بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٩
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

٩٤

( باب )

* «( فضل الفقر والفقراء وحبهم ومجالستهم والرضا بالفقر وثواب اكرام الفقراء وعقاب من استهان بهم )» *

الايات : الكهف : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا (١).

الفرقان : تبارك الذي ان شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا (٢).

الزخرف : ولولا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين (٣).

الفجر : فاما الانسان إذا ما ابتليه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتليه وقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (٤).

____________________

(١) الكهف : ٢٨.

(٢) الفرقان : ١٠.

(٣) الزخرف : ٣٣ ٣٥.

(٤) الفجر : ١٥ ١٦.

١

تفسير : «واصبر نفسك» أي احبسها وثبتها قال الطبرسي رحمه‌الله (١) في نزولها : انها نزلت في سلمان (٢) وأبي ذر وصهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك أن المؤلفة قلوبهم جاؤا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عيينة بن حصن والاقرع بن حابس وذووهم فقالوا يا رسول الله إن جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وروائح صنانهم (٣) وكانت عليهم جباب الصوف جلسنا نحن اليك وأخذنا عنك ، فما يمنعنا من الدخول عليك الا هؤلاء ، فلما نزلت الاية قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من امتي ، معكم المحيا ومعكم الممات.

«مع الذين يدعون» الخ أي يدامون على الصلوات والدعاء عند الصباح والمساء لاشغل لهم غيره ، فيستفتحون يومهم بالدعاء ، ويختمونه بالدعاء «يريدون وجهه» أي رضوانه وقيل : يريدون تعظيمه والقربة اليه دون الرئاء والسمعة ، «ولاتعد عيناك عنهم» أي لا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا «تريد زينة الحيوة الدنيا» تريد في موضع الحال أي مريدا مجالسة أهل الشرف والغنا وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حريصا على إيمان العظماء من المشركين طمعا في إيمان أتباعهم ولم يمل إلى الدنيا وزينتها قط ولا إلى أهلها ، وإنما كان يلين في بعض الاحايين للرؤساء طعما في إيمانهم ، فعوتب بهذه الاية ، وامر بالاقبال على فقراء المؤمنين

____________________

(١) مجمع البيان ج ٦ ص ٤٦٥.

(٢) ذكر سلمان والمؤلفة قلوبهم مما يوهن ذلك فان الايات مكية وسلمان والمؤلفة قلوبهم انما اسلموا بالمدينة والظاهر اختلاط أسامي الاصحاب على الرواة.

(٣) الصنان : بالضم دفر الابط وهو رائحة الابط المنتن ، وفي الدر المنثور بدل الصنان جبابهم ، وهو الاصح فان الجباب جمع جبة وهو ثوب مقطوع الكم طويل يلبس فوق الثياب ولذلك يقول بعده «وكانت عليهم جباب الصوف» ولكن صحفت الكلمة في الاصل والمصدر بجبات.

٢

وأن لا يرفع بصره عنهم إلى مجالسة الاشراف.

«ولا تطع من أغفلنا عن ذكرنا» قيل : فيه أقوال : أحدها أن معناه ولا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بتعريضه للغفلة ، ولهذا قال : «واتبع هواه» ومثله «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم» وثانيها : نسبنا قلبه إلى الغفلة كما يقال : أكفره إذا نسبه إلى الكفر ، وثالثها صادفناه غافلا ، ورابعها جعلناه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين ، ولم نعلم فيه علامة لتعرفه الملائكة بتلك السمة ، وخامسها تركنا قلبه وخذلناه ، وخلينا بينه وبين الشيطان بتركه أمرنا «واتبع هواه» أي في شهواته وأفعاله «وكان أمره فرطا» أي سرفا وإفراطا وتجاوزا عن الحد أو ضياعا وهلاكا.

وأقول : فيها مدح عظيم للفقراء ، وحث على مصاحبتهم ومجالستهم ، إذا كانوا زاهدين في الدنيا ، مواظبين على ذكر الله والصلوات ، ومنع عن مجالسة الاغنياء المتكبرين اللاهين عن الله.

قوله تعالى : «تبارك» (١) أي تقدس «الذي إن شاء جعل لك» أي في الدنيا «خيرا من ذلك» أي مما قالوا «ويجعل لك قصورا» في الدنيا أو في الاخرة على القراءتين ومعلوم من السياق أن الاخرة خير من الدنيا ، واختارها الله لاحب خلقه.

«ولولا أن يكون الناس» (٢) قد مر تفسيره مرارا.

قوله سبحانه : «فأما الانسان إذا ما ابتليه ربه» (٣) أي اختبره وامتحنه بالنعمة «فأكرمه» بالمال «ونعمه» بما وسع عليه من أنواع الافضال «فيقول ربي اكرمن» أي فيفرح بذلك ويسر.

١ ـ المؤمن : باسناده عن الاصبغ قال : كنت عند اميرالمؤمنين عليه‌السلام قاعدا فجاء رجل فقال : يا اميرالمؤمنين والله إني لاحبك في الله ، فقال : صدقت إن

____________________

(١) الفرقان : ١٠.

(٢) الزخرف : ٣٣.

(٣) الفجر : ١٥.

٣

طينتنا مخزونة أخذ الله ميثاقها من صلب آدم عليه‌السلام فاتخذ للفقر جلبابا فاني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : والله ياعلي إن الفقر لاسرع إلى محبيك من السيل إلى بطن الوادي (١).

٢ ـ كا : عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن أبان بن عبدالملك قال : حدثني بكر الارقط ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أو عن شعيب ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه دخل عليه واحد ، فقال له ، أصلحك الله إني رجل منقطع إليكم بمودتي وقد أصابتني حاجة شديدة ، وقد تقربت بذلك إلى أهل بيتي وقومي ، فلم يزدني بذلك منهم إلا بعدا قال : فما آتاك الله خير مما أخذ منك قال : جعلت فداك ادع الله أن يغنيني عن خلقه ، قال : ان الله قسم رزق من شاء على يدي من شاء ، ولكن اسأل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه (٢).

بيان : «أصلحك الله» مشتمل على سوء أدب الا أن يكون المراد إصلاح أحوالهم في الدنيا ، وتمكينهم في الارض ودفع أعدائهم ، أو أنه جرى ذلك على لسانهم لالفهم به ، فيما يجري بينهم من غير تحقيق لمعناه ، ومورده «إني رجل منقطع إليكم» كأنه ضمن الانقطاع معنى التوجه أي منقطع عن الخلق متوجها إليكم بسبب مودتي لكم أو مودتي مختصة بكم «وقد تقربت بذلك» الاشارة إما إلى مصدر أصابتني أو إلى الحاجة والمستتر في قوله : «فلم يزدني» راجع إلى مصدر تقربت ، ومرجع الاشارة ما تقدم ، وقوله : «إلا بعدا» استثناء مفرغ ، وهو مفعول لم يزدني أي لم يزدني التقرب منهم بسبب فقري شيئا إلا بعدا منهم.

____________________

(١) المؤمن مخطوط وروى الصدوق في المعاني ص ١٨٢ عن أحمد بن المبارك قال : قال رجل لابي عبدالله عليه‌السلام : حديث يروي أن رجلا قال لاميرالمؤمنين عليه‌السلام اني احبك ، فقال له : أعد للفقر جلبابا فقال : ليس هكذا قال ، انما قال له : أعددت لفاقتك جلبابا ، يعني يوم القيامة.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦٦.

٤

«فما آتاك الله» قيل : الفاء للتفريع على قوله : «إني رجل منقطع إليكم» فقوله : «ما آتاك الله» المودة ، وقيل : هو الفقر والاول أظهر «مما أخذ منك» أي المال «إلى لئام خلقه» اللئام جمع اللئيم ، وفي المصباح لؤم بضم الهمزة لؤما فهو لئيم يقال ذلك للشحيح والدني النفس والمهين ونحوهم ، لان اللؤم ضد الكرم ويومي الحديث إلى أن الفقر المذموم ما يصير سببا لذلك ، وغيره ممدوح وذمه لان اللئيم لا يقضي حاجة أحد وربما يلومه في رفع الحاجة إليه ، وإذا قضاه لا يخلو من منة ، ويمكن أن يشمل الظالم والفاسق المعلن بفسقه ، وفي كثير من الادعية اللهم لا تجعل لظالم ولا فاسق على يدا ولا منة ، وذلك لان القلب مجبول على حب من أحسن اليه ، وفي حب الظالم معاصي كثيرة كما قال تعالى : «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» (١).

٣ ـ كا : عن العدة ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عمن ذكره عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : الفقر الموت الاحمر ، فقلت لابي عبدالله عليه‌السلام : الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال : لا ، ولكن من الدين (٢).

بيان : قال في النهاية ، وفيه : تعلمون ما في هذه الامة من الموت الاحمر يعنى القتل لما فيه من حمرة الدم أو لشدته يقال : موت أحمر أي شديد ، ومنه حديث علي عليه‌السلام : كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) أي إذا اشتدت الحرب استقبلنا العدو به وجعلناه لنا وقاية ، وقيل : أراد إذا اضطرمت نار الحرب وتسعرت كما يقال في الشر بين القوم اضطرمت نارهم تشبيها بجمرة النار ، وكثيرا ما يطلقون الحمرة على الشدة.

«ولكن من الدين» نظيره قول أميرالمؤمنين عليه‌السلام : الفقر والغنى بعد العرض على الله (٤) والمعنى أنهما يظهران بعد الحساب وهو ما أشار إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) هود : ١٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦٦.

(٣) نهج البلاغة ج ٢ ص ٢٠٦.

(٤) نهج البلاغة ج ٢ ص ٢٥٠.

٥

بقوله : أتدرون ما المفلس؟ فقيل : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له ، فقال : المفلس من امتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا ، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ، بل قد يقال : إن المفلس حقيقة هو هذا ويحتمل أن يراد بقوله عليه‌السلام : «ولكن من الدين» الفقر القلبي وضده الغنى القلبي فالفقير على هذا من ليس له في الدين معرفة وعلم بأحكامه ولا تقوى ولا ورع وغيرها من الصفات الحسنة كذا قيل ، وأقول يحتمل أن يكون المعنى الذي يضر بالدين ولا يصبر عليه ويتوسل بالظالمين والفاسقين كما مر.

٤ ـ كا : عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن سنان عن العلا ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إن فقراء المؤمنين يتقلبون في رياض الجنة قبل أغنيائهم باربعين خريفا ثم قال : سأضرب لك مثل ذلك إنما مثل ذلك مثل سفينتين مر بهما على عاشر فنظر في إحداهما فلم ير فيها شيئا فقال : أسربوها ، ونظر في الاخرى فإذا هي موقرة فقال : احبسوها (١).

بيان : في القاموس : تقلب في الامور تصرف كيف شاء ، وقال في النهاية : فيه : فقراء امتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا : الخريف الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء ، ويريد به أربعين سنة لان الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة ، فإذا انقضى أربعون خريفا فقد مضت أربعون سنة انتهى.

وروى في معاني الاخبار (٢) بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن عبدا مكث في النار سبعين خريفا والخريف سبعون سنة إلى آخر الخبر ، وفسره صاحب المعالم بأكثر من ذلك وفي بعض الروايات أنه ألف عام ، والعام ألف سنة ، وقيل :

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٦٠.

(٢) معاني الاخبار ص ٢٢٧.

٦

إن التفاوت بهذه المدة إذا كان الاغنياء من أهل الصلاح والسداد وأدوا الحقوق الواجبة ، ولم يكتسبوا من وجه الحرام ، فيكون حبسهم بمجرد خروجهم من عهدة الحساب والسؤال عن مكسب المال ومخرجه ، وإلا فهم على خطر عظيم.

«مر بهما» على بناء المجهول والباء للتعدية والظرف نائب الفاعل ، والعاشر من يأخذ العشر على الطريق ، في المصباح : عشرت المال عشرا من باب قتل وعشورا أخذت عشره ، واسم الفاعل عاشر وعشار «فقال : أسربوها» على بناء الافعال أي أرسلوها وخلوها تذهب ، والسارب الذاهب على وجهه في الارض «فإذا هي موقرة» بفتح القاف أو كسرها ، في القاموس : الوقر بالكسر : الحمل الثقيل أو أعم وأوقر الدابة إيقارا وقرة ودابة وقرى : موقرة ، ورجل موقر ذو وقر ونخلة موقرة وموقرة وموقر وموقرة.

«فقال احبسوها» بالامر من باب ضرب والتشبيه في غاية الحسن والكمال والحديث يدل على أن الفقر أفضل من الغنى ، ومن الكفاف للصابر وما وقع في بعض الروايات من استعاذتهم عليهم‌السلام من الفقر يمكن حمله على الاستعاذة من الفقر الذي لا يكون معه صبر ، ولا ورع يحجزه عما لا يليق بأهل الدين أو على فقر القلب أو على فقر الاخرة ، وقد صرح به بعض العلماء ودل عليه بعض الروايات.

وللعامة في تفضيل الفقر على الغنى والكفاف أو العكس أربعة أقوال : ثالثها الكفاف أفضل ورابعها الوقف ، ومعنى الكفاف ان لا يحتاج ولا يفضل ، ولا ريب أن الفقر أسلم وأحسن بالنسبة إلى أكثر الناس ، والغنى أحسن بالنسبة إلى بعضهم فينبغي أن يكون المؤمن راضيا بكل ما أعطاه الله وعلم صلاحه فيه وسؤال الفقر لم يرد في الادعية بل ورد في أكثرها الاستعاذة عن الفقر الذي يشقى به ، وعن الغنى الذي يصير سببا لطغيانه.

٥ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن سعدان قال : قال

٧

أبوعبدالله عليه‌السلام : المصائب منح من الله ، والفقر مخزون عند الله (١).

بيان : «منح من الله» المنح بكسر الميم وفتح النون جمع منحة بالكسر وهي العطية ، في القاموس : منحة كمنعه وضربه أعطاه ، والاسم المنحة بالكسر وأقول : الخبر يحتمل وجهين.

أحدهما أن ثواب المصائب منح وعطايا يبذلها الله في الدنيا ، وثواب الفقر مخزون عند الله لا يعطيه إلا في الاخرة لعظمه وشرافته والدنيا لا يصلح أن يكون عوضا عنه.

وثانيهما أن المصائب عطايا من الله عزوجل يعطيها من يشاء من عباده والفقر من جملتها مخزون عنده ، عزيز لايعطيه إلا من خصه بمزيد العناية ، ولا يعترض أحد بكثرة الفقراء ، وذلك لان الفقير هنا من لا يجد الا القوت من التعفف ولا يوجد من هذه صفته في ألف ألف واحد.

أقول : أو المراد به الفقر الذي يصير سببا لشدة الافتقار إلى الله ، ولا يتوسل معه إلى المخلوقين ، ويكون معه أعلا مراتب الرضا ، وفيه تنبيه على أنه ينبغي أن يفرح صاحب المصيبة بها كما يفرح صاحب العطية بها.

٦ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي رفعه إلى أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ياعلي إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه ، فمن سره أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم ، ومن أفشاه إلى من يقدر على قضاء حاجته فلم يفعل فقد قتله ، أما إنه ماقتله بسيف ولا رمح ولكنه قتله بما نكى من قلبه (٢).

بيان : «فقد قتله» أي قتل المسؤل السائل ، والعكس كما زعم بعيد جدا في المصباح نكأت القرحة انكأها مهموز بفتحتين قشرتها ونكيت في العدو نكأ من باب نفع أيضا لغة في نكيت فيه أنكى من باب رمى والاسم النكاية بالكسر أذا قتلت وأثخنت.

٧ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن محمد بن علي ، عن داود الحذاء

____________________

(١ ـ ٢) الكافى ج ٢ ص ٢٦٠.

٨

عن محمد بن صغير ، عن جده شعيب ، عن مفضل قال : قال أبوعبدالله عليه‌السلام : كلما ازداد العبد إيمانا ازداد ضيقا في معيشته.

وبإسناده قال : قال أبوعبدالله عليه‌السلام لولا الحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها (١).

بيان : الازدياد هنا لازم بمعنى الزيادة «وإيمانا وضيقا» تميزان وفي المصباح ازداد الشئ زاد وازددت مالا زدته لنفسي زيادة على ما كان ، ويؤيده ما نسب إلى أميرالمؤمنين عليه‌السلام :

وكم من أديب عالم فطن

مستكمل العقل مقل عديم

وكم من جهول يكثر ماله

ذاك تقدير العزيز العليم

والسر ما مر من فوائد الابتلاء من المثوبات التي ليس لها انتهاء وأيضا الاكثار موجب للتكبر والخيلاء ، واحتقار الفقراء ، والخشونة والقسوة والجفاء والغفلة عن الله سبحانه ، بسبب اشتغالهم بحفظ أموالهم وتنميتها ، مع كثرة ما يجب عليهم من الحقوق التي قل من يؤديها ، وبذلك يتعرضون لسخط الله تعالى والفقراء مبرؤن من ذلك ، مع توسلهم بربهم وتضرعهم إليه وتوكلهم عليه ، وقربهم عنده بذلك مع سائر الخلال الحميدة التي لا تنفك عن الفقر إذا صبر على الشدائد التي هي من قواصم الظهر.

٨ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن بعض أصحابه رفعه قال : قال أبوعبدالله عليه‌السلام : ما اعطى عبد من الدنيا إلا اعتبارا ، ولا زوي عنه إلا اختبارا (٢).

بيان : «إلا اعتبارا» مفعول له ، وكذا «اختبارا» وكأن المعنى لا يعطيه إلا ليعتبر به غيره ، فيعلم أنه لا خير فيه ، لما يظهر للناس من مفاسده الدنيوية والاخروية أو ليعتبر بحال الفقراء ، فيشكر الله على الغنا ، ويعين الفقراء كما مر في حديث آدم عليه‌السلام حيث سأل عن سبب اختلاف ذريته فقال تعالى في سياق جوابه : وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني

____________________

(١ و ٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦١.

٩

لكن الاول في هذا المقام أنسب.

وقوله «إلا اختبارا» في بعض النسخ بالياء المثناة التحتانية أي لانه اختاره وفضله وأكرمه بذلك ، وفي بعضها بالموحدة أي امتحانا فإذا صبر كان خيرا له والابتلاء والاختبار في حقه تعالى مجاز باعتبار أن فعل ذلك مع عباده ليترتب عليه الجزاء شبيه بفعل المختبر منا مع صاحبه والا فهو سبحانه عالم بما يصدر عن العباد قبل صدوره عنهم و «زوي» على بناء المجهول ، في القاموس : زواه زيا وزويا نحاه فانزوى ، وسيره عنه : طواه والشئ جمعه وقبضه وأقول نائب الفاعل ضمير الدنيا وقيل : هذا مخصوص بزمان دولة الباطل ، لئلا ينافي ما سيأتي من الاخبار في كتاب المعيشة.

٩ ـ كا : عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الاشعري ، عن بعض مشايخه ، عن إدريس بن عبدالله ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي الحاجة أمانة الله عند خلقه ، فمن كتمها على نفسه أعطاه الله ثواب من صلى ، ومن كشفها إلى من يقدر أن يفرج عنه ولم يفعل فقد قتله ، أما إنه لم يقتله بسيف ولا سنان ولا سهم ولكن قتله بما نكا من قلبه (١).

بيان : من صلى أي في الليل كله أو واظب عليها.

١٠ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن نوح بن شعيب وأبي إسحاق الخفاف عن رجل ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : ليس لمصاص شيعتنا في دولة الباطل إلا القوت شرقوا إن شئتم أو غربوا لم ترزقوا إلا القوت (٢).

بيان : قال الجوهري : المصاص خالص كل شئ يقال : فلان مصاص قومه إذا كان أخلصهم نسبا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث ، وفي النهاية ومنه الحديث : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا أي بقدر ما يمسك الرمق من المطعم وفي المصباح : القوت ما يؤكل ليمسك الرمق ، قاله ابن فارس والازهري انتهى وقيل : هو البلغة يعني قدر ما يتبلغ به من العيش ويسمى ذلك أيضا كفافا لانه

____________________

(١ و ٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦١.

١٠

قدر يكفه عن الناس ويغنيه عن سؤالهم ثم بالغ عليه‌السلام في أن نصيبهم القوت بقوله شرقوا الخ وهو كناية عن الجد في الطلب والسير في أطراف الارض.

١١ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن أحمد ، عن علي بن الحكم ، عن سعدان قال : قال أبوعبدالله عليه‌السلام إن الله عزوجل يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيها بالمعتذر إليهم ، فيقول : وعزتي وجلالي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم علي ولترون ما أصنع بكم اليوم فمن زود أحدا منكم في دار الدنيا معروفا فخذوا بيده فادخلوه الجنة ، قال : فيقول رجل منهم : يا رب أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النساء ، ولبسوا الثياب اللينة ، وأكلوا الطعام ، وسكنوا الدور ، وركبوا المشهور من الدواب ، فأعطني مثل ما أعطيتهم فيقول تبارك وتعالى لك ولكل عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا منذ كانت إلى أن انقضت الدنيا سبعون ضعفا (١).

بيان : «ولترون» بسكون الواو وتخفيف النون أو بضم الواو وتشديد النون المؤكدة «ما أصنع» ما موصولة أو استفهامية «فمن زود» على بناء التفعيل أي أعطى الزاد للسفر ، كما ذكره الاكثر أو مطلقا فيشمل الحضر في المصباح زاد المسافر : طعامه المتخذ لسفره وتزود لسفره وزودته أعطيته زادا ، ونحوه قال الجوهري وغيره لكن قال الراغب : الزاد المدخر الزائد على ما يحتاج اليه في الوقت «منكم» أي أحدا منكم كما في بعض النسخ ، وقيل : «من» هنا اسم بمعنى البعض ، وقيل : معروفا صفة للمفعول المطلق المحذوف أي تزويدا معروفا وفي النهاية التنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشئ والانفراد به وهو من الشئ النفيس الجيد في نوعه ونافست في الشئ منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه ، ونفس بالضم نفاسة أي صار مرغوبا فيه ونفست به بالكسر أي بخلت ونفست عليه الشئ نفاسة إذا لم تره له أهلا.

والمشهور من الدواب التي اشتهرت بالنفاسة والحسن ، في القاموس المشهور

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٦١.

١١

المعروف المكان المذكور والنبيه وفي النهاية فيه : الضعف في المعاد أي مثلي الاجر يقال إن أعطيتني درهما فلك ضعفه أي درهمان ، وربما قالوا تلك ضعفاه ، وقيل : ضعف الشئ مثله ، وضعفاه مثلاه وقال الازهري : الضعف في كلام العرب المثل فما زاد وليس بمقصور على مثلين فاقل الضعف محصور في الواحد وأكثره غير محصور.

١٢ ـ كا : عن العدة ، عن سهل ، عن إبراهيم بن عقبة ، عن إسماعيل بن سهل وإسماعيل بن عباد جميعا ، يرفعانه إلى أبي عبدالله عليه‌السلام قال : ما كان من ولد آدم مؤمن إلا فقيرا ولا كافر إلا غنيا حتى جاء إبراهيم عليه‌السلام فقال : «ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا» (١) فصير الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة (٢).

بيان : «ربنا لا تجعلنا» أقول هذا تتمة قول إبراهيم حيث قال في سورة الممتحنة «قد كان لكم اسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم».

قال في مجمع البيان : معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا ببلاء من عندك ، فيقولوا لو كان هؤلاء على حق لما أصابهم هذا البلاء ، وقيل : معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن دينك ، وقيل : معناه الطف لنا حتى نصبر على أذاهم ولا نتبعهم فنصير فتنة لهم ، وقيل : معناه اعصمنا من موالاة الكفار فانا إذا واليناهم ظنوا أنا صوبناهم وقيل : معناه لاتخذلنا إذا حاربناهم ، فلو خذلتنا لقالوا لو كان هؤلاء على الحق لما خذلوا ، انتهى (٣).

____________________

(١) الممتحنة : ٥.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦٢.

(٣) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٧١.

١٢

وأقول : المعنى المستفاد من الخبر قريب من المعنى الاول لان الفقر أيضا بلاء يصير سببا لافتتان الكفار إما بأن يقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما ابتلوا بعموم الفقر فيهم ، أو بأن يفروا من الاسلام خوفا من الفقر في هؤلاء.

«أموالا وحاجة» أي صار بعضهم ذوي مال وبعضهم محتاجين مفتاقين ، ولا ينافي هذا كون الاموال في الكفار أو غير الخلص من المؤمنين أكثر ، والفاقة في خلص المؤمنين أو كلهم أكثر وأشد.

١٣ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن عثمان بن عيسى ، عمن ذكره عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نقي الثوب فجلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخفت أن يمسك من فقره شئ؟ قال : لا ، قال : فخفت أن يصيبه من غناك شئ؟ قال : لا ، قال : فخفت أن يوسخ ثيابك؟ قال : لا؟ قال : فما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن ، وقد جعلت له نصف مالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للمعسر : أتقبل؟ قال : لا ، فقال له الرجل : لم؟ قال : أخاف أن يدخلني ما دخلك (١).

بيان : «فجلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال الشيخ البهائي قدس‌سره : «إلى» إما بمعنى «مع» كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى : «من أنصاري إلى الله» (٢) أو بمعنى عندكما في قول الشاعر : * أشهى إلي من الرحيق السلسل * ويجوز أن يضمن جلس معنى توجه أو نحوه «درن الثوب» بفتح الدال وكسر الراء صفة مشبهة من الدرن بفتحهما ، وهو الوسخ ، وأقول : في المصباح درن الثوب درنا فهو درن ، مثل وسخ وسخا فهو وسخ وزنا ومعنى.

«فقبض الوسر ثيابه» قيل : أي أطراف ثوبه «من تحت فخذيه» كأن الظاهر

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٦٢.

(٢) الصف : ١٤.

١٣

إرجاع ضمير فخذيه إلى المعسر ، ولو كان راجعا إلى الموسر لما كان لجمع الطرف الاخر وجه إلا أن يكون لموافقة الطرف الاخر وفيه تكلفات اخر.

وقال الشيخ المتقدم رحمه‌الله : ضمير «فخذيه» يعود إلى الموسر أي جمع الموسر ثيابه وضمها تحت فخذي نفسه لئلا تلاصق ثياب المعسر ، ويحتمل عوده إلى المعسر ، و «من» على الاول إما بمعنى «في» أو زائدة على القول بجواز زيادتها في الاثبات ، وعلى الثاني لابتداء الغاية ، والعود إلى الموسر أولى كما يرشد إليه قوله عليه‌السلام «فخفت أن يوسخ ثيابك» لان قوله عليه‌السلام : فخفت أن يوسخ ثيابك الغرض منه مجرد التقريع للموسر كما هو الغرض من التقريعين السابقين أعني قوله : «خفت أن يمسك من فقره شئ» «خفت أن يصيبه من غناك شئ» وهذه التفريعات الثلاث منخرطة في سلك واحد ، ولو كان ثياب الموسر تحت فخذي المعسر ، لا يمكن أن يكون قبضها من تحت فخذيه خوفا من أن يوسخها.

أقول : ما ذكره قدس‌سره وان كان التقريع فيه أظهر وبالاولين أنسب لكن لا يصير هذا مجوزا لارتكاب بعض التكلفات إذ يمكن أن يكون التقريع لان سراية الوسخ في الملاصقة في المدة القليلة نادرة أو لان هذه مفسدة قليلة لا يحسن لاجلها ارتكاب إيذاء مؤمن.

«إن لي قرينا يزين لي كل قبيح» قال رحمه‌الله : أي إن لي شيطانا يغويني ويجعل القبيح حسنا والحسن قبيحا ، وهذا الفعل الشنيع الذي صدر مني من جملة إغوائه لي.

أقول : ويمكن أيضا أن يراد بالقرين النفس الامارة التي طغت وبغت بالمال ، أو المال أو الاعم كما قال تعالى : «إن الانسان ليطغى * أن رآه استغنى» (١) وقال في النهاية ومنه الحديث ما من أحد إلا وكل به قرينه أي مصاحبه من الملائكة أو الشياطين ، وكل إنسان فان معه قرينا منهما فقرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه ، وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه.

____________________

(١) العلق : ٦ ٧.

١٤

«وجعلت له نصف مالي» أي في مقابلة ما صدر مني إليه من كسر قلبه وزجرا للنفس عن العود إلى مثل هذه الزلة «قال أخاف أن يدخلني ما دخلك» أي مما ذكرت أو من الكبر والغرور والترفع على الناس واحتقارهم وسائر الاخلاق الذميمة التي هي من لوازم التمول والغنى.

١٤ ـ كا : عن علي بن إبراهيم ، عن علي بن محمد القاساني ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال في مناجاة موسى عليه‌السلام : يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنا مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته (١).

بيان : الشعار بالكسر ما ولي الجسد من الثياب لانه يلى شعره ، ويستعار للصفات المختصة ، وفي حديث الانصار : أنتم الشعار دون الدثار ، والشعار أيضا علامة يتعارفون بها في الحرب ، والفقر من خصائص الصالحين ، ومرحبا أي لقيت رحبا وسعة ، وقيل : معناه رحب الله بك مرحبا ، والقول كناية عن غاية الرضا والتسليم.

«ذنب عجلت عقوبته» أي أذنبت ذنبا صار سببا لان أخرجني الله من أوليائه واتصفت بصفات أعدائه أو ابتلاني بالمشقة التي ابتلا بها أصحاب الاموال كما قال تعالى : «إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا» (٢) وما قيل من أن الذنب من الغنا فهو بعيد جدا.

١٥ ـ كا : عن علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : طوبى للمساكين بالصبر ، وهم الذين يرون ملكوت السماوات والارض (٣).

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٦٣.

(٢) براءة : ٥٥.

(٣) الكافي ص ٢٦٣.

١٥

بيان : قد مر تفسير طوبى (١) وقوله : «بالصبر» إما للسببية أي طوبى لهم بسبب الصبر أو للملابسة فيكون حالا عن المساكين ، ولا يبعد أن يقرء المساكين بالتشديد للمبالغة أي المتمسكين كثيرا بالصبر.

ورؤية ملكوت السماوات والارض للكمل منهم ، وهم الانبياء والاوصياء ومن يقرب منهم من الاولياء ، ويمكن أن يكون لرؤية ملكوت السماوات والارض مراتب يحصل لكل منهم مرتبة يليق بهم ، فمنهم من يتفكر في خلق السماوات والارض ونظام العالم ، فيعلم بذلك قدرته تعالى وحكمته ، وأنه لم يخلقها عبثا بل خلقها لامر عظيم ، وهو عبادة الله سبحانه ومعرفته ، كما قال تعالى : «يتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا» (٢).

ومنهم من يتفكر في أن خالق السماوات والارض لا يكون عاجزا ولا بخيلا فلم يفقرهم ويحوجهم الا لمصلحة عظيمة فيصبر على بلاء الله ويرضى بقضائه

____________________

(١) روى الصدوق في المعاني ص ١١٢ باسناده عن أبي بصير قال : قال الصادق عليه‌السلام : طوبى لمن تمسك بامرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية ، فقلت له جعلت فداك وما طوبى؟ قال : شجرة في الجنة أصلها في دار علي بن أبي طالب عليه‌السلام وليس مؤمن إلا وفي داره غصن من أغصانها ، وذلك قول الله عزوجل «طوبى لهم وحسن مآب».

وروى العياشي في تفسيره ج ٢ ص ٢١٣ عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : وطوبى شجرة في الجنة أصلها في دار رسول الله فليس من مؤمن الا وفي داره غصن من أغصانها لا ينوي في قلبه شيئا إلا آتاه ذلك الغصن ، ولو أن راكبا مجدا سار في ظلها مائة عام ما خرج منها ولو أن غرابا طار من أصلها ما بلغ أعلاها حتى يبياض هرما.

وقال الشرتوني في الاقرب : الطوبى مصدر بمعنى الطيب أصله طيبي بضم الطاء قلبت الياء واوا لسكونها بعد ضمه وجمع الطيبة ، هو من نوادر الجموع ، وتأنيث الاطيب والغبطة والسعادة والحسنى والخير والخيرة وشجرة في الجنة أو الجنة بالهندية ، ويقال لها طيبي بكسر الطاء أيضا.

(٢) آل عمران : ١٩١.

١٦

وكأن تفسير المساكين هنا بالانبياء والاوصياء عليهم‌السلام أظهر ، وقد ورد في بعض الاخبار تفسيره بهم عليهم‌السلام فان المسكنة والخضوع والخشوع ، والتوسل بجناب الحق سبحانه ، والاعراض عن غيره ، قال في النهاية : قد تكرر في الحديث ذكر المسكين والمساكين والمسكنة والتمسكن وكلها يدور معناها على الخضوع والذلة وقلة المال والحال السيئة ، واستكان إذا خضع ، والمسكنة فقر النفس وتمسكن إذا تشبه بالمساكين ، وهو جمع المسكين ، وهو الذي لا شئ له ، وقيل : هو الذي له بعض الشئ ، وقد تقع المسكنة على الضعف ، ومنه حديث قيلة صدقت المسكنة أراد الضعف ولم يرد الفقر وفيه : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين : أراد به التواضع والاخبات وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين وفيه أنه قال للمصلي تبأس وتمسكن أي تذل وتخضع ، وهو تمفعل من السكون.

١٦ ـ كا : عن علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا معشر المساكين طيبوا نفسا ، وأعطوا الله الرضا من قلوبكم ، يثبكم الله عزوجل على فقركم : فان لم تفعلوا فلا ثواب لكم (١).

بيان : «نفسا» تميز ، ويدل على أن الثواب إنما هو على الرضا بالفقر لا على أصل الفقر ، وحمل على اصول المتكلمين وهي أن الثواب هو الجزاء الدائم في الاخرة ، وهو لا يكون إلا على الفعل الاختياري ، وأما ما يعطيه الله على الالام التي يوردها على العبد في الدنيا بغير اختياره ، فانما هو الجزاء المنقطع في الدنيا أو في الاخرة أيضا ، على قول بعضهم ، حيث جوزوا أن يكون انقطاعها على وجه لا يشعر به ، فلا يصير سببا لالمه ، ومنهم من جوز كون العوض دائما في الاخرة.

قال العلامة قدس الله روحه في الباب الحادي عشر : السادسة في أنه تعالى يجب عليه فعل عوض الالام الصادرة عنه ، ومعنى العوض هو النفع المستحق الخالي

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٦٣.

١٧

عن التعظيم والاجلال ، وإلا لكان ظالما تعالى الله عن ذلك ، ويجب زيادته على الالام ، والا لكان عبثا.

وقال بعض الافاضل في شرحه : الالم الحاصل للحيوان إما أن يعلم فيه وجه من وجوه القبح ، فذلك يصدر عنا خاصة ، أو لا يعلم فيه ذلك فيكون حسنا وقد ذكر لحسن الالم وجوه : الاول كونه مستحقا ، الثاني كونه مشتملا على النفع الزائد ، الثالث كونه مشتملا على دفع الضرر الزائد عنه ، الرابع كونه بمجرى العادة ، الخامس ، كونه متصلا على وجه الدفع ، وذلك الحسن قد يكون صادرا عنه تعالى وقد يكون صادرا عنا.

فأما ما كان صادرا عنه تعالى على وجه النفع فيجب فيه أمران : أحدهما العوض ، وإلا لكان ظالما تعالى الله عنه ، ويجب أن يكون زائدا على الالم إلى حد يرضى عنه كل عاقل لانه يقبح في الشاهد إيلام شخص لتعويضه ألمه من غير زيادة لاشتماله على العبث ، وثانيهما اشتماله على اللطف إما للمتألم أو لغيره ليخرج عن العبث فاما ما كان صادرا عنا مما فيه وجه من وجوه القبح ، فيجب عليه تعالى الانتصاف للمتألم من المؤلم لعدله ، ولدلالة الادلة السمعية عليه ويكون العوض هنا مساويا للالم ، وإلا لكان ظلما.

وهنا فوائد : الاول العوض هو النفع المستحق الخالي عن تعظيم واجلال فبقيد المستحق خرج التفضل ، وبقيد الخلو عن تعظيم خرج الثواب.

الثاني لا يجب دوام العوض لانه يحسن في الشاهد ركوب الاهوال العظيمة لنفع منقطع قليل.

الثالث العوض لا يجب حصوله في الدنيا لجواز أن يعلم الله تعالى المصلحة في تأخره ، بل قد يكون حاصلا في الدنيا ، وقد لا يكون.

الرابع الذي يصل اليه عوض ألمه في الاخرة إما أن يكون من أهل الثواب أو من أهل العقاب؟ فإن كان من أهل الثواب فكيفية إيصال أعواضه إليه بأن

١٨

يفرقها الله على الاوقات أو يتفضل الله عليه بمثلها ، وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزءا من عقابه ، بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرق القدر على الاوقات.

الخامس الالم الصادر عنا بأمره أو إباحته والصادر عن غير العاقل كالعجماوات وكذا ما يصدر عنه تعالى من تفويت المنفعة لمصلحة الغير وإنزال الغموم الحاصلة من غير فعل العبد عوض ذلك كله على الله تعالى لعدله وكرمه.

وأقول : كون أعواض الالام الغير الاختيارية منقطعة مما لم يدل عليه برهان قاطع ، وبعض الروايات تدل على خلافه كالروايات الدالة على أن حمى ليلة تعدل عبادة سنة ، وأن من مات له ولد يدخله الله الجنة صبر أم لم يصبر جزع أم لم يجزع ، وإن من سلب الله كريمته وجبت له الجنة ، وأمثال ذلك كثيرة ، وإن أمكن تأويل بعضها مع الحاجة إليه.

وقيل : للفقير ثلاثة أحوال : أحدها الرضا بالفقر ، والفرح به ، وهو شأن الاصفياء ، وثانيها الرضابه دون الفرح وله أيضا ثواب دون الاول ، وثالثها عدم الرضا به والكراهة في القسمة ، وهذا مما لا ثواب له أصلا.

وهو كلام على التشهي لكن روي السيد الرضي رضي‌الله‌عنه في نهج البلاغة أنه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لبعض أصحابه في علة اعتلها : جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك ، فان المرض لا أجر فيه ولكنه يحط السيئات ويحتها حت الاوراق وإنما الاجر في القول باللسان ، والعمل بالايدي والاقدام ، وإن الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة (١).

ثم قال السيد رحمه‌الله : وأقول : صدق عليه‌السلام إن المرض لا أجر فيه لانه من قبيل ما يستحق عليه العوض ، لان العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الالام والامراض ، وما يجري مجرى ذلك ، والاجر والثواب يستحقان على ما كان في مقابلة فعل العبد فبينهما فرق قد بينه عليه‌السلام كما

____________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ ص ١٥٣.

١٩

يقضيه علمه الثاقب ، ورأيه الصائب ، انتهى.

وقوله عليه‌السلام : اعتلها أي اعتل بها ، والشكوى المرض ، والحط الوضع والحدر من علو إلى سفل ، وحت الورق كمد سقطت فانحتت وتحاتت ، وحت فلان الشئ أي حطه يتعدى ولا يتعدى والسريرة ما يكتم كالسر ولو كانت الرواية صحيحة يؤيد مذهب القوم في الجملة.

وقال قطب الدين الراوندي في شرحه على النهج : قول السيد : إن المرض لا أجر له ليس ذلك على الاطلاق ، وذلك لان المريض إذا احتمل المشقة التي حملها الله عليه ، احتسابا كان له أجر الثواب على ذلك ، والعوض على المرض ، فعلى فعل العبد إذا كان مشروعا الثواب ، وعلى فعل الله إذا كان ألما على سبيل الاختيار العوض.

وقال ابن أبي الحديد (١) ينبغي أن يحمل كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام في هذا الفصل على تأويل يطابق ما يدل عليه العقول وأن لا يحمل على ظاهره ، وذلك لان المرض إذا استحق عليه الانسان العوض لم يجز أن يقال العوض يحط السيئات بنفسه لا على قول أصحابنا ، ولا على قول الامامية.

أما الامامية فانهم مرجئة لا يذهبون إلى التحابط ، وأما أصحابنا فانهم لا تحابط عندهم إلا في الثواب والعقاب ، فأما العقاب والعوض فلا تحابط بينهما لان التحابط بين الثواب والعقاب إنما كان باعتبار التنافي بينهما ، من حيث كان أحدهما يتضمن الاجلال والاعظام ، والاخر يتضمن الاستخفاف والاهانة ، ومحال أن يكون الانسان الواحد مهانا معظما في حال واحد ، ولما كان العوض لا يتضمن إجلالا وإعظاما ، وإنما هو نفع خالص فقط ، لم يكن منافيا للعقاب ، وجاز أن يجتمع للانسان الواحد في الوقت الواحد كونه مستحقا للعقاب والعوض إما بأن يوفر العوض عليه في الدار الدنيا ، وإما بأن يخفف عنه بعض عقابه ، ويجعل ذلك بدلا من العوض الذي كان سبيله أن يوصل إليه.

____________________

(١) شرح النهج الحديدي ج ٤ ص ٢٦٢.

٢٠