حياة امام محمد الجواد عليه السلام

باقر شريف القرشي

حياة امام محمد الجواد عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٢

عاش الإمام أبو جعفر محمد الجواد عليه‌السلام معظم حياته في عهد المأمون ، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم .. ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ ، فزوّجه من ابنته أم الفضل ، ووفرّ له العطاء الجزيل ، وكان يحوطه ، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر ، ويضنّ به على المكروه ، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله ، وصلة الرحمة التي قطعها آباؤه ، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له ، وإنّما كان لدوافع سياسية ، نعرض لها في البحوث الآتية.

وعلى أيّ حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون ، والوقوف على اتجاهاته الفكرية والعقائدية ، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمام عليه‌السلام فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً في البحث عن حياة الإمام أبي جعفر عليه‌السلام ، وفيما يلي ذلك :

نزعات المأمون وصفاته :

من أبرز نزعات المأمون وصفاته ما يلي :

أ ـ الدهاء :

ولم تعرف الدبلوماسية الإسلامية في العصر العباسي من هو أذكى من المأمون ، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة فقد كان سياسياً من الطراز الأول ، فقد استطاع بحدّة ذكائه ، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث

٢٢١

الرهيبة التي ألمّت به ، وكادت تطوي حياته ، وتقضي على سلطانه ، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الأسرة العباسية ، والسلطات العسكرية ، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له ، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار ، وكان شعار تلك الثورة الدعوة ( إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فحمل الإمام الرضا عليه‌السلام إلى خراسان ، وكان عليه‌السلام زعيم الأسرة العلويّة وعميدها ، فأرغمه على قبول ولاية العهد ، وعهد إلى جمع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره ، كما ضرب السكّة باسمه ، فأوهم على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنه جادّ فيما فعله ، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمام عليه‌السلام على ولاية العهد ، وقضى بذلك على الثورة ، وطوى معالمها ، وهذا التخطيط من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ.

ب ـ القسوة :

وصفة أخرى من صفات المأمون البارزة ، هي القسوة ، وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه ، أمّا ما يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية ، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه.

كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضا عليه‌السلام بمنتهى الشدّة والقسوة ، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا.

ج ـ الغدر :

وظاهرة أخرى من نزعات المأمون وصفاته وهي الغدر ، فقد بايع للإمام الرضا عليه‌السلام بولاية العهد ، وبعد ما انتهت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه.

٢٢٢

د ـ ميله إلى اللهو :

أمّا الميل إلى اللهو فقد كان عنصراً من عناصر حياته ، فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه :

لعبه بالشطرنج :

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج (١) فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات :

أرض مربّعة حمراء من أدم

ما بين الفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلا لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة

في عسكرين بلا طبل ولا علم (٢)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج ، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه ، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج ، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته ، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا.

ولعه بالموسيقى :

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى ، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي ، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّيين في العالم العربي ، وقد قال فيه : ( كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان ) (٣).

__________________

١ ـ العقد الفريد : ج ٣ ص ٢٥٤.

٢ ـ المستطرف : ج ٢ ص ٣٠٦.

٣ ـ الحضارة العربية لجاك س. ريسلر : ص ١٠٨.

٢٢٣

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص ، والعزف على العود ، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته ، وهي تكشف عمّا كان يتمتّع به من القابليات الدبلوماسية ، كما كشفت عن ميوله ورغباته الخاصّة في اللهو والدعارة والمجون.

تظاهره بالتشيّع :

والشيء الذي يهمّنا هو البحث عن تظاهر المأمون بالتشيع ، حتى اعتقد الكثيرون من البحّاث أنّه من الشيعة؛ لأنّه قام بما يلي :

أ ـ ردّ فدك للعلويّين :

وردّ المأمون فدكاً للعلويّين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين ، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة أولئك الحكام ، وقد أنعش المأمون العلويّين ، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم ، ويعتبر كثيرون من البحّاث هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه ، ولمّا سجّل لهم فدكاً قام دعبل فأنشد أبياتاً أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

ب ـ تفضيل الإمام أمير المؤمنين على الصحابة :

وقام المأمون بأجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين رائد العدالة الاجتماعية في الأرض على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان الذئب الجاهلي.

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه ، فقد جرى

٢٢٤

سلفه على انتقاص الإمام ، والحط من شأنه ، وتقديم سائر الصحابة عليه.

ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا :

وثمّة أمر آخر استند إليه القائلون بتشيّعه وهو عقدّه لولاية العهد إلى الإمام الرضا عليه‌السلام وقد أخرج بذلك الخلافة من العباسيين إلى العلويين.

هذه أهمّ الأمور التي استند إليها القائلون بتشيّعه ، والذي نراه ـ بكثير من التأمّل ـ أنّ الرجل لم يكن من الشيعة ، ولم يكن يتعاطف معهم ، وإنّما صنع الأمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه ، ويدلّ على ذلك ما يلي :

أولاً : إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العباسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ أمه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً ، ومن صميم العباسيين ، أمّا أمّ المأمون فهي مراجل ، فكانت من إماء القصر العباسي ، وكان العباسيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار أمّه ، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع إرغام أسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء إلى آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعتهم.

ثانياً : إنّه أراد كشف الشيعة ، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا تحت الخفاء ، ولم تستطع الحكومات العباسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم ، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم ، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه.

ثالثاً : إنه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا ، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة.

هذه بعض الأسباب التي أدّت إلى تظاهر المأمون بالتشيّع ، والتزامه ببعض القضايا التي تذهب إليها الشيعة.

٢٢٥

مع الإمام الجواد :

والذي يهمّ القراء ـ فيما اعتقد ـ هو البحث عن علاقة الإمام أبي جعفر عليه‌السلام بالمأمون ومدى ارتباطه به ، وسائر شؤونه معه ، وفيما يلي ذلك :

أوّل التقاء :

وجرى أوّل التقاء بين الإمام أبي جعفر عليه‌السلام والمأمون في بغداد ، حينما كان المأمون خارجاً مع حاشيته في موكب إلى الصيد فاجتاز في الطريق على صبية فلما رأوه انهزموا خوفاً منه سوى الإمام الجواد ، فبصر به المأمون فوقف يسأله عن عدم فراره ، فأجابه عليه‌السلام بحكمة وتدبّر :

( ليس في الطريق ضيق حتى أوسعه لك ، وليس لم جرم فأخشاك منه ، والظنّ بك حسن إنّك لا تضرّ من لا ذنب له .. ).

وبُهر المأمون من هذا المنطق الفيّاض فراح يسأله :

ما اسمك؟

محمد.

ابن مَن؟

ابن علي الرضا.

ولم يستكثر عليه المأمون هذا الذكاء المفرط ، فهو من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومركز الوعي ، والإحساس في الأرض ، وترحّم المأمون على الإمام الرضا عليه‌السلام وانطلق في مسيرته نحو البيداء للصيد ، ولمّا انتهى إلى موضع الصيد أرسل بازيّاً كان معه فغاب عنه ، وبعد فترة عاد وفي منقاره سمكة صغيرة فيها بقايا الحياة ، فتعجّب المأمون وقفل راجعاً إلى بلاطه ، والتقى بالإمام الجواد عليه‌السلام ، وبادره المأمون قائلاً :

٢٢٦

( يا محمد ما في يدي؟ .. ).

فأجابه الإمام :

( إنّ الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكاً صغيراً تصيده بازات الملوك والخلفاء ، كي يختبروا بها سلالة بني المصطفى .. ).

ولم يملك المأمون إعجابه بالإمام فراح يقول :

( أنت ابن الرضا حقّاً!! ).

وأخذه معه ، وأحسن إليه ، وبالغ في إكرامه (١) وكان هذا الاجتماع أوّل التقاء بين الإمام والمأمون.

زواج الإمام من ابنة المأمون :

وأجمع المؤرّخون على أنّ المأمون قد رغب في زواج الإمام أبي جعفر عليه‌السلام من ابنته أمّ الفضل ، فهو الذي دعاه إلى هذه المصاهرة ، ومن الجدير بالذكر أنّها ثاني علاقة تكون بهذا المستوى بين الأسرتين العلوية والعباسية بعدما انهارت جميع أسس العلائق والقرابة التي كانت بينهما ، ولم يعدّ أي تقارب أو التقاء بين الأسرتين ، وكان ذلك منذ عصر الطاغية اللئيم المنصور الدوانيقي ، وجرى أبناؤه على ذلك فنكّلوا بالعلويّين كأفظع ما يكون التنكيل.

أسباب المصاهرة :

وذكر الرواة والمؤرّخون عدّة أسباب لإقدام المأمون على هذه المصاهرة وهذه بعضها :

١ ـ ما أدلى به نفس المأمون حينما عزم على أن يزوّج الإمام من ابنته فقال :

__________________

١ ـ نور الأبصار : ١٤٦ ، أخبار الدول : ١١٦ ، الإتحاف بحب الأشراف : ص ٦٤ بحر الأنساب : ج ٢ ص ١٩

( من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين ).

٢٢٧

( أحببت أن أكون جدّاً لامرأة ولده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ).

وفيما اعتقد أنّ هذا ليس هو السبب الحقيقي في هذه المصاهرة ، فإنّ المأمون لم يؤمن بقرارة نفسه في هذه الجهة ، ولو كان صادقاً فيما يقول لما اغتال الإمام الرضا عليه‌السلام وما أوعز إلى جهاز حكومته بمطاردة العلويّين وقتلهم.

٢ ـ إنّ الذي دعا المأمون إلى ذلك إعجابه بمواهب الإمام الجواد عليه‌السلام وعبقرياته التي أصبحت حديث الأندية والمجالس ، وهذا الرأي لم يحظ بأي تأييد علمي.

٣ ـ إنّه أراد التمويه على الرأي العام بإظهار براءته من اغتياله للإمام الرضا عليه‌السلام فإنّه لو كان قاتلاً له لما زوّج ابنه من ابنته.

٤ ـ إنّه حاول الوقوف على نشاط الإمام الجواد عليه‌السلام والإحاطة باتّجاهاته السياسية ، ومعرفة العناصر الموالية له ، والقائلة بإمامته ، وذلك من طريق ابنته التي ستكون زوجة له.

٥ ـ لعلّ من أهم الأسباب ، وأكثرها خطورة هو أنّ المأمون قد حاول من هذه المصاهرة جرّ الإمام إلى ميادين اللهو واللعب ليهدم بذلك صرح الإمامة الذي تدين به الشيعة ، والذي كان من أهمّ بنوده عصمة الإمام وامتناعه من اقتراف أي ذنب عمداً كان أو سهواً ، وكان من الطبيعي أن يفشل في ذلك فإنّ الإمام عليه‌السلام لم يتجاوب معه بأيّ شكل من الأشكال ، ولو كان في ذلك إزهاق نفسه ، أمّا ما يدلّ على ذلك كلّه فهو ما رواه ثقة الإسلام الكليني قال ما نصّه : ( احتال المأمون على أبي جعفر عليه‌السلام بكلّ حيلة (١) فلم يمكّنه فيه شيء ، فلمّا اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته (٢) دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر

__________________

١ ـ أراد أن ينادمه الإمام ، ويدخل معه ـ والعياذ بالله ـ في ميادين الدعارة.

٢ ـ يبني عليه ابنته : أي يزفّها إليه.

٢٢٨

يستقبلن أبا جعفر إذا قعد في موضع الأخيار ، فلم يلتفت إليهنّ ، وكان هناك رجل يقال له مخارق ، صاحب صوت وعود ، وضرب ، طويل اللحية فدعاه المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين إن كان شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر عليه‌السلام فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ، ويغنّي ، فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً ، ثمّ رفع إليه رأسه ، وقال : اتّق الله يا ذا العثنون (١) قال : فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ، فسأله المأمون عن حاله قال : لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أُفيق منها أبداً (٢).

وكشفت هذه الرواية عن محاولات المأمون لجرّ الإمام عليه‌السلام إلى ميادين اللهو ، فقد عرض له جميع ألوان المغريات ، وكان الإمام آنذاك في ريعان الشباب ، فاعتصم عليه‌السلام بطاقاته الروحية الهائلة ، وامتنع عمّا حرّمه الله عليه ، وقد أفسد عليه‌السلام بذلك مخطّطات المأمون الرامية إلى إبطال ما تذهب إليه الشيعة من عصمة أئمتهم ، وكانت هذه الجهة ـ فيما نحسب ـ هي السبب في إضفاء لقب التقي عليه لأنّه اتّقى الله في أشدّ الأدوار ، وأكثرها صعوبة ، فوقاه الله شرّ المأمون (٣).

فزع العبّاسيّين :

وفزع العباسيون كأشدّ ما يكون الفزع حينما علموا أنّ المأمون قد عزم على مصاهرة الإمام الجواد عليه‌السلام فعقدوا اجتماعاً حضره كبارهم وذوو الرأي والمشهورة منهم ، وعرضوا فيما بينهم خطورة الأمر ، وما قد ينتهي إليه من نقل الخلافة والملك

__________________

١ ـ العثنون : اللحية ، أو ما فضل منها بعد العارضين أو طولها.

٢ ـ أصول الكافي : ج ١ ص ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

٣ ـ البحار وغيره.

٢٢٩

من العباسيين إلى العلويين ، وبعد مداولة الحديث ، ومناقشة الأمر من جميع جهاته ، أجمع رأيهم على الاجتماع بالمأمون ، وإبداء المعارضة التامّة لما أقدم عليه.

اجتماع العباسيّين بالمأمون :

وهرع إلى البلاط العباسي الأدنون من المأمون من العباسيين ، وقد نخر الحزن قلوبهم وساد فيهم صمت رهيب ، وانبروا إلى المأمون فقالوا له :

( ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن تُخرج عنّا أمراً قد ملّكناه الله ، وتنزع منّا عزّاً ألبسناه ، فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون من تبعيدهم ، والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما علمت ، حتى كفانا الله المهمّ من ذلك ، فالله الله ، أن تردّنا إلى غم قد انحسر عنّا ، واصرف رأيك عن ابن الرضا ، واعدل إلى ما تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .. ).

ووضع العباسيون أمام المأمون النقاط الحسّاسة المثيرة للعواطف ، فقد نبّهوه بأحقاد آبائه وعدائهم للعلويّين ، وما صنعه بهم الخلفاء السابقون من تبعيدهم عن مراكز الحكم ، وما صبّوه عليهم من صنوف التنكيل والتعذيب وليس له أن يشذّ عن سنّة آبائه وسيرتهم فإنّه يشكّل بذلك خطراً على أسرته ، ولم يعن المأمون بذلك وراح يفنّد ما قالوه ، قائلاً :

( أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم ، وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم ، فقد كان به قاطعاً للرحم ، وأعوذ بالله من ذلك ، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا ، ولقد سألته أن يقوم بالأمر ، وأنزعه عن نفسي فأبى ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وأمّا أبو جعفر محمد بن

٢٣٠

علي قد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه ، والأعجوبة فيه بذلك ، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه ، فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه .. ).

وندّد المأمون بالعباسيين فهم الذين قطعوا أواصر الرحم والقربى بينهم وبين العلويين ، ولو أنصفوا نفوسهم ، ورجعوا إلى حوازب أفكارهم لرأوا أنّ العلويين أولى بمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومركزه منهم لأنّهم ذرّيته وأبناؤه ، ولأنّ هذا الدين قد بني بتضحياتهم وجهادهم ، وأمّا العباسيون قديماً وحديثاً فليست لهم أيّة خدمة للإسلام ولا للمسلمين ، وإنّما صنعوا ما أضرّ بالإسلام والمسلمين.

وعرض المأمون في حديثه إلى الإمام أبي جعفر عليه‌السلام فأبدى إعجابه البالغ به فهو الأعجوبة الكبرى الذي بزّ جميع أهل العلم والفضل ، وتفوّق عليهم مع صغر سنه.

وانبرى العباسيون فطلبوا منه أن يؤجّل زواج الإمام حتى يكبر ويتفقّه في الدين قائلين :

( إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنّه صبي لا معرفة له ، ولا فقه ، فأمهله ليتأدّب ، ويتفقّه في الدين ، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك .. ).

وردّ عليهم المأمون بما عرفه من واقع أهل البيت عليهم‌السلام قائلاً :

( ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم ، وإنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله ، ومواده وإلهامه ، لم يزل آباؤه أغنياءً في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم ما وصفت من حاله .. ).

إن المأمون لعلى بيّنة بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين آتاهم الله من العلم والحكمة ما لم يؤت أحداً من العالمين.

واتّفق المأمون مع العباسيين على امتحان الإمام الجواد عليه‌السلام لعلّه يعجز عن

٢٣١

الجواب فيفسد بذلك مصاهرته للمأمون بالإضافة إلى أنّهم سيتّخذون من ذلك وسيلة لبطلان ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره وأفضلهم وانبرى العباسيون قائلين :

( قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ، فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة فإنّ أصاب الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره ، وظهر للخاصّة والعامة سداد رأي أمير المؤمنين ، وإن عجز عن ذلك ، فقد كفينا الخطب في معناه .. ) (١).

وانصرف العباسيون ، وهم يفتّشون عن شخصيّة علمية تتمكنّ من امتحان الإمام وتعجيزه.

انتداب يحيى لامتحان الإمام :

وأجمع رأي العباسيّين على اختيار يحيى بن أكثم قاضي قضاة بغداد ، وأحد أعلام الفقه في ذلك العصر ، لامتحان الإمام أبي جعفر عليه‌السلام ، وعرضوا عليه الأمر ، ومنّوه بالأموال الطائلة إن امتحن الإمام وعجز عن جوابه ، فإنّ يحقّق لهم أعظم الانتصارات ، وأجابهم يحيى إلى ذلك ، وانصرف إلى منزله ، وراح يفتّش في كتب الفقه والحديث عن أعقد المسائل وأهمّها ليمتحن بها الإمام عليه‌السلام وانطلق العباسيّون إلى المأمون فعرّفوه باستجابة يحيى لهم ، وطلبوا منه تعيين يوم لامتحان الإمام ، فعيّن لهم يوماً خاصاً.

أسئلة يحيى :

ولمّا حضر اليوم المقرّر لامتحان الإمام عليه‌السلام هرع العباسيون إلى بلاط المأمون

__________________

١ ـ الإرشاد : ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

٢٣٢

وحضر الاجتماع أهل الفضل وأعلام الفكر وسائر طبقات الناس وكان يوماً مشهوداً ، وقد غصّت قاعة الاجتماع على سعتها بالناس ، وأمر المأمون أن يفرش للإمام أبي جعفر عليه‌السلام دست ، ويجعل له فيه مسورتان فصنع له ذلك ، وجلس فيه الإمام عليه‌السلام وكان له من العمر تسع سنين وأشهر ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وجلس المأمون في دست متّصل بدست الإمام عليه‌السلام.

واستحال الجمع إلى آذان صاغية ، وانبرى يحيى إلى المأمون فطلب منه أن يأذن له في امتحان الإمام فإذِن له في ذلك ، واتّجه يحيى صوب الإمام وقال له :

( أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ .. ).

وقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً :

( سل إن شئت .. ).

ووجّه يحيى مسألته إلى الإمام قائلاً :

( ما تقول جعلني الله فداك في مُحرم قتل صيداً؟ .. ).

وحلّل الإمام عليه‌السلام هذه المسألة إلى عدّة مسائل ، وشقّقها إلى مجموعة من الفروع وسأل يحيى أي فروع منها أراد قائلاً :

( قتله في حلّ أو حرم ، عالماً كان المحرم أم جاهلاً ، قتله عمداً أو خطأً ، حرّاً كان المحرم أم عبداً ، صغيراً كان أم كبيراً ، مبتدءاً بالقتل أم معيداً ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيره ، من صغار الصيد أم من كبارها ، مصرّاً كان أو نادماً ، في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً ، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً .. ).

وذهل يحيى ، وتحيّر ، وبان عليه العجز إذ لم يتصوّر هذه الفروع المترتّبة على مسألته ، وعلت في القاعة أصوات التكبير والتهليل ، فقد استبان للجميع أنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام هم معدن العلم والحكمة وإنّ الله منح كبارهم وصغارهم بما منح به أنبياءه

٢٣٣

من الكمال والعلم.

لقد شقّق الإمام عليه‌السلام هذه المسألة إلى هذه الفروع وإن كان بعضها لا يختلف فيه الحكم كما إذا كان القتل للصيد في الليل أم في النهار فإنّ الحكم فيهما واحد ، وإنّما ذكر الإمام عليه‌السلام ذلك لتبكيت الخصم الذي سأل الإمام للامتحان لا للفهم.

وعلى أي حال فإنّ المأمون لما رأى العجز قد استبان على يحيى فلم يطق جواباً أقبل على بني العباس فقال لهم :

( الحمد لله على هذه النعمة ، والتوفيق لي في الرأي .. أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه .. ) (١).

واستبان لبني العباس فضل الإمام ، وإنّه من عمالقة الفكر والعلم في الإسلام.

كما ظهر لهم صحّة ما قاله المأمون : إنّهم لا يعرفون أهل البيت عليهم‌السلام.

مع ابن تيميّة :

وأنكر ابن تيميّة هذه الرواية ، واعتبرها من الموضوعات ـ بغير أدب في التعبير ـ فقد علّق عليها بما نصّه :

( إنّ هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلاّ الجاهل ، ويحيى بن أكثم أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيداً ، فإن صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة ، فليست من دقائق العلم وغرائبه ، ولا ما يختصّ به المبرّزون في العلم ، ثمّ مجرّد ما ذكره ليس فيه إلاّ تقسيم أحوال القاتل ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام ، ومجرّد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام الأقسام ، وإنّما يدلّ إن دلّ على حسن السؤال ، وليس كلّ من

__________________

١ ـ الإرشاد : ص ٣٦١. الوسائل : ج ٩ ص ١٨٧.

٢٣٤

سُئل أحسن أن يجيب.

ثمّ إن كان ذكر الأقسام الممكنة واجباً فلِمَ يستوف الأقسام ، وإن لم يكن واجباً فلا حاجة إلى ذكر بعضها ، فإنّ من جملة الأقسام أن يقال : متعمّداً كان أو مخطئاً ، وهذا التقسيم أحقّ بالذكر من قوله : عالماً كان أو جاهلاً ، فإنّ الفرق بين المتعمّد والمخطئ ثابت بالإثم باتّفاق الناس ، وفي لزوم الجزاء في الخطأ نزاع مشهور ، فقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنّ المخطئ لا جزاء عليه ، وهو أحد الروايتين عن أحمد ، قالوا : إنّ الله قال : ( ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النعم ) فخصّ المتعمّد بوجوب الجزاء ، وهذا يقتضي أنّ المخطئ لا جزاء عليه ، لأنّ الأصل براءة ذمّته ، والنصّ إنّما وجب على المتعمّد ، فبقي المخطئ على الأصل ، ولأنّ تخصيص الحكم بالمتعمّد يقتضي انتفاءه عن المخطئ فإنّ هذا مفهوم صفة في سياق الشرط ، وقد ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فإنّه إذا كان الحكم يعمّ النوعين كان قوله : ( وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُتَعَمِّداً ) فزاد اللفظ ، ونقص المعنى ، وكان هذا ممّا يصان عنه كلام أدنى الناس حكمة فكيف كلام الله الذي هو خير الكلام وأفضله ، وفضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، والجمهور القائلون : بوجوب الجزاء على المخطئ يثبتون ذلك بعموم السنّة والآثار ، وبالقياس على قتل الخطأ في الآدمي ، ويقولون : إنّما خصّ المتعمّد بالذكر لأنّه ذكر من الأحكام ما يخصّ به المتعمّد وهو الوعيد لقوله : ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) فلمّا ذكر الجزاء والانتقام كان المجموع مختصاً بالمتعمّد ولم يلزم أن يثبت بعضه مع عدم العمد ، ومثل هذا قوله : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خَفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) فإنّه أراد بالقصر قصر العدد وقصر الأركان ، وهذا القصر الجامع للنوعين متعلّق بالسفر والخوف ، ولا يلزم من الاختصاص بمجموع

٢٣٥

الأمرين أن لا يثبت أحدهما مع أحد الأمرين ، ولهذا نظائر ، ولذلك كان ينبغي أن يسأله أقتله وهو ذاكر لإحرامه ، أو ناس ، فإنّ في الناسي نزاعاً أعظم ممّا في الجاهل ، ويسأل هل قتله لكونه صال عليه ، أو لكونه اضطر إلى مخمصة أو قتله عبثاً ظلماً بلا سبب ، وأيضاً فإنّ في هذه التقاسيم ما يبيّن جهل السائل ، وقد نزّه الله من يكون إماماً معصوماً عن هذا الجهل ، وهو قوله : ( أفي حلّ قتل أم في حرم ) فإنّ المحرم إذا قتل الصيد وجب عليه الجزاء سواءً كان في الحلّ أم في الحرم فاتّفاق المسلمين ، والصيد الحرمي يحرم قتله على المحلّ والمحرم ، فإذا كان محرماً وقتل صيداً حرمياً توكّدت الحرمة ولكن الجزاء واحد.

وأمّا قوله : ( مبتدئاً أو عائداً ) فإنّ هذا فرق ضعيف لم يذهب إليه إنسان من أهل العلم ، وأمّا الجماهير فعلى أنّ الجزاء يجب على المبتدئ وعلى العائد وقوله في القرآن : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) قيل : إنّ المراد من عاد إلى ذلك في الإسلام بعدما عفا الله عنه في الجاهلية ، وقيل : نزول هذه الآية كما قال : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) وقوله : ( وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ ) وقوله : ( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَا قَدْ سَلَفَ ) يدلّ على ذلك ، إنّه لو كان المراد غفر الله في أوّل مرّة لما أوجب عليه جزاءً ، ولا انتقم منه وقد أوجب عليه الجزاء أوّل مرة.

وقال : ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) فمن أذاقه الله وبال أمره كيف يكون قد عفي عنه ، وأيضاً قوله : ( عمّا سلف ) لفظ عامّ واللفظ العامّ المجرّد عن قرائن التخصيص لا يراد مرّة واحدة ، فإنّ هذا ليس من لغة العرب ، ولو قدر أنّ المراد بالآية عفا الله عن أوّل مرّة ، وإنّ قوله : ( ومن عاد ) يراد به العود إلى القتل فإنّ انتقام الله منه إذا عاد لا يسقط الجزاء عنه فإنّ تغليظ الذنب لا يسقط الواجب كمن قتل نفساً بعد نفس لا

٢٣٦

يسقط عنه قود ولا ديّة ولا كفّارة .. ) (١).

وحفل كلام ابن تيميّة بالمغالطات التي هي أبعد ما تكون عن الحقّ وألصق ما تكون بالباطل ، والتي كان منها ما يلي :

أولاً : إنّه برّأ يحيى ونزّهه من الإقدام على امتحان الإمام عليه‌السلام فهو ـ على حد تعبيره ـ أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص ، والذي نراه ـ حسب التحقيق العلمي ـ أنّه لا مانع من إقدام يحيى على ذلك بعد ما طلب منه العباسيون ، ومنّوه بالأموال ، وقد كان القضاء في العصر العباسي أداة بيد السلطة ، فكانوا يسايرون رغبة الخلفاء ويقضون ويفتون على حسب ميولهم ، وكان ممّا رواه المؤرّخون في ذلك ، إنّ هارون الرشيد قد شغف بجارية لأبيه المهدي ، كان قد دخل بها فامتنعت عليه ، وقالت له : ( لا أصلح لك إنّ أباك قد طاف بي .. ).

فلم يمتنع عنها وازداد شغفه وغرامه بها ، فأرسل خلف القاضي أبي يوسف فقال له : ( أعندك شيء في هذا .. ).

فأفتى أبو يوسف بما وافق هوى هارون وخالف كتاب الله وسنّة نبيّه قائلاً : ( يا أمير المؤمنين أوَ كلمّا ادّعت أمَة شيئاً ينبغي أن تصدّق لا تصدّقها ، فإنّها ليست بمأمونة .. ).

وقد خالف بفتواه ما حكم به الإسلام صراحة من أنّ النساء مصدقات على فروجهن ، وعلّق ابن المبارك على هذه الفتوى بقوله :

( لم أدرِ ممّن أعجب من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم لا يتحرّج عن حرمة أبيه ، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ، أو

__________________

١ ـ منهاج السنّة : ج ٢ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

٢٣٧

من هذا فقيه الأرض وقاضيها!! قال : اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك ، وصيّره في رقبتي .. ) (١).

وهناك فتاوى كثيرة لأبي يوسف شذّت عن القواعد الفقهيّة ، واتّفقت مع رغبات السلطة الحاكمة .. إنّ القضاء لم يكن مستقلاً في العصر العباسي وإنما كان خاضعاً لرغبات الخليفة وميوله.

ثانياً : إن هذه المسألة التي سأل يحيى عنها الإمام عليه‌السلام ليست من المسائل البسيطة ـ كما يقول ابن تيميّة ـ وإنّما هي من دقائق علم الفقه باعتبار ما يتفرّع عليها من الفروع وما يتشعّب عليها من المسائل ، وأكبر الظنّ أن يحيى إنّما سأل الإمام عنها باعتبار ذلك إذ ليس من السذاجة ، وعدم الدراية بشؤون الفقه حتى يسأل الإمام عن مسألة بسيطة.

ثالثاً : إنّ ابن تيمية ذكر أن الإمام عليه‌السلام لم يعرض إلى بيان حكم هذه الأقسام التي فرّعها على المسألة ، وهذا يدلّ على عدم تتبّعه ، ونظرته للأمور بصورة سطحية فإنّ الإمام عليه‌السلام قد تعرض بالتفصيل لأحكام هذه الأقسام ـ كما سيأتي ـ .

رابعاً : أنكر ابن تيميّة أن يكون الإمام عليه‌السلام عالماً بأحكام هذه الأقسام فقد قال : ( ومجرّد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام هذه الأقسام ) إنّ الإمام الذي استمدّ علومه من آبائه العظام الذين هم ورثة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرض بصورة شاملة لبيان أحكام الأقسام ، ولكن ابن تيميّة قد وضع حجاباً على عينيه فلم يبصر ما ذكره الإمام عليه‌السلام.

خامساً : ذكر ابن تيمية أنّ ذكر الأقسام الممكنة إن كان واجباً فلم يستوفِ

__________________

١ ـ حياة الإمام موسى بن جعفر : ج ٢ ص ٤٤.

٢٣٨

ـ أي الإمام ـ الأقسام ، وإن لم يكن واجباً فلا حاجة إلى ذكر بعضها ، إنّي لا أعرف كلاماً حافلاً بالمغالطات مثل هذا الكلام إذ أي علاقة أو ربط بين الحكم التكليفي الإلزامي وهو الوجوب وبين ذكر الأقسام التي أدلى بها الإمام ، لقد فرّع الإمام على سؤال يحيى تلك الفروع ومن الطبيعي أنّ ذكرها غير مرتبط أصلاً بأي حكم من الأحكام.

سادساً : من مؤاخذات ابن تيمية على كلام الإمام أنّه لم يذكر المتعمّد والمخطئ ، وهو أحقّ بالذكر من غيره ، وهذا من الغرابة بمكان لقد أدلى الإمام عليه‌السلام بذلك ، ولم يهمله ، ولكن ابن تيمية قد أخفاه للتشهير بالإمام ، والنيل منه.

سابعاً : من مؤاخذات ابن تيمية على الإمام عليه‌السلام إنّه لم يستوفِ ذكر الأقسام ، وقد عدّ ابن تيميّة جملة منها ، وهذا من المغالطات لأنّ الإمام عليه‌السلام ليس في مقام بيان استيعاب جميع صور المسألة حتى يشكل عليه بذلك ، وإنّما ذكر بعض صورها لإفحام يحيى.

هذه بعض المؤاخذات التي تواجه كلام ابن تيمية الذي خلا من كلّ صيغة علمية ..

ولنعد بعد هذا إلى ما جرى للإمام عليه‌السلام بعد فشل يحيى في مسألته.

خطبة العقد :

وبعد ما أفحم يحيى بن أكثم ، وظهر عليه العجز ، وبان لحضّار الحفل فضل الإمام أبي جعفرعليه‌السلام وتقدّمه في العلم على غيره ـ مع صغر سنّه ـ التفت إليه المأمون فقال له:

( أتخطب يا أبا جعفر؟ .. ).

وأظهر الإمام عليه‌السلام الرضا بذلك ، فأسرع المأمون قائلاً :

( اخطب ـ جعلت فداك ـ لنفسك فقد رضيتك ، وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي ،

٢٣٩

وإن رغم قوم لذلك .. ).

وانبرى الإمام فأنشأ خطبة العقد قائلاً :

( الحمد لله إقراراً بنعمته ، ولا إله إلا الله إخلاصاً لوحدانيته ، وصلى الله على سيد بريته ، والأصفياء من عترته ، أما بعد : فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنم الله من فضله والله واسع عليم ).

ثمّ إنّ محمد بن علي بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبد الله المأمون وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسمائة درهم جياداً فهل زوّجتني يا أمير المؤمنين على هذا الصداق؟ .. ).

وانبرى المأمون بحسب وكالته عن ابنته أو ولايته عليها فيما إذا كانت صغيرة ، فقال : ( نعم قد زوجتك يا أبا جعفر على هذا الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح؟ ).

قال الإمام عليه‌السلام : قد قبلت ذلك ورضيت به (١) وأمر المأمون الناس على اختلاف مراتبهم بالجلوس وعدم التفرّق من المجلس ، قال الريّان : ولم نلبث أن سمعنا أصوات الملاحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرّون سفينة قد صنعت من الفضّة قد شدّت بحبال من الإبريسم ، وهي مملوءة من الغالية ، فأمر المأمون ـ أولاً ـ بأن تخضّب لحاء الخاصة ، وبعدهم العامة وتطيّب الجميع ، ثمّ وضعت الموائد فأكل الناس منها (٢).

__________________

١ ـ الإرشاد : ص ٣٦١ ـ ٣٦٢. وسائل الشيعة : ج ٩ ص ١١٥.

٢ ـ الإرشاد : ص ٣٦٢.

٢٤٠