البدعة مفهومها وحدودها

محمد هادي الأسدي

البدعة مفهومها وحدودها

المؤلف:

محمد هادي الأسدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-56-0
الصفحات: ١٢٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

اللغوي الذي يعني الإتيان بشيء ليس علىٰ مثالٍ سابق ، طالما لم يتعارض هذا الشيء مع التشريع .

وذكرنا أيضاً أنَّ عدم وجود الدليل الخاص علىٰ أمرٍ ما لا يعني أنّه يدخل ضمن دائرة الابتداع ما دام في الدليل العام مجال لشموله بمفرداته .

والمسلمون يعلمون جميعاً أنَّ هناك أدلة كثيرة أكدت علىٰ ضرورة احترام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبجيله وتوقيره ، حيّاً وميّتاً ، وقد ورد الشيء نفسه في حق أهل البيت علیهم‌السلام .

وإذا كان الأوّلون يعبّرون عن حبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته فإنّ للآخرين أن يعبروا عن هذا الحب أيضاً بالطريقة المناسبة بحيث لا تتعارض مع التشريع .

من هنا نجد مدىٰ النكارة في ما قاله محمد بن عبدالسلام الشقيري : « بدعة منكرة ضلالة ، لم يرد بها شرعٌ ولا عقل ، ولو كان في هذا اليوم خيرٌ كيف يغفل عنه أبو بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي وسائر الصحابة ، والتابعون وتابعيهم والأئمة وأتباعهم » (١) .

وحسبه تعصباً وجهلاً أن يقول : « لم يرد بها شرع » وكأنَّ أحداً من الناس قال إنّها ـ أي الاحتفالات بهذا الشكل الخاص المعمول به الآن ـ جزءٌ من الشريعة حتى يأتي هو لينفي كونها منه .

__________________

(١) المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضىٰ العاملي : ٥٣ ، عن منهاج الفرقة الناجية ، عن كتاب السنن والمبتدعات : ١٣٨ ـ ١٣٩ .

١٠١
 &

والغريب أنَّ بعض الذين عدّوا الاحتفال بمولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعة ، إنّما فعلوا ذلك لأن الاحتفال ترافقه بعض الأعمال المُبتدعة ، من قبيل قول ( ابن الحاج ) : « ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أنَّ ذلك من أكبر العبادات ، وإظهار الشعائر ، ما يفعلونه في شهر ربيع الأول في يوم المولد ، وقد احتوىٰ علىٰ بدع ومحرّمات جمة » (١) .

ومع أننا نستنكر كل عمل محرم يأتي به أحد في هذه الاحتفالات فإنَّ الاقتران بين الأفعال المحرمة وبين الاحتفال بمولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلغي أصل العمل ، ولا يؤدي إلىٰ تحريمه بالضرورة ، إذ إنَّ القول بذلك يستلزم بطلان الكثير من أُصول العبادات المسلّمة فيما لو اقترنت بفعل محرم .. مع أنَّ الصحيح أنْ يقال إنَّ الفعل الفلاني محرّم لا يجوز الاتيان به ، بل يلزم المعاقبة عليه مع القدرة ، لا أن يلغي أصل العمل .

إنّ حبَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصل من أصول الاسلام ليس لأحدٍ إنكاره ، ولهذا فمن حق المسلم المؤمن أن يُعبّر عن حبه للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأي صورة كانت شريطة أنْ لا تتعارض مع الشريعة .

ولا شك أنَّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يمثل صورة من صور التكريم والتعظيم والاحترام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتدارس فيه الناس سيرته العطرة ويستخلصون الدروس العظيمة والنافعة .

وإلىٰ جانب أهمية وضرورة حبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد وفاته وتجسيد ذلك الحب في السلوك والعمل من خلال الالتزام بالتعاليم الإسلامية ، فقد أكّد الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ حب أهل بيته علیهم‌السلام

__________________

(١) المدخل ، لابن الحاج ٢ : ٢ .

١٠٢
 &

وعدّ حبهم حبّاً له هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أُذكركم الله في أهل بيتي » وكررها ثلاث مرات (١) .

وعن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي » (٢) .

واستقصاء أحاديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دفع الاُمّة إلىٰ الالتزام بحب أهل بيته علیهم‌السلام وتوقيرهم وتعظيمهم خارج عن طاقة هذا البحث .

إنّ المحصّل مما تقدم يوضح لنا أنّ التعبير عن الحب والتعظيم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته علیهم‌السلام ليس أمراً ممنوعاً ، بل هو مرغوب فيه .

وقد أيد ذلك بعض علماء السُنّة وعدّوا الاحتفال بيوم مولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عملاً حسناً أو « بدعة حسنة » بمعناها اللغوي ، نظير ما قاله ابن حجر « عمل المولد بدعة ، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت علىٰ محاسن وضدّها ، فمن تحرّىٰ في عملها المحاسن ، وتجنَّب ضدها كان بدعةً حسنةً ، وإلّا فلا » (٣) .

وقول أبي شامة : « ومن أحسن ما ابتُدع في زماننا ما يُفعل كل عامٍ في اليوم الموافق ليوم مولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من الصدقات ، والمعروف ، وإظهار

__________________

(١) صحيح مسلم بشرح النووي ١٥ : ١٨٠ من كتاب ( فضائل الصحابة ) باب فضائل علي بن أبي طالب ٤ : ١٨٧٣ .

(٢) سنن الترمذي : ٦٢٢ / ٣٧٨٩ تحقيق أحمد محمد شاكر .

(٣) المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضىٰ العاملي : ٦٢ عن رسالة المقصد المطبوعة مع ( النعمة الكبرىٰ علىٰ العالم ) و ( التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين : ١١٤ ) .

١٠٣
 &

الزينة ، والسرور ، فإنَّ ذلك مع ما فيه من الاحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وشكر الله علىٰ ما منَّ به من إيجاد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أرسلهُ رحمة للعالمين » (١) .

وقول السيوطي : « عندي أنّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس ، وقراءة ما تيسّر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وقع في مولده من الآيات ، ثم يمدّ لهم سماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة علىٰ ذلك ، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها ، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف .. » (٢) .

وقال ابن تيميّة : « قال المروزي : سألتُ أبا عبدالله عن القوم يبيتون ، فيقرأ قارئ ، ويدعون حتى يصبحوا ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس .. وقال أبو السري الحربي : قال أبو عبدالله : وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلّون ويذكرون ما أنعم الله عليهم كما قالت الأنصار » ؟ وأضاف « وهذا إشارة إلىٰ ما رواه أحمد : حدثنا اسماعيل ، أنبأنا أيوب عن محمد ابن سيرين قال : نبئت أنّ الأنصار قبل قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة قالوا : لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه ، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا ، فقالوا : يوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع اليهود في يومهم ، قالوا : فيوم الأحد ، قالوا : لا نجامع النصارىٰ في يومهم ، قالوا : فيوم العروبة ، وكانوا يسمّون الجمعة بيوم العروبة ، فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن

__________________

(١) المصدر السابق : ٦٣ عن السيرة الحلبية ١ : ٨٣ ـ ٨٤ .

(٢) كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر ، لسعيد حوّىٰ . السيرة بلغة الحب والشعر : ٤٢ .

١٠٤
 &

زرارة ، فذبحت لهم شاة فكفتهم » (١) .

إنّ أتباع أهل البيت علیهم‌السلام وعامة المسلمين يحتفلون بمولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمواليد الأئمة الطاهرين من ذريته وبالمناسبات والذكريات الاسلامية العظيمة ، ولا يتجاوزون في احتفالاتهم قراءة القرآن وسيرة الرسول وأهل بيته الطاهرين والدروس العظيمة والعبر من الذكريات الاسلامية .

وغريب جداً أن يعتبر أحد من الناس الاجتماع لتلاوة حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إنشاء القصائد في مدحة بدعة بمعناها الاصطلاحي ، وأمامهم عشرات الأمثلة من إنشاد الشعراء بحضرة الرسول شعراً في مدحه فما منعهم عن ذلك ، فما المانع أن ينشد الشعر في يوم مولده مدحاً له وإشادة برسالته العظيمة ؟

فهذا كعب بن زهير يُنشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بحضرته :

مهلاً هداك الذي أعطاك نا

فلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

إنَّ الرسول لنور يستضاء به

مهنّد من سيوف الله مسلول (٢)

أو قول حسان بن ثابت في رثاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يدلُّ علىٰ الرحمن من يقتدي به

ويُنقذ من هول الخزايا ويُرشد

إمام لهم يهديهم الحقَّ جاهداً

معلّم صدقٍ إن يطيعوه يُسْعدوا (٣)

ولا نريد هنا الاستقصاء .. لكن هنا لا بدَّ من التنبيه إلىٰ أنَّ هذين

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم ، لابن تيمية : ٣٠٤ .

(٢) السيرة النبوية ، لابن هشام ٤ : ١٥٤ ـ ١٥٥ .

(٣) المصدر السابق ٤ : ٣١٨ .

١٠٥
 &

الشاعرين وغيرهم من الشعراء أنشدوا شعرهم في اجتماع من الناس ولم ينشدوه بينهم وبين أنفسهم .. لكن أحداً لم يقل لهم إنّ إنشادكم في اجتماع الناس بدعة !

ثانياً : شدّ الرحال لزيارة قبر النبي والأئمة والصالحين :

اتفق علماء المسلمين علىٰ جواز زيارة القبور عامةً وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين خاصّة ، إلّا ما نُسب إلىٰ ابن سيرين والنخعي والشعبي ، علىٰ أنّ النسبة غير ثابتة .

وقد زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبر أُمّه فبكىٰ وأبكىٰ من حوله وقال : « .. استأذنته في أن أزور قبرها فأُذِن لي فزوروا القبور فإنّها تُذكِّر الموت » (١) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » (٢) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي ، كان كمن زارني في حياتي » (٣) .

وقد وردت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرات الأحاديث في هذا المضمار من طرق الفريقين .

ويشكك ابن تيمية في مندوبية زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويذهب في « منهاج السُنّة » وغيره إلىٰ أن ما ورد في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيف بل موضوع .

إلّا أن المقدسي يذكر أنَّ ابن تيمية كان معتقداً بزيارة النبي الأكرم ،

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٦٥ باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر أُمّه .

(٢) الغدير ، للاميني ٥ : ٩٣ عن أكثر من أربعين راوياً من أئمة المذاهب الأربعة .

(٣) المصدر السابق ٥ : ٩٨ ـ ١٠٠ عن خمسة وعشرين محدّثاً .

١٠٦
 &

ونقل عنه قوله : إذا أشرف علىٰ مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم ، فاذا دخل استحب له أن يغتسل ، نصّ عليه الامام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنىٰ ، وقال : بسم الله والصلاة علىٰ رسول الله ، اللهم أغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلىٰ بها ويدعو بما شاء ، ثم يأتي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيستقبل جدار القبر ولا يمسّه ولا يقبله ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر علىٰ رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكّس الرأس غاضّ الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ، ثم يقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين .. » (١) .

ومع هذا الكلام فان ابن تيمية يعتبر « شدّ الرحال » لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً حراماً ، معتمداً في ذلك فهماً خاطئاً لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لا تشدُّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الاقصىٰ » (٢) وفي لفظٍ آخر : « إنما يُسافر إلىٰ ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيليا » (٣) .

وسوف نتناول مناقشة هذا الأمر من جانبين :

__________________

(١) الصارم المنكي في الرد علىٰ السبكي ، للمقدسي : ٧ ، ط ١ ، القاهرة ، المطبعة الخيرية .

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٢٦ كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال . سنن أبي داود ١ : ٤٦٩ كتاب الحج . سنن النسائي ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ المطبوع مع شرح السيوطي .

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٢٦ كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال . سنن أبي داود ١ : ٤٦٩ كتاب الحج . سنن النسائي ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ المطبوع مع شرح السيوطي .

١٠٧
 &

الجانب الأول : إيراد أقوال وأحاديث تؤكد استحباب السفر لزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والجانب الثاني : دراسة وتحليل الحديث الذي اعتبره ابن تيمية دالاً علىٰ حرمة السفر إلىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يمكن الاستدلال علىٰ استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدّة وجوه ، لكننا هنا نقتصر علىٰ ذكر مجموعة من آراء علماء السلف القائلة باستحباب السفر للزيارة ، بل عدّها بعضهم واجبة ، وليس لأحد أن ينكر أنَّ السلف من علماء الاُمّة وعامتها سافروا لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أشار إلىٰ هذا الواقع الامام السبكي ، بقوله : « إنّ الناس لا يزالون في كلَّ عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلىٰ زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج ، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة .. وذلك أمر لا يُرتاب فيه ، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المُهَج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها علىٰ مرَّ السنين ، وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك علىٰ وجه التقرّب به إلىٰ الله عزَّ وجل ، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجزٍ أو تعويق المقادير ، مع تأسفه عليه ووده لو تيسر له ، ومن أدّعىٰ أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون علىٰ خطأ فهو المخطىء » (١) .

__________________

(١) شفاء السقام في زيارة خير الانام ، للسبكي : ١٠٠ .

١٠٨
 &

وإلىٰ جانب ما جاء به السبكي في معارضة القائلين بالتحريم ، فقد شاركه عدد غفير من العلماء في ذلك ، وإليك بعض النصوص .

١ ـ قال أبو الحسن الماوردي ( ت / ٤٥٠ هـ ) : « فإذا عاد ولي الحاج ، سار به علىٰ طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجمع لهم بين حج بيت الله عزَّ وجلَّ وزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة » (١) .

٢ ـ قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي ( ت / ٧٣٧ هـ ) : « وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتّصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلىٰ مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون .. » (٢) .

وابن الحاج هنا ـ كما ترىٰ ـ لا يقصر مشروعية الزيارة علىٰ نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يعممها علىٰ الأنبياء والرسل أيضاً .

٣ ـ روي أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس ، جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به ، فقال عمر له : « هل لك أن تسير معي إلىٰ المدينة وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال : نعم » (٣) .

__________________

(١) الاحكام السلطانية ، للماوردي : ١٠٥ .

(٢) المدخل ، لابن الحاج ١ : ٢٥٧ فضل زيارة القبور .

(٣) شرح المواهب ، للزرقاني المالكي المصري ٨ : ٢٩٩ .

١٠٩
 &

دراسة دليل القائلين بتحريم شدّ الرحال لزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

اعتمد القائلون بتحريم شدّ الرحال لغير المساجد الثلاثة ( مسجد الرسول ومكة وبيت المقدس ) بشكل خاص علىٰ الرواية المتقدّمة ، ولنا في دلالة الحديث أو الأحاديث المارة مناقشة ، تقوم علىٰ أساس تحديد المستثنىٰ منه ، وهو واحد من اثنين :

١ ـ لا تشدُّ الرحال إلىٰ « مسجد » غير المساجد الثلاثة .

٢ ـ لا تشدُّ الرحال إلىٰ « مكان » غير المساجد الثلاثة .

فلو كان المقصود بالرواية المستثنى الأول كما هو الظاهر ، فإنّ معنىٰ الحديث يكون : الأمر بعدم شدّ الرحال إلىٰ أي مسجد من المساجد ما عدا المساجد الثلاثة ، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلىٰ أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن هذا « المكان » مسجداً ، فالحديث إذن بهذا المعنىٰ لا يتعرض بحال لشدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأئمة الطاهرين والأولياء والصالحين ، لأن قبورهم ليست مساجد ، ولأنّ الحديث يتعرض في نفيه وإثباته للمساجد خاصة ، ولذلك فإنّ الاستدلال به علىٰ حرمة شدّ الرحال إلىٰ غير المساجد باطل .

أما الحالة الثانية ، وهي البناء علىٰ الاستثناء من عموم الأمكنة ، فلا يمكن الأخذ بها ، إذ تستتبع حرمة جميع الاسفار سواء كان السفر لزيارة مسجد أو غيره من الامكنة ، ولا يقول بهذا أحدٌ من الفقهاء والعقلاء .

ومن جهة ثانية : فإنّ النهي عن شدِّ الرحال إلىٰ أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً « تحريمياً » وإنّما هو إرشاد إلىٰ عدم الجدوىٰ في سفر كهذا ، وذلك لأنّ المساجد الاُخرىٰ لا تختلف من حيثُ الفضيلة ،

١١٠
 &

فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة وإنّ من العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلىٰ جامع آخر في بلد آخر مع أنهما متماثلان .

يقول الغزالي بهذا الصدد : « القسم الثاني ، وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد .. ويدخل في جملته : زيارة قبور الأنبياء علیهم‌السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكل من يتبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تشدُّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصىٰ » ، لأنّ ذلك في المساجد ، فإنّها متماثلة في الفضيلة ، بعد هذه المساجد » (١) .

ويقول الدكتور الشيخ عبدالملك السعدي : « إنَّ النهي عن شدّ الرحال إلىٰ المساجد الأُخرىٰ لأجل أنَّ فيه إتعاب النفس دون جدوىٰ أو زيادة ثواب ، لأنّها في الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة لأنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الاقصىٰ بخمسمائة ، فزيادة الثواب تحبّب السفر إليها وهي غير موجودة في بقيّة المساجد » (٢) .

ومن جهة ثالثة : فإنّ هناك دليلاً آخر علىٰ أنّ السفر لغير هذه المساجد الثلاثة ليس محرّماً ، وهو ما نكتشفه من سيرة النبي الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد روىٰ أصحاب الصحاح والسنن : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي مسجد قباء

__________________

(١) احياء علوم الدين ، للغزالي ٢ : ٢٤٧ كتاب آداب السفر ، طبعة دار احياء التراث العربي ـ بيروت .

(٢) البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي : ٦٠ .

١١١
 &

راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين » (١) .

مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم :

لابن تيمية فتوىٰ بالتحريم عمم فيها الحرمة بزيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ، مع أنّ المستثنىٰ هو المساجد فقال في الفتاوىٰ ، معتمداً في فتواه علىٰ القياس : « فاذا كان السفر إلىٰ بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهىٰ عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف بالسفر إلىٰ بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعىٰ من دون الله ، حتىٰ إنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحج إليها علىٰ الحج إلىٰ بيت الله » (٢) .

ولو صحّ هذا النقل عن ابن تيمية ففي كلامه مؤاخذات شتىٰ ، فقد قال : « إذا كان السفر إلىٰ بيوت الله غير الثلاث ليس بمشروع » .

المؤاخذة عليه هي أنّه من أين وقف علىٰ أنّ السفر إلىٰ غير المساجد الثلاثة محرّم ، وقد تقدّم أنّ النهي ليس نهياً تحريمياً مولوياً ، وإنما هو إرشاد إلىٰ عدم الجدوىٰ ، ولذلك فإنّه لو ترتبت علىٰ السفر مصلحة لجاز ذلك السفر مثلما عرفت من سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ مسجد قباء مراراً .

وقال أيضاً بأنّ عدم المشروعية اتفق عليه الأئمة الأربعة :

ويؤاخذ عليه : أننا لم نجد نصّاً منهم علىٰ التحريم ، وإيرادهم للحديث في صحاحهم ليس دليلاً علىٰ أنّهم فسروا الحديث بمثل ما فسّره هو .

__________________

(١) الفتاوىٰ ، لابن تيمية . البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي .

(٢) الفتاوىٰ ، لابن تيمية . البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي .

١١٢
 &

وأيضاً : فإنّ قياسه زيارة قبور الأنبياء والصالحين علىٰ زيارة عامّة المساجد ، قياس باطل خصوصاً بعد أن عرفنا عدم جدوىٰ السفر إلىٰ شيء من هذه المساجد العامة ، لعدم تحقق أي فائدة سوىٰ تحمّل العناء والتعب ، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد هي نفسها في بلدٍ آخر ، وليس اكتساب الثواب متوقفاً علىٰ السفر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ درك فضيلة قبر النبي يتوقف علىٰ السفر إليه .

وأما قوله : « إنَّ المسلمين يتخذون قبور الأولياء أوثاناً وأعياداً ، ويُشْرَك بها » فهذا افتراء كبير علىٰ المسلمين الموحّدين ، فكيف يكون مشركاً من يشهد كل يوم بأن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وكيف يتخذ من يشهد بذلك قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثناً ؟ أما ما يصدر من الجهلة المتوهمين للعبادة بما قد يعدّ من الشرك ، فليس بموقوف علىٰ هذه الأماكن ، بل قد يصدر منهم أنفسهم في بيت الله الحرام والمسجد النبوي أيضاً ! فلا يصحّ اتخاذه ذريعة للتحريم ، وإلّا لوجب تحريم دخول المساجد كلّها لأجل ما يفعل أمثال هؤلاء ، بل وتحريم الحج نفسه ! وهذا باطل لا يقول به عاقل .

تم ما أردنا إيراده عن البدعة مفهوماً وشروطاً ومصاديق .

والحمد لله ربِّ العالمين

١١٣
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEBedah-Mafhoumoha-Hodoudohaimagesrafed.jpg

١١٤
 &



المُحتَويَات

مقدِّمة المركز ................................  ٥

مقدِّمة الكتاب ..................................  ٧

الفصل الأول

البدعة دلالتها في القرآن والسُنّة .................  ٩

البدعة في اللغة ................................  ٩

البدعة في الاصطلاح ..........................  ١١

البدعة في القرآن الكريم ........................  ١٤

الصورة الاُولىٰ ...............................  ١٤

الصورة الثانية ...............................  ١٦

البدعة في السُنّة المطهّرة ........................  ١٧

الفصل الثاني

مفهوم البدعة وشروطها ..........................  ٢٧

أولاً : الاختصاص بالاُمور الشرعية ..............  ٢٧

أصل هذا الفهم .............................  ٣١

١١٥
 &

ثانياً : عدم وجود دليل شرعي علىٰ الأمر الحادث من الدين ..............................  ٣٩

استثناء ما ورد فيه دليل خاص .................  ٤٠

تقسيم البدعة .................................  ٤٣

أدلة عدم جواز تقسيم البدعة ..................  ٤٦

مواقف العلماء من تقسيم البدعة ...............  ٤٨

الفصل الثالث

أسباب نشوء البدعة .............................  ٥١

أولاً : توّهم المبالغة في التعبّد لله تعالىٰ ............  ٥٢

ثانياً : اتّباع الهوىٰ .............................  ٥٧

ثالثاً : التسليم لغير المعصوم .....................  ٦٠

الفصل الرابع

دور أهل البيت عليهم‌السلام في محاربة البدع ......  ٦٣

أولاً : الجبر والتفويض ..........................  ٦٣

ثانياً : القياس والرأي ...........................  ٦٥

ثالثاً : التشبيه والتجسيم .......................  ٦٧

تأويل ظواهر الآيات والأحاديث الدالة علىٰ التشبيه والتجسيم .............................  ٦٨

رابعاً : نفي الرؤية .............................  ٧١

خامساً : التصوّف والرهبنة .....................  ٧٢

سادساً : مواجهة حركة الغلاة ..................  ٧٣

١١٦
 &

الفصل الخامس

تطبيقات حول البدعة ...........................  ٧٩

أولاً : النهي عن متعة الحج .....................  ٧٩

متىٰ ظهر النهي عن متعة الحج ؟ ...............  ٨٢

موقف المسلمين من النهي .....................  ٨٣

ثانياً : إقامة صلاة التراويح جماعة ................  ٨٥

أول من أمر بإقامة التراويح جماعة ...............  ٨٨

موقف المسلمين من بدعة الجماعة في التراويح .....  ٩٠

ثالثاً : صلاة الضُحىٰ ..........................  ٩٢

نماذج أُخرىٰ من البدع ........................  ٩٩

أعمال نُسبت إلىٰ البدعة وليست كذلك ...  ١٠٠

أولاً : الاحتفال بالمولد النبوي والمناسبات الإسلامية .....................................  ١٠٠

ثانياً : شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة والصالحين عليهم‌السلام .........................  ١٠٦

استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ....  ١٠٨

دراسة دليل القائلين بتحريم شد الرحال لزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ....................  ١١٠

مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم ...............  ١١٢

المحتويات ...............................  ١١٥

١١٧
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEBedah-Mafhoumoha-Hodoudohaimagesrafed.jpg

١١٨
 &

قائمة الخطأ والصواب

الصفحة

السطر

الخطأ

الصواب

١٩

٤٧

٥٠

٦٧

٧٤

٧٥

٨١

٨٢

٨٤

١٠٥

١٠٧

١٠٨

١١٠

١١٥

٢٠

٢٠

١٦

٤

٦

١٦

٦

٣

١٧

٧

٥

٥

١٩

٥

نفس النصوص

توقّف عليه

حرااً

ضفات

الكذر

لذلك

( لم يكن

ابن داود

رسرل

مدحة

فيصلىٰ

استخباب

الرجال

دلالتها القرآن

النصوص نفسها

توقفت عليه

حراماً

صفات

الكذب

فذلك

( لمن لم يكن

أبو داود

رسول

مدحه

فيصلي

استحباب

الرحال

دلالتها في القرآن

١١٩
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEBedah-Mafhoumoha-Hodoudohaimagesrafed.jpg

١٢٠