الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-172-6
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٢٦

فها نحن نجد : أن كل من يتحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص لا بد أن يضع في حسابه : أن يذكر الزاملتين اللتين يدعي ابن عمرو : أنه قد وجدهما في حرب اليرموك مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب ، فكان يحدث عنهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات (١).

وقد قرر بعض المؤلفين (٢) : أن ابن عمرو إنما اعتمد في الرخصة بذلك على ذلك المرسوم العام ، الذي أشرنا إليه فيما سبق ، وهو : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.

مع أنه قد تقدم : أن الحديث ـ لو صح ـ فالمقصود به رواية الحديث الثابت صحته ، والمأخوذ من النبي «صلى الله عليه وآله» ، لا من علماء بني إسرائيل. بالإضافة إلى احتمال آخر ذكرناه هناك.

لماذا كثرة تلامذة كعب الأحبار :

إن من يراجع كتب تراجم الصحابة والتابعين يجد الكثير من الروايات رواها رواتها عن خصوص كعب الأحبار ، ولو بالواسطة ، الأمر الذي يشير إلى كثرة تلامذة هذا الرجل ، وشدة اهتمام فريق من الناس بالأخذ عنه.

ولعل سبب ذلك ، هو تلك الثقة الكبيرة التي أولاه إياها الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب ، كما يعلم من مراجعة كتب الحديث والتاريخ والتراجم.

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ١ ص ٢٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ١٠٢ عن مسند أحمد ، وعن فتح الباري. وتذكرة الحفاظ ج ٣ ص ٤٢ والإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير ص ١١١ و ١٤٦ و ١٤٧ و ١٥٣ و ٢٠٧ و ٩١ و ٩٢.

(٢) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير ص ١١١ و ١٥٣. وراجع : ص ٩١ و ٩٢.

١٢١

وقد قرضه الخليفة أكثر من مرة ، ومن ذلك أنه حينما تزلف له كعب بما راق له ، قال : (ومن قوم موسى أُمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (١) (٢).

ثم جاء معاوية بن أبي سفيان ليظهر المزيد من الاهتمام بكعب ، وليمنحه المزيد من الأوسمة ، وكلماته فيه وتقريظاته له معروفة ومشهورة (٣).

هذا بالإضافة إلى تأثير ذلك المرسوم العام في ترغيب الناس بما عند أهل الكتاب ، حسبما تقدم.

أبو هريرة يروي عن كعب :

وقد أفاد كعب من هذه التقريظات ، واستخدمها في جلب المزيد من التلامذة إلى حظيرته ، وبدأ ينشر على تلامذته ما شاءت له قريحته ، ودعته إليه أهدافه. وترخص الناس في الرواية عنه ، حتى كان أبو هريرة يروي عن كعب ، كما يروي عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وقد روى حديثا في خلق السماوات والأرض حكموا عليه بأن أبا هريرة إنما تلقاه عن كعب (٤).

ويقول بشير بن سعد ـ كما روي عنه ـ : اتقوا الله وتحفظوا من الحديث ، فو الله ، لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة ، فيحدث عن رسول الله ، ويحدثنا عن كعب ، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن

__________________

(١) الآية ١٥٩ من سورة الأعراف.

(٢) لباب الآداب ص ٢٣٤.

(٣) راجع على سبيل المثال : الإصابة ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٤٢٦ عن الجاسوس ص ٥٠٢.

(٤) راجع : البداية والنهاية ج ١ ص ١٧.

١٢٢

كعب ، ويجعل حديث كعب عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

فترى : أن أبا هريرة يجعل حديثه عن كعب ، إلى جانب حديثه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله». ولا يجد غضاضة في أن يحدث في مجالسه عنهما معا!!

وهذا ربما يكون السبب في صدور الإجازة له بالتحديث بعد أن كان ممنوعا من ذلك.

كعب الأحبار حكما :

وسرعان ما أصبح كعب الأحبار شخصية مرموقة ، يحتكم إليها حتى خليفة المسلمين ، ليجد عندها الجواب الكافي والشافي ، والحكم العادل والفاصل.

فقد روى المفسرون : أن خلافا وقع بين معاوية وابن عباس في قراءة جملة : «عين حمئة». كما يقول ابن عباس. أو : «حامية» كما يقول معاوية : فاتفقا على تحكيم كعب الأحبار ؛ فسألاه : كيف تجد الشمس في التوراة؟!

فقال : في طينة سوداء.

فوافق جوابه كلام ابن عباس (٢).

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٨ ص ١٠٩ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٦ وفي هامشه عن تاريخ ابن عساكر ج ١٩ ص ١٢١ والإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير.

(٢) راجع : تفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ١٠٢ وراجع : الدر المنثور ج ٤ ص ٢٤٨ عن عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم.

١٢٣

ولا ندري كيف صار كلام كعب دليلا على صحة الآية القرآنية بهذا النحو أو بذاك؟.

ومن الذي قال : إن كعب الأحبار لم يكن مسبوق الذهن بالآية القرآنية ، فجاء بنص ينسجم معها حذرا من المواجهة مع صحابة رسول الله «صلى الله عليه وآله» لو أنه جاء بما يخالف القرآن.

ويلاحظ : أن معاوية ـ كما ذكرته رواية في الدر المنثور ـ قد أرسل أولا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص ، فوافق معاوية. ثم سأل كعب الأحبار ، فأجابه بما وافق ابن عباس (١).

وفي نص آخر : أن المخالفة كانت بين ابن عباس ، وعمرو بن العاص (٢).

مع أن ابن عمرو يأخذ من كتب أهل الكتاب ، كما كان يأخذ كعب.

بردة كعب :

وقد بلغ مقام كعب عند معاوية مبلغا عظيما ، جعله يصر عليه هو شخصيا بأن يتولى مهمة القصص ، كما أسلفنا.

بل لقد صار هذا الرجل من مواضع البركة لهم ، حتى ليقول الكتاني : «تغالي معاوية في بردة كعب معروف» (٣).

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٤ ص ٢٤٨ عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) الدر المنثور ج ٤ ص ٢٤٨ عن سعيد بن منصور وابن المنذر.

(٣) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٤٤٦.

١٢٤

رشوات كعب :

وقد كان كعب يعرف كيف يهيمن على عقول الناس ، وينال ثقتهم ، ويكتسب تأييدهم.

وكان أيضا من أعرف الناس بمفاتيح قلوبهم ، وكيف؟ ومتى؟ وبأية صورة يوزع الرشاوى على أتباعه ، والمعجبين به ، ليحتفظ بولائهم ، وحبهم ، وثقتهم إلى أبعد مدى.

وقد تحدثنا عن بعض من ذلك فيما سبق ، حين الحديث عن كيد وتهويلات أهل الكتاب.

ونشير هنا إلى بعض آخر من ذلك أيضا ، فنقول :

ألف : كعب وخلافة علي عليه السّلام :

لقد كان كعب الأحبار على علم بالتوجهات العامة لسياسات الحكم تجاه علي «عليه السلام» وأهل بيته ، ولم يكن ليخفى عليه : أن ثمة خطة لإبعادهم عن الخلافة وإبعادها عنهم بمختلف الأساليب.

وعلى هذا الأساس نلاحظ : أنه حين استشار عمر كعبا في أمر الخلافة ، وطرح له أسماء المرشحين لها ، فلما انتهى إلى اسم علي «عليه السلام» نرى كعبا يرفض أن يكون لعلي «عليه السلام» نصيب فيها ، بشدة وقوة (١).

وما ذلك إلا لأنه كان على علم بالسياسات الخفية في هذا الاتجاه ، وكان يعلم أيضا : أن رفضه هذا كان يروق للخليفة ، وينسجم مع تطلعاته

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٢ ص ٨١.

١٢٥

وتدبيراته ، وطموحاته المستقبلية.

ب : لقب الفاروق :

وبالنسبة لعمر نفسه ، فإننا نجد أهل الكتاب يتزلفون له بطريقة أخرى أيضا ، وذلك حينما منحوه لقب «الفاروق» الذي كان يعجبه ويروق له.

يقول النص التاريخي : «بلغنا : أن أهل الكتاب أول من قال لعمر : «الفاروق».

وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم.

ولم يبلغنا : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذكر من ذلك شيئا» (١).

وربما يظهر من رواية الطبري : أن الذي سماه بذلك هو كعب الأحبار نفسه (٢).

وواضح : أن منح هذا اللقب للخليفة قد يكون رشوة ، وقد يكون مكافأة له على إفساحه المجال لأهل الكتاب لنشر ترهاتهم وأباطيلهم في المسلمين بعد أن حرم المسلمون من حديث نبيّهم رواية وكتابة ، ومن قرآنهم أيضا ، حسبما ألمحنا إليه.

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ قسم ١ ص ١٩٣ وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص ٣٠ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٣٣ وتاريخ الأمم والملوك ط الاستقامة ج ٣ ص ٢٦٧ حوادث سنة ٢٣ وراجع : ذيل المذيل (مطبوع في آخر تاريخ الطبري).

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٦٧.

١٢٦

ج : كعب يقرض أبا هريرة :

ومما يدخل في هذا السياق ما قاله كعب الأحبار ، وهو يقرّض أبا هريرة : «ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة» (١).

ولا ندري من أين حصل أبو هريرة على علوم التوراة ، وكيف عرف ما فيها دون أن يقرأها.

وهل يمكن أن يوجد شخص غير هذا الرجل يستطيع أن ينال علم شيء دون أن يطلع عليه ، ويعرف ما فيه؟!.

د : محاولة رشوة ابن عباس :

قالوا : كان ابن عباس يقرأ : «في عين حمئة» فقال كعب : ما سمعت أحدا يقرؤها كما هي في كتاب الله غير ابن عباس ؛ فإننا نجدها في التوراة : في حمئة سوداء (٢).

وقد تقدم ما يدل على أن عبد الله بن عمرو بن العاص قد ذكر : أنه يوجد في التوراة نص آخر يختلف عما ذكره كعب الأحبار ، فراجع ما ذكرناه تحت عنوان : «كعب الأحبار حكما».

ومهما يكن من أمر فإننا نقول : إن كعبا يريد بكلامه هذا مع ابن عباس : أن يرمي عصفورين بحجر واحد.

فهو من جهة يقدم رشوة إلى ابن عباس ، ليكتسب حبه وثقته ، وإعجابه

__________________

(١) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٢٨ وتذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ ص ٣٦ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٠ والسنة قبل التدوين ص ٤٣٣ عن الإصابة ج ٧ ص ٢٠٥.

(٢) الدر المنثور ج ٤ ص ٢٤٨ عن سعيد بن منصور ، وابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٢٧

برجل عنده علم التوراة.

ومن جهة ثانية يكون قد كرس في أذهان الناس : أن هذه التوراة التي بين أيديهم هي الكتاب المنزل على موسى ، وليست محرفة ، كما يزعمون ، وعلى هذا الأساس ، فلا بد من تعظيمها ، والاستفادة مما فيها من علوم ، ومعارف.

ه : كعب يقرّض ابن عمرو بن العاص :

وأما عن تقريظات كعب لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد روي عن عبد الله بن السلماني قوله : «التقى كعب الأحبار ، وعبد الله بن عمرو.

فقال كعب : أتطّيّر؟!

قال : نعم.

قال : فما تقول؟!

قال : أقول : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا رب غيرك ، ولا حول ولا قوة إلا بك.

فقال : أنت أفقه العرب ؛ إنها لمكتوبة في التوراة كما قلت» (١).

وحسبنا ما ذكرناه ، فإن المقصود هو الإلماح والإشارة لا الاستقصاء.

سحرة بني إسرائيل يركزون على التوراة :

وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ والحديث فسوف نجد :

أن علماء أهل الكتاب كانوا يمارسون على الناس طريقة الإرهاب

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٢٦٨ ط صادر.

١٢٨

الفكري ، حيث يظهرون لهم : أنهم يعرفون كل شيء ، لأن التوراة مكتوب فيها كل شيء ، حتى الأرض شبرا شبرا.

قال كعب الأحبار لقيس بن خرشة لاعتراضه عليه ، حين أخبره بما يجري على أرض صفين : «ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة ، الذي أنزل الله على موسى ، ما يكون عليه ، وما يخرج منه إلى يوم القيامة» (١).

وفي نص آخر قال : «ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة» (٢).

ونقول :

إن التوراة التي تحوي كل هذه التفاصيل لا بد أن تكون مئات بل آلاف المجلدات.

ولو صح أن توراة موسى كان فيها كل ذلك ، فمن الذي يضمن أن تكون التوراة الحاضرة هي نفس تلك؟

ونحن نرى : أنها تفقد كل ذلك الذي يدّعون أنه يوجد فيها.

ومهما يكن من أمر ، فقد أنشد الحطيئة بيتا من الشعر ، فادّعى كعب الأحبار فورا : أنه مكتوب في التوراة (٣).

ودعوى كعب وجود كثير مما يتفق أمامه : أنه مذكور في التوراة بهدف كسب ثقة الناس بعلمه وبمعارفه ، ورفع شأن التوراة في أعينهم ، كثير لا

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ٦ ص ٤٧٦ والدر المنثور للسيوطي ج ٣ ص ١٢٥ عنه وعن الطبراني.

(٢) بحوث مع أهل السنة والسلفية ص ٨٢ عن أضواء على السنة المحمدية ص ١٤٠.

(٣) المحاسن والمساوئ ج ١ ص ١٩٩.

١٢٩

مجال لتتبعه هنا (١).

تعظيم وتقديس التوراة :

ومن أساليبهم التي ترمي إلى جعل الناس يقدسون توراتهم المحرفة التي يتداولونها ، ما زعموه من أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قام للتوراة (٢).

ثم جاء الحكم بحرمة مس التوراة والإنجيل للجنب (٣).

وكان أبو الجلد الجوني يقرأ القرآن كل سبعة ، ويختم التوراة في ستة أيام نظرا ؛ فإذا كان يوم ختمها حشد إلى ذلك ناسا.

وكان يقول : كان يقال : تنزل عند ختمها الرحمة (٤).

كما أن وهب بن منبه قد أجاز النظر في التوراة وكتابتها (٥).

وكانوا يستشهدون لبعض القضايا التاريخية بأنها قد وردت في التوراة ،

__________________

(١) راجع على سبيل المثال : تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص ٢٤٦ وبهجة المجالس ج ١ ص ٣٦٨. والإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير والحديث ص ٩٥ عن مسند أحمد.

(٢) راجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٣٠ عن شرح المنهاج لابن حجر الهيثمي وغيره.

(٣) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٣١.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٧ ص ١٦١ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٥) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٨٨ عن ابن حجر.

١٣٠

ومن أمثلة ذلك : أن ابن دحية قد كذّب الرواية التي تقول :

إن هارون مدفون في أحد ؛ لأنه قدم هو وأخوه موسى إلى الحج أو العمرة ، فمات هناك ، فواراه أخوه موسى فيه.

قال ابن دحية : «هذا باطل بيقين ، وإن نص التوراة : أنه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام» (١).

إصرار مسلمة أهل الكتاب على العمل بالتوراة :

وتشير النصوص التي بين أيدينا : «إلى أن الذين أسلموا من أهل الكتاب قد استمروا على تعظيم توراتهم وعلى العمل ببعض ما فيها ـ كما ذكره المفسرون لآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(٢)» (٣).

وقد روي : أن عبد الله بن سلام ، وثعلبة ، وابن يامين ، وأسد ، وأسيد بني كعب ، وسعيد بن عمرو ، وقيس بن زيد ، وكلهم من اليهود جاؤوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقالوا :

يا رسول الله ، يوم السبت كنا نعظمه ، فدعنا فلنسبت فيه ، وإن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها بالليل.

فنزلت الآية (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

وفي نص آخر : «أن ابن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود استمروا على

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٦.

(٢) الآية ٢٠٨ من سورة البقرة.

(٣) الدر المنثور ج ١ ص ٢٤١ عن ابن أبي حاتم.

(٤) الدر المنثور ج ١ ص ٢٤١ عن ابن جرير.

١٣١

تعظيم السبت ، وكراهة أكل لحم الإبل ، وشرب لبانها ؛ فأنكر ذلك عليهم المسلمون.

فقالوا : «إن التوراة كتاب الله ، فنعمل به أيضا ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(١)» (٢).

وتقدم : أن الخليفة الثاني قد سمح لكعب الأحبار بأن يقرأ التوراة آناء الليل وأطراف النهار.

__________________

(١) الآية ٢٠٨ من سورة البقرة.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١١٥.

١٣٢

الفصل الرابع :

القصاصون يثقفون الناس رسميا

١٣٣
١٣٤

القصص الحق :

إنه لا ريب في أن القصص حينما يكون حقا ، وفي خدمة الحق ، ووسيلة لتوعية الناس ، وتعريفهم بواجباتهم ، فإنه يكون حينئذ محبوبا ومطلوبا لله تعالى ، وقد قال عز من قائل :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ)(١).

وحينما طلب الصحابة من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يقص عليهم ، نزل قوله تعالى :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٢).

وروي أن سعد الإسكاف قال لأبي جعفر : إني أجلس فأقص ؛ وأذكر حقكم وفضلكم!

__________________

(١) الآية ٦٢ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٣ من سورة يوسف.

وراجع : جامع البيان ج ١٢ ص ٩٠ والدر المنثور ج ٤ ص ٣ والجامع لأحكام القرآن ج ٩ ص ١١٨ وراجع ج ١٥ ص ٢٤٨.

١٣٥

قال : وددت أن على كل ثلاثين ذراعا قاصا مثلك (١).

وكان أبان بن تغلب «قاص الشيعة» (٢).

وكان عدي بن ثابت الكوفى المتوفي سنة ١١٦ ه‍. إمام مسجد الشيعة وقاصهم (٣).

هذا هو رأي الإسلام ، وصريح القرآن ، ونهج أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة وموقفهم.

ولكن الأمر بالنسبة لسياسات الآخرين وأهدافهم من هذا الأمر ، لم يكن بهذه البساطة ، بل هو يختلف تماما مع هذا الذي ذكرناه بصورة حقيقية وأساسية ، ولتوضيح ذلك نقول :

الطريقة الذكية :

سبق أن قلنا : إنه قد كان لا بد للحكم من إشغال العامة ، وملء الفراغ الروحي والنفسي الذي نشأ عن إبعاد العلماء الحقيقيين عن التعاطي مع الناس ، وتثقيفهم وتربيتهم.

وبعد أن استقر الرأي على إعطاء دور رائد لأهل الكتاب في هذا

__________________

(١) راجع : اختيار معرفة الرجال ص ٢١٤ ـ ٢١٥ وجامع الرواة ج ١ ص ٣٥٣ وتنقيح المقال ج ٢ ص ١٢ ومنتهى المقال ص ١٤٤.

وراجع : نقد الرجال ص ١٤٨ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٣٢٤ ومعجم رجال الحديث ج ٨ ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) معرفة علوم الحديث ص ١٣٦.

(٣) تاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة ١٠٠ ـ ١٢٠ ه‍) ص ٤١٨ و ٤١٩.

١٣٦

المجال ، فقد اتجه الحكام نحو استحداث طريقة جديدة ، من شأنها أن تشغل الناس ، وتملأ فراغهم ، وتوجد حالة من الطمأنينة لديهم ، مع ما تقدمه لهم من لذة موهومة ، ولكنها محببة.

مع الاطمئنان إلى أن هذه الطريقة لا تؤدي إلى إحراج الحكام في شيء ، بطرح أي من الأمور الحساسة ، التي لا يريدون التعرض لها ، أو المساس بها.

وهذه الطريقة هي السماح بالقصص لمسلمة أهل الكتاب ، من الأحبار والرهبان ، حيث ينشرون في الناس ما شاؤوا من أساطير وترهات ، ويذهبون بأوهام الناس وخيالاتهم في آفاق الخواء والهباء ، ثم يقذفون بها في أقبية الأحلام الصفيقة ، أو في أغوار النسيان العميقة والسحيقة.

وأهل الكتاب هم أجدر وأبرع من تصدى لهذا الأمر ، وأولى من حقق الغاية المنشودة ؛ لأن العرب كانوا إلى عهد قريب يحترمونهم ، ويثقون بهم وبعلمهم ، ولم يتسنّ للإسلام ـ رغم ما قام به من جهود ـ أن ينتزع هذه النظرة التي لا تستند إلى أساس موضوعي من النفوس المريضة أو الضعيفة.

وقد قام أحبار أهل الكتاب بالمهمة التي أوكلت إليهم خير قيام ، وحققوا كل أهداف الحكم والحاكمين ، وأهدافا أخرى كانوا هم أنفسهم يسعون إليها ، ويعملون ليل نهار في سبيل الوصول والحصول عليها.

وإذا كانوا في السابق يعملون في السر والخفاء ، فها هم اليوم يمارسون نشاطهم جهرا وبطلب من الحكم القائم بالذات.

إعطاء الشرعية :

وقد مارسوا نشاطهم ودورهم هذا في ظل قرار رسمي حكومي ، يقضي باحتلال أهل الكتاب للمساجد ، وأولها مسجد الرسول الأعظم

١٣٧

«صلى الله عليه وآله» في المدينة (١) ، ليشغلوا الناس بما يقصّونه عليهم من حكايا بني إسرائيل ، وأي شيء آخر يروق لهم ، ويخدم الأهداف التي يعملون من أجلها وفي سبيلها.

وكان تميم الداري ، الذي هو في نظر عمر بن الخطاب خير أهل المدينة (٢) قد طلب من الخليفة الثاني أن يقص ، فسمح له ، فكان يقص في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» كل جمعة ، فاستزاده يوما آخر فزاده.

فلما تولى عثمان زاده يوما آخر أيضا (٣).

__________________

(١) إنها لمفارقة عجيبة في التناقض بين سلوك النبي «صلى الله عليه وآله» وبين سلوك من يدّعون خلافته ، فالنبي الذي سعى لطرد اليهود من الجزيرة العربية ، إذ بهم بعد وفاته «صلى الله عليه وآله» يحتلون مكانه بدعوة من الحكام الذين يحكمون باسم النبي «صلى الله عليه وآله».

(٢) الإصابة ج ١ ص ٢١٥.

(٣) راجع : المصنف للصنعاني ج ٣ ص ٢١٩ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ١١ و ١٢ وراجع ص ١٠ و ١٥ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٤٦ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٣ ص ٣٦٠. وراجع : الخطط للمقريزي ج ٢ ص ٢٥٣.

وحول أن عمر قد أمر تميما الداري بأن يقص ، وأنه أول من قص راجع : الزهد والرقائق ص ٥٠٨ وصفة الصفوة ج ١ ص ٧٣٧ وأسد الغابة ج ١ ص ٢١٥ وتهذيب الأسماء ج ١ ص ١٣٨ ومسند أحمد ج ٣ ص ٤٤٩ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١٩٠ والإصابة ج ١ ص ١٨٣ و ١٨٤ و ١٨٦ والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٨ ص ٣٧٨ و ٣٧٩ ، وفيه : أنه تعلم ذلك من اليهود والنصارى ، وأرجع في الهامش إلى طبقات ابن سعد ج ١ ص ٧٥.

وراجع : الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير ص ١٦١ وكنز العمال ج ١٠ ص ١٧١

١٣٨

وكان عمر بن الخطاب يجلس إليه بنفسه ، ويستمع إلى قصصه (١).

ويقول البعض : إن تميما إنما أخذ ذلك من اليهود والنصارى (٢) مع أن تميما كان في بادئ الأمر نصرانيا!!

وقيل : إن أول من قص هو عبيد بن عمير. وذلك على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (٣).

وكان معاوية إذا صلى الفجر يجلس إلى القاص ، حتى يفرغ من قصصه (٤).

كما أن عمر بن عبد العزيز كان يجلس ويستمع إلى القصاص (٥).

وكان محمد بن قيس قاصا لعمر بن عبد العزيز بالمدينة (٦).

__________________

و ١٧٢ عن المروزي في العلم وعن أبي نعيم ، وعن العسكري في المواعظ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٣٨ والقصاص والمذكرين ص ٢٠ و ٢١ و ٢٩ وعن الضوء الساري للمقريزي ص ١٢٩ ومختصر تاريخ دمشق ج ٥ ص ٣٢١.

(١) راجع : الزهد والرقائق ص ٥٠٨ والقصاص والمذكرين ص ٢٩.

(٢) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٨ ص ٣٧٨ و ٣٧٩.

(٣) راجع : سائر المصادر المتقدمة ، وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ١٣ وكنز العمال ج ١٠ ص ١٧١ عن ابن سعد ، وعن العسكري في المواعظ ، والقصاص والمذكرين ص ٢٢.

(٤) التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٤٨ عن مروج الذهب ج ٢ ص ٥٢.

(٥) القصاص والمذكرين ص ٣٣.

(٦) راجع : الجرح والتعديل ج ٨ ص ٦٣ والتاريخ الكبير ج ١ ص ٢١٢ وتاريخ ابن معين ص ١٦٦ وراجع : الحوادث والبدع ص ١٠٣ عن المدونة الكبرى ، كتاب الوضوء.

١٣٩

وكان الناس يفخرون بفقيههم وقاصهم : ابن عباس ، وعبيد بن عمير (١).

وما دام أن القصاصين صاروا مصدر فخر للأمة ، فمن الطبيعي : أن نرى كثيرين من الأعيان والمعروفين قد تصدوا للقصص أيضا ، فعدا عن تصدي مثل : كعب الأحبار ، الذي كان يقص في عهد معاوية بأمر منه (٢).

وكان عمر أيضا يستدعي من كعب الموعظة (٣) ، وهذا اصطلاح يقصد به القصص ، كما يظهر من كتاب : القصاص والمذكرين ، لابن الجوزي. وكان تبيع بن عامر ، وهو ابن زوجة كعب وربيبه يقص (٤).

نعم ، عدا عمن ذكرنا ، فقد كان أبو هريرة يقص ، وكذا الأسود بن سريع ، ومحمد بن كعب القرظي ، وقتادة ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وثابت البناني ، وعمر بن ذر ، وأبو وائل ، والحسن البصري ، وغيرهم (٥).

فراجع المؤلفات التي تعالج موضوع القصص ، والقصاصين ، ككتاب : القصاص والمذكرين ، وتلبيس إبليس ، وقوت القلوب ، وغير ذلك لتطلع على

__________________

(١) القصاص والمذكرين ص ٤٦ ـ ٤٧ وراجع : المعرفة والتاريخ ج ٢ ص ٣٣ والطبقات الكبرى ج ٥ ص ٤٤٥.

(٢) القصاص والمذكرين ص ٢٥ وراجع : ربيع الأبرار ص ٥٨٨ وتاريخ المدينة ج ١ ص ٨ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٣٦ عن أحمد ، وحسّن الهيثمي إسناده.

(٣) القصاص والمذكرين ص ٣٠.

(٤) تهذيب الكمال ج ٤ ص ٣١٤.

(٥) راجع : القصاص والمذكرين ص ٤٤ و ٤٥ و ٥٠ و ٥٨ و ٦٢ و ٣٢. وراجع :

المصنف للصنعاني ج ٣ ص ٢٢٠ والمعرفة والتاريخ ج ١ ص ٣٩١ ومسند أحمد ج ٣ ص ٤٥١ ومتمم طبقات ابن سعد ص ١٣٦.

١٤٠