بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٩
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

٣١ ـ ل : عن أبيه ، عن علي ، عن أبيه ، عن ابن مرار ، عن يونس رفعه إلى أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي أنهاك عن ثلاث خصال عظام الحسد والحرص والكذب (١).

٣٢ ـ ل : عن الخليل : عن أبي العباس السراج ، عن قتيبة ، عن قرعة ، عن إسماعيل بن أسيد ، عن جبلة الافريقي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا زعيم ببيت في ربض الجنة ، وبيت في وسط الجنة ، وبيت في أعلا الجنة ، لمن ترك المراء وإن كان محقا ولمن ترك الكذب وإن كان هازلا ، ولمن حسن خلقه (٢).

٣٣ ـ ل : عن سفيان الثوري قال : قال الصادق عليه‌السلام : يا سفيان لا مروة لكذوب. ولا أخ لملوك ولا راحة لحسود ، ولا سؤدد لسيي ء الخلق (٣).

٣٤ ـ ل : عن العسكري ، عن محمد بن موسى بن وليد ، عن يحيى بن حاتم ، عن يزيد بن هارون ، عن شعبة ، عن الاعمش ، عن عبدالله بن مرة. عن مسروق ، عن عبدالله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أربع من كن فيه فهو منافق ، وإن كانت فيه واحدة منهنن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر (٤)

٣٥ ـ ل : عن الصادق عليه‌السلام قال : ليس لكذاب مروة (٥).

٣٦ ـ ل : عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام قال : إعتياد الكذب يورث الفقر (٦).

٣٧ ـ ل : عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام قال : الصدق أمانة ، والكذب خيانة (٧).

٣٨ ـ ثو : عن جعفر ، عن أبيه علي [عن الحسين] عن أبيه الحسن بن المغيرة ، عن

____________________

(١) الخصال ج ١ ص ٦٢.

(٢) الخصال ج ١ ص ٧٠.

(٣) الخصال ج ١ ص ٨٠ ، ولا اخاء لمملوك خ.

(٤) الخصال ج ٢ ص ١٢١.

(٥) الخصال ج ١ ص ٨. (٦ ٧) الخصال ج ٢ ص ٩٤.

٢٦١

عثمان ابن عيسى ، عن ابن مسكان ، عمن رواه ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : إن الله عز وجل جعل للشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب وأشر من الشراب الكذب (١).

٣٩ ـ س : في رواية أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إن العبد ليكذب حتى يكتب من الكذابين وإذا كذب قال الله : كذب وفجر (٢).

٤٠ ـ سن : عن معمر بن خلاد ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون المؤمن جبانا؟ قال : نعم ، قيل : ويكون بخيلا؟ قال : نعم ، قيل : ويكون كذابا؟ قال : لا (٣).

٤١ ـ سن : في رواية الاصبغ بن نباتة قال : قال علي عليه‌السلام : لا يجد عبد حقيقة الايمان حتى يدع الكذب جده وهزله (٤).

٤٢ ـ سن : في رواية الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أول من يكذب الكاذب الله عزوجل : ثم الملكان اللذان معه. ثم هو يعلم أنه كاذب (٥).

٤٣ ـ ضا : روي أن رجلا أتى سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله علمني خلقا يجمع لي خير الدنيا والاخرة ، فقال : لا تكذب ، فقال الرجل : فكنت على حالة يكرهها الله فتركتها خوفا من أن يسألني سائل عملت كذا وكذا فأفتضح أو أكذب فأكون قد خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما حملني عليه.

٤٤ ـ شي : عن العباس بن هلال ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنه ذكر رجلا كذابا ثم قال : قال الله : «إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون» (٦).

٤٥ ـ ختص : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه وأصل السخرية الطمأنينة إلى أهل الكذب (٧).

____________________

(١) ثواب الاعمال ص ٢١٨.

(٢ ـ ٥) المحاسن ص ١١٨.

(٦) تفسير العياشي ج ٢ ص ٢٧١ ، والاية في سورة النحل : ١٠٥.

(٧) الاختصاص : ٢٣٢.

٢٦٢

٤٦ ـ الدرة الباهرة : عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام قال : جعلت الخبائث في بيت وجعل مفتاحه الكذب.

٤٧ ـ دعوات الراوندي : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربا الربا الكذب ، وقال رجل له صلى‌الله‌عليه‌وآله : المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك ، قال : المؤمن يسرق؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد يكون ذلك؟ قال : يا رسول الله المؤمن يكذب؟ قال : لا ، قال الله تعالى : «إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون» (١).

٤٨ ـ جع : قال عليه‌السلام : إياكم والكذب ، فان الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار.

عن عبدالرزاق ، عن نعمان ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : المؤمن إذا كذب من غير عذر لعنه ألف ملك وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش ويلعنه حملة العرش وكتب الله عليه لتلك الكذبة سبعين زنية أهونها كمن يزني مع امه.

وقال الصادق عليه‌السلام : الكذب مذموم إلا في أمرين : دفع شر الظلمة ، وإصلاح ذات البين.

قال موسى عليه‌السلام : يا رب أي عبادك خير عملا؟ قال : من لم يكذب لسانه ولا يفجر قلبه. ولا يزني فرجه.

وقال الامام الزكى العسكري عليه‌السلام : جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب (٢).

____________________

(١) النحل : ١٠٥.

(٢) جامع الاخبار ص ١٧٣.

٢٦٣

١١٥

( باب )

* «( استماع اللغو والكذب والباطل والقصة )» *

الايات : المائدة : ومن الذين هادوا سماعون للكذب (١).

مريم : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما (٢).

المؤمنون : والذينهم عن اللغو معرضون (٣).

الفرقان : والذين لا يشهدون الزور * وإذا مروا باللغو مروا كراما (٤).

القصص : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (٥).

لقمان : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين (٦).

المدثر : وكنا نخوض مع الخائضين (٧).

النبأ : لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (٨).

١ ـ عد : ذكر القصاصون عند الصادق عليه‌السلام فقال : لعنهم الله إنهم يشيعون علينا وسئل الصادق عليه‌السلام عن القصاص أيحل الاستماع لهم؟ فقال : لا ، وقال عليه‌السلام : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله فقد عبدالله وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله تعالى : «والشعراء يتبعهم الغاوون» (٩)

____________________

(١) المائدة : ٤١. (٢) مريم : ٦٢.

(٣) المؤمنون : ٣. (٤) الفرقان : ٧٢.

(٥) القصص : ٥٥. (٦) لقمان : ٦.

(٧) المدثر : ٤٥. (٨) النبأ : ٣٥.

(٩) الشعراء : ٢٢٤.

٢٦٤

قال : هم القصاص.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أتى ذا بدعة فوقره فقد سعى في هدم الاسلام (١).

أقول : ويلوح من سوق كلام الصدوق في كتاب عقايده المشار إليه أنه قد حمل الخبر الاخير على معنى يشمل حكاية حال القصاصين أيضا ولكن لا دلالة في هذا الخبر عليه ، فتأمل.

٢ ـ ذكر القصاصون وساق الحديث إلى قوله : قال : هم القصاص (٢).

٣ ـ كا : عن علي ، عن أبيه. عن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال : إن أميرالمؤمنين عليه‌السلام رأى قاصا في المسجد فضربه [بالدرة] وطرده (٣).

التهذيب : باسناده عن علي بن إبراهيم مثله (٤).

١١٦

* ( باب الرياء ) *

الايات : البقرة : كالذي ينفق ماله رئاء الناس (٥).

النساء : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس (٦).

وقال تعالى في وصف المنافقين : يراؤن الناس (٧).

وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (٨)؟

الماعون : الذين هم يرائون ويمنعون الماعون (٩).

____________________

(١) العقائد : ١١٥ ، وترى الحديث الاخير في الفقيه ج ٣ ص ٣٧٥.

(٢). (٣) الكافي ج ٧ ص ٢٦٣.

(٤) التهذيب ج ٢ ص ٤٨٦. (٥) البقرة : ٢٦٤. (٦) النساء : ٣٨. (٧) النساء : ١٤٢.

(٨) الانفال : ٤٧. (٩) الماعون : ٦ ٧.

٢٦٥

١ ـ كا : عن عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد الاشعري عن ابن القداح ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال لعباد بن كثير البصري في المسجد : ويلك يا عباد إياك والرياء فانه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له (١).

بيان : «وكله الله إلى من عمل له» أي في الاخرة كما سيأتي أو الاعم منها ومن الدنيا وقيل : وكل ذلك العمل إلى الغير ولا يقبله أصلا وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الاصغر. قيل : وما الشرك الاصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ، قال : يقول الله عزوجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم : إذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا ، هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم.

وقال بعض المحققين : علم أن الرياء مشتق من الرؤية ، والسمعة مشتق من السماع ، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس باراءتهم خصال الخير ، إلا أن الجاه والمنزلة يطلب في القلب بأعمال سوى العبادات ويطلب بالعبادات ، واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادات وإظهارها فحد الرياء هو إرادة المنزلة بطاعة الله تعالى فالمرائي هو العابد ، والمرائي ، هو الناس المطلوب رؤيتهم لطلب المنزلة في قلوبهم والمرائي به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها ، والرياء هو قصد إظهار ذلك ، والمرائي به كثيرة ويجمعها خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين العبد به للناس. وهو البدن والزي والقول والعمل والاتباع والاشياء الخارجة.

ولذلك أهل الدنيا يراؤن بهذه الاسباب الخمسة إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء باعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات.

و [الاول] الرياء في الدين من جهة البدن ، وذلك باظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد ، وعظم الحزن على أمر الدين ، وغلبة خوف الاخرة ، وليدل

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٩٣.

٢٦٦

بالنحول على قلة الاكل ، وبالصفار على سهر الليل وكثرة الارق في الدين وكذلك يرائي بتشعث الشعر ليدل به استغراق الهم بالدين ، وعدم التفرغ لتسريح الشعر ، ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين فهذه مرائاة أهل الدين في البدن.

وأما أهل الدنيا فيراؤن باظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الاعضاء.

وثانيها الرئاء بالزي والهيئة ، أما الهيئة فتشعث شعر الرأس ، وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدو في الحركة ، وإبقاء أثر السجود على الوجه ، وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من نصف الساق ، وتقصير الاكمام ، وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقا كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه يتبع السنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين.

وأما أهل الدنيا فمرائاتهم بالثياب النفسية ، والمراكب الرفيعة ، وأنواع التوسع والتجمل.

الثالث : الرياء بالقول ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الاخبار والآثار لاجل الاستعمال في المحاورة إظهارا لغزارة العلم ، ولدلالته على شدة العناية بأقوال السلف الصالحين ، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق ، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الاسف على مقارفة الناس بالمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام.

وأما أهل الدنيا فمرائاتهم بالقول بحفظ الامثال والاشعار والتفاصح في العبارات ، وحفظ النحو الغريب للاغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمالة القلوب.

الرابع : الرياء في العمل كمراءات المصلي بطول القيام ومده وتطويل الركوع والسجود وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون ، وتسوية القدمين واليدين ، وكذلك بالصوم وبالحج وبالصدقة وباطعام الطعام وبالاخبات

٢٦٧

بالشئ عند اللقاء كارخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى أن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فاذا اطلع عليه واحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفا من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار ، فان غاب الرجل عاد إلى عجلته فاذا رآه عاد إلى خشوعه ، ومنهم من يستحيي أن يخالف مشيته في الخلوة لمشيته بمرئي من الناس ، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة ، حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه تخلص به من الرياء وقد تضاعف به رياؤه فانه صار في خلواته أيضا مرائيا.

وأما أهل الدنيا فمرائاتهم بالتبختر والاختيال ، وتحريك اليدين ، وتقريب الخطا ، والاخذ باطراف الذيل وادارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة.

الخامس : المراءاة بالاصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يتكلف أن يزور عالما من العلماء ليقال إن فلانا قد زار فلانا أو عابدا من العباد لذلك أو ملكا من الملوك وأشباهه ليقال إنهم يتبركون به ، وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخا كثيرا واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه ، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الاوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك.

وأما حكم الرياء فهل حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل فأقول : فيه تفصيل ، فان الرياء هو طلب الجاه. وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات ، فان كان بغير العبادات فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث أنه طلب منزلة في قلوب العباد ، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورة ، فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال وهو ما يحتاج إليه الانسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الافات محمود وهو الذي طلبه يوسف عليه‌السلام حيث قال : «إني حفيظ عليم» (١) وكما أن المال فيه سم ناقع وترياق نافع ، فكذلك الجاه.

____________________

(١) يوسف : ٥٥.

٢٦٨

وأما إنصراف الهم إلى سعة الجاه فهو مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال ، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها.

وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ، ومن غير اهتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه ، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من علماء الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ، ولا يوصف بالتحريم.

وبالجملة المراءات بما ليس هو من العبادات قد يكون مباحا وقد يكون طاعة. وقد يكون مذموما ، وذلك بحسب الغرض المطلوب به ، وأما العبادات كالصدقة والصلاة والغزو والحج ، فللمرائي فيه حالتان إحداهما أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الاجر ، وهذا يبطل عبادته لان الاعمال بالنيات وهذا ليس يقصد العبادة ، ثم لا يقتصر على إحباط عبادته ، حتى يقال : صار كما كان قبل العبادة ، بل يعصي بذلك ويأثم لما دلت عليه الاخبار والايات.

والمعنى فيه أمران أحدهما يتعلق بالعبادة ، وهو التلبيس والمكر لانه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله ، وأنه من أهل الدين وليس كذلك ، والتلبيس في أمر الدنيا أيضا حرام حتى لو قضى دين جماعة إلى الناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم بذلك ، لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر.

والثاني يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله خلق الله فهو مستهزئ بالله ، فهذا من كبائر المهلكات ، ولهذا سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشرك الاصغر فلو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله ، لكان فيه كفاية ، فانه إذا لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله ، لعمري لو قصد غير الله بالسجود لكفر كفرا جليا إلا أن الرياء هو الكفر الخفي.

واعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه ، وأركانه ثلاثة : المرائا به والمرائا [له] ، ونفس قصد الرياء.

الركن الاول : نفس قصد الرياء ، وذلك لا يخلو إما أن يكون مجردا

٢٦٩

دون إرادة الله والثواب ، وإما أن يكون مع إرادة الثواب فان كان كذلك فلا يخلو إما أن يكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساويا لاراءة العباد ، فيكون الدرجات أربعا.

الاولى : وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي ، فهذه الدرجة العليا من الرياء.

الثانية أن يكون له قصد الثواب أيضا ولكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل. ولو لم يكن الثواب لكان قصد الرياء يحمله على العمل. فهذا قريب مما قبله.

الثالثة أن يكون قصد الرياء وقصد الثواب متساويين بحيث لو كان كل واحد خاليا عن الاخر لم يبعثه على العمل ، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة فكان كل واحد لو انفرد لا يستقل بحمله على العمل ، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأسا برأس لا له ولا عليه ، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب ، وظواهر الاخبار تدل على أنه لا يسلم.

الرابعة أن يكون اطلاع الناس مرجحا ومقويا لنشاطه ، ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ، ولو كان قصد الرياء لما أقدم والذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ، ويثاب على مقدار قصد الثواب. وأما قوله تعالى : أنا أغنى الاغنياء عن الشرك فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.

الركن الثاني : المرائا به ، وهي الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء باصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.

القسم الاول : وهو الاغلظ الرياء بالاصول وهو على ثلاث درجات : الاولى الرياء بأصل الايمان هو أغلظ أبواب الرياء ، وصاحبه مخلد في النار ، وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ، ولكنه يرائي بظاهر الاسلام ، وهم المنافقون الذين ذمهم الله سبحانه في مواضع كثيرة ، وقد قال :

٢٧٠

«يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا» (١).

وكان النفاق في ابتداء الاسلام ممن يدخل في ظاهر الاسلام ابتداءا لغرض وذلك مما يقل في زماننا ولكن يكثر نفاق من ينسل من الدين باطنا فيجحد الجنة والنار والدار الاخرة ، ميلا إلى قول الملحد أو يعتقد طي بساط الشرع والاحكام ، ميلا إلى أهل الاباحة ، ويعتقد كفرا أو بدعة وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المرائين المنافقين المخلدين في النار ، وحال هؤلاء أشد من حال الكفار المجاهرين لانهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.

الثانية الرياء باصول العبادات مع التصديق بأصل الدين وهذا أيضا عظيم عندالله ، ولكنه دون الاول بكثير ، ومثاله أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره باخراج الزكاة خوفا من ذمة ، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجها أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع فيصلي معهم وعادته ترك الصلاة في الخلوة وكذا ساير العبادات ، فهو مراء معه أصل الايمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه ، ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغير الله لم يفعل ، ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق ، وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفة من عقاب الله ، ورغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله ، وهذا غاية الجهل ، وما أجدر صاحبه بالمقت ، وإن كان غير منسل عن أصل الايمان من حيث الاعتقاد.

الثالثة : أن لا يرائي بالايمان ولا بالفرائض ، ولكن يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي ، ولكن يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ، ولا يثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب ، ثم يبعثه الرياء على فعله ، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة ، وعبادة المريض ، واتباع الجنايز ، وكالتهجد بالليل وصيام السنة والتطوع ونحو ذلك ، فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفا من المذمة أو طلبا للمحمدة ، ويعلم الله تعالى منه لو خلى بنفسه لما زاد على أداء الفرائض ، فهذا أيضا

____________________

(١) النساء : ١٤٢.

٢٧١

عظيم ، ولكن دون ماقبله ، وكأنه على الشطر من الاول وعقابه نصف عقابه.

القسم الثاني : الرياء بأوصاف العبادات لا باصولها وهي أيضا على ثلاث درجات.

الاولى أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة ، كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة فاذا رآه الناس أحسن الركوع ، وترك الالتفات ، وتمم القعود بين السجدتين ، وقد قال ابن مسعود : من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه.

فهذا أيضا من الرياء المحظور لكنه دون الرياء باصول التطوعات ، فان قال المرائي : إنما فعلت ذلك صيانة لالسنتهم عن الغيبة ، فانهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة ، فانما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية ، فيقال له : هذه مكيدة للشيطان وتلبيس ، وليس الامر كذلك ، فان ضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك ، أعظم من ضررك من غيبة غيرك. فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر.

نعم للمرائي فيه حالتان إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس ، وذلك حرام قطعا ، والثانية أن يقول : ليس يحضرني الاخلاص في تحسين الركوع والسجود ، ولو خففت كان صلاتي عند الله ناقصة ، وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم ، وأستفيد بتحسين الهيئة دفع مذمتهم ولا أرجو عليه ثوابا هو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب ، وتحصل المذمة ، فهذا فيه أدنى نظر فالصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص ، فان لم يحضره النية فينبغي أن يستمر على عبادته في الخلوة وليس له أن يدفع الذم بالمراءات بطاعة الله فان ذلك استهزاء.

الثانية أن يرائي بفعل مالا نقصان في تركه ، ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته ، كالتطويل في الركوع والسجود ، ومد القيام وتحسين الهيئة في رفع اليدين ، والزيادة في القراءة على السورة المعتادة ، وأمثال ذلك ، وكل

٢٧٢

ذلك مما لو خلي ونفسه لكان لا يقدم عليه.

الثالثة أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل ، كحضوره الجماعة قبل القوم ، وقصد الصف الاول ، وتوجهه إلى يمين الامام ، وما يجري مجراه ، وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو حلي بنفسه لكان لا يبالي من أين وقف ومتي يحرم بالصلاة ، فهذه درجات الرياء بالنسبة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض والكل مذموم.

الركن الثالث : المرايا لاجله فان للمرائي مقصودا لا محالة ، فانما يرائي لادراك مال أو جاه أو غرض من الاغرا ض لا محالة وله أيضا ثلاث درجات.

الاولى : وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصدة التمكن من معصيته كالذي يرائي بعباداته ليعرف بالامانة فيولي القضاء أو الاوقاف أو أمول الايتام ، فيحكم بغير الحق ويتصرف في الاموال بالباطل ، وأمثال ذلك كثيرة.

الثانية أن يكون غرضه نيل حظ مباح من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة. فهذا رياء محظور لانه طلب بطاعة الله متاع الدنيا ولكنه دون الاول.

الثالثة أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو شبهه ، ولكن يظهر عبادته خيفة من أن ينظر إليه بعين النقص ، ولا يعد من الخاصة والزهاد ، كأن يسبق إلى الضحك أويبدر منه المزاح فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار ، فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء ، وإظهار الحزن ، ويقول : ما أعظم غفلة الانسان عن نفسه ، والله يعلم منه أنه لو كان في الخلوة لما كان يثقل عليه ذلك.

فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين ، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه وهي من أشد المهلكات وأما ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي ومالا يحبط فنقول : إذا عقد العبد العبادة على الاخلاص ثم ورد وارد الرياء ، فلا يخلو إما أن ورد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ ، فان ورد بعد الفراغ سرور من غير إظهار فلا يحبط العمل ، إذ العمل قد تم على نعت الاخلاص سالما من الرياء ، فما يطرء بعده فنرجو

٢٧٣

أن لا ينعطف عليه أثره لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ، ولم يتمن ذكره وإظهاره ، ولكن اتفق ظهوره باظهار الله إياه ، ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قبله ، ويدل على هذا ما سيأتي ، وقد روي أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله اسر العمل لا أحب أن يطلع عليه أحد فيطلع عليه فيسرني قال : لك أجران أجر السر وأجر العلانية.

وقال الغزالي : نعم لو تم العمل على الاخلاص من غير عقد رياء ، ولكن ظهرت له بعده رغبة في الاظهار فتحدث به وأظهره فهذا مخوف ، وفي الاخبار والاثار ما يدل على أنه محبط ، ويمكن حملها على أن هذا دليل على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده لما أن ظهر منه التحدث به ، إذ يبعد أن يكون ما يطرء بعد العمل مبطلا للثواب بل الاقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها ، بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ فانه مبطل.

ثم قال المحقق المذكور : وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا وكان قد عقد على الاخلاص ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء ، فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل فهو لا يبطله وإما أن يكون رياء باعثا على العمل فختم به العمل فاذا كان كذلك حبط أجره.

ومثال أن يكون في تطوع فتجددت له أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليه ، أو يذكر شيئا نسية من ماله ، وهو يريد أن يطلبه ، ولولا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفا من مذمة الناس فقد حبط أجره ، وعليه الاعادة إن كان في فريضة وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أي النظر إلى خاتمته ، وروي من رائا بعمله ساعة حبط عمله الذي كان قبله ، وهو منزل على الصلاة في هذه الصورة ، لا على الصدقة ، ولا على القراءة ، فان كان جزء منها منفرد فما يطرء يفسد الباقي دون الماضي والصوم والحج من قبيل الصلاة.

فأما إذا كان وارد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الاستتمام لاجل الثواب

٢٧٤

كما لو حضر جماعة في أثناء صلاته ففرح بحضورهم واعتقد الرياء ، وقصد تحسين الصلاة لاجل نظرهم ، وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضا ، فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثا على الحركات ، فان غلب حتى انمحق معه الاحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة مغمورا ، فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه ، لانا نكتفي بالنية السابقة عند الاحرام بشرط أن لا يطرء ما يغلبها ويغمرها.

ويحتمل أن يقال لا تفسد العبادة نظرا إلى حالة العقد وإلى بقاء أصل قصد الثواب ، وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه ، والاقيس أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل ، بل بقي العمل صادرا عن باعث لدين وإنما انضاف إليه سرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لانه لا ينعدم به أصل نيته ، وبقيت تلك النية باعثة على العمل ، وحاملة على الاتمام ، وروي في الكافي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ما يدل عليه وأما الاخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما اذا لم يرد به إلا الخلق ، وأما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساويا لقصد الثواب أو أغلب منه ، أما إذا كان ضعيفا بالاضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وساير الاعمال وينبغي أن يفسد الصلاة ولا يبعد أيضا أن يقال إن الذي اوجب عليه صلاة خالصة لوجه الله ، والخالصة ما لا يشوبه شئ فلا يكون مؤديا للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله فيه ، فهذا حكم الرياء الطاري بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعده.

القسم الثالث الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ في الصلاة على قصد الرياء فان تم عليه حتى يسلم فلا خلاف في أنه يعصي ولا يعتد بصلوته ، وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه : قالت فرقة : لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف.

وقالت فرقة : تلزمه إعادة الافعال كالركوع والسجود ، وتفسد أعماله دون تحريمة الصلاة ، لان التحريم عقد والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقدا.

٢٧٥

وقالت فرقة : لا تلزمه إعادة شئ بل يستغفر الله بقلبه ويتم العبادة على الاخلاص والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتداها بالاخلاص وختم بالرياء ، لكان يفسد عمله ، وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة فاذا ازيل العارض عاد إلى الاصل فقالوا : إن الصلاة والركوع والسجود لا يكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافرا ولكن قد اقترن به عارض الرياء ثم إن زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاته.

ومذهب الفريقين الاخرين خارج عن قياس الفقه جدا خصوصا من قال يلزمه إعادة الركوع والسجود دون الافتتاح ، لان الركوع والسجود إن لم يصح صارت أفعالا زائدة في الصلاة فتبطل الصلاة ، وكذلك قول من يقول لو ختم بالاخلاص صح نظرا إلى الخاتمة فهو أيضا ضعيف لان الرياء يقدح بالنية ، وأولى الاوقات بمراعات الاحكام النية حالة الافتتاح.

فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الامر لم ينعقد افتتاحه ، ولم يصح ما بعده وذلك من إذا خلا بنفسه لم يصل ولما رآه الناس يحرم بالصلاة ، وكان بحيث لو كان ثوبه أيضا نجسا كان يصلي لاجل الناس ، فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين ، وههنا لا باعث ولا إجابة.

فأما إذا كان بحيث لولا الناس. أيضا لكان يصلي إلا أنه ظهرت له الرغبة في المحمدة أيضا فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقه أو قراءة وما ليس فيه تحريم وتحليل أو في عقد صلاة وحج ، فان كان في صدقة فقد عصى باجابة باعث الرياء وأطاع باجابة باعث الثواب ، «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» (١) وله ثواب بقدر قصده الصحيح ، وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الاخر.

وإن كان في صلاة يقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية ، فلا يخلو إما أن

____________________

(١) الزلزلة : ٧ ٨.

٢٧٦

يكون نفلا أو فرضا فان كان نفلا فحكمها أيضا حكم الصدق ، فقد عصى من وجه وأطاع من وجه إذا اجتمع في قلبه الباعثان ، وأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل واحد منهما لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه لان الايجاب لم ينتهض باعثا في حقه بمجرده واستقلاله وإن كان كل باعث مستقلا حتى لو لم يكن باعث الرياء لادي الفرض ، ولو لم يكن باعث الفرض لانشأ صلاة تطوعا لاجل الرياء ، فهذا في محل النظر وهو محتمل جدا.

فيحتمل أن يقال : إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ، ولم يؤد الواجب الخالص ، ويحتمل أن يقال : إن الواجب امتثال الامر الواجب بواجب مستقل بنفسه وقد وجد ، فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه ، كما لو صلى في دار مغصوبة فانه وإن كان عاصيا بايقاع الصلاة في الدار المغصوبة ، فانه مطيع بأصل الصلاة ، ومسقط للفرض عن نفسه ، وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة ، أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلا دون أصل الصلاة ، مثل من بادر في الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة. ولو خلا لاخرها إلى وسط الوقت ولولا الفرض لكان لا يبتدي صلاة لاجل الرياء ، فهذا مما يقطع بصحة صلاته وسقوط الفرض به ، لان باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضها غيره ، بل من حيث تعيين الوقت فهذا أبعد من القدح في النية.

هذا في رياء يكون باعثا على العمل وحاملا عليه فأما مجرد السرور باطلاع الناس إذا لم يبلغ أثره حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة ، فهذا ما نراه لائقا بقانون الفقه ، والمسألة غامضة من حيث إن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه ، والذين خاضوا فيه وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ، ومقتضى فتاوى العلماء في صحة الصلاة وفسادها ، بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الاخلاص على إفساد العبادات بأدنى الخواطر ، وما ذكرناه هو الاقصد فيما نواه والعلم عند الله تعالى انتهى كلامه.

٢٧٧

وقال الشهيد قدس الله روحه في قواعده : النية يعتبر فيها القربة ، ودل عليها الكتاب والسنة ، قال تعالى : «وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين» (١) والاخلاص فعل الطاعة خالصة لله وحده وهنا غايات ثمان الاول الرياء ولا ريب في أنه مخل بالاخلاص فيتحقق الرياء بقصد مدح الرائي أو الانتفاع به أو دفع ضرره.

فان قلت فما تقول في العبادة المشوبة بالتقية؟ قلت : أصل العبادة واقع على وجه الاخلاص ، وما فعل منها تقية فان له اعتبارين بالنظر إلى أصله وهو قربة وبالنظر إلى ما طرء من استدفاع الضرر ، وهو لازم لذلك ، فلا يقدح في اعتباره أما لو فرض إحداث صلاة مثلا تقية فانها من باب الرياء ، الثاني قصد الثواب أو الخلاص من العقاب أو قصدها معا الثالث فعلها شكرا لنعم الله تعالى واستجلابا لمزيده ، الرابع فعلها حياء من الله تعالى الخامس فعلها حبا لله تعالى السادس فعلها تعظيما لله تعالى ومهابة وانقيادا وإجابة السابع فعلها موافقة لارادته وطاعة لامره الثامن فعلها لكونه أهلا للعبادة. وهذه الغاية مجمع كل كون العبادة تقع بها معتبرة وهي أكمل مراتب الاخلاص وإليه أشار الامام الحق أميرالمؤمنين عليه‌السلام ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الاصحاب بكون العبادة فاسدة (٢) بقصدها وكذلك ينبغي أن يكون غاية الحياء والشكر ، وباقي الغايات الظاهر أن قصدها مجزء لان الغرض بها الله في الجملة ، ولا يقدح كون تلك الغايات باعثة على العبادة أعني الطمع والرجاء والشكر والحياء لان الكتاب والسنة مشتملة على المرهبات من الحدود ، والتعزيرات والذم والايعاد بالعقوبات ، وعلى المرغبات من المدح والثناء في العاجل ، والجنة ونعيمها في الاجل ، وأما الحياء فغرض

____________________

(١) البينة : ٥.

(٢) في شرح الكافي ج ٢ ص ٢٧٣ : «لا يفسد» لكنه سهو ، وقد مر في ج ٧٠ ص ٢٣٦ باب الاخلاص ما يحقق ذلك.

٢٧٨

مقصود ، وقد جاء في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استحيوا من الله حق الحياء ، اعبدالله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك ، فانه إذا تخيل الرؤية انبعث على الحياء والتعظيم والمهابة.

وعن أميرالمؤمنين عليه‌السلام وقد قال له ذعلب اليماني بالذال المعجمة المكسورة والعين المهملة الساكنة واللام المكسورة : هل رأيت يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه‌السلام : أفأعبد ما لا أرى ، فقال : وكيف تراه؟ فقال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقايق الايمان ، قريب من الاشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مبائن ، متكلم بلا روية ، مريد بلا همة ، صانع لا بجارحة. لطيف لا يوصف بالخفاء ، بعيد لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتوجل القلوب من مخافته (١).

وقد اشتمل هذا الكلام الشريف على اصول صفات الجلال والاكرام التي عليها مدار علم الكلام ، وأفاد أن العبادة تابعة للرؤية ، ويفسر معنى الرؤية وأفاد الاشارة إلى أن قصد التعظيم بالعباد حسن وإن لم يكن تمام الغاية ، وكذلك الخوف منه تعالى.

ثم لما كان الركن الاعظم في النية هو الاخلاص ، وكان انضمام تلك الاربعة غير قادح فيه فخليق أن يذكر ضمائم اخر ، وهي أقسام :

الاول : ما يكون منافية له كضم الرياء ويوصف بسببه العبادة بالبطلان بمعنى عدم استحقاق الثواب ، وهل يقع مجزيا بمعنى سقوط التعبد به والخلاص من العقاب؟ الاصح أنه لا يقع مجزيا ولم أعلم فيه خلافا إلا من السيد الامام المرتضى قدس الله لطيفه فان ظاهره الحكم بالاجزاء في العبادة المنوي بها الرياء.

الثاني من الضمائم ما يكون لازما للفعل كضم التبرد والتسخين أو التنظيف

____________________

(١) تراه في النهج تحت الرقم ١٧٧ من الخطب ، وفيه «تجب القلوب من مخافته».

٢٧٩

إلى نية القربة ، وفيه وجهان ينظران إلى عدم تحقق معنى الاخلاص ، فلا يكون الفعل مجزيا وإلى أنه حاصل لا محالة فنيته كتحصيل الحاصل الذي لافائدة فيه وهذا الوجه ظاهر أكثر الاصحاب والاول أشبه ولا يلزم من حصوله نية حصوله ويحتمل أن يقال [إن كان الباعث الاصلي هو القربة ، ثم طرء التبرد عند الابتداء في الفعل لم يضر ، وإن] (١) كان الباعث الاصلي هو التبرد فلما اراده ضم القربة لم يجزئ ، وكذا إذا كان الباعث مجموع الامرين ، لانه لا أولوية فتدافعا فتساقطا فكأنه غير ناو ، ومن هذا الباب ضم نية الحمية إلى القربة في الصوم ، وضم ملازمة الغريم إلى القربة في الطواف والسعي والوقوف بالمشعرين.

الثالث : ضم ما ليس بمناف ولا لازم ، كما لو ضم إرادة دخول السوق مع نية التقرب في الطهارة أو أراد الاكل ولم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه الاشياء فانه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكدا غير مناف ، وهذه الاشياء وإن لم يستحب لها الطهارة بخصوصياتها إلا أنها داخلة فيما يستحب لعمومه وفي هذه الضميمة وجهان مرتبان على القسم الثاني ، وأولى بالبطلان ، لان ذلك تشاغل عما يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه.

ثم قال ره يحب التحرز من الرياء فانه يلحق العمل بالمعاصي وهو قسمان جلي وخفي ، فالجلي ظاهر والخفي إنما يطلع عليه اولوا المكاشفة والمعاينة لله كما يروي عن بعضهم أنه طلب الغزو فتاقت نفسه إليه ، فتفقدها فاذا هو يحب المدح بقولهم فلان غاز ، فتركه فتاقت نفسه إليه فأقبل يعرض على ذلك الرياء ، حتى أزاله ، ولم يزل يتفقد ها شيئا بعد شئ حتى وجد الاخلاص بعد بقاء الانبعاث فاتهم نفسه وتفقد أحوالها فإذا هي يحب أن يقال : مات فلان شهيدا لتحسن سمعته في الناس بعد موته.

وقد يكون في ابتداء النية إخلاصا وفي الاثناء يحصل الرياء فيجب التحرز منه فانه مفسد للعمل نعم لا يتكلف بضبط هواجس النفس وخواطرها بعد إيقاع

____________________

(١) ما بين العلامتين أضفناه من شرح الكافي ج ٢ ص ٢٧٤.

٢٨٠