثانية في سورة الانبياء ، آية (٩٦).

الآيات القرآنية تؤيد بوضوح ان هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين

__________________

١ ـ الكهف : ٩٨.

١٢١

كانتا تؤذيان سكان المناطق القريبة بهم.

ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان : انه يستفاد من مجموع ماذكر في التوراة ان مأجوج او يأجوج ومأجوج هم مجموعة او مجاميع كبيرة ، كانت تسكن اقصى نقطة من شمال آسيا ، وهم اناس محاربون يغيرون على الاماكن القريبة منهم ، وانهم كانوا امما حربية معروفة بالمغازي والغارات. (١)

والبعض يعتقد ان هاتبين الكلمتين عبريتين ولكنهما في الاصل انتقلتا من اليونانية الى العبرية ، اذ كانتا تلفظان في اليونانية بـ « كاك » و « ماكاك » ثم انتقلتا على هذا الشكل الى كافة اللغات الاوربية.

وقد وردت اخبار تاريخية مختلفة لحركة هؤلاء الاقوام وهجراتهم منها ، ان منطقة شمال شرقي الارض من نواحي « مغولستان » كانت في الازمنة السابقة كبقية السكان ، وكانت تتكاثر بسرعة ، وبعد ان ازداد عددهم ، اتجهوا نحو الشرق او الغرب ، وسيطروا على هذه الاراضي وسكنوا فيها تدريجيا.

وقد كان آخر مقطع تاريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة « جنكيز خان » حيث هجم شرق البلاد الاسلامية ودمر العديد من المدن ، وفي طليعتها مدينة بغداد ....

ويظهر من هذا ان « يأجوج ومأجوج » هم من هذه القبائل الوحشية حيث طلب اهل القفقاز من ـ كورش ـ عند سفره اليهم ان ينقذهم من هجمات هذه القبائل الوحشية ، كما طلب قوم ذي القرنين منه ان يجعلوا له خرجا على ان ينجيهم من يأجوج ومأجوج ـ ويجعل فيما بينهم سدا ، فاجابهم الى بناء السد وابى ان يقبل خرجهم ، وانما طلب منهم ان يعينوه بقوة ....

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٣٧٩.

١٢٢

من هو ذو القرنين :

روي ان ـ ذي القرنين ـ كان اسمه عياشا وكان اول الملوك بعد نوح عليه‌السلام ملك ما بين المشرق والمغرب ، ومكن الله له في الارض وبسط يده حتى استولى عليها ... (١)

وروي عن عبد الله بن سليمان ، وكان قارئا للكتب قال : قرأت في بعض كتب الله عزوجل ان ـ ذا القرنين ـ كان رجلا من اهل الاسكندرية وامه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له : اسكندروس ، وكان له ادب وخلق وعفة ، وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى اخذ بقرنيها شرقها وغربها ، فلما قص رؤياه على قومه سموه ـ ذا القرنين ـ.

فلما رأى الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه ، وكان اول ما اجمع على امره ان قال : اسلمت لله عزوجل ، ثم دعا قومه الى الاسلام فاسلموا هيبة له ، ثم امرهم ان يبنوا له مسجدا فاجابوه الى ذلك ... (٢)

وسئل امير المؤمنين عليه‌السلام عن ذي القرنين ، انبيا كان ام ملكا؟ فقال : لا نبيا ولا ملكا ، بل عبدا احب الله فاحبه الله ، ونصح لله فنصح له ، فبعثه الى قومه فضربوه على قرنه الايمن فغاب عنهم ما شاء الله ان يغيب ، ثم بعثه الثانية فضربوه على قرنه الايسر فغاب عنهم ما شاء الله ان يغيب ، ثم بعثه الثالثة فمكن له في الارض ، وفيكم مثله (٣) يعني نفسه عليه‌السلام وذلك فانه اصيب بضربة من عمر بن ود ، وبضربة من ابن ملجم لعنه الله.

وروي انه لما اخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبر موسى وفتاه والخضر ، قالوا له : فاخبرنا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طائف طاف الارض بين المشرق والمغرب من

__________________

١ ـ قصص الانبياء لنعمة الله الجزائري : ص ١٦٢.

٢ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٨٣.

١٢٣

هو؟ وما قصته؟ فانزل الله : ( ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا ... ) القصة. (١)

وفي بعض الروايات ، انه كان بشرا ، وقد ورد في بعضها انه كان ملكا سماويا انزله الله الى الارض وآتاه من كل شيء سببا ، وفي خطط المغريزي عن كتاب الجاحظ ؛ ان ذا القرنين كانت امه آدمية وابوه من الملائكة ، وفي بعضها انه كان محدثا يأتيه الملك فيحدثه وفي بعضها انه كان نبيا ....

وكذلك اختلفوا في اسمه ، ان اسمه عياش ، في بعضها اسكندر ، وفي بعضها مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح ، وفي بعضها انه الاسكندر المقدوني الذي سيطر على دول الغرب والروم ومصر وبنى مدينة الاسكندرية ، ثم سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس.

وقال البعض ان ذو القرنين ـ كان احد ملوك اليمن ، واكد البعض انه « كورش الكبير » الملك الاخميني ... الخ.

واما الاختلافات في وجه تسميته بذي القرنين كثيرا ايضا منها : ما رويناه عن الامام امير المؤمنين عليه‌السلام : انه دعا قومه الى الله فضربوه على قرنه الايمن ... » فسمي بذلك ذا القرنين.

وفي بعضها انه نبت له قرنان في رأسه وكان يتعمم عليها يواريهما بذلك ، وهو اول من تعمم وقد كان يخفيهما عن الناس ....

وقيل : سمي ذا القرنين لانه ملك قرني الارض وهما المشرق والمغرب ، وقيل : لانه كان له عقيصتان في رأسه ، وقيل : لانه ملك الروم وفارس.

واما جواب سؤال ، اين يقع سد ذي القرنين؟ ايضا اجيب عليه عدة اجوبة

__________________

١ ـ تفسير القمي : ص ٤٠.

١٢٤

منها :

يرى البعض في سد ذي القرنين انه سد مأرب في اليمن ، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي الا انه انشئ لمنع السيل ولخَزن المياه ، وان النحاس والحديد لم يدخلا في بنائه.

ومن قائل يقول بانه جدار الصين الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلومترات ، وهذا ايضا مردود ، لان الجدار لم يدخل في بنائه النحاس والحديد ، ولا يقع في مضيق جبلي ...

ولكن بالاستشهاد الى شهادة العلماء واهل الخبرة فان السد يقع في ارض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الاسود ، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل بين الشمال عن الجنوب ، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق « داريال » المعروف ، ويشاهد فيه جدار حديدي اثري حتى الآن ، ولهذه المرجحات يعتقد الكثير بان سد « ذو القرنين » يقع في هذا المضيق ويوجد نهر بالقرب من ذلك المكان يسمى « سائرس » اي « كورش » اذ كان اليونان يسمون كورش بـ « سائرس ».

وقد وردت روايات كثيرة واقوال مختلفة في حياة ذي القرنين لو اردنا التفصيل يُطيل بنا المقام. (١)

ملاحظات :

قصة ذي القرنين بشكل عام تحتوي على دروس تربوية كثيرة ، ومواعظ وحكم قيمة جدا ومهمة يمكن الاستفادة منها والعمل على ضوئها من اجل

__________________

١ ـ راجع تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٣٦٩.

١٢٥

سعادة الامة وادارة الدولة ... ، ويمكن تلخيص هذه الدروس بما يلي :

١ ـ اول درس نتعلمه هو ان اي عمل في هذه الدنيا لا يتم دون توفير اسبابه ، فان الله تبارك وتعالى هيأ الاسباب وتمكن ذو القرنين من الاستفادة منها بالوجه الصحيح وبافضل وجه ممكن ، ( فاتبع سببا ).

٢ ـ لا يمكن اي حكومة ان تنتصر بدون ترغيب الانصار والاتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا في قول ذي القرنين : ( قال أما من ظلم فسوف نعذبه ... وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ).

وبلور الامام امير المؤمنين عليه‌السلام هذا في رسالته الى مالك الاشتر حيث قال عليه‌السلام : « ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ... » (١).

٣ ـ التكليف الشاق وتحميل الناس ما لا يطاق ، مثل هذه الامور لا تناسب الحكومة الالهية العادلة ابدا ، « وسنقول له من امرنا يسرا » ، حتى يمكن انجاز الاعمال عن شوق ورغبة واخلاص.

٤ ـ رعاية شرائط حياة الامة المختلفة ، والتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصة ، وبذلك يدخل الجميع تحت لوائه ، كما فعله ذو القرنين مع اصحابه.

٥ ـ الاستماع الى مشاكل الامة ، والدأب على رفع احتياجاتهم بأي اسلوب كان ، وعدم التفرقة فيما بينهم ، حتى اذا كانت بعض المجموعات من شرائح الامة لم تكن تفهم الكلام وضعيفة الذكاء ولا تنفع الحكومة بأي شيء ـ ولا يكادون يفقهون قولا ـ.

٦ ـ الامن والامان للامة وهما اهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة رقم ( ٥٣ ).

١٢٦

السالمة ، لهذا السبب تحمل « ذو القرنين » اصعب الاعمال واشقها لتامين امن القوم من اعدائهم وبنى لهم السدود ....

ولذلك نرى اول شيء طلبه ابراهيم عليه‌السلام من الله عند بناء الكعبة هو الامن حيث قال : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ). (١)

٧ ـ الدرس الآخر الذي يمكن ان نتعلمه من قصة ـ ذو القرنين ـ هو ان اصحاب المشكلة الاصليين والذين يطلبون الراحة والامن من الدعاء ، هم بالدرجة الاولى معنيين في الاشتراك في بناء بلادهم وبذل الجهد لحل مشكلتهم ، ورص الصفوف والتعاون الجمعي ، لذلك نرى « ذو القرنين » اعطى امرا الى الفئة التي اشتكت اليه امر يأجوج ومأجوج ـ وان يجلبوا قطع الحديد ، واشعال النار ، والنفخ في النار لاذابة النحاس ، وهذا يعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه ، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وادامته بحكم تحملهم لمجهودات انشائه.

ونستفيد من هذا ايضا ان المجتمع المتأخر والمتخلف يستطيع ان ينجز اعمالا مهمة وعظيمة اذا تمتع ببرنامج صحيح وادارة امنية وقيادة مخلصة ومؤمنة ....

٨ ـ الزعيم الالهي والقائد الرباني لا يلتفت الى الجزاء المادي والنفع المالي والدنيوي ، وانما يقتنع بما حباه الله ، وعلى هذا نرى « ذو القرنين » عندما اقترحوا عليه الاموال قال : « ما مكني فيه ربي خير » ، وقول النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انما اجري على الله » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى » ..

٩ ـ إحكام الامور والدقة في العمل والاخلاص هو درس آخر نستفيده من

__________________

١ ـ ابراهيم : ٣٥.

١٢٧

ذي القرنين حيث استفاد من قطع الحديد وقد فصلها بالنار ثم غطاها بالنحاس المذاب في بناء السد كي تمتنع عن التلف والصدأ اذا تعرضت للهواء والرطوبة.

١٠ ـ والدرس الآخر هو ، مهما كان الانسان قويا ومتمكنا وعالما وصاحب انجازات كبيرة ، فعليه ان لا يغتر بنفسه ويقول ما قاله « ذو القرنين » ـ هذا رحمة من ربي ـ وكما تعلمون الرياء يذهب ثواب الاعمال ويبطلها ويبتعد عن الله ، وكل شيء الى زوال واضمحلال مهما كان محكما وصلدا ...

اليس الجدير بنا ان نقف امام هذه النقاط المختصرة في عباراتها والمفصلة في معانيها وقفة متفكر ومعتبر كيف نعتبر منها ونعمل على ضوئها حتى نتمكن ان نقف بوجه الاستبداد والطاغوت والمحاريبن لديننا ودنيانا.

حكمه ومواعظه :

الدرس المهم الآخر الذي نستفيده من قصة « ذي القرنين » هي حكمه ومواعظه ومحادثاته مع الآخرين ، نختصر منها ما يلي :

عن ابي وائل ، عن وهب قال : وجدت في بعض كتب الله عزوجل ان ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه ، فبينما هو يسير ومعه جنوده ، اذ مر على شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته.

فقال له ذو القرنين : كيف لم يروّعك ما حضرك من جنودي؟

قال : كنت اناجي من هو اكثر جنودا منك ، واعز سلطانا ، واشد قوة ، ولو صرفت وجهي اليك لم ادرك حاجتي قبله.

قال له ذو القرنين : هل لك ان تنطلق معي فاواسيك بنفسي ، واستعين بك على بعض امري؟

قال : نعم ان ضمنت لي اربع خصال : نعيما لا يزول ، وصحة لا سقم فيها ،

١٢٨

وشبابا لا هرم فيه ، وحياة لا موت فيها.

فقال له ذو القرنين : واي مخلوق يقدر على هذه الخصال؟

فقال الشيخ : فاني مع من يقدر عليها ويملكها واياك.

ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين : اخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عزوجل قائمين ، وعن شيئين جاريين ، وشيئين متباغضين.

فقال له ذو القرنين : اما الشيئان القائمان فالسماوات والارض ، واما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر ، واما الشيئان المختلفان فالليل والنهار ، واما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة.

فقال : انطلق فانك عالم.

فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى ، فوقف عليه بجنوده فقال له : اخبرني ايها الشيخ لاي شيء تقلب هذه الجماجم؟

قال : لاعرف الشريف من الوضيع ، والغني من الفقير ، فما عرفت ، واني لاقلبها منذ عشرين سنة ، فانطلق ذو القرنين وتركه وقال : ما عنيت بهذا احدا غيري.

فبينما هو يسير اذ وقع الى الامة العادلة والعالمة من قوم موسى عليه‌السلام الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

فلما رآهم قال لهم : ايها القوم اخبروني بخبركم ، فاني قد درت الارض شرقها وغربها وبرها وبحرها ، وسهلها وجبلها ، ونورها وظلمتها فلم الف مثلكم.

فاخبروني ما بال قبور موتاكم على ابواب بيوتكم؟

قالوا : فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا.

قال : فما بال بيوتكم ليس عليها ابواب؟

قالوا : ليس فينا لص ولا ظنين وليس فينا الا امين.

١٢٩

قال : فما بالكم ليس عليكم امراء؟

قالوا : لا نتظالم.

قال : فما بالكم ليس بينكم حكام؟ قالوا : لا نختصم.

قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نتكاثر.

قال : فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا : من قبل انا متواسون متراحمون.

قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من قبل الفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا.

قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتلون؟ قالوا : من قبل انا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا انفسنا بالحلم.

قال : فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟

قالوا : من قبل انا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.

قال : فاخبروني لم ليس فيكم مسكين ولافقير؟

قالوا : من قبل انا نقسم بالسوية.

قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع.

قال : فلمَ جعلكم الله عزوجل اطول الناس اعمارا؟

قالوا : من قبل أنّا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل.

قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا : من قبل أنّا لا نغفل عن الاستغفار.

قال : فما بالكم لا يصيبكم الآفات؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتوكل على غير الله عزوجل ، ولا نستمطر بالانواع والنجوم.

قال : فحدثوني ايها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟

قالوا : وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ، ويواسون فقيرهم ، ويعفون عمن

١٣٠

ظلمهم ، ويحسنون الى من اساء اليهم ، ويستغفرون لمسيئهم ، ويصلون ارحامهم ، ويؤدون امانتهم ، ويصدقون ولا يكذبون ، فاصلح الله لهم بذلك امرهم ، فاقام عندهم ذو القرنين حتى قبض ، وكان له خمسمائة عام. (١)

ومن الحكم التي تعلمها ذو القرنين من الله تعالى بواسطة الملائكة واوصانا بها قوله : « لا يهمّنّك رزق غد ، ولا تؤخر عمل اليوم لغد ، ولا تحزن على ما فاتك ، وعليك بالرفق ، ولا تكن جبارا متكبرا ». (٢)

روي انما لما التقى ذو القرنين مع النبي ابراهيم الخليل عليه‌السلام ، قال ابراهيم عليه‌السلام لذي القرنين : بمَ قطعت الدهر؟ قال : باحدى عشر كلمة : « سبحان من هو باق لا يفنى * سبحان من هو عالم لا ينسى * سبحان من هو حافظ لا يسقط * سبحان من هو بصير لا يرتاب * سبحان من هو قيوم لا ينام * سبحان من هو ملك لا يرام (٣) * سبحان من هو عزيز لا يضام (٤) * سبحان من هو محتجب لا يرى * سبحان من هو واسع لا يتكلف * سبحان من هو قائم لا يلهو * سبحان من هو دائم لا يسهو ».

مثال ضربه الخضر عليه‌السلام الى ذي القرنين عندما ملك ما بين المشرق والمغرب واراد ان يصل الى عين الحياة ، في قصة مفصلة ذكرها صاحب البحار (٥) ، لا يعلم مدى صحتها الا الله ، نذكر الموعظة التي فيها.

قال الخضر لذي القرنين : ان مثلَ ابن آدم مِثل هذا الحجر العجيب الذي اذا

__________________

١ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٧٧.

٢ ـ نفس المصدر : ص ١٨٨.

٣ ـ لا يرام : اي لا يقصده احد بسوء.

٤ ـ لا يضام : اي لا يُقهر ولا يَظلم.

٥ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٩٩.

١٣١

وضِعَ في كفة الميزان ووضع مقابله الف حجر فمال بها ، ثم اذا وضع عليه التراب شَبِعَ وعاد حجرا مثله « فتساوى ».

فقال : كذلك مثلك « يا ذا القرنين » اعطاك الله من الملك ما اعطاك فلم ترضى به حتى طلبت امرا لم يطلبه ابدا من كان قبلك ، ودخلت مدخلا لم يدخله انس ولا جان.

يقول : كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب.

قال : فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال : صدقت يا خضر يضرب لي هذا المثل ، لا جرم اني لاطلب اثرا في البلاد بعد مسلكي هذا.

ثم انصرف راجعا في الظلمة ، فبينما هم يسيرون اذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم ، فقالوا : ايها الملك ما هذا؟ فقال : خذوا منه ، فمن اخذ منه ندم ، ومن تركه ندم ، فأخذ بعض وترك بعض ، فلما خرجوا من الظلمة اذا هم بالزبرجد فندم الآخذ والتارك « ندم الآخذ لانه لم يأخذ اكثر ، وندم التارك لانه لم يأخذ ».

ورجع ذو القرنين الى دومة الجندل وكان بها منزله ، فلم يزل بها حتى قبضه الله اليه.

وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عزوجل الى يوم قبض خمسمائة عام. (١)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٩٣.

١٣٢

( ١٢ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي يوسف عليه‌السلام

١٣٣
١٣٤

قصة النبي يوسف عليه‌السلام

قال الله عزوجل في كتابه الكريم : ( اذ قال يوسف لابيه يا ابت اني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين ... ) الخ (١).

احسن القصص

عزيزي القارئ بين يديك قصة النبي يوسف عليه‌السلام والتي تعتبر هي من احسن القصص المذكورة في القرآن الكريم وفي كتب القصص المختلفة ، هذه القصة تحتوي على حكم ومواعظ كثيرة ، ولها تأثير فاعل في حياة الانسان ، وفيها دروس تربوية ودينية واخلاقية واجتماعية وعبر لمن يعتبر.

قصة يوسف عليه‌السلام ليست قصة عشق وغرام كما يتصور البعض ، بل قصة صراع مرير بين الحق والباطل ، بين جنود الشيطان وجنود الرحمان ، بين العشق المعنوي الالهي والعشق المادي الشيطاني.

ظاهر القصة عذب وجميل ومن حيث الباطن فمحتواه عظيم ومليء

__________________

١ ـ يوسف : ٤ ـ ٥ ... الخ.

١٣٥

بالموعظة والعفة والكرامة.

يعتقد بعض المفسرون ان قوله تعالى : ( نحن نقص عليك احسن القصص ... ) (١) اشارة الى مجموع القرآن ، اي ان القرآن الكريم كله قصص وحكايات ، والحال ليس كذلك ، صحيح يوجد في القرآن قصص كثيرة وحكايات بنّاءه ومربية كما ذكر في الاحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ان احسن القصص هذا القرآن » (٢).

وكما نقرأ في خطبة الامام امير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « ان احسن القصص وابلغ الموعظة وانفع الذكر كتاب الله » (٣).

ولكن هذا ليس معناه ان القرآن كتاب قصصي فقط ويقرا للتسلية وسد الفراغ ، بل القرآن الكريم دستور الهي وكتاب سماوي انزله الله تعالى على نبيه المرسل وخاتم الانبياء والرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو خاتم الرسالات السماوية ، ليهتدي به الناس ويسيرون على نهجه ومنهاجه وحُكمه والعمل به بما فيه خير الدنيا والآخرة ، حيث قال تعالى : ( ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا ) (٤).

والقصة التي في القرآن الكريم ليست بمعنى سرد الحكايات وسد الفراغ كما ذكرنا ، بل المراد معناها ـ الجذري ـ في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء ، وترسم لنا في فصولها المثيرة اسمى دروس الحياة وحاكمية الله على كل شيء ، وتُظهر لنا ما ينتهي اليه الحاسدون والحاقدون والمنافقون والمنحرفون عن الحق

__________________

١ ـ يوسف : ٣.

٢ ـ نور الثقلين : ج ٢ ص ٤٩.

٣ ـ نفس المصدر.

٤ ـ الاسراء : ٩.

١٣٦

المتمسكون بالشيطان.

ولا مانع من ان يكون القرآن هو احسن القصص بصورة عامة ، وقصة يوسف هي احسن القصص بصورة خاصة.

قصة يوسف عليه‌السلام :

كان ليعقوب عليه‌السلام اثنا عشر ولدا ، اثنان منهما وهم يوسف وبنيامين من ام واحدة اسمها « راحيل » ، وكان يعقوب عليه‌السلام يولي هذين الولدين محبة خاصة ، وخاصة يوسف عليه‌السلام ، لانه كان اصغر اولاده وهو يحتاج الى رعاية وعناية خاصة ، وفي نفس الوقت كانت امه قد ارتحلت من الدنيا.

ومع كل هذا كان يوسف ترتسم عليه علائم النبوغ والذكاء الحاد ، مما ادى هذا الى ان يولي يعقوب اهتمام وعناية اكثر لولده يوسف ، حيث ادى هذا الى اثارة نار الحسد والحقد من اخوته عليه ، واخذوا يتدارسون الأمر وكيفية التخلص من يوسف حتى يخلو وجه ابيهم اليهم حسب تصورهم الباطل ، وبعد ذلك صمموا على المؤامرة الشنعاء والجريمة النكراء في التخلص من يوسف.

( اذ قالوا ليوسف واخوه احب الى ابينا منا ونحن عصبة ).

وحكموا على ابيهم من جانب واحد بقولهم ( ان ابانا لفي ضلال مبين ).

ان نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر من اجل ان يكتشفوا اسباب علاقة يعقوب بالنسبة لولديه يوسف وبنيامين واظهار الحب لهما ، لان المنافع الخاصة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجابا فيجعله يقضي من جانب ، وتكون النتيجة ، الضلال والخسران المبين.

وعلما ان اتهام اخوة يوسف لابيهم بالضلالة ، لم يكن المقصود منها

١٣٧

الضلالة الدينية ، لانهم يعتقدون بنبوة ابيهم ، وانما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.

الرؤيا الصادقة :

والذي زاد في حب يعقوب لولده يوسف الرؤيا التي رآها يوسف ، ـ وكان ذلك وحسب ما رواه ابن عباس ـ في ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر تعيين الاقدار والآجال.

جاء يوسف في احد الايام صباحا الى ابيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه ، وقال له : يا ابت اني رأيت في المنام احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين ، حيث كان عمره آنذاك ، تسع سنوات او سبع ، ومنهم من يقول : اثنتي عشرة سنة ، والقدر المسلم انه كان صبيا.

عندما سمع يعقوب رؤيا ولده يوسف اخذ يفكر في الأمر وما معنى هذه الرؤيا وتفسيرها ...

وقال في نفسه : لا شك ان الشمس والقمر « انا وامه او خالته » لان امه كما ذكرنا قد ماتت ، والكواكب الاحد عشر ـ اخوته ـ ولابد لولدي يوسف شأن عند الله تعالى وسوف يصبح عزيز قوم ويتواضعون له ويخشعون.

لذلك توجه الى يوسف بلهجة ملؤها الاضطراب والخوف المقرون بالفرحة وقال له : يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك ولا تخبرهم خوفا من ان يكيدوا لك كيدا ، لانه كان يعرف حساسيتهم وحسادتهم بالنسبة لاخيهم يوسف ، فخاف عليه منهم.

ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب ، بل تدل على مقام النبوة التي سيصل اليها

١٣٨

يوسف في المستقبل ، وذلك في قول يعقوب لولده يوسف : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تاويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحق ... ) (١). فان الله على كل شيء قدير ملكا.

اذن علم يعقوب عليه‌السلام بان ابنه سوف يصبح نبيا ، وذلك ليس بعيد على النبي ، لان ارتباطه بالله عزوجل وبعالم الغيب يوصله الى تفسير ذلك.

آثار الحسد :

ازداد حب يعقوب لولده يوسف وازداد تحفضه عليه واهتمامه به ، مما ادى الى ازدياد حسد اخوته منه وحقدهم عليه.

اخذو يفكرون ويخططوا بكيفية التخلص من يوسف وابعاده عن ابيه حتى يخلوا لهم وجه ابيهم ، فوصلوا الى مقترَحَين وقالوا : اما ان نقتله او نرميه في بئر فتاخذه المارة ونتخلص منه ، وبعد ذلك نتوب الى الله ونكون قوما صالحين.

هذه هي اساليب الشيطان لاغواء الانسان ، يرسم له الخطة في ارتكاب الذنب والجريمة وبعد ذلك يرسم له خطة شيطانية اخرى في كيفية التخلص والابتعاد عنها ، وذلك لمخادعة الضمير والوجدان في تسهيل ارتكاب الذنب ، فان اخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق والمخطط الشيطاني.

وفي النهاية صمموا على صواب اقتراح احدهم في عدم قتل يوسف والقائه في الجب « اي البئر » ، وكان الذي اقترح ذلك اخوه من امه ـ بنيامين ـ.

عند ذلك اخذوا يفكرون في كيفية نجاح الخطة وابعاد يوسف عن ابيه

__________________

١ ـ يوسف : ٦.

١٣٩

واخذه الى خارج المدينة والقائه في البئر.

فجاؤوا الى ابيهم بلسان ليّن يدعوا الى الترحم والمحبة والعطف وقالوا له : يا ابانا انّ اخانا هذا ما يزال صبيا وبحاجة الى اللهو واللعب فخل سبيله واتركه معنا غدا يرتع ويلعب ونحن نواظب عليه ونحامي عنه.

ولكن يعقوب دون ان يتهم اولاده بسوء القصد ، بل اظهر التردد في ارسال يوسف وقال لهم :

انه اذا ابتعد عني سوف يحزنني ، وربما يوجد في خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة اخاف ان تاكله ، فاعتذر اليهم.

فقالوا لابيهم : كيف يكون ذلك ، هل نحن موتى فلا ندافع عن اخينا بل نتفرج عليه والذئب ياكله ، ما عسى ان نقول للناس وكيف نغفل عنه ونتركه وحده ، الى غير ذلك من الترغيب وتحريك احاسيس يوسف وترغيبه للذهاب معهم للنزهة خارج المدينة ايضا.

واخيرا انتصر اخوة يوسف واقنعوا اباهم ان يرسل معهم اخاهم يوسف ، فباتوا ليلتهم مطمئني البال لياتي الصباح وينفذوا خطتهم.

عندما اصبح الصباح جاؤوا الى ابيهم واخذوا منه يوسف فامرهم بالمحافظة عليه ، وكرر توصياته في شأنه ، فاظهر الابناء طاعتهم لابيهم ، وابدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ، وتحركوا الى خارج المدينة.

عندما انتهوا الى خارج المدينة وجدوا بئرا فاجمعوا على القائه في هذا البئر ، فالقوه في البئر.

وبعد ان نفذ اخوة يوسف خطتهم كما ارادوا ، جلسوا يفكرون ماذا يجب ان يفعلوا اذا رجعوا الى ابيهم كي يصدق كلامهم بان يوسف قد انتهى الى العدم بصورة طبيعية ، ليجلبوا عواطف ابيهم نحوهم.

١٤٠