البدعة مفهومها وحدودها

محمد هادي الأسدي

البدعة مفهومها وحدودها

المؤلف:

محمد هادي الأسدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-56-0
الصفحات: ١٢٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فعليه لعنة الله » (١) .

١٥ ـ وبهذا الاسناد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أتىٰ ذا بدعةٍ فعظّمهُ فإنما يسعىٰ في هدم الإسلام » (٢) .

١٦ ـ وبالاسناد السابق قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أبىٰ الله لصاحب البدعة بالتوبة » قيل : يا رسول الله ، وكيف ذلك ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّه اُشرِبَ في قلبه حبّها » (٣) .

١٧ ـ وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس فقال : أيُّها الناس إنّما بَدْءُ وقوع الفتن ، أهواءٌ تُتَّبع ، وأحكام تُبتدع ، يُخالف فيها كتاب الله ، يتولىٰ فيها رجال رجالاً ، فلو أنّ الباطل خلص لم يُخف علىٰ ذي حجىٰ ، ولو أنّ الحق خلص لم يكن اختلاف ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً فهنالك استحوذ الشيطان علىٰ أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنىٰ » (٤) .

١٨ ـ الحسن بن محبوب رفعه إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّه قال : « إنّ من أبغض الخلق إلىٰ الله عزّ وجلّ لرجلين : رجل وكّله الله إلىٰ نفسه فهو جائر عن قصد السبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن أفتتن به ، ضال عن هَدي من كان قبله ، مضل لمن اقتدىٰ به في حياته

__________________

(١) الكافي ، للكليني ١ : ٥٤ / ٢ باب البدع .

(٢) المصدر السابق : ح ٣ .

(٣) الكافي ، للكليني ١ : ٥٤ / ٤ .

(٤) المصدر السابق ١ : ٥٥ / ١ الباب السابق .

٢١
 &

وبعد موته ، حمّال خطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته » (١) .

١٩ ـ وروىٰ عمر بن يزيد عن الإمام الصادق عليه‌السلام إنّه قال : « لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المرءُ علىٰ دين خليله وقرينه » (٢) .

٢٠ ـ وروىٰ داود بن سرحان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة .. » (٣) .

٢١ ـ وعنه عليه‌السلام قال : « ما أُحدثت بدعة إلّا ترك بها سُنّة ، فاتقوا البدع والزموا المَهْيَع ، إنَّ عوازم الاُمور أفضلها وإنّ محدثاتها شرارها » (٤) .

٢٢ ـ وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان علىٰ هدم دينه » (٥) .

٢٣ ـ وعنه عليه‌السلام أنّه قال : « من مشىٰ إلىٰ صاحب بدعة فوقّره فقد مشىٰ في هدم الإسلام » (٦) .

٢٤ ـ وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قوله : « .. فاعلم أنَّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادلٌ هُدِيَ وهَدىٰ فأقام سُنّةً

__________________

(١) الكافي ، للكليني ١ : ٥٤ / ٦ باب البدع .

(٢) الكافي ، للكليني ٢ : ٣٧٥ / ٣ باب مجالسة أهل المعاصي .

(٣) الكافي ، للكليني ٢ : ٣٧٥ / ٤ باب مجالسة أهل المعاصي .

(٤) بحار الانوار ، للمجلسي ٢ : ٢٦٤ / ١٥ . نهج البلاغة : خطبة ١٤٥ . والمَهْيَع : الطريق البيّن .

(٥) المصدر السابق ٨ : ٢٣ الطبعة القديمة .

(٦) المصدر السابق ٢ : ٣٠٤ / ٤٥ .

٢٢
 &

معلومةً وأمات بدعةً مجهولةً ، وأنّ السُنن لنيرةٌ ، لها أعلامٌ ، وأنّ البدع لظاهرةٌ ، لها أعلام . وأنَّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به ، فأمات سُنّةً مأخوذةً ، وأحيا بدعةً متروكةً » (١) .

٢٥ ـ وقال عليه‌السلام : « أوِّهِ علىٰ اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدّبروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السُنّة وأماتوا البدعة » (٢) .

٢٦ ـ وقال عليه‌السلام : « إنّما الناس رجلان : متبع شرعة ، ومُبتدع بدعة » (٣) .

٢٧ ـ وقال عليه‌السلام أيضاً : « طوبىٰ لِمَن ذلّ في نفسهِ وطاب كَسبُه ـ إلىٰ أنْ قال ـ وعزل عن الناس شرّه ووَسَعته السُنّة ولم يُنسَب إلىٰ البدعة .. » (٤) .

٢٨ ـ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه ، فإنّ الله ليبغض كل مبتدع ولا يجوز أحد منهم علىٰ الصراط ، ولكن يتهافتون في النار مثل الجراد والذباب » (٥) .

٢٩ ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « من غشّ أُمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، قالوا : يا رسول الله وما الغش ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها .. » (٦) .

٣٠ ـ وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « من أحدث حدثاً ، أو آوىٰ محدثاً ،

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٦٤ .

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٢ .

(٣) المصدر السابق : الخطبة ١٧٦ .

(٤) المصدر السابق : قسم الحكم ، الرقم ١٢٣ .

(٥) جامع الاصول ، لابن الاثير ٩ : ٥٦٦ . كنز العمّال ، للمتقي الهندي ١ : ٢٢١ / ١١١٨ .

(٦) المصدر السابق .

٢٣
 &

فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يُقبل منه عدل ولا صرف يوم القيامة ، فقيل : يا رسول الله : ما الحدث ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قتل نفساً بغير نفسٍ ، أو مثَّل مثلة بغير قودٍ ، أو ابتدع بدعة بغير سنة » (١) .

٣١ ـ وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « وأما أهل السُنّة فالمتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله ، وإن قلّوا ، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله تعالىٰ وكتابه ولرسوله ، والعاملون برأيهم وأهوائهم ، وإنْ كثروا ، وقد مضىٰ منهم الفوج الاول ، وبقيت أفواج ، وعلىٰ الله فضُّها واستيصالها عن جدبة الأرض .. » (٢) .

٣٢ ـ وسأل رجل أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام عن السُنّة ، والبدعة ، والفرقة والجماعة ، فقال عليه‌السلام : « أمّا السُنّة : فسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا البدعة ، فما خالفها ، وأمّا الفرقة ، فأهل الباطل وإنْ كثروا ، وأمّا الجماعة ، فأهل الحق وإن قلّوا .. » (٣) .

٣٣ ـ وعنه عليه‌السلام : « .. أدنى ما يكون به العبدُ كافراً ، مَنْ زَعم أنَّ شيئاً نهىٰ الله عنه ، أنَّ الله أمر به ونصبه ديناً يتولّى عليه ، ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به ، وإنّما يعبد الشيطان » (٤) .

٣٤ ـ وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « أدنىٰ الشرك أن يبتدع الرجل رأياً ، فيحبُّ عليه ويُبغض .. » (٥) .

__________________

(١) معاني الاخبار ، للصدوق ، تحقيق علي أكبر الغفاري : ٢٦٥ .

(٢) كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي ١٦ : ١٨٤ / ٤٤٢١٦ .

(٣) تحف العقول ، للحرّاني ، تحقيق علي أكبر الغفاري : ٢١١ .

(٤) الكافي ، للكليني ٢ : ٤١٤ / ١ باب ادنىٰ ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً .

(٥) ثواب الاعمال وعقابها ، للصدوق ، تحقيق علي أكبر الغفاري : ٥٧٨ / ٣ .

٢٤
 &

كانت تلك طائفة من الاحاديث المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت علیهم‌السلام ، أكد بعضها علىٰ حرمة الابتداع في الدين ، وبعضها الآخر حدد أسلوب التعامل الاجتماعي مع صاحب البدعة ، وحذَّرت طائفة أُخرىٰ من التعامل مع صاحب البدعة .

وكل ذلك يؤكد خطورة البدعة علىٰ الدين ووحدة المسلمين .

ونجد من المناسب بعد إيراد الروايات المتقدمة استعراض ما دلّت عليه ، في نقاط :

١ ـ إنّ كلَّ بدعة ضلالة ، وإنّ كلَّ ضلالة في النار .

٢ ـ روىٰ مسلم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خطب احمرّت عيناه .. إلىٰ أن يقول وخير الهدي هدي محمد .. الخ ، وهذا يوضح أنَّ ثورة الغضب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلوّ صوته ليس إلّا للتصرّف المبتدع في رسالته ، وليس في مطلق شؤون الحياة .

٣ ـ جاء في الرواية إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لقوم بدّلوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فسحقاً » يكررها ثلاث مرات ، والمقصود بالتبديل أنهم بدّلوا في دين الله الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤ ـ دلّت الروايات المتقدمة علىٰ أنّ البدع إذا ظهرت فإن علىٰ العالم أن يُظهر علمه ، ليُسهم في كشف البدع وزيفها ومواجهتها ، وإلّا فعليه لعنة الله .

٥ ـ كما دلت علىٰ عدم قبول توبة صاحب البدعة .

٦ ـ ودلّت أيضاً علىٰ أنَّ انتشار البدع وظهورها سيؤدي ذلك إلىٰ ترك السُنّة وضياعها التدريجي .

٢٥
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEBedah-Mafhoumoha-Hodoudohaimagesrafed.jpg

٢٦
 &

الفصل الثاني

مفهوم البدعة وشروطها

تقدّم أنَّ البدعة هي : ( إدخال ما ليس من الدين في الدين ) وبهذا يكون مفهوم البدعة متقوّماً بأمرين هما :

١ ـ الاختصاص بالأُمور الشرعية .

٢ ـ عدم وجود دليل شرعي علىٰ الأمر الحادث من الدين .

أولاً : الاختصاص بالأُمور الشرعية

يختص مفهوم « البدعة » ، بالأُمور الشرعية زيادة أو نقصاناً ، ولا يتعدىٰ ذلك إلىٰ الأُمور والعادات المتغيرة ، والمباحات ، والأعراف المتباينة لدىٰ الناس ، ما دامت لا تُعد جزءً من الشريعة ، وعلىٰ سبيل المثال فإنّ استعمال الإنسان الآن للأجهزة المتطورة في الكتابة كجهاز الحاسوب أو غيره من أجهزة الكتابة بعد أن كان يستخدم الدواة والقلم لا يُعدّ « بدعة » بمفهومها الشرعي ، وكذلك الأمر الآن في ركوب السيارات والطائرات بعد ركوب الدواب ، وغير ذلك .

وقد اختلفت طريقة تعامل الإنسان مع الأشياء بناءً علىٰ التطور الحاصل في جميع مرافق الحياة ، كتدوين الحديث ، وتصنيفه ، وتبويبه .

٢٧
 &

والاستماع إلىٰ القرآن ، وتشييد الأماكن المقدسة ، وإقامة التجمعات الدينية ، وإنشاء المدارس والمؤسسات الإسلامية وغير ذلك مما يلبي حاجة الإنسان في زماننا المعاصر .

وهذه الأُمور كلها لا علاقة لها بالابتداع ، وإنْ كانت أُموراً حادثةً وغير موجودة في عصر التشريع الأول ؛ لأنها مما ترك لاختيار الانسان وذوقه في انتخاب ما يناسب اسلوبه في الحياة ومرتبطة بطريقته في التعامل مع الأشياء وبقدرته علىٰ تسخير الطاقات الكامنة في هذا الوجود وتطويعها لخدمته .

وقد حاول البعض توسيع معنىٰ « البدعة » إلىٰ مدىٰ أوسع ليشمل كلَّ أمرٍ حادث لم يكن قد وقع في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ وإن كان بنحوٍ من الأنحاء يهدف إلىٰ خدمة الدين وأهدافه المقدسة .

فقد دفع التحجّر بعض هؤلاء ممن قصروا عن فهم الدين والسُنّة النبوية الشريفة إلىٰ الاعتقاد بأنّ كل أمرٍ لا بدَّ أن يأتي فيه النص الخاص الذي يشير إليه بشكل صريح ، وأنّ كلّ ما لم يرد بشأنه دليل شرعي خاص فإنّه يندرج في قائمة الابتداع ، وكأنّ الشريعة الاسلامية عقيمة جامدة لا تمتلك الضوابط العامة والقوانين الكلية التي يمكن تطبيقها علىٰ الموضوعات والحوادث المستجدة والمتنوعة .

جاء في دائرة المعارف الإسلامية : وتطور مدلول كلمة « البدعة » ، وانقسم الناس حياله إلىٰ فريقين : الأول محافظ ، والآخر : مجدد ، وكان أتباع الفريق المحافظ أول الأمر الحنابلة بنوعٍ خاص ، ويمثلهم الآن الوهابيون ، وهذا الفريق آخذ في الزوال ، ويذهب هذا الفريق إلىٰ أنّه

٢٨
 &

يجب علىٰ المؤمن أن يأخذ بالاتّباع « إتّباع السُنّة » ، وأن يرفض الابتداع ، وفريق آخر يسلّم بتغيّر البيئة والأحوال (١) .

فهناك إذاً توجه متطرّف في فهم « البدعة » وإعطائه معنىً شاملاً وواسعاً ، مناقضاً للمعنىٰ الوارد في القرآن والسُنّة النبوية الشريفة ، ومناقضاً أيضاً لمنطق العقل وسُنّة الخلق ، فهذا الاتجاه كما قلنا يطبّق مفهوم البدعة علىٰ كل أمر حادث في حياة المسلمين ويوسع دلالتها إلىٰ مختلف شؤون الحياة بدعاوىٰ الحرص علىٰ الدين والتقيد والاتّباع للسُنّة النبوية المطهّرة .

وهذا اللون من الفهم المغلوط والتفكير السقيم لا يعني سوىٰ الانغلاق الكامل عن الحياة ، والانزواء المطبق الذي يعزل الشريعة عن التفاعل مع حياة الناس ، بل وقيادتهم في خضم الصراعات الكبرىٰ التي تواجهها الإنسانية .

ولكي يقف القارىء الكريم علىٰ الفهم المغلوط لمفهوم البدعة ، نورد له في هذا الباب جملة من الحوادث والروايات لرجال وأشخاص فهموا البدعة علىٰ أنّها كل أمر حادث لم يكن في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١ ـ جاء في ( الاعتصام ) أنَّ أبا نعيم الحافظ روىٰ عن محمد بن أسلم أنّه وُلد له ولد ، قال ـ محمد بن القاسم الطوسي ـ فقال : اشترِ لي كبشين عظيمين ، ودفع لي دراهم فاشتريت له ، وأعطاني عشرة أُخرىٰ ، وقال لي : اشتر بها دقيقاً ولا تنخله ، واخبزه !

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ، دار المعرفة ٣ : ٤٥٦ .

٢٩
 &

قال : فنخلت الدقيق وخبزته ، ثم جئت به ، فقال : نخلت هذا ؟! وأعطاني عشرة أُخرىٰ ، وقال اشترِ به دقيقاً ولا تنخله ، واخبزه ! فخبزته وحملته إليه ، فقال لي : يا أبا عبدالله ، العقيقة سُنّة ، ونخل الدقيق بدعة ! ولا ينبغي أن يكون في السُنّة بدعة ، ولم أُحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة (١) .

٢ ـ وروي أن رجلاً قال لابي بكر بن عياش : كيف أصبحت ؟ فما أجابه ، وقال دعونا من هذه البدعة (٢) .

٣ ـ وروي عن أبي مصعب صاحب مالك أنّه قال : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلّىٰ ووضَعَ رداءه بينَ يدي الصف ، فلمّا سلَّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ، وكان قد صلّىٰ خلف الامام ، فلّما سلَّم قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان ، فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ! فحُبس ، فقيل له : إنّه ابن مهدي ، فوجّه إليه وقال له : أما خفتَ الله واتّقيته أن وضعت ثوبكَ بين يديك في الصف وشغلت المصلّين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » ؟ فبكىٰ ابن مهدي ، وآلىٰ علىٰ نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في غيره (٣) .

٤ ـ ويقول ابن الحاج : وقد منع علماؤنا رحمة الله عليهم المراوح ، إذ

__________________

(١) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي ٢ : ٧٤ .

(٢) احياء علوم الدين ، لابي حامد الغزالي ٢ : ٢٥١ كتاب العزلة .

(٣) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي ١ : ١١٦ .

٣٠
 &

إنَّ اتخاذها في المساجد بدعة (١) !!

٥ ـ ويقول أيضاً : إنّ المصافحة بعد الصلاة بدعة ، وينبغي له ـ يقصد إمام الجماعة ـ أن يمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الجمعة ، بل زاد بعضهم في هذا الوقت فعل ذلك بعد الصلوات الخمسة ، وذلك كله بدعة (٢) !!

ومما تقدم من الشواهد والأمثلة تتوضح معالم الفهم الخاطىء لمعنىٰ البدعة ، وأنّه ناشئ من الاعتقاد بأن كل أمر حادث لم يكن موجوداً في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرد بخصوصه نصٌّ معين يخصّه بالذكر ، فهو داخل في دائرة الابتداع .

ومن هنا صار نخلُ الدقيق وتنقيته من الشوائب من البدع في الدين ، وكذلك وضع الرداء بين يدي الصف في الصلاة من البدع التي تاب عن فعلها صاحبها !! ويلحق بذلك عند هؤلاء التحية بعبارة ( كيف أصبحت ) والمصافحة بعد الصلاة ، واستخدام المراوح في المساجد أيضاً ، فهذه وأمثالها عندهم كلها بدع .

أصل هذا الفهم :

إنّ هذا الفهم الخاطىء « للبدعة » لم يتأت من فراغ ، بل جاء من الاعتقاد بنظرية غريبة ، وهي أنّ البدعة هي ما لم يكن موجوداً في القرون الثلاثة بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

__________________

(١) المدخل ، لابن الحاج ٢ : ٢١٧ .

(٢) المصدر السابق ٢ : ٢١٩ .

٣١
 &

يقول صاحب الهديّة السنية : « ومما نحن عليه ، أنّ البدعة ـ وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة ـ مذمومة مطلقاً خلافاً لمن قال : حسنة وقبيحة ، ولمن قسّمها خمسة أقسام ، إلّا إن أمكن الجمع بأن يقال : الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة ، وتكون تسميتها بدعة مجازاً ، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة والمكروهة ، فلا بأس بهذا الجمع ... » (١) .

إنّ هذه النظرية الشاذة الغريبة اعتمدت حسب ما يبدو علىٰ روايات وردت في فضل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روىٰ البخاري عن عمران بن الحصين ، يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خير أُمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ، ثم إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السِّمَنُ (٢) .

وروىٰ أيضاً عن عبدالله إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ، قال : قال إبراهيم : وكانوا يضربوننا علىٰ الشهادة والعهد ونحن صغار ) (٣) .

إنّ الاحتجاج بهذه الروايات علىٰ أنّها الميزان في تمييز البدعة عن السُنّة باطل من عدّة وجوه :

__________________

(١) الهدية السنية ، الرسالة الثانية : ٥١ .

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ٧ : ٦ باب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٣) المصدر السابق .

٣٢
 &

الأول : إنّ القرن في اللغة هو النسل (١) ، وقد استُعمل هذا المعنىٰ في القرآن الكريم ، قال سبحانه وتعالىٰ : ( فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) (٢) .

والمتعارف أنّ معدل عمر كل نسلٍ أو جيل هو الستون أو السبعون من السنين ، فيكون المراد من تلك الروايات ، مجموع تلك السنين وهو يتراوح بين ١٨٠ و ٢١٠ سنة فأين ذلك من تفسير الحديث المار بثلاثمائة سنة .

الثاني : إنّ شرّاح الحديث اختلفوا في تفسير الرواية ، ومع ذلك فإنّ كلّ التفاسير لا يستفاد منها ما تبنّاه الكاتب من أن القرون الثلاثة هي ثلاثمائة سنة ، فهناك من يقول إنّ المراد في قوله : « قرني » هو أصحابه ومن « الذين يلونهم » أبناءهم ومن « الثالث » أبناء أبنائهم .. وغيره يقول بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته ، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه ، ثم كذلك .

ويقول ثالث : إنّ قرنه هم الصحابة ، والثاني التابعون ، والثالث تابعوهم (٣) .

وعلىٰ كلِّ التفاسير المارة فإنّ المدّة المفترضة هي أقل من ثلاثمائة سنة ، فإذا أخذنا بالقول الأخير وهو أعم الأقوال وأكثرها سعة من ناحية الامتداد الزمني ، فإنَّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل وقد اختلفوا في تاريخ وفاته ، فقد قيل أنّه توفي في سنة ١٢٠ هـ أو قبلها أو

__________________

(١) العين ، للخليل . اللسان ، لابن منظور ، مادة ( قران ) .

(٢) الانعام ٦ : ٦ .

(٣) شرح صحيح مسلم ، للنووي ١٦ : ٨٥ .

٣٣
 &

بعدها بقليل ، وأما قرن التابعين فآخر من توفي منهم كان عام ١٧٠ هـ أو ١٨٠ هـ وآخر من عاش من أتباع التابعين ممن يُقبل قوله قد توفي حدود سنة ٢٢٠ هـ ، فيقل تاريخ وفاته بثمانين سنة عن الثلاثمائة سنة وهو زمن كثير . وهذا ما اعتمده ابن حجر العسقلاني ، فقال : وفي هذا الوقت « ٢٢٠ هـ » ظهرت البدع فاشياً ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رؤوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن ، وتغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً ولم يزل الأمر في نقصٍ إلىٰ الآن (١) .

ويزيد الأمر وضوحاً أنّ الحديث المروي قد اعتمد في تمييز القرن عن القرن الآخر الأشخاص حسب طبقاتهم ، حيثُ قال : « خير أُمتي قرني » ولم يقل القرن الأول ، ثم قال : « ثم الذين يلونهم » ولم يقل القرن الثاني ، وأخيراً قال : « ثم الذين يلونهم » ولم يقل القرن الثالث ، والأمر هنا واضح الدلالة بما لا مزيد عليه من أنّ المحور في تعيين القرن هم الأشخاص .

الثالث : ماذا يُراد من خير القرون وشرّها ، وما هو المقياس في الوصف بالخير والشر ؟

إنّ هناك ثلاثة مقاييس يمكن استخدامها في وصف أمرٍ بالخير أو بالشر هي : ـ

١ ـ إنّ أهل القرن الأول كانوا خير القرون لأنّهم لم يختلفوا في الاُصول والعقائد .

٢ ـ إنّهم خير القرون لأنّهم كانوا جميعاً يعيشون تحت ظل الأمن

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ٧ : ٤ .

٣٤
 &

والسلم والطمأنينة .

٣ ـ إنّهم خير القرون لأنّهم تمسكوا بأهداف الدين وحققوا أهدافه علىٰ الصعيد العملي والتطبيقي .

إنّ كلّ واحد من هذه الافتراضات بكذبه القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ووقائع التاريخ .

فإذا كان المقياس هو العقائد الصحيحة ، وأنَّ المسلمين كانوا كلهم متمسكين بمعتقد واحد صحيح طيلة القرون الثلاثة الاُولىٰ ، وأنّ العقائد الباطلة والفاسدة ظهرت بعد تلك القرون ، فإنّ تاريخ ظهور الملل والنحل في المجتمع الإسلامي يكذّب ذلك الادعاء والتفسير ، فقد ظهر الخوارج في أواخر الثلاثينات الهجرية وكانت لهم عقائد سخيفة خضّبوا بسببها وجه الأرض بالدم وقتلوا الأبرياء ، ولم تكتمل المائة الاُولىٰ حتىٰ ظهرت المرجئة الذين دعوا المسلمين إلىٰ التحلل من الضوابط والالتزامات الشرعية ، رافعين عقيرتهم بالنداء بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية !

ولم يمضِ وقت طويل علىٰ ظهورهم حتىٰ ظهر المعتزلة عام ١٠٥ هـ قبل وفاة الحسن البصري بقليل ، فتوسع الشقاق بين المسلمين .

لقد شهدت المائة الهجرية الثانية توسع الأبحاث الكلامية وانبعاث المذاهب المتعددة ، وأصبحت حواضر العالم الإسلامي ميداناً واسعاً لتضارب الآراء وصراع الأفكار .

فمن متزمتٍ يقتصر في وصفه سبحانه وتعالىٰ علىٰ الألفاظ الواردة في القرآن الكريم ويفسّرها بمعانيها الحرفية ، من دون إمعان أو تدبر فلا يخجل من الادعاء بأنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً وأنّه مستقر علىٰ عرشه

٣٥
 &

كما يستقر أي موجود مادي .

إلىٰ مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول بل ويقدّمه ، ويؤخر العمل ويسوق الاُمّة إلىٰ التحلل الخلقي وترك الفرائض والواجبات ، إلىٰ محكِّم يُكفّر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته ، إلىٰ معتزلي يؤوّل الكتاب والسُنّة إلىٰ ما يوافق معتقده وعقليته ، إلىٰ غير ذلك من العقائد الفاسدة التي طعنت وحدة الاُمّة الإسلامية بالصميم .

وأما إذا كان المقياس هو سيادة الأمن والاستقرار والسلم والطمأنينة علىٰ المجتمع الإسلامي ، فإنَّ وقائع التاريخ تكذّب ذلك أيما تكذيب ، فقد كان القرن الأول صفحة تلطّخت بالدم الذي سال من المسلمين ، ففي هذا القرن وقعت حرب الجمل ، وفيه خرج معاوية علىٰ إمام زمانه أمير المؤمنين عليه‌السلام فوقعت معركة صفين ، وفيه قُتل في محرابه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام .

وفيه ظهر الخوارج وارتكبوا ما ارتكبوا من أبشع الجرائم .

وفيه أيضاً قُتل الإمام الحسين عليه‌السلام سبط الرسول الأعظم وسيد شباب أهل الجنة .

وفيه استبيحت المدينة بأمر يزيد بن معاوية فقتل من الصحابة والتابعين عدد كبير ونهبت الأموال وحرّقت الدور وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض .

وفيه حوصرت مكة وضربت الكعبة بالمنجنيق .

لقد وقع كل ذلك قبل أن تتم المائة الاُولىٰ سنينها ، فكيف يمكن أن

٣٦
 &

يكون ذلك القرن خير القرون وأفضلها ، صحيح إنَّ في وجود الرسول الأكرم والطاهرين من أهل بيته والصالحين من أصحابه الخير كل الخير ، لكن الحديث المذكور يشير إلىٰ الأشخاص « الأصحاب » الذين كانوا هم أنفسهم وراء الكثير من الأحداث الدموية .

وإذا كان المقياس هو التمسك بالدين والالتزام بالتعاليم التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا ندري هل نصدّق الحديثين السابقين اللذين رواهما الشيخان ، أم نصدّق بما أخرجاه معاً في مكان آخر ، قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فَيُحَلَّؤون عن الحوض ، فأقول : يا ربي أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا علىٰ أدبارهم القهقري » (١) .

أم نؤمن بالحديث الذي تقدم في فصول الكتاب من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لجملة من أصحابه يوم القيامة : « فسحقاً » يكررها ثلاث مرات ؟

وكيف نؤمن بذلك والقرآن الذي نزل تعرّض إلىٰ جملة ممن عاصروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوصفهم بالمنافقين (٢) ، والمختفين به (٣) ، ومرضىٰ القلوب (٤) ، والسماعين ، كالريشة في مهب الريح (٥) ، والمشرفين علىٰ الارتداد (٦) ، والمسلمين غير المؤمنين (٧) ، والمؤلفة

__________________

(١) جامع الاصول ، لابن الاثير ١٠ : ٤٦٩ / ٧٩٩٨ طبعة دار الفكر .

(٢) المنافقون ٦٣ : ١ ـ ٨ .

(٣) التوبة ٩ : ١٠١ .

(٤) الاحزاب ٣٣ : ١٢ .

(٥) التوبة ٩ : ٤٥ ـ ٤٧ .

(٦) آل عمران ٣ : ١٥٤ .

(٧) الحجرات ٤٩ : ١٤ .

٣٧
 &

قلوبهم (١) ، والمولّين أدبارهم أمام الكفار (٢) ، والفاسقين (٣) .

وكيف يا ترىٰ مع وجود كل هذه النعوت والاوصاف التي أطلقها القرآن الكريم علىٰ أشخاص أو مجموعات من الناس كانت تعيش في أوساط المسلمين وتجتمع باجتماعهم ، يصف الرسول تلك القرون بأنّها خير القرون ؟!

إنّ الذي يبدو واضحاً أنّ الحديث موضوع من أجل هدف خطير ، وهو تصحيح كل أفعال السلف وجعلهم معياراً فاصلاً بين الحق والباطل ، فما فعلوه فهو الحق وما تركوه هو الباطل !!

ونحن نعتقد أنّ عمل السلف ليس مصدراً من مصادر التشريع كما صوّره البعض وبنوا عليه كثيراً من الأحكام الشرعية التفصيلية ، مع أنّه ليس هناك أي دليل يشير إلىٰ اعتبار فعل السلف وحجيته في مجال الأحكام الشرعية .

إنّ قبول ذلك المعيار يعني استسلام الشريعة المقدسة إلىٰ البدع والمحدثات ، واختلاط الحرام بالحلال ، والوقوع في تناقضات أفعال السلف التي طفحت بها كتب الرواية والحديث والوقائع التاريخية .

والأمر الوحيد الذي نمتلكه بهذا الصدد ، هو أنّ فعل المتشرعة الذين يمثلون الطبقة الطليعية في المجتمع الإسلامي ، والذين يحكي تصرفهم وسلوكهم عن واقع الأحكام الشرعية ، باعتبار حرصهم علىٰ تطبيق

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦٠ .

(٢) الانفال ٨ : ١٦ .

(٣) الحجرات ٤٩ : ٦ .

٣٨
 &

تعاليمها ، والجري علىٰ منهجها ، إنّما هو حجة من ناحية كونه كاشفاً عن تلقّي الأمر عن مصدر التشريع .

ومن الواضح إنَّ هذه الدائرة لا يمكن أن تشمل في إطارها جميع أفعال السلف ، بل انّها تقتصر في حجيتها علىٰ حدود خاصة منهم .

إنَّ افتراض الحجية لجميع أفعال السلف كلهم ، يتناقض مع كونهم لم يقدّموا للاُمّة أمراً أجمعوا رأيهم عليه بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن يتصفح كتب التاريخ الإسلامي والوقائع والأحداث ونشوء المدارس وتنوع الاجتهادات وتضاربها لا يخالطه في ذلك ريب .

فكيف يكون المختلفون كلهم حجة علىٰ من أعقبهم من الاُمّة ، مع أنّ الاختلاف بينهم كان بعضه بمقدار ما بين الجنة والنار من مسافة واختلاف ؟!

ثانياً : عدم وجود دليل شرعي علىٰ الأمر الحادث من الدين

وهذا القيد يعتبر من أوضح القيود التي تشخّص البدعة وتحددها ، إذ إنّ من الشروط الأساسية التي تُدخل « الأمر الحادث » ضمن دائرة الابتداع هو أن لا يكون لهذا العمل أصل في الدين لا علىٰ نحو الخصوص ولا علىٰ وجه العموم ..

قال تعالىٰ : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ علىٰ اللَّـهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

__________________

(١) الانعام ٦ : ٢١ .

٣٩
 &

ويقول عزَّ من قائل : ( قُلْ آللَّـهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ علىٰ اللَّـهِ تَفْتَرُونَ ) (١) .

وواضحة دلالة الآيتين الشريفتين علىٰ أن هناك من يحاول إدخال ما ليس من الدين أو الشرع أو أوامر الله سبحانه وتعالىٰ في الدين .

إنّ « الأمر الحادث » هو الأمر الذي يقع في زمن غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لا نملك اتجاهه سُنّة نبوية معروفة ، وإلّا لكان من السُنّة وخرج عن كونه أمراً حادثاً ، ولذا فإن وجدنا دليلاً خاصاً ينطبق عليه ويحدد الموقف منه فإنَّ هذا الدليل يُخرج هذا الأمر عن دائرة الابتداع ، ويدخله ضمن دائرة السُنّة والتشريع .

وكذلك الأمر لو وجدنا دليلاً عاماً يمكن تطبيقه علىٰ هذا الأمر الحادث ، فإنّه سيخرجه عن حدِّ الابتداع أيضاً .

وكلّ ذلك منوط بصحة الأدلة الخاصة والعامّة وصحة صدورها من الشارع المقدّس ، لكي يتحقق ارتباط الأمر الحادث بالدين علىٰ نحو القطع واليقين .

ولتوضيح فكرة الدليل الخاص والدليل العام علىٰ الأمر الحادث سنورد المثال التالي :

استثناء ما ورد فيه دليل خاص :

إنّ ورود دليل شرعي خاص بخصوص أمرٍ معيّن ، وإن لم يقع في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنَّ هذا الأمر يأخذ موقعه في كونه جزءاً من التشريع بالعنوان الذي يذكره الدليل الخاص ، ويخرج بذلك عن دائرة الابتداع ، إذ

__________________

(١) يونس ١٠ : ٥٩ .

٤٠