حياة امام محمد الجواد عليه السلام

باقر شريف القرشي

حياة امام محمد الجواد عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٢

تسعمائة شيخ كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمد (١) ومن أهم الأسر العلمية التي درست في ذلك الجامع هي آل حيّان التغلبي وآل أعين ، وبنو عطيّة وبيت بني دارج وغيرهم (٢).

ولم يكن الفقه وحده هو السائد في مدرسة الكوفة ، وإنّما كان النحو سائداً أيضاً ، فقد أنشأت في الكوفة مدرسة النحويين ، وكان من أعلامها البارزين : الكسائي الذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنيه الأمين والمأمون ، ومن الجدير بالذكر أنّ هذا العلم الذي يصون اللسان عن الخطأ قد اخترعه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو الذي وضع قواعده وأصوله.

٣ ـ البصرة :

أما البصرة فقد كانت مركزاً مهمّاً لعلم النحو ، وكان أوّل من وضع أساس مدرسة البصرة أبو الأسود الدوئلي تلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكانت هذه المؤسسة تنافس مدرسة الكوفة ، وقد سُمّي نُحّاة البصرة ( أهل المنطق ) تمييزاً عن نُحّاة الكوفة وكان من أعلام هذه الصناعة سيبويه الفارسي ، وهو صاحب كتاب سيبويه ، الذي هو من أنضج الكتب العربية وأكثرها عمقاً وأصالة يقول دي بور : فلو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه عملاً ناضجاً ، ومجهوداً عظيماً ، حتى أنّ المتأخّرين قالوا : إنّه لابدّ أن يكون ثمرة جهود متضافرة لكثير من العلماء ، مثل قانون ابن سيناء (٣).

وكما كانت البصرة ميداناً لعلم النحو كذلك كانت مدرسة لعلم التفسير الذي كان من علمائه البارزين أبو عمرو بن العلاء ، وكانت مدرسة أيضاً لعلم العروض

____________

١ ـ حياة الإمام موسى بن جعفر : ج ١ ص ٨٢.

٢ ـ تاريخ الإسلام : ج ٢ ص ٣٣٨.

٣ ـ تاريخ الفلسفة في الإسلام : ص ٣٩.

١٨١

الذي وضع أصوله الخليل بن أحمد صاحب كتاب ( العين ) الذي هو أول معجم وضع في اللغة العربية.

٤ ـ بغداد :

أمّا بغداد فقد ازدهرت بالحركات العلمية والثقافية ، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من العلم ، ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الإسلامية ، وإنّما شملت جميع أنواع العلوم من العقلية والنقلية ، وكذا سائر الفنون ، وقد أصبحت أعظم حاضرة علمية في ذلك العصر ، وقد توافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا يقول لغوستان لوبون : كان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملِل والنِحل من يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد ، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا ، قال أبو الفرج : عن المأمون انّه كان يخلو بالحكماء ، ويأنس بمناظرتهم ، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده (١) هذه بعض المراكز الثقافية في ذلك العصر.

العلوم السائدة :

وكان من العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها ، هي :

١ ـ علوم القرآن :

أمّا علوم القرآن الكريم ، فمن بينها ما يلي :

أ ـ علم القراءات :

ويعني هذا العلم بالبحث عن قراءة القرآن وقد وجدت سبع طُرق في

__________________

١ ـ حضارة العرب : ص ٢١٨.

١٨٢

القراءات ، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ ، ومن أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة ( ١٤٥ هـ ) وحمزة بن حبيب الزيات المتوفّى سنة ( ١٥٦ هـ ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفى سنة ( ٢١٣ هـ ) وخلف بن هشام البزار المتوفى سنة ( ٢٢٩ هـ ) (١).

ب ـ التفسير :

ويُراد به إيضاح الكتاب العزيز وبيان معناه ، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره إلى اتجاهين.

الأول : التفسير بالمأثور ، ونعني به تفسير القرآن بما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة الهُدى وهذا ما سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي ، والعسكري والبرهان ، وحجّتهم في ذلك إنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه ، وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام بقوله : ( ما يستطيع أحد أن يدّعي إنّ عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء (٢) وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن يقول الشيخ الطوسي :

( إنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمة الذين قولهم حجة كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. ) (٣).

الثاني : التفسير بالرأي ، ويُراد به الأخذ بالاعتبارات العقلية الراجعة إلى الاستحسان وقد ذهب إلى ذلك المفسرون من المعتزلة ، والباطنية فلم يعنوا بما أثر عن أئمّة الهدى في تفسير القرآن الكريم ، وإنّما استندوا في تفسيره إلى ما يرونه من

__________________

١ ـ المعارف : ص ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، الفهرست : ص ٤٢ ـ ٤٥.

٢ ـ التبيان : ج ١ ص ٤.

٣ ـ حياة الإمام محمد الباقر : ج ١ ص ١٨١.

١٨٣

الاستحسانات العقلية (١).

وعلى أي حال فإنّ أوّل مدرسة للتفسير بالمأثور كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو أوّل مفسّر للقرآن الكريم وعنه أخذ عبد الله بن عباس وغيره ، من أعلام الصحابة ، وكذلك اهتم به اهتماماً بالغاً الأئمة الطاهرون ، فتناولت الكثير من محاضراتهم تفسير القرآن ، وأسباب نزول آياته وفضل قراءته.

٢ ـ الحديث :

ومن العلوم السائدة دراستها في ذلك العصر ( الحديث ) الذي هو من أهمّ مصادر التشريع الإسلامي ، ونعني به ما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أحد أوصيائه الأئمة الطاهرين ، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة.

وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث ، فقد حثّ الأئمة الطيّبون أصحابهم على ذلك ، فقد روى أبو بصير قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : ( ما يمنعكم من الكتابة ، إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا ، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألوا عن أشياء فكتبوها ) وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضا عليه‌السلام إلى جميع الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة ، وهي الجوامع الأولى للإمامية والتي تعدّ الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة (٢).

٣ ـ الفقه :

ومن أميز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم الفقه الذي يناط به معرفة التكاليف اللازمة على المكلّفين وعليهم المسؤولية عند الله في امتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم ، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة

__________________

١ ـ حياة الإمام محمد الباقر : ج ١ ص ١٨١.

٢ ـ مقدمة المقنع والهداية : ص ١٠.

١٨٤

علم الفقه أكثر من سائر العلوم ، وقد قام أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بدور فعال في إنشاء مدرستهم الفقهية التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال زرارة ، ومحمد بن مسلم ، وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء ، وقد دوّنوا ما سمعوه من الأئمة الطاهرين في أصولهم التي بلغت زهاء أربعمائة أصل ، ثمّ هذّبت ، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم للأحكام الشرعية.

ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على الشيعة ، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية.

٤ ـ علم الأصول :

وأسّس هذا العلم الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام حسبما حقّقناه عند البحث عن حياته ، وهذا العلم ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد والاستنباط ، وكان موضع دراسة في ذلك العصر.

٥ ـ علم النحو :

وهو من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي ، فقد كانت بحوثه موضع جدل ، وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء هذا الفنّ ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم الكسائي والفراء وسيبويه ، وقد أسس هذا العلم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام رائد العلم والحكمة في الأرض.

٦ ـ علم الكلام :

من العلوم التي انتشرت في ذلك العصر علم الكلام ، ويقصد به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلمية ، وقد أسس هذا الفنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وتخصّص به جماعة من تلاميذهم ، يعدّ في طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم ، ومن أشهر

١٨٥

المتكلّمين عند أهل السنّة واصل بن عطاء ، وأبو الهذيل العلاف ، وأبو الحسن الأشعري والغزالي.

٧ ـ علوم الطب :

وانتشر علم الطب في ذلك العصر ، وقد شجّع ملوك بني العباس على دراسته ، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني.

٨ ـ الكيمياء :

ومن العلوم التي نالت الاهتمام في ذلك العصر هو علم الكيمياء ، وقد تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي ، وقد تلقّى بحوثه من الإمام الصادق الدماغ المفكّر في الإنسانية فهو الذي أسّس هذا العلم.

٩ ـ الهندسة المعمارية والمدنية :

١٠ ـ الفلك :

هذه بعض العلوم المنتشرة والسائدة في عصر الإمام الجواد عليه‌السلام وقد ألّفت فيها مئات الكتب ممّا فقد أو هو مخطوط في خزائن المكتبات في العالم.

ترجمة الكتب :

وكان من مظاهر تطور الحياة الثقافية في ذلك العصر الإقبال على ترجمة الكتب من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية ، وقد تناولت كتب الطب ، والرياضة ، والفلك ، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة ، ذكر أسماء كثير منها : ابن النديم في الفهرست ، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن إسحاق ، وقد روى ابن النديم أنّ ( المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات ، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في

١٨٦

إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد امتناع ، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم ، فأخذوا ممّا وجدوا ، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل .. ) (١).

وقد ساعدت تلك الكتب المترجمة على نمو الفكر العربي ، وساهمت في تطور العلوم في البلاد الإسلامية فقد اشتغل الكثيرون من المسلمين في تفسيرها إلى الناشئة العلمية.

المعاهد والمكتبات

وأنشأت الحكومة العباسية في بغداد المدارس والمعاهد لتدريس العلوم الإسلامية وغيرها ، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة ، وما فيها من مدرسة إلاّ ويقصر القصر البديع عنها ، وأعظمها وأشهرها النظامية (٢).

كما أسّست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة ، فقد نقل إليها الرشيد مكتبته الخاصة ، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي ، وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية ، فلمّا وصلت إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة ، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب ، وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها ، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على بغداد سنة ( ٦٥٦ هـ ) عمد إلى إتلافها ، وبذلك فقد خسر العالم الإسلامي أعظم تراث له.

__________________

١ ـ الفهرست : ص ٣٣٩.

٢ ـ رحلة ابن جبير : ص ٢٠٨.

١٨٧

الخرائط والمراصد :

وكان من مظاهر ألوان التقدم الثقافي والحضاري في ذلك العصر أنّ المأمون أمر بوضع خريطة للعالم سُمّيت ( الصورة المأمونية ) وهي أول خريطة صُنعت للعالم في العصر العباسي ، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فأنشأ بالشماسية وهي إحدى محلاّت بغداد (١).

ففي هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجواد عليه‌السلام الرائد الأعلى للحركة الثقافية ، فقد التفّ حوله العلماء أثناء إقامته في بغداد وهم ينتهلون من نمير علومه ، وقد سألوه عن أدق المسائل الفلسفية والكلامية فأجابهم عنها حسب ما ذكرناه في البحوث المتقدمة.

الحياة السياسية :

أمّا الحياة السياسية في عصر الإمام أبي جعفر عليه‌السلام فقد كانت بشعة وحرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت لعموم المسلمين وذلك لما فيها من الأحداث الجسام ، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات ، وقبل أن نتحدّث عنها نرى من اللازم ان نعرض لمنهج الحكم في العصر العباسي وغيره ممّا يتصل بالموضوع وفيما يلي ذلك :

منهج الحكم :

أمّا منهج الحكم في العصر العباسي فإنّه كان على غرار الحكم الأموي ، لم يتغير ولم يتبدل ، وقد وصفه ( نكلسون ) بأنّه نظام استبدادي ، وانّ العباسيين حكموا

__________________

١ ـ عصر المأمون : ج ١ ص ٣٧٥.

١٨٨

البلد حكماً مطلقاً على النحو الذي كان يحكم به ملوك آل ساسان قبلهم (١).

لقد كان الحكم خاضعاً لرغبات ملوك العباسيين وأمرائهم ، ولم يكن له أي التقاء مع القانون الإسلامي ، فقد شذّت تصرّفاتهم الإدارية والاقتصادية والسياسية عمّا قنّنه الإسلام في هذه المجالات.

لقد استبدّ ملوك بني العباس بشؤون المسلمين وأقاموا فيهم حكماً إرهابياً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وهو بعيد كلّ البعد عمّا شرّعه الإسلام من الأنظمة الخلاّقة الهادفة إلى بسط العدل ، ونشر المساواة ، والحق بين الناس.

الخلافة والوراثة :

ولم تخضع الخلافة الإسلامية حسب قيمها الأصيلة إلى أي قانون من قوانين الوراثة ولا لأي لون من ألوان المحاباة أو الاندفاع وراء الأهواء والعواطف ، فقد حارب الإسلام جميع هذه المظاهر واعتبرها من ألوان الانحطاط والتأخر الفكري للمسلمين ، وأناط الخلافة بالقيم الكريمة ، والمُثل العُليا ، والقدرة على إدارة شؤون الأمة ، فمن يتصف بها فهو المرشّح لهذا المنصب الخطير الذي تدور عليه سلامة الأمّة وسعادتها.

أما الشيعة فإنّما خصّت الخلافة بالأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم‌السلام لا لقرابتهم من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّهم ألصق الناس به وأقربهم إليه ، وإنّما لمواهبهم وعبقرياتهم ، وما اتصفوا به من الفضائل التي لم يتصف بها أحد غيرهم.

وأمّا الذين طبّلوا بالوراثة فهم العباسيّون ، فاعتبروها القاعدة الصلبة لاستحقاقهم للخلافة لأنّهم أبناء عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بذلوا الأموال الطائلة لأجهزة

__________________

١ ـ اتّجاهات الشعر العربي : ص ٤٩.

١٨٩

الإعلام لنشر ذلك وإذاعته بين الناس.

وقد هبّت إلى الأوساط العباسي المرتزقة تتقرّب بانتقاص العلويين وتشهد بأنّ ذئاب بني العباس هم أولى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السادة الأطهار من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويقول الرواة : إنّ أبان بن عبد الحميد كان مُبعداً عن العباسيين لولائه لأهل البيت عليهم‌السلام فخفّ إلى البرامكة وطلب منهم أن يوصلوه إلى الرشيد فأشاروا عليه انّه لا سبيل إلى ذلك إلاّ أن يعرض في شِعره أنّ بني العباس هم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولى بالخلافة من العلويين فأجابهم إلى ذلك ونظم قصيدة جاء فيها :

نشدت بحقّ الله من كان مسلما

أعم بما قد قلته : العجم والعرب

أعمّ رسول الله أقرب زلفة

لديه أم ابن العم في رتبة النسب

وأيّهما أوله وبعهده

ومن ذا له حق التراث بما وجب

فإن كان عباس أحق بنسلكم

وكان على بعد ذاك على سبب

فأبناء عباس هم يرثونه

كما العم لابن العم في الإرث حجب

ولمّا قرأ قصيدته على الرشيد ملئت نفسه إعجاباً فمنحه الرضا ومنحه الأموال الطائلة.

تصرّفات شاذّة :

ولمّا التزم العباسيّون بقانون الوراثة ، قاموا بتصرفات شاذّة ونابية ومعادية لمصلحة الأمة وكان من بينها :

١ ـ إسناد الخلافة إلى الذين لم يبلغوا سن الرشد ، فقد عهد الرشيد بالخلافة إلى ابنه الأمين ، وكان له من العمر خمس سنين ، وإلى ابنه المأمون وكان عمره ثلاث عشر سنة.

وقد انحرف بذلك عمّا قرّره الإسلام من أنّ منصب الخلافة إنّما يُسند إلى من

١٩٠

كان يتمتع بالحكمة والتجارب ، وممارسة الشؤون الاجتماعية والدراية التامة بما تحتاج إليه الأمّة في جميع مجالاتها ، وليس من سبيل لإسنادها للأطفال والصبيان.

٢ ـ إسناد ولاية العهد لأكثر من واحد فإنّ في ذلك تمزيقاً لشمل الأمّة وتصديعاً لوحدتها وقد شذّ الرشيد عن ذلك فقد أسند الخلافة من بعده إلى الأمين والمأمون ، وقد ألقى الصراع بينهما ، وعرّض الأمة إلى الأزمات الحادة ، والفتن الخطيرة ، وسنعرض لها في البحوث الآتية.

الوزارة :

من الأجهزة الحساسة في الدولة العباسية هي الوزارة ، فكانت ـ على الأكثر ـ وزارة تفويض ، فكان الخليفة يعهد إلى الوزير بالتصرف في جميع شؤون دولته ويتفرغ هو للّهو والعبث والمجون ، فقد استوزر المهدي العباسي يعقوب بن داود ، وفوّض إليه جميع شؤون رعيّته وانصرف إلى ملذّاته ، وفيه يقول الشاعر :

بني أميّة هبّوا طال نومكم

إنّ الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم

فالتمسوا خليفة الله بين الناي والعود

استوزر الرشيد يحيى بن خالد البرمكي ومنحه جميع الصلاحيات واتجه نحو ملاذّه وشهواته فكانت لياليه الحمراء في بغداد شاهدة على ذلك.

وتصرّف يحيى في شؤون الدولة الواسعة الأطراف حسب رغباته ، فقد أنفق الأموال الطائلة على الشعراء المادحين له ، واتخذ من العمارات والضِياع التي كانت وارادتها تدرّ عليه بالملايين ، وهي التي سببت قيام هارون الرشيد باعتقاله ، وقتل ابنه جعفر ومصادرة جميع أموالهم.

وفي عهد المأمون أطلق يد وزيره الفضل بن سهل في أمور الدولة فتصرّف فيها حيثما شاء ، وكان الوزير يكتسب الثراء الفاحش بما يقترفه من النهب والرشوات ،

١٩١

وقد عانت الأمة من ضروب المحن والبلاء في عهدهم بما لا يوصف فكانوا الأداة الضاربة للشعب ، فقد استخدمتهم الملوك لنهب ثروات الناس وإذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون.

وكان الوزراء معرّضين للسخط والانتقام وذلك لما يقترفونه من الظلم والجور ، وقد نصح دعبل الخزاعي الفضل بن مروان أحد وزراء العباسيين فأوصاه بإسداء المعروف والإحسان إلى الناس ، وقد ضرب له مثلاً بثلاثة وزراء ممّن شاركوه في الاسم وسبقوه إلى كرسي الحكم ، وهم الفضل بن يحيى ، والفضل بن الربيع ، والفضل بن سهل ، فإنّهم لمّا جاروا في الحكم تعرّضوا إلى النقمة والسخط ، يقول دعبل :

ألاّ أنّ في الفضل بن سهل لعِبرة

إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل

وفي ابن البيع الفضل للفضل زاجر

إن ازدجر الفضل بن مروان بالفضل

وللفضل في الفضل بن يحيى مواعظ

إن اتعظ الفضل بن مروان بالفضل

إذا ذكروا يوماً وقد صرت رابعاً

ذكرت بقدر السعي منك إلى الفضل

فابق جميلاً من حديث تفز به

ولا تدع الإحسان والأخذ بالفضل

ولم أرَ أبياتاً من الشعر قبلها

جميع قوافيها على الفضل والفضل

وليس لها عيب إذا هي أنشدت

سوى أنّ نصحي الفضل كان من الفضل

ومن غرائب ما اقترفه الوزراء من الخيانة أنّ الخاقاني وزير المقتدر بالله العباسي ولِّيَ في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كلّ واحدة رشوة (١) وكثير من أمثال هذه الفضائح والمنكرات عند بعض وزراء العباسيين.

__________________

١ ـ تاريخ التمدّن الإسلامي : ج ٤ ص ١٨٢.

١٩٢

الفتنة بين الأمين والمأمون :

لعلّ من أبرز الأحداث السياسية التي جرت في عصر الإمام محمد الجواد عليه‌السلام هي الفتنة الكبرى التي وقعت بين الأمين والمأمون ، وأدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما ، وقد كلّفت المسلمين ثمناً باهضاً وذلك بما بذلوه من الدماء وإزهاق الأنفُس في سبيل استقرار المُلك والسلطان لأحدهما وقبل أن نعرض إلى ذكر هذه الأحداث نُشير ـ بإيجاز ـ إلى بعض شؤون الأمين وأحواله :

صفات الأمين :

ولم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام ، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأية نزعة شريفة ، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته.

١ ـ كراهته للعلم :

كان الأمين ينفر من العلم ، ويحتقر العلماء ، وكان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب (١) وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية.

٢ ـ ضعف الرأي :

وكان الأمين ضعيف الرأي ، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته ، وقد وصفه المسعودي بقوله : ( كان قبيح السيرة ضعيف الرأي يركب هواه ، ويهمل أمره ، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره ، ويثق بمن لا ينصحه ) (٢) ووصفه الكتبي بقوله : ( وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه ، ولم ينظر في شيء من عقباه.

__________________

١ ـ السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي : ج ١ ص ١٦.

٢ ـ التنبيه والإشراف : ص ٣٠٢.

١٩٣

وكان من أبخل الناس على الطعام ، وكان لا يبالي أين قعد ، ولا مع من شرب)(١).

وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.

٣ ـ احتجابه عن الرعيّة :

واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وامرأته وعمّاله واستخفّ بهم (٢) وانصرف إلى اللهو والطرب ، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته ، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله ، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح ، وكان أثيراً عنده ، فقال له : يا أمير المؤمنين انّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك ، قد خبثت نفوسهم ، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم ، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم ، ومراجعة لآمالهم.

واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم ، ثمّ انصرف فركب الخراقة إلى الشماسية ، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال ، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة ، وحملت معه المطابخ والخزائن ، أمّا الخراقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر ، وقد ركب معه أبو نؤاس وكان ينادمه فقال :

سخّر الله للأمين مطايا

لم تسخّر لصاحب المحراب (٣)

__________________

١ ـ عيون التواريخ : ج ٣ ورقة ٢١٢.

٢ ـ سمط النجوم : ج٣ ص ٣٠٦.

٣ ـ صاحب المحراب : هو سليمان بن داود الذي بنى بيت المقدس.

١٩٤

فإذا ما ركابه سرن بحراً

سار في الماء راكباً ليث غاب

أسداً باسطاً ذراعيه يعدو

أهرت الشدق كالخ الأنياب (١)

لا يعانيه باللجام ولا السو

ط ولا غمز رجله في الركاب

عجب الناس إذ رؤوك على صو

رة ليث تمرّ مرّ السحاب

سبّحوا إذ رأوك سرت عليه

كيف لو أبصروك فوق العقاب (٢)

ذات زدون منسّر جناحين

تشقّ العباب بعد العباب

تسبق الطير في السماء إذا ما

استعجلوها بجيئة وذهاب

بارك الله للأمين وأبقا

ه له رداء الشباب

ملك تقصر المدائح عنه

هاشمي موفّق للصواب (٣)

هذه بعض نزعات الأمين وصفاته ، وهي تصوّر لنا إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولن يعن بأي شأن من شؤون الدولة الإسلامية.

خلعه للمأمون :

وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفى الرشيد ، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأمور خلع أخاه المأمون ، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق ، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد ، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين ، وحينما أتى به مزّقه وكان ذلك ـ فيما يقول المؤرخون ـ برأي الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر.

__________________

١ ـ هرت الشدق : واسعه. كالخ الأنياب : كاشرها.

٢ ـ العقاب : إحدى السفن التي كانت معدّة للأمين.

٣ ـ أبو نؤاس لابن منظور : ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٩٥

وهذا ليس غريباً عليه فقد اقترف كل ما هو مجاف للأخلاق والأعراف.

الحروب الطاحنة :

وبعدما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد ، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى ، ودفع إليه قيداً من ذهب ، وقال له : أوثق المأمون ، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع ، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين ، وقطع عنه الخراج ، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير ، وأعلن الخروج عن طاعته ، وندب طاهر بن الحسين ، وهرثمة بن أعين إلى حربه ، والتقى الجيشان بالري ، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين ، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين ، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته ، وكتب طاهر ابن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته ( كتبت إليك ، ورأس علي بن عيسى في حجري ، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين ) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة ، وأخبره بالأمر ، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال ، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك ، وقد سمّاه ذا اليمينين ، وصاحب خيل اليدين ، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.

محاصرة بغداد :

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين ، فحاصرت بغداد ، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد ، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثرة العابثون ، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء ، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له

١٩٦

سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد (١).

وعلى أي حال فقد منيت بغداد بأفدح الخسائر من جرّاء تلك الفتنة الكبرى ، وقد فقدت الكثير من أبنائها ، وقد زحفت جيوش المأمون إلى تطويق قصر الأمين ، وإلحاق الهزائم بجيشه فلم تتمكّن من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما يملكه من العتاد والسلاح.

قتل الأمين :

وكان الأمين في تلك المحنة الحازبة مشغولاً بلهوه وطربه ، ويقول المؤرّخون : إنّه كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم ( كوثر ) الذي كان مغرماً به فكانت توافيه الأنباء بهزيمة جنوده ، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك ، وكان يقول : اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين ، وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه ، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى : ( اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء ) (٢) وقال فيه بعض الشعراء :

إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً

فاحكم على ملكه بالويل والخرب

أما ترى الشمس في الميزان هابطة

لما غدا وهو برج اللهو والطرب (٣)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الخلاف بين الأمين والمأمون ، وهو من أعظم الأحداث السياسية في ذلك العصر.

__________________

١ ـ اتّجاهات الشعر العربي : ص ٧٣.

٢ ـ عيون التواريخ : ج ٣ ورقة ٢١١.

٣ ـ حياة الحيوان للدميري : ج ١ ص ٧٨.

١٩٧

خلافة إبراهيم الخليع :

من الأحداث السياسية في ذلك العصر خلافة إبراهيم الخليع الذي لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه ، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته ، وقد نصّبه العباسيون خليفة عليهم ، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له ، وقد بايعه الغوغاء ، وأهل الطرب من الناس ، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم ، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده ، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى : ( أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات ، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم ... ) (١).

وقد سخر به دعبل في أبيات له ، فقد وصفه بأبشع الصفات وجعل مصحفه البربط ، ووصفه رسترستين بقوله : ( لم تكن له مواهب الحاكم ، ولكنّه كان رجلاً سليم الذوق ، يهتمّ بالموسيقى والغناء ) (٢).

هربه :

وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم ، فلمّا علم ذلك هرب ، وهرب من كان يعتمد على نصرته ، وقال في هجائهم :

فلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين وقد أتاهم

بواد الدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وسد الثدي عن فمه الصبي

وحلّ عصائب الأملاك منها

فشدّت في رقابي بني علي

فضجّت أن تشدّ على رؤوس

تطالبها بميراث النبي (٣)

__________________

١ ـ الأغاني.

٢ ـ دائرة المعارف الإسلامية البريطانية : ج ١ ص ١٤٠.

٣ ـ التنبيه والأشراف : ص ٣٠٣. الولاة والقضاة : ص ١٦٨.

١٩٨

وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف ، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.

ثورة أبي السرايا :

من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفر عليه‌السلام هي ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية ، فقد رفعت شعار الدعوة إلى ( الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) الذين هم الأمل الباسم للمضطهدين والمحرومين ، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العباسية ، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية ، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام ، وحنّكته التجارب ، وقام على تكوينه عقل كبير ، فقد استطاع بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ويجعلهم قادة في جيشه ، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة ، ويقبرها في مهدها ، فقد جلب الإمام الرضا عليه‌السلام إلى خراسان ، وأرغمه على قبول ولاية العهد ، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي ، فقد رفق بالعلويّين ، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه ، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام على جميع صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة كما ألمحنا إلى ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.

هذه بعض الثورات التي حدثت في عصر الإمام محمد الجواد عليه‌السلام وهي تحكي عن عدم استقرار الوضع السياسي في ذلك العصر.

مبايعة العباسيين للعلويين :

ولم يشك أحد من المسلمين أن أهل البيت أولى بالخلافة وأحقّ بها من العباسيين ، كما أن العباسيين كانوا لا يرون أنهم أهل للخلافة مع وجود العلويّين وقد

١٩٩

بايعوا بالإجماع الزعيم العلوي الكبير محمد ذا النفس الزكية ، فقد اجتمعوا بالأبواء مع العلويين ، فانبرى صالح بن عليّ فقال لهم :

( إنّكم القوم الذين تمتدّ إليهم أعين الناس فقد جمعكم الله في هذا الموضع فاجتمعوا على بيعة أحدكم ، وتفرّقوا في الآفاق ، فادعوا الله لعلّه أن يفتح عليكم وينصركم .. ).

وبادر المنصور الدوانيقي فدعاهم إلى بيعة محمد الذي تؤيّده جميع القوى الإسلامية في ذلك العصر ، فقال :

( لأي شيء تخدعون أنفسكم ، والله لقد علمتم ما الناس أصور ـ أي أميل ـ أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ـ وأشار إلى محمد بن عبد الله ـ .. ).

وصدقوا جميعاً مقالته قائلين بلسان واحد :

( والله صدقت إنّا نعلم هذا .. ).

وبادر العلويّون والعباسيون إلى بيعة محمد ، وكان ممّن بايعه السفاح والمنصور (١) وكان أشدهم اندفاعاً في خدمته والتملّق إليه المنصور الدوانيقي فكان يأخذ بركابه ، ويسوّي عليه ثيابه ، ويقول : إنه مهدينا أهل البيت (٢).

وكانت بيعة المنصور لمحمد موضع وفاق ، فقد جيئ بعثمان بن محمد الزبيري أسيراً إلى المنصور بعد فشل ثورة محمد ، فصاح به المنصور.

( يا عثمان أنت الخارج عليَّ مع محمد .. ).

فأجابه عثمان بمنطق الأحرار ، وهو ساخر من الحياة ، وهازئ بالموت قائلاً : ( بايعته أنا وأنت بمكّة فوفيت ببيعتي ، وغدرت ببيعتك .. ).

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس الطاغية فشتمه إلاّ أن عثمان لم يعن

__________________

١ و ٢ ـ مقاتل الطالبيين.

٢٠٠