الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-172-6
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٢٦

ثم كتب إليه في العام القابل بعدة هي أكثر من العدة الأولى ، ثم كتب إليه في العام الثالث.

فكتب إليه عمر يحمد الله على ذلك ، وقال : إن بني إسرائيل إنما هلكت حينما كثرت قراؤهم (١).

ونلاحظ : أن هذه العبارة الأخيرة هي من سنخ استدلاله للمنع من كتابة الحديث!! فاقرأ ، واعجب بعد هذا ما بدا لك!!

هذا .. ومن المفارقات هنا : أن نرى هذا الخليفة بالذات يسمح لكعب الأحبار أن يقرأ التوراة آناء الليل وأطراف النهار ، كما سنرى!!

الدقة في التنفيذ :

وقد كان للاهتمام الذي أولاه الحكام للمنع من رواية الحديث وكتابته ، وما لمسه الناس من جدية وإصرار في تنفيذ هذه السياسة ، ومتابعة فصولها بدقة وحزم من قبل شخص الخليفة الثاني ، الذي كان قوله ورأيه في العرب نافذا ومقبولا ، قد كان لذلك تأثيرات سريعة وحاسمة على صعيد الالتزام التام بالتعليمات الصادرة لهم في هذا الخصوص ؛ فهذا أبو موسى الأشعري (وكذلك أنس بن مالك (٢)) بمجرد أن أحس أن عمر يفكر في أمر ما في هذا الاتجاه ، يمسك عن الحديث حتى يعلم ما أحدثه عمر.

ولنا أن نظن ظنا قويا : أنهما كانا على علم مسبق بما كان الخليفة قد عقد العزم عليه في هذا الصدد ، وأراد ترويض الناس على قبول ذلك ، والالتزام به.

__________________

(١) كنز العمال ج ١٠ ص ١٦١ و ١٦٢.

(٢) راجع : مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٩٣ و ٣٧٢.

٨١

بل لقد بلغ بهم التحاشي عن حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» حدا مثيرا للدهشة ، حتى إن عبد الله بن مسعود ـ وهو الصحابي المعروف ـ كانت تأتي عليه السنة لا يحدث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بشيء (١).

بل لقد قال عمرو بن ميمون : «صحبت عبد الله بن مسعود سنين فما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة» ثم ذكر الحديث الذي رواه (٢).

ويقول الشعبي : «قعدت مع ابن عمر سنتين ، أو سنة ونصفا ، فما سمعته يحدث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلا حديثا.

أو قال : جالست ابن عمر سنتين فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا (٣).

وكان زيد بن أرقم إذا طلبوا منه أن يحدثهم يزعم أنه كبر ونسي (٤).

وقال عمرو بن ميمون الأودي : «كنّا جلوسا بالكوفة ، فجاء رجل ومعه كتاب ، فقلنا : ما هذا؟

قال : كتاب دانيال.

__________________

(١) راجع : صفة الصفوة ج ١ ص ٤٠٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ١٥٦ ط صادر وفي ط ليدن ج ٣ قسم ١ ص ١١٠ ـ ١١١ والمستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٣١٤ وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع بهامشه) نفس الصفحة ، وحياة الصحابة ج ٣ ص ٢٧١ وحياة الشعر في الكوفة ص ٢٥٣.

(٢) أصول السرخسي ج ١ ص ٣٤٢.

(٣) راجع : سنن الدارمي ج ١ ص ٨٤ ومسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ١٥٧ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ١٥ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٢٧١ والغدير للعلامة الأميني ج ١٠ ص ٦٥ وج ٦ ص ٢٩٤.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٧٠ و ٣٧١ و ٣٧٢.

٨٢

فلو لا أن الناس تحاجزوا عنه لقتل.

وقالوا : كتاب سوى القرآن؟!» (١).

وكيف لا يقتله الناس ، وهو قد خالف سنة عمر في حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وتجاوز سياساته تجاهه؟!

فإنه ولا شك قد ارتكب جريمة نكراء!! وجاء ببدعة صلعاء!!.

ثم إننا لا ندري ماذا كان يوجد في ذلك الكتاب المنسوب إلى دانيال النبي «عليه السلام».

ولعل الذين اعترضوا على هذا الكتاب كانوا لا يعرفون شيئا عن مضمون ذلك أيضا.

إلى متى؟! :

هذا ، وقد استمر المنع من رواية الحديث وتدوينه ساري المفعول ـ بصورة أو بأخرى ـ إلى زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، الذي تولى الخلافة في مطلع القرن الثاني (في صفر سنة ٩٩ ه‍) لفترة وجيزة انتهت بموته في رجب سنة ١٠١ ه‍. فقد أظهر عمر بن عبد العزيز هذا رغبة في جمع الحديث ، فأمر محمد بن عمرو بن حزم بأن يكتب له حديث النبي «صلى الله عليه وآله» ، أو سنة ماضية ، أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن (٢).

__________________

(١) تقييد العلم ص ٥٧ وفي هامشه عن : ذم الكلام للهروي ص ٢٧.

(٢) راجع : تقييد العلم ص ١٠٥ و ١٠٦ وتدريب الراوي ج ١ ص ٩٠ عن البخاري في أبواب العلم. وراجع : ذكر أخبار أصبهان ، وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ١٣٤ وج ٨ ص ٣٥٣ ط ليدن والعراق في العصر الأموي ص ١٥٥.

٨٣

ومراده بالسنة الماضية هي سنة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، كما سنشير إليه.

وإنما أراد حديث عمر لأجل الوصول إلى حديث عائشة كما هو معلوم ، ولا ندري : إن كان طلب الخليفة هذا قد نفذ أو لا.

ولكن الزهري المتوفى سنة ١٢٤ ه‍. قد كتب له طائفة من الروايات ، فأرسل إلى كل بلد دفترا من دفاتره التي كتبها له.

وقد كانت هذه المحاولة أيضا ضعيفة ومحدودة جدا (١) ولا تستطيع أن تعيد لحديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» دوره وحيويته في الناس كما هو واضح.

ورووا أيضا : أن أبا الزناد كتب سنن الحج لهشام بن عبد الملك ، وذلك في سنة ١٠٦ ه‍. (٢) لكن ليس ثمة ما يدل على أن ذلك قد وصل إلى أيدي الناس ، وتداولوه.

بل إن ما كتبه الزهري لم نجد له أثرا ملموسا فيما بين أيدينا من تراث

__________________

(١) راجع : السنة قبل التدوين ص ٣٦٤ و ٣٣٢ وجامع بيان العلم ج ١ ص ٧٦ و ٩١ و ٥٠ و ٨٨ و ٩٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٧ ص ٤٤٧ والمصنف للصنعاني ج ٩ ص ٣٣٧ وسنن الدارمي ج ١ ص ١٢٦ وحلية الأولياء ج ٣ ص ٣٦٣ وتدريب الراوي ج ١ ص ٩٠ وذكر أخبار أصبهان ج ١ ص ٣١٢ وتاريخ الخلفاء ص ٢٦١ وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٦٩ و ١٧٠ و ٢٠٣ وتحفة الأحوذي (المقدمة) ج ١ ص ٣٣ و ٤٠.

وراجع : صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ه‍. ج ١ ص ١٩ والخطط للمقريزي ج ٢ ص ٣٣٣ وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٢٦ و ٢٢٧.

(٢) الكنى والألقاب ج ١ ص ٨٠ والكامل في التاريخ ج ٥ ص ١٣٠.

٨٤

مكتوب ليمكننا تقييمه والحكم عليه.

ومهما يكن من أمر ، فإن من المؤكد : أن مفعول المنع من تدوين الحديث قد انتهى في أواسط القرن الثاني ، وأن الحركة الواسعة لتدوين الحديث قد بدأت في أواسط القرن الثاني للهجرة ، على يد ابن جريج ، ومالك بن أنس ، والربيع بن صبيح ، والثوري ، والأوزاعي ، وغيرهم (١).

وأما البدايات الضعيفة والمحدودة لكتابة الحديث ، فقد حصلت قبل ذلك ، لكنها كانت محكومة للظروف العامة ، والخوف من التعرض إلى الأذى بسبب ذلك.

ولم يصل إلينا ولا إلى الناس من ذلك إلا النزر القليل ، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

__________________

(١) راجع : بحوث في تاريخ السنة المشرفة. والسنة قبل التدوين ص ٣٣٧. وراجع : الجرح والتعديل ج ١ ص ١٨٤ وتدريب الراوي ج ١ ص ١٨٩ والخطط للمقريزي ج ٢ ص ٣٣٣ وتاريخ الخلفاء ص ٢٦١ وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٧٠ و ١٦٩ و ١٦٠ و ١٩١ و ٢٠٣ وفتح الباري (المقدمة) ص ٤ و ٥ وكشف الظنون ج ١ ص ٢٣٧ والنجوم الزاهرة ج ١ ص ٣٥١ وتحفة الأحوذي المقدمة ج ١ ص ٢٥ و ٢٦ و ٢٨ ففي كل ذلك وفي غيره تجد ما يفيد في هذا المجال.

٨٥
٨٦

الفصل الثالث :

أين .. وما هو البديل؟

٨٧
٨٨

من الذي يفتي الناس؟!

وبعد ما تقدم ، فقد كان لابد للناس ، الذين يدينون بهذا الدين ، ويريدون أن يطبّقوا أحكامه وشرائعه على حركاتهم وسلوكهم ومواقفهم ـ لا بد لهم ـ من مرجع يرجعون إليه ، ليفتيهم في أمور دينهم ، ويبيّن لهم أحكامه ، من دون أن يتعرض لرواية عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لا من قريب ، ولا من بعيد.

وبديهي ، أنه لا يمكن السماح لكل الناس بالتصدي للفتوى ؛ لأن ذلك يحمل معه مخاطر كبيرة وخطيرة ، ويجعل السلطة في مواجهة مشاكل صعبة ، ويضعها أمام إحراجات لا طاقة لها بها. وذلك حينما تتعارض فتاواهم وتتناقض.

أو حينما تصدر عن بعض الناس فتاوى قد يعتبرها الحكام ومن يدور في فلكهم مضرة في مصالحهم في الحكم ، أو في غيره.

وهذا الأمر يحمل معه أجواء الاستدلال والاحتجاج ، والتأييد والرد ، ثم الإدانة ، وتسفيه الآراء.

ومعنى ذلك هو : العودة إلى طرح النصوص القرآنية ، والكلمات والمواقف النبوية ، كوسائل إقناع واحتجاج ، فيكون ما فروا منه قد عادوا فوقعوا فيه.

٨٩

مع ما في ذلك من إضعاف لمواقع ولرموز لا تريد لها السلطة أن تضعف بأية صورة كانت.

ويأتي إضعافها وضعفها باتضاح أنها في درجة أدنى من حيث المعرفة والعلم بالقرآن والسنة ، وأحكام الدين ، وتعاليم الشريعة.

ثم هو يتسبب بالإحساس بالغبن ، وبالمظلومية بالنسبة لأولئك الذين يملكون المؤهلات الحقيقية للفتوى ، حين يكون التعامل معهم ، والموقف منهم ، ومن كل ما يقدمونه من علم صحيح ونافع لا يختلف عن الموقف مما يقدمه أولئك الجهلة الأغبياء ، الذين لا يملكون من التقوى ما يمنعهم عن الإفتاء بغير علم ولا هدى ، ولا كتاب منير.

أضف إلى ذلك : أن هذا من شأنه أن يضعف الثقة بالسلطة ، التي انتهجت هذه السياسة ، وشجعت هذا الاتجاه.

هذا كله ، عدا عن أن الحكم يريد أن يتبنى اتجاها فكريا خاصا ومتميزا ، يخدم أهدافه الخاصة والعامة.

ويريد أن يزرع في الناس مفاهيم ، ويحملهم على اعتقادات ، ويلزمهم بأحكام لا يدع لهم مناصا من الالتزام بها ، والجري عليها وتبنيها ، في مختلف الظروف والأحوال.

ولن يكون ذلك ميسورا له في ظل هذه الحرية في الفتوى ، وفي الاستدلال عليها.

حصر الفتوى في نوعين من الناس :

ولأجل ذلك ، فقد كان من الطبيعي أن لا يسمحوا بالفتوى إلا لنوعين

٩٠

من الناس.

الأول : الأمراء ، وذلك في الأمور الحساسة ، فيما يبدو.

الثاني : أشخاص بأعيانهم ، يمكنهم تسويق فكر السلطة ، بصورة أو بأخرى.

ولأجل توضيح ذلك فإننا نشير إلى كلا النوعين باختصار ، فنقول :

أولا : الأمراء :

أما بالنسبة للأمراء ؛ فإننا نقرأ في التاريخ : أن عمر بن الخطاب قد أنكر على بعضهم بقوله : «كيف تفتي الناس ، ولست بأمير؟! ولي حارها من ولي قارها» (١).

وكان ابن عمر إذا سئل عن الفتوى قال : إذهب إلى هذا الأمير ، الذي تقلد أمور الناس ، ووضعها في عنقه (٢).

وقد امتنع ابن عمر عن إفتاء سعيد بن جبير ، وقال : يقول في

__________________

(١) راجع : جامع بيان العلم ج ٢ ص ١٧٥ و ٢٠٣ و ١٩٤ و ١٧٤ ومنتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند أحمد) ج ٤ ص ٦٢ وسنن الدارمي ج ١ ص ٦١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٦ ص ١٧٩ و ٢٥٨ والمصنف للصنعاني ج ٨ ص ٣٠١ وج ١١ ص ٣٢٨ وراجع ص ٢٣١ وأخبار القضاة لوكيع ج ١ ص ٨٣ وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٥٤ وراجع : حياة الصحابة ج ٣ ص ٢٨٦ وكنز العمال ج ١ ص ١٨٥ وراجع ص ١٨٩ عن عبد الرزاق ، وابن عساكر ، وابن عبد البر ، والدينوري في المجالسة.

(٢) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٦٧.

٩١

ذلك الأمراء (١).

وقد أطلقوا على الفتوى اسم «صوافي الأمراء».

فعن المسيب بن رافع قال : كان إذا ورد الشيء من القضاء ، وليس في الكتاب ، ولا في السنة ، سمي «صوافي الأمراء» ، فدفع إليهم الخ ..

وروى هشام بن عروة عن أبيه : أنه ربما سئل عن الشيء فيقول : هذا من خالص السلطان.

وعن ابن هرمز : أدركت أهل المدينة ، وما فيها الكتاب والسنة. والأمر ينزل ، فينظر فيه السلطان (٢).

وزيد بن ثابت يكتب لمعاوية في الجد : ذلك مما لم يكن يقضي فيه إلا الأمراء (٣).

ثانيا : المسموح لهم بالفتوى من غير الأمراء :

وأما بالنسبة للأشخاص المسموح لهم بالفتوى : فإنما سمحوا بالفتوى بل وبالرواية أيضا لأشخاص رأوا : أن لديهم من المؤهلات ما يكفي للاعتماد عليهم ، ويطمئن لالتزامهم بالخط المعين ، والمرسوم ، بصورة مقبولة ومعقولة.

أما من وجدوه غير قادر على ذلك ، فقد استبعدوه ، حتى وإن كان منسجما معهم في خطه السياسي ، أو في طريقة تفكيره ، وأسلوب حياته.

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٦ ص ١٧٤.

(٢) جامع بيان العلم ج ٢ ص ١٧٤.

(٣) بحوث مع أهل السنة والسلفية ص ٢٣٨.

٩٢

ونذكر من هؤلاء :

١ ـ عائشة :

فإننا نجد مروان بن الحكم يحاول التأكيد على الدور الأساس لأم المؤمنين عائشة في هذا المجال ، فهو يقول : «كيف يسأل أحد وفينا أزواج نبينا وأمهاتنا» (١).

وإنما قلنا : إنه يقصد خصوص عائشة في كلامه هذا ، لأنها هي التي كانت تتصدى للرواية والفتوى من بين أمهات المؤمنين بصورة رئيسية ، وهي بنت الخليفة الأول أبي بكر ، ومدللة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، ولم يعرف عن أي من نساء النبي «صلى الله عليه وآله» سواها : أنهن تصدين للرواية والفتوى إلا في حالات قليلة جدا ، وكانت أم سلمة تتصدى لرواية شيء عن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعجب أمثال مروان ، ولا كان يروق لهم كثيرا.

وقد كانت عائشة تفتي على عهد عمر ، وعثمان ، وإلى أن ماتت.

وكان هذان الخليفتان يرسلان إليها فيسألانها عن السنن (٢).

وفي نص آخر : كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وهلم جرا ، إلى أن ماتت (٣).

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ١ ص ١٦٦ وراجع : كشف الأستار عن مسند البزار ج ٢ ص ١٩٦ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٢٤.

(٢) حياة الصحابة ج ٣ ص ٢٩٨ عن الطبقات الكبرى ج ٤ ص ١٨٩.

(٣) حياة الصحابة ج ٣ ص ٢٨٨ ـ ٢٨٩ عن الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ١٨٩.

٩٣

منافسون لعائشة :

ونجد من بعض الطموحين من الشباب الذين تهتم السلطة بإعطائهم دورا من نوع ما ، تشكيكا بل ورفضا لما تدعيه عائشة ومحبوها من علم واطلاع كامل على أحوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأوضاعه ، فهذا زيد بن ثابت يقول : «نحن أعلم برسول الله من عائشة» (١).

كما أن عائشة نفسها كانت لا ترتاح إذا رأت للآخرين دورا فاعلا في نطاق الفتوى والرواية ، ولعل هذا هو ما يفسر لنا شكواها لابن أختها عروة بن الزبير من أبي هريرة الذي كان يحاول إثارتها بجلوسه إلى جانب حجرتها ليحدث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، قالت عائشة لعروة : ألا يعجبك أبو هريرة؟! جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، يسمعني ذلك!! وكنت أسبح ، فقام قبل أن أقضي سبحتي ، لو جلس حتى أقضي سبحتي لرددت عليه الخ .. (٢).

٢ ـ زيد بن ثابت :

وممن كان يسمح له بالفتوى أيضا : زيد بن ثابت ، وكان مترئسا بالمدينة في

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ج ٥ ص ١٨٥.

(٢) مسند أحمد ج ٦ ص ١٥٧ وراجع : صحيح مسلم ج ٨ ص ٢٢٩ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٩٠ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٧ عن مسلم وعن أبي داود رقم ٣٦٥٥ واختصره الترمذي برقم ٣٦٤٣ وعن البخاري في المناقب ج ٦ ص ٤٢٢ والسنة قبل التدوين ص ٤٦٢ عن الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص ١٣٥ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٧٠٥ عن البخاري ، وأحمد ، وأبي داود.

٩٤

القضاء ، والفتوى ، والقراءة ، والفرائض في عهد عمر ، وعثمان (١) ونرى أن ذلك يرجع إلى موقفه السلبي من علي أمير المؤمنين «عليه السلام» ، ثم إلى دوره في تقوية سلطان الحكم القائم ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب ، حين الحديث عن تعلم زيد للغة العبرانية ، بعد الحديث عن غزوة حمراء الأسد.

٣ ـ عبد الرحمن بن عوف :

كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان بما سمع من النبي «صلى الله عليه وآله» (٢).

وموقف ابن عوف من علي في قضية الشورى ، وصرفه الأمر عن علي «عليه السلام» إلى عثمان بطريقة ذكية ومدروسة ، معروف ، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

٤ ـ أبو موسى الأشعري :

وكان أبو موسى الأشعري ـ كما يقولون ـ لا يزال يفتي بما أمره النبي «صلى الله عليه وآله» في زمن أبي بكر ، ثم في زمن عمر ، فبينما هو قائم عند الحجر يفتي الناس بما أمره رسول الله «صلى الله عليه وآله» ؛ إذ جاءه رجل فسارّه : أن لا تعجل بفتياك ، فإن أمير المؤمنين قد أحدث في المناسك شيئا.

فطلب أبو موسى حينئذ من الناس : أن يأتموا بعمر ، ويتركوا ما كان يفتيهم به. ثم سأل الخليفة عن الأمر ؛ فحققه له (٣).

__________________

(١) حياة الصحابة ج ٣ ص ٢٨٨ عن الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ١٧٥.

(٢) حياة الصحابة ج ٣ ص ٢٨٧ عن الطبقات الكبرى لابن سعد كاتب الواقدي ، وعن منتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند أحمد) ج ٥ ص ٧٧.

(٣) راجع : مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٩٣.

٩٥

فأبو موسى إذن ، كان يرى : أن سنة عمر مقدمة على ما سنه الله ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى!!.

ولعله يستند في ذلك إلى ما رووه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» من أنه قال : لو لم أبعث فيكم لبعث عمر!!.

أو أنه قال : إنه ما أبطأ عنه «صلى الله عليه وآله» الوحي إلا ظن أنه نزل في آل الخطاب!!.

من قبيل رواية : لو كان الله باعثا نبيا بعدي لبعث عمر بن الخطاب (١).

ورواية : لو لم أبعث فيكم لبعث عمر (٢).

ورواية : لو لم أبعث لبعثت يا عمر (٣).

ورواية : لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب (٤).

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٦٨ وشرح نهج البلاغة ج ١٢ ص ١٧٨ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٥٤ و ١٦٥.

(٢) المعيار والموازنة ص ٢٢٢ وشرح نهج البلاغة ج ١٢ ص ١٧٨ وكنز العمال ج ١١ ص ٥٨١ وتذكرة الموضوعات ص ٩٤ وفيض القدير ج ٥ ص ٤١٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ج ١٢ ص ١٧٨ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٦٤ وتذكرة الموضوعات ص ٩٤.

(٤) شرح نهج البلاغة ج ١٢ ص ١٧٨ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٥٤ ومسند أحمد ج ٤ ص ١٥٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٦٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٤١ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ١١٩ والمعجم الكبير ج ١٧ ص ١٨٠ و ٢٩٨ والجامع الصغير ج ٢ ص ٤٣٥ وكنز العمال ج ١١ ص ٥٧٨ وتذكرة الموضوعات ص ٩٤ وفيض القدير ج ٥ ص ٤١٤ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٥٤ و ١٥٧ و ١٥٨.

٩٦

ورواية : قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر (١).

وغير ذلك مما اختلقته يد السياسة ، وزينه لهم الحب الأعمى (٢).

٥ ـ السماح لأبي هريرة بعد المنع :

قال أبو هريرة : «بلغ عمر حديثي ، فأرسل إليّ ، فقال : كنت معنا يوم كنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بيت فلان؟

قال : قلت : نعم ، وقد علمت لم تسألني عن ذلك!!.

قال : ولم سألتك؟

قلت : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال يومئذ : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.

قال : أما إذن ، فاذهب فحدث» (٣).

ومن المعلوم : أن عمر كان قد منع أبا هريرة من التحديث (٤) ، ولكنه لما بلغه حديثه ، وأعجبه أرسل إليه ، وأبلغه سماحه له برواية الحديث ، كما ترى!!.

ولا بد لنا من أن نتساءل عن تلك الخصوصيات التي لو اشتمل عليها

__________________

(١) مسند ابن راهويه ج ٢ ص ٤٧٩ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٣١٧ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ١٢٥ وشرح نهج البلاغة ج ١٢ ص ١٧٨.

(٢) راجع : كتاب الغدير للعلامة الأميني رحمه الله.

(٣) البداية والنهاية ج ٨ ص ١٠٧ وراجع : سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٣ والسنة قبل التدوين ص ٤٥٨.

(٤) راجع : سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٠ ـ ٦٠١ و ٦٠٢ ـ ٦٠٣ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١٠٦.

٩٧

الحديث لأعجب الخليفة ، ويكافئ من يأتي بها بالسماح بما هو ممنوع على من سواه ، من جلة أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»!!

محاولة فاشلة لهم مع علي عليه السّلام :

وقد بذلت محاولة لفرض الرأي في مجال الفتوى والعمل بالسنة على علي أمير المؤمنين «عليه السلام» ، فوجدوا منه الموقف الحازم ، والحاسم ؛ فكان التراجع منهم والاعتذار.

فقد روى العياشي عن عبد الله بن علي الحلبي ، عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله «عليهما السلام» ، قال : حج عمر أول سنة حج ، وهو خليفة ، فحج تلك السنة المهاجرون والأنصار وكان علي قد حج في تلك السنة بالحسن والحسين «عليهما السلام» ، وبعبد الله بن جعفر ، قال : فلما أحرم عبد الله لبس إزارا ورداء ممشقين ـ مصبوغين بطين المشق ـ ثم أتى ، فنظر إليه عمر وهو يلبي وعليه الإزار والرداء ، وهو يسير إلى جنب علي «عليه السلام» ، فقال عمر من خلفهم : ما هذه البدعة التي في الحرم؟

فالتفت إليه علي «عليه السلام» ، فقال له : يا عمر ، لا ينبغي لأحد أن يعلمنا السنة!

فقال عمر : صدقت يا أبا الحسن. لا والله ، ما علمت أنكم هم (١).

من له الفتوى بعد عهد الخلفاء الثلاثة :

وإذا استثنينا الفترة التي تولى فيها أمير المؤمنين «عليه السلام» شؤون

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ٣٨ والبحار ج ٩٦ ص ١٤٢ وتفسير البرهان ج ٢ ص ٤٩.

٩٨

المسلمين ، فإن الذين تصدوا للفتوى بعد ذلك العهد ما كانوا من الشخصيات الطليعية في المجتمع الإسلامي ، بل إن بعضهم لا يعد حتى من أهل الدرجة الثانية أو الثالثة.

وبعض هؤلاء أو كلهم لم يكن يسمح لهم بالفتوى في عهد الخلفاء الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان.

يقول زياد بن ميناء : «.. كان ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وجابر بن عبد الله ، ورافع بن خديج ، وسلمة بن الأكوع ، وأبو واقد الليثي ، وعبد الله بن بحينة ، مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يفتون بالمدينة ، ويحدثون عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا.

والذين صارت إليهم الفتوى منهم : ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبد الله» (١).

حظر الرواية على ابن عمر ، وابن عمرو :

ولا بد لنا هنا من تسجيل تحفظ على ما ذكره زياد بن ميناء بالنسبة لكل من عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص.

فأما بالنسبة إلى ابن عمر فقد رووا : أن معاوية قال له : «لئن بلغني أنك

__________________

(١) حياة الصحابة ج ٣ ص ٢٨٨ عن الطبقات الكبرى ج ٤ ص ١٨٧ وراجع : سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٦ ـ ٦٠٧ وفي هامشه أشار إلى طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٣٧٢.

٩٩

تحدث لأضربن عنقك» (١).

وأما بالنسبة لعبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فإنما كان يسمح له بالرواية والفتوى قبل حرب صفين ـ على ما يظهر ـ ثم منعه معاوية من الرواية بعدها.

وقد استمر هذا المنع إلى عهد يزيد بن معاوية أيضا (٢).

أسباب المنع :

أما عن أسباب منعهما من الرواية فإننا نقول : أما عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فإنه كان يروي أحاديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» في معاوية ، كقوله «صلى الله عليه وآله» عنه : لا أشبع الله بطنه.

وقوله «صلى الله عليه وآله» عنه وعن أبيه وأخيه : اللهم العن القائد ، والسائق ، والراكب.

وقوله «صلى الله عليه وآله» : يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت حين يموت وهو على غير سنتي. فطلع معاوية.

وأن تابوت معاوية في النار فوق تابوت فرعون.

وقوله «صلى الله عليه وآله» : يموت معاوية على غير الإسلام (٣).

__________________

(١) صفين للمنقري ص ٢٢٠ وراجع : قاموس الرجال ج ٩ ص ١٧ والغدير ج ١٠ ص ٣٥٢.

(٢) راجع : مسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ١٦٧ والإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير والحديث ص ١٥١ والغدير ج ١٠ ص ٣٥٢.

(٣) راجع ما تقدم في : صفين للمنقري ص ٢١٧ ـ ٢٢٠ وفي قاموس الرجال ، ترجمة معاوية ، وراجع الغدير للعلامة الأميني ، وغير ذلك.

١٠٠