الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-172-6
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٢٦

وكذلك الزهري (١) الذي كان له وجاهة ومكانة خاصة في البلاط الأموي (٢).

أما مالك ، الذي لم يرو عن أحد من الكوفيين ، سوى عبد الله بن إدريس ، الذي كان على مذهبه ، فقد رأى : أن أحاديث أهل العراق ، تنزل منزلة أحاديث أهل الكتاب ، أي فلا تصدق ولا تكذب (٣).

وكان يقول : لم يرو أولونا عن أوليهم ، كذلك لا يروي آخرونا عن آخريهم (٤).

السبب هو السياسة والانحراف عن علي عليه السّلام :

وقد كانت هذه السياسة سياسة أموية وشامية ، ضد علي «عليه السلام» ، منطلقها التعصب والتجني ، وليس تحري الحق ، والتزام جانبه.

وقد قالوا عن الجوزجاني :

إنه في كتابه في الرجال «يتشدد في جرح الكوفيين من أصحاب علي ، من أجل المذهب» ، لذلك قال ابن حجر :

__________________

(١) بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٤ وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٧٠.

(٢) ستأتي إشارة إلى ذلك حين الحديث حول روايات بدء الوحي ، وقصة ورقة بن نوفل.

(٣) بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٥ عن ابن تيمية في المنتقى من منهاج الاعتدال ص ٨٨.

(٤) بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٥ عن الكامل لابن عدي ج ١ ص ٣ ـ أ.

١٨١

«لا عبرة بحطه على الكوفيين» (١).

وقال الأوزاعي :

«كانت الخلفاء بالشام ، فإذا كانت الحادثة سألوا عنها علماء أهل الشام ، وأهل المدينة ، وكانت أحاديث العراق لا تجاوز جدر بيوتهم ، فمتى كان علماء أهل الشام يحملون عن خوارج أهل العراق؟!» (٢).

ويقول ابن المبارك : «ما دخلت الشام إلا لأستغني عن حديث أهل الكوفة» (٣).

بل إن ذلك قد انعكس حتى على علوم العربية ، مثل علم النحو وغيره ؛ حيث نجد اهتماما ظاهرا بتكريس نحو البصريين ، واستبعاد نحو الكوفيين ، مهما عاضدته الدلائل والشواهد ، فراجع ولاحظ. ولهذا البحث مجال آخر.

فشل المحاولات :

على أن كل تلك الجهود ، وإن تركت بعض الأثر بصورة عامة ، ولكنها لم تؤت كل ثمارها المرجوة ، فقد فرض الفقه والحديث العراقي نفسه على الساحة ، ولا يمكنهم الاستغناء عنه بالكلية ، فقبلوه على مضض وكره

__________________

(١) بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٩٣ وراجع تهذيب التهذيب ج ١ ص ٩٣ وج ٥ ص ٤٦ وج ١٠ ص ١٥٨.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١ وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٥ عنه.

(٣) المصدران السابقان.

١٨٢

منهم ، حتى ليقول ابن المديني :

«لو تركت أهل البصرة لحال القدر ، وتركت أهل الكوفة لذلك الرأي (يعني التشيع) خربت الكتب» (١).

وقال محمد بن يعقوب : «إن كتاب أستاذه (يعني صحيح مسلم) ملآن من حديث الشيعة» (٢).

وقد روى البخاري نفسه عن طائفة كبيرة ممن ينسبون إلى التشيع من العراقيين وغيرهم (٣).

خلاصات لا بد من قراءتها :

ولمزيد من التأييد والتأكيد على ما نريد أن نقوله ، نعود إلى التذكير ببعض النقاط المفيدة في إيضاح المطلوب ، فنقول :

لا معايير ولا ضوابط :

لقد كانت كل تلك السياسات التي تحدثنا عنها تنفذ في حين : أن الناس لم يكونوا قادرين على تمييز الغث من السمين ، والصحيح من السقيم ، لأنهم كانوا قد فقدوا المعايير والضوابط المعقولة والمقبولة ، التي تمكنهم من ممارسة دور الرقابة الدقيقة والمسؤولة على ما يزعم أنه شريعة ودين ، وأحكام وإسلام.

__________________

(١) الكفاية في علم الرواية ص ١٢٩.

(٢) الكفاية في علم الرواية ص ١٢٩.

(٣) راجع : فتح الباري (المقدمة) ص ٤٦٠ و ٤٦١ وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٨.

١٨٣

إنفلات الزمام :

وبما أن الناس كانوا يريدون معرفة شيء عن دينهم ، ويحبون قرآنهم ، وإسلامهم ، ونبيهم.

وبما أنه لم يعد ثمة من يستطيع أن يعارض أو أن يعترض ، فقد راجت بضائع الكذابين والوضاعين ، وقامت سوقهم على قدم وساق.

وتمكنوا من إشاعة أباطيلهم ، وترهاتهم ، وأضاليلهم.

ولم يكن كثير من الناس يملكون القدرة على تمييز الصحيح من السقيم ، والحق من الباطل ، والأصيل من الدخيل.

أهل الكتاب يمارسون دورهم :

وكان أهل الكتاب في طليعة المستفيدين من هذه الأجواء ، حسبما أوضحناه.

حيث إن ذلك قد سهّل على الذين أظهروا الإسلام منهم : أن ينشروا أباطيلهم وترهاتهم ، بعد أن خلت لهم الساحة ، وأصبحوا هم مصدر العلم والمعارف الدينية ، والثقافة لأكثر الناس ، خصوصا مع ما كانوا ينعمون به من حماية وتأييد من قبل الحكام آنئذ.

إبعاد أهل البيت عليهم السّلام عن الساحة :

إنما أصبح ذلك ممكنا بعد أن تمكن الحكام من فرض ظروف منعت الصفوة من أهل البيت «عليهم السلام» ، وشيعتهم الأبرار رضوان الله تعالى عليهم من ممارسة دورهم في التصحيح والتنقيح ، والتقليم والتطعيم ، وفضح زيف المزيفين ، ودفع كيد الخائنين.

١٨٤

وحرص أكثر الناس ولا سيما الحاقدون والمتزلفون ، وضعفاء النفوس ، على الابتعاد عنهم «عليهم السلام» ، ولا سيما بعد استشهاد سيد شباب أهل الجنة ، الإمام الحسين «عليه السلام» ، وصحبه الأخيار ، وأهل بيته الأطهار في كربلاء الفداء.

وقد أشار الإمام السجاد إلى ذلك ، فقال : «اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع أمنائك. في الدرجة الرفيعة ، التي اختصصتهم بها ، قد ابتزوها حتى عاد صفوتك ، وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزين. يرون حكمك مبدلا ، وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك ، وسنن نبيك متروكة الخ ..» (١).

والملفت للنظر هنا : أنه «عليه السلام» يقرر هذه الحقيقة ويعلنها في صيغة دعاء ، في خصوص يوم عرفة في موسم الحج ، حيث يجتمع الناس من مختلف الأقطار والأمصار ، ليستفيدوا من هذه الشعيرة العظيمة ، ويعودوا إلى بلادهم بمزيد من الطهر ، والصفاء ، والإخلاص ، والوعي لدينهم ، ولعقيدتهم.

ثم تكون هذه الفقرات جزءا من دعاء يدعو به المسلمون كل يوم جمعة في طول البلاد الإسلامية وعرضها وباستمرار ، ليسهم ذلك في المزيد من إيجاد حالة الوعي الرسالي ، وليكون من ثم واحدا من مسؤولياتهم الإيمانية ، والعقيدية.

وقد تعودنا من الإمام السجاد «عليه السلام» هذا الأسلوب الفذ في أكثر من مجال من مجالات الفكر ، والعقيدة ، والسلوك ، كما يتضح ذلك

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، دعاء ٤٨. وهو الدعاء الخاص بيوم الجمعة وعرفة.

١٨٥

بالمراجعة إلى الصحيفة السجادية ، وغيرها من الأدعية المنقولة عنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه الطيبين الطاهرين.

الالتجاء المبكر إلى الرأي والقياس :

وغني عن القول : إن استبعاد حديث الرسول «صلى الله عليه وآله» ، قد أوقع السلطات الحاكمة في مأزق حقيقي على صعيد الفتوى ، وإصدار الأحكام ، ولذلك كان أول من بادر إلى العمل بالرأي والقياس هم الحكام أنفسهم ، الذين كانوا يصرون على استبعاد أهل البيت «عليهم السلام» ـ قدر الامكان ـ عن دائرة الفتوى ، وعن بث العلوم والمعارف الصحيحة ، والصافية في الناس.

ثم تبعهم رعيل كبير ممن تسمى بالفقهاء والمحدثين ، الذين كان الكثيرون منهم من طلاب اللبانات ، ومن المتزلفين إلى الحكام ، ومن وعاظ السلاطين. فطغت مدرسة الرأي ، وانتشر العمل بالاستحسان وبالقياس (١) «حتى استحالت الشريعة ، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة» (٢) كما قاله المعتزلي الشافعي.

وسيأتي (٣) : أن أبا بكر كان أول من عمل برأيه ، حينما لا يكون لديه نص عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، كما زعموا.

ثم جاء عمر بن الخطاب ، فأكد ذلك ، ورسخه ، قولا وعملا.

__________________

(١) حياة الشعر في الكوفة ص ٢٥٣ وكنز العمال ج ١ ص ٣٣٢ وغير ذلك.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٤.

(٣) في فصل : معايير لحفظ الانحراف رقم : ١١ ـ رأي الصحابي حيث لا نص.

١٨٦

وستأتي بعض أقواله ورسائله إلى أبي موسى الأشعري (١) ، وشريح القاضي ، التي يأمر فيها بالعمل بالرأي والقياس في رقم ٢٨ من هذا الفصل.

مع أنهم يقولون : إن عمر بن الخطاب هو الذي انتقد القائلين بالرأي ، وروى عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قوله : «إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، تفلتت منهم أن يعوها ، وأعيتهم أن يحفظوها ، وسلبوا أن يقولوا : لا نعلم ؛ فعارضوا السنن برأيهم» (٢).

ولعل ذلك قد كان منه قبل أن يواجه المشكلة ، ويحتاج إلى العمل بآرائه ، أي قبل أن يتشدد في المنع من رواية حديث النبي «صلى الله عليه وآله» وكتابته ، وقبل أن يمنع الصحابة من الفتوى ويحصر حق الفتوى بالأمير ، أو من يختاره الأمير.

وربما يكون ذلك منه مختصا بأولئك الذين يفتون الناس بآرائهم ، دون إجازة من الحاكم أو الأمير.

ولعل التوجيه الأول هو الأنسب بسياق كلامه ، حيث ينسبهم إلى الجهل بالسنن ، فعارضوا السنن بآرائهم.

إلا أن يدّعى : أنه يريد أن غير الأمراء لم يكن لديهم علم بالسنن ،

__________________

(١) سيأتي ذلك إن شاء الله في فصل : معايير لحفظ الانحراف رقم : ٢٨ ـ القياس ، والرأي والاستحسان.

(٢) كنز العمال ج ١ ص ٣٣٥ عن ابن أبي نصر والغدير ج ٧ ص ١١٩ و ١٢٠ عن جامع بيان العلم ج ٢ ص ١٣٤ ومختصره ص ١٨٥ وعن أعلام الموقعين ص ١٩.

١٨٧

والعلم بها محصور بالأمراء. وهذا كلام لا يمكن قبوله ، ولا الموافقة عليه ، لمخالفته الظاهرة للبداهة وللواقع.

أصدق الحديث :

وقد أوضح لنا الإمام الصادق «عليه السلام» ـ فيما روي عنه ـ سبب لجوئهم إلى الرأي ، والقياس في دين الله ، ثم ما نشأ عن ذلك.

وهي شهادة ممن كان حاضرا وناظرا ، وقد شاهد وعاين ، وخبر الأمور ، ووقف على أغوارها ، واستكنه أسرارها ، فهو يقول :

«يظن هؤلاء الذين يدعون أنهم فقهاء علماء ، قد أثبتوا جميع الفقه والدين ، مما يحتاج إليه الأمة!! وليس كل علم رسول الله «صلى الله عليه وآله» علموه ، ولا صار إليهم من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولا عرفوه. وذلك أن الشيء من الحلال ، والحرام ، والأحكام ، يرد عليهم ؛ فيسألون عنه ، ولا يكون عندهم فيه أثر من رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ، ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبون ؛ فيطلب الناس العلم من معدنه. فلذلك استعملوا الرأي ، والقياس في دين الله ، وتركوا الآثار ودانوا بالبدع الخ ..» (١).

الدوافع والأهداف :

قد قدمنا فيما سبق إيضاحات حول سياسات الحكام تجاه حديث الرسول ، رواية وكتابة ، وتجاه السؤال عن معاني القرآن وغير ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٤٠ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٣٣١.

١٨٨

وبقي أن نشير إلى دوافع هذه السياسة وأهدافها ، فنحن نجمل ذلك على النحو التالي :

١ ـ للخليفة مقام الرسول :

لقد كان الخليفة الإسلامي ـ بنظر الناس ـ يحتل مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله». وذلك يعني :

أنه لا بد أن يقوم بنفس المهام ، ويتحمل نفس المسؤوليات التي للرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله».

فهو القاضي ، والحاكم ، والمربي ، والقائد العسكري ، والمفتي ، والعالم ، ووالخ ..

وقد كان الناس يرون : أن لهم الحق في توجيه أي نقد له ، ومطالبته بأية مخالفة تصدر منه ، وأي خطأ يقع فيه.

وإذا رجعنا إلى أولئك الذين تسلموا زمام الحكم فور وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فإننا نجد :

أنهم ليسوا في مستوى توقعات الناس ، لا سيما وأن التناقضات في فتاواهم وأعمالهم مع ما سمعه الصحابة ورأوه من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وعرفوه من مواقفه ، كانت كثيرة وخطيرة.

هذا كله عدا عن مخالفاتهم لكثير من النصوص القرآنية ، وأخطائهم ، أو عدم اطلاعهم على تفسير كثير من آياته.

بالإضافة إلى تناقضهم في الأحكام والفتاوى باستمرار.

وقد اعترفوا هم أنفسهم بالحقيقة ، وقرروها في مناسبات عدة ، حتى

١٨٩

وهم يواجهون بعض الاعتراضات من قبل النساء على بعض مخالفاتهم حيث ظهر أنهم لا يملكون الكثير من المعرفة بالأحكام الشرعية ، والدينية ، التي يحتاجها الناس في معاملاتهم وشؤونهم.

بل إن الخليفة الثاني قد سجل كلمة طارت في الآفاق ، وأصبحت لها شهرة متميزة ، وذلك حينما طالب أبا موسى الأشعري ببينة على حديث رواه ، وإلا فلسوف ينزل به العقاب.

ثم اتضح صحة الحديث ، فقال عمر بن الخطاب في هذه المناسبة : إنه ألهاه الصفق بالأسواق (١) عن الحضور عند النبي «صلى الله عليه وآله» لسماع حديثه ، والاستفادة منه.

وهو الذي يقول أيضا : كل الناس أفقه من عمر ، حتى ربات الحجال في خدورهن.

وقال عشرات المرات : لولا علي لهلك عمر. ونحو ذلك (٢).

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٢ وج ٢ ص ٤ و ٩ ومسند أحمد ج ٤ ص ٤٠٠ وسنن أبي داود ج ٤ ص ٣٤٦ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٧ و ٤ و ٢٥ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٥٦٩ والغدير ج ٦ ص ١٥٨ عن البخاري ، وأبي داود وعن مسلم ج ٢ ص ٢٣٤ وعن مسند أحمد ج ٣ ص ١٩ وعن سنن الدارمي ج ٢ ص ٢٧٤ وعن مشكل الآثار ج ١ ص ٤٩٩. وحول تنكيل عمر بمن لا يأتي على الحديث ببينة راجع : حياة الصحابة ج ٣ ص ٣٦٠ ، عن كنز العمال ج ٧ ص ٣٤ وغيره.

(٢) راجع : الغدير للعلامة الأميني رحمه الله تجد تفصيل هذه النصوص ، وطائفة كبيرة من مصادرها.

١٩٠

ومهما يكن من أمر ، فقد كثرت الاعتراضات ، وظهر القصور جليا واضحا في نطاق تطبيق الرواية ، والفتوى ، والقضاء ، والموقف السياسي ، وغير ذلك ، على النص القرآني ، والسنة النبوية بصورة عامة.

وقد بدا واضحا : أن استمرار الوضع على هذا المنوال لسوف يضعف موقع الحاكم ، وسيهتز ويتزعزع ، ولن تبقى له تلك المصداقية والفاعلية ، ولا الهيمنة القوية التي يتوخاها.

٢ ـ إحراجات لا بد من الخروج منها :

ومن جهة أخرى ، فقد كانت هناك تصريحات كثيرة للرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، ومواقف حاسمة وحساسة تجاه بعض القضايا وبعض الناس ، إيجابية هنا ، وسلبية هناك.

كان إظهارها وشيوعها بين الناس لا يخدم مصلحة الحكام ، بل هو يضرهم ويجرحهم بصورة كبيرة وخطيرة ، فلا بد من معالجة هذا الأمر وتلافي سلبياته ، فكان انتهاج هذه السياسة مفيدا جدا لهم في ذلك.

وإليك تفصيل ذلك :

إن مما يدل أو يشير إلى أنه قد كان ثمة مواقف للرسول «صلى الله عليه وآله» ، ونصوص لم يكن إظهارها في مصلحة الحاكم ، فكان لا بد من التعتيم عليها ، وطمسها ، قول ابن أبي الحديد المعتزلي :

«قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك» (١).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٣.

١٩١

وواضح : أن مراده من الصحابة المجمعين من عدا عليا «عليه السلام» ، لأن المعتزلي نفسه يقول : «إنما قال أعداؤه : لا رأي له ؛ لأنه كان متعبدا بالشريعة ، لا يرى خلافها».

إلى أن قال : «وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ، ويستوفقه ، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله إلى الانتظام أقرب» (١).

وقد قال عثمان للناس على المنبر : «أيها الناس ، إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله «صلى الله عليه وآله» كراهة تفرقكم عني ، ثم بدا لي الخ ..» (٢).

وهناك مواقف إيجابية لرسول الله «صلى الله عليه وآله» تجاه بعض المخلصين من صحابته ، الذين كانوا يملكون مؤهلات نادرة ، وميزات فريدة ، تجعل لهم الحق دون كل من عداهم بالتصدي لإمامة الأمة ، وقيادتها. وأعني به عليا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وقد ركزت كلمات ومواقف الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» على إظهار تلك الميزات الفريدة بالذات ، سواء منها ما يرتبط بفضائله «عليه السلام» الذاتية ، أو فيما يرتبط بما له من جهاد وسوابق.

ثم أوضحت تلك المواقف النبوية ، والنصوص عنه «صلى الله عليه

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٨.

(٢) حياة الصحابة ج ١ ص ٤٥٥ عن مسند أحمد ج ١ ص ٦٥ وراجع ص ٦١.

١٩٢

وآله» بالاستناد إلى ذلك : أن الإمامة وقيادة الأمة إنما هي حق له ، وللأئمة من ولده «عليهم السلام» ، دون كل أحد سواهم.

وذلك من شأنه : أن يضع الهيئة التي تصدت للحكم بعد النبي «صلى الله عليه وآله» أمام إحراجات كبيرة في مسألة مصيرية ، وخطيرة وحساسة ، بل وفي منتهى الحساسية ، ويضع علامات استفهام واضحة على مجمل الوضع القائم آنذاك ، ومدى شرعيته.

فكان لا بد من محاربة هذا النوع من النصوص ، والتعتيم على تلكم المواقف ، تلافيا لما هو أعظم وأدهى.

فعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه ، قال : «جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن ، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت ـ بيت النبي «صلى الله عليه وآله» ـ فاستأذنا على عبد الله (١) ، فدخلنا عليه ، قال : فدفعنا إليه الصحيفة.

قال : فدعا الجارية ، ثم دعا بطست فيه ماء.

فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن ، انظر فيها ؛ فإن فيها أحاديث حسانا!

قال : فجعل يميثها فيها وهو يقول :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ)(٢) ، القلوب أوعية ؛ فاشغلوها بالقرآن ، ولا تشغلوها بما سواه» (٣).

__________________

(١) أي ابن مسعود.

(٢) الآية ٣ من سورة يوسف.

(٣) تقييد العلم ص ٥٤ والسنة قبل التدوين ص ٣١٢ وراجع : غريب الحديث لابن سلام ج ٤ ص ٤٨. وليس فيه : أن الأحاديث في أهل البيت.

١٩٣

ويذكرون : أن ابن عباس أتي أيضا بكتاب فيه قضاء علي «عليه السلام» ، فمحاه إلا قدر ذراع (١).

وإن كنا نشك في صحة ذلك ، ونرى ، أن ابن مسعود هو الذي فعل ذلك ، وسيأتي في مواضع من هذا الكتاب بعض النماذج للحرب الإعلامية التي كانت تمارس ضد علي وأهل بيته «عليهم السلام» وشيعته الأبرار رضوان الله تعالى عليهم.

وهناك أقوال صحيحة ، ومواقف صريحة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» تبين انحراف وزيف كثير من الشخصيات والرموز التي كانت تدعم الحكم الجديد ، وتشد من أزره ، وتعمل على بسط سلطته ، وترسيخ نفوذه ، بل فيهم بعض من أصبح جزءا من تكوينه وهيكليته ، ومن ركائزه ودعائمه ، الأمر الذي جعل الحكم الجديد يرى نفسه مسؤولا عن الحفاظ على سمعة هؤلاء الناس ، ورفعة شأنهم ، وبسط نفوذهم ، وإظهارهم على أنهم شخصيات على درجة من الفضل والنبل ، ولهم من المواقف المشرفة ، ومن الكرامات ما ليس لغيرهم ، بل لا بد أن يظهروا للناس ـ ولو عن طريق الاختلاق ، والتحريف ، والتزوير ـ أن هؤلاء الناس هم الذين شيّدوا أركان الدين ، وضحّوا وجاهدوا حتى قام عموده ، واشتد عوده.

أما أقوال النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» في حقهم ، ومواقفه «صلى الله عليه وآله» تجاههم ، فلا ضير في أن تكتم وتنستر ، ثم تتلاشى وتندثر ، بل لا بد لها من ذلك ، وحيث لا يمكن ذلك ، فلا أقل من التأويل والتبديل ، والتحريف

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١ ص ١١.

١٩٤

والتزييف ، أو اختلاق ما يناقض ويعارض. وذلك هو أضعف الإيمان.

وقد روى أحمد بن حنبل : أنه كان بين حذيفة وسلمان شيء ؛ فسأله أبو قرة الكندي عن ذلك ، فقال : «إن حذيفة كان يحدث بأشياء يقولها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ في غضبه (١) ـ لأقوام ، فأسأل عنها ، فأقول :

حذيفة أعلم بما يقول ، وأكره أن يكون ضغائن بين أقوام ، فأتى حذيفة ، فقيل له : إن سلمان لا يصدقك ولا يكذبك بما تقول.

فجاءني حذيفة فقال : يا سلمان ابن أم سلمان.

قلت : يا حذيفة ابن أم حذيفة ، لتنتهين ، أو لأكتبن إلى عمر ، فلما خوفته بعمر تركني الخ .. (٢).

إذن ، فقد كان حذيفة يحدث الناس بما كان يوقع سلمان الذي كان أميرا على المدائن من قبل عمر في حرج شديد فكان لا بد لسلمان من أن يوقف حذيفة عن الإستمرار في ذلك ، فاستفاد من هذه الوسيلة لتحقيق هذا الهدف.

وبعبارة أخرى : إن السياسة كانت قد فرضت حظرا على تناقل بعض ما يتعلق بأحوال الأشخاص.

وقد كان حذيفة بنقله تلك الأمور قد أحرج سلمان ، فلما هدده بالكتابة إلى الخليفة كف عن ذلك ، غير أنه قد وردت في آخر الحديث زيادة نحسب

__________________

(١) هذه الكلمة لا يمكن أن يقولها سلمان الذي هو من أعرف الناس بأمر عصمة الرسول في جميع حالاته ، بل هي من إقحامات محبي أولئك المنحرفين الذين لا مانع عندهم من انتقاص شخص الرسول ، شرط أن لا يمس أحدا من أحبائهم.

(٢) مسند أحمد ج ٥ ص ٤٣٩.

١٩٥

أنها لم ترد على لسان سلمان ، وهي أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال : «أيما مؤمن لعنته لعنة ، أو سببته سبة ، في غير كنهه ، فاجعلها عليه صلاة» (١).

فإن ذلك لا شك في كونه من الأكاذيب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وعلى سلمان ، فراجع ما ذكرناه في غزوة أحد من هذا الكتاب ، ثم ما سنذكره حول موضوع السب واللعن أيضا.

٣ ـ التأثر بأهل الكتاب :

هناك فرقتان من اليهود :

إحداهما : «فقهاء الفريسيين» ، وهم يؤمنون بكتابة العلم وتدوينه.

ويكتبون كلام علمائهم وأحبارهم. كما هو الحال بالنسبة إلى التلمود ، الذي له أهمية كبيرة عند معظم اليهود ، بل إن أهميته لدى بعض فرقهم لتزيد على أهمية العهد القديم نفسه (٢).

الثانية : فرقة يقال لها : «القراء» ، وهم الذين كثروا ونشطوا بعد ضعف أمر الفريسيين ، وهم يقولون بعدم جواز كتابة شيء غير التوراة (٣).

وقد صرح البعض : بأن فرقة الصدوقيين لا تعترف إلا بالعهد القديم ، وترفض الأخذ بالأحاديث الشفوية المنسوبة إلى موسى «عليه السلام» (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ج ٥ ص ٤٣٩.

(٢) راجع : اليهودية واليهود ص ٢٣.

(٣) راجع : التفكير الديني عند اليهود ، لمحمد حسن ظاظا وراجع : مقارنة الأديان (اليهودية) ص ٢٢٧.

(٤) اليهودية واليهود ص ٨٦ ومقارنة الأديان (اليهودية) ص ٢٢٦.

١٩٦

بل لقد جاء في التلمود نفسه : «إن الأمور التي تروى مشافهة ليس لك الحق في إثباتها بالكتابة» (١).

وقد علق على ذلك بعض العلماء بقوله : «من العجيب : أن اليهود كتبوا التلمود والمشناة حتى هذا النهي. وأهل الحديث من المسلمين كتبوا الأحاديث حتى الحديث المكذوب : لا تكتبوا عني .. الخ» (٢).

غير أننا نقول : إن المقصود هو المنع من الروايات الشفوية عن الأنبياء ، أما أقوال العلماء فهي الشريعة ، تماما كما يقول البعض الآن : إن آراء الصحابة شريعة وسنة.

والذي يظهر لنا هو : أن كعب الأحبار قد كان من الفرقة التي لا تجيز كتابة غير التوراة.

ويشير إلى ذلك : أنه حينما سأله الخليفة الثاني عن الشعر ، أجابه كعب واصفا العرب بقوله : «أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل ، أناجيلهم في صدورهم ، ينطقون بالحكمة» (٣).

__________________

(١) الفكر الديني الإسرائيلي للدكتور ظاظا ص ٧٩ عن التلمود : حيطين ٦٠ ب ـ تمور.

(٢) بحوث مع أهل السنة والسلفية هامش ص ٩٧.

(٣) راجع : العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٢٥ وقد صرح بذلك كعب في حديث آخر في الدر المنثور ج ٣ ص ١٢٥ ثم روى ذلك أبو هريرة وقتادة عن النبي «صلى الله عليه وآله» فراجع الدر المنثور ج ٣ ص ١٢٤ و ١٢٣ و ١٢٢ ، وقد استدل البعض بهذا الحديث على حفظ القرآن عن ظهر قلب ، فراجع مناهل العرفان ج ١ ص ٢٣٥ والنشر في القراءات العشر ج ١ ص ٦ ، وفي ربيع الأبرار ج ٢ ص ١٥٠ ذكر هذا الحديث عن التوراة على لسان راهب آخر فراجع.

١٩٧

وقد روى مثل ذلك وهب بن منبه أيضا ـ الذي كان أيضا في الأساس من أهل الكتاب ـ فقد جاء في رواية مطولة له قوله : «يا رب ، إني أجد في التوراة قوما أناجيلهم في صدورهم ، يقرؤونها ، وكان من قبلهم يقرؤون كتبهم نظرا ، ولا يحفظونها ، فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة محمد» (١).

فلعل كعب الأحبار ، وغيره ممن كان مقربا من السلطة قد استفاد من حسن الظن به من قبل الصحابة والحكام ، فألقى هذا الأمر إليهم ، وهم غافلون ، فوافق قبولا منهم ، بسبب ما كانوا يعانونه من مشكلات ألمحنا إليها آنفا.

ومما يشير إلى أن السلطة كانت تختزن في وعيها شيئا من ذلك هو التعليل الذي جاؤوا به حينما أرادوا إحراق ما جمعوه من أحاديث كتبها الصحابة عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، حيث ذكروا : أن سبب إقدامهم على هذا الأمر هو الالتفات إلى أن أمما كانوا قبلهم كان بينهم كتاب الله ، فلما كتبوا أقوال علمائهم أكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله (فراجع ما تقدم).

والملفت للنظر هنا : أن يتخيل هؤلاء المساواة فيما بين أقوال النبي «صلى الله عليه وآله» الذي لا ينطق عن الهوى ، وبين أقوال علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخلطون الحق بالباطل عن عمد وإصرار في كثير من الأحيان ، إن لم يكن في أكثرها.

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٦ ص ٦٢ ونزهة المجالس ج ٢ ص ١٩٩.

١٩٨

بغضهم لعلي عليه السّلام سبب آخر :

هذا ، ولا بد من الإشارة هنا : إلى أن السياسة التي انتهجت تجاه حديث النبي «صلى الله عليه وآله» ، وإن كانت سببا مهما لما حاق بالإسلام من بلاء ، على صعيد تجهيل الناس به ، والتلاعب بالدين ، وتغيير أحكام الشريعة.

ولكن ذلك ليس هو كل شيء في هذا المجال ، بل إن ثمة سببا آخر كان له دوره وتأثيره في ذلك ، وهو : بغض علي «عليه السلام» ، والإصرار على مخالفته في كل شيء.

قال ابن عباس : «اللهم العنهم ، قد تركوا السنة من بغض علي» (١).

قال السندي : «أي وهو كان يتقيد بها» (٢).

وقال النيسابوري حول السبب في تركهم الجهر بالبسملة في الصلاة : «وأيضا ، ففيه تهمة أخرى ، وهي : أن عليا رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية ؛ فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع عن الجهر ، سعيا في إبطال آثار علي» (٣).

ورغم اعتراف الحجاج بأن أمير المؤمنين «عليه السلام» المرء الذي لا يرغب عن قوله ، فإنه يصر على مخالفته ، والعمل برأي عثمان!! (٤).

__________________

(١) سنن النسائي ج ٥ ص ٢٥٣ وسنن البيهقي ج ٥ ص ١١٣ والغدير ج ١٠ ص ٢٠٥ عنهما وعن كنز العمال عن ابن جرير نص آخر.

(٢) تعليقة السندي على سنن النسائي ج ٥ هامش ص ٢٥٣.

(٣) تفسير النيسابوري (مطبوع بهامش جامع البيان للطبري) ج ١ ص ٧٩.

(٤) مروج الذهب ج ٣ ص ٨٥ والكامل في الأدب ج ١ ص ٢٠٧ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦٢.

١٩٩

وقد عاش الحسنان «عليهما السلام» في الناس دهرا طويلا ، وهما إمامان قاما أو قعدا ، لكن ما روي عنهما في أحكام الشريعة قليل جدا لا يكاد يذكر.

ولا يمكن أن يصغي إلى ما اعتذر به ابن شهر آشوب هنا ، حيث قال : «وأما من قل منهم الروايات ، مثل الحسن والحسين ، فلقلة أيامهما» (١).

والصحيح هو أن الناس أهملوا أقوالهم ، ولم يهتموا بنقل شيء عنهم ، بغضا منهم لهم ، أو خوفا من معاقبة الحكام.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٢٧٤.

٢٠٠