بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

عليه ضيعته أي أكثر عليه معاشه (١) انتهى.

وأقول : هذه الفقرة تحتمل وجوها :

الاول ماذكره في النهاية أي جمعت عليه ضيعته ومعيشته ، والتعدية بعلى لتضمين معنى البركة أو الشفقة ونحوهما ، أو على بمعنى إلى كما أومأ إليه في النهاية فيحتاج أيضا إلى تضمين.

الثاني أن يكون الكف بمعنى المنع ، وعلى بمعنى عن ، والضيعة بمعنى الضياع أي أمنع عنه ضياع نفسه وماله وولده وسائر مايتعلق به ، ويؤيده ماسيأتي في رواية الصدوق رحمه‌الله : وكففت عنه ضيعته.

الثالث ماذكره بعض المحققين وتبعه غيره أنه من الكفاف وهو ما يفي بمعيشته مباركا عليه كفافا له ، ولا يخفى بعده لفظا إذ لاتساعده اللغة.

قوله تعالى : « وضمنت » على صيغة المتكلم من باب التفعيل أي جعلت السماوات والارض ضامنتين لرزقه كناية عن تسبيب الاسباب السماوية والارضية له وربما يقرأ بصيغة الغايب على بناء المجرد ، ورفع السماوات والارض ، وهو بعيد « وكنت له من وراء تجارة كل تاجر » الوراء فعال ، ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي وياء عند العامة وهو من ظروف المكان بمعنى قدام ، وخلف ، والتجارة مصدر بمعنى البيع والشراء ، للنفع ، وقد يراد بها مايتجر فيه من الامتعة ونحوها على تسمية المفعول باسم لمصدر ، وهذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها :

الاول أن يكون المعنى كنت له عقب تجارة كل تاجر أسوقها إليه أي القي محبته في قلوب التجار ليتجروا له ويكفوا مهماته. الثاني أن يكون المعنى كنت له عوضا من تجارة كل تاجر فان كل تاجر يتجر لمنفعة دنيوية أواخروية ولما أعرض عن جميع ذلك كفلت أنا ربح تجارته ، وهذا معنى دقيق خطر بالبال لايناسب إلا من

____________________

(١) قال في اللسان : أفشى الله ضيعته : أى كثر عليه معاشه ليشغله عن الاخرة ، وروى أفسد بالسين والمعروف المروى أفشى ، أقول والظاهر من الاستعمال أنه دعاء عليه ، قال في الاساس : فشت عليه ضيعته : اذا انتشرت عليه أموره لايدرى بأيها يبدأ.

٨١

بلغ في درجات المحبة أقصى مراتب الكمال.

الثالث الجمع بين المعنيين أي كنت له بعد حصول تجارة كل تاجر له.

الرابع ما قيل : إن كل تاجر في الدنيا للآخرة يجد نفع تجارته فيها من الحسنة ونعيمها والله سبحانه بذاته المقدسة والتجليات اللائقة وراء هذا لهذا العبد ، ففيه دلالة على أن للزاهدين في الجنة نعمة روحانية أيضا وهو قريب من الثالث.

الخامس أن يكون الوراء بمعنى القدام أي كنت له أنيسا ومعينا ومحبا ومحبوبا قبل وصوله إلى نعيم الآخرة الذي هو غاية مقصود التاجرين لها.

السادس ماقيل : أي أنا أتجر له فأربح له مثل ربح جميع التجار ، لو اتجروا له ولا يخفى بعده.

١٦ ـ كا : عن محمد ، عن أحمد ، عن ابن محبوب ، عن العلا ، عن ابن سنان عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال الله عزوجل : وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي وعلو ارتفاعي لايؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شئ من أمر الدنيا إلا جعلت غناه في نفسه ، وهمته في آخرته ، وضمنت السماوات والارض رزقه ، وكنت له من وراء تجاة كل تاجر (١).

بيان : البهاء الحسن ، والمراد الحسن المعنوي وهو الاتصاف بجميع الصفات الكمالية « إلا جعلت غناه في نفسه » أي أجعل نفسه غنية قانعة بما رزقته لا بالمال فان الغني بالمال الحريض في الدنيا أحوج الناس وإنما الغنى غنى النفس فكلمة « في » للتعليل ، ويحتمل الظريفة أيضا بتكلف « وهمته » أي عزمه وقصده في آخرته ففي للتعليل أيضا ، أو المعنى أنها مقصورة في آخرته ولا يوجه همته إلى تحصيل الدنيا أصلا.

١٧ ـ كا : عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب عن أبي محمد الوابشي قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شئ أعدى للرجال من اتباع أهوائهم ، وحصائد

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ١٣٧.

٨٢

ألسنتهم (١).

بيان : « احذروا أهواءكم » الاهواء جمع الهوى وهو مصدر هويه كرضيه إذا أحبه واشتهاه ، ثم سمي به المهوي المشتهى ، محمودا كان أو مذموما ، ثم غلب على المذموم ، قال الجوهري : كل خال هواء وقوله تعالى : « وأفتدتهم هواء » يقال : إنه لا عقول فيها ، والهوى مقصورا هوى النفس والجمع الاهواء وهوي بالكسر يهوى هوى أي أحب. الاصمعي هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل (٢) وقال الراغب : الهوى ميل النفس إلى الشهوة ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة وقيل : سمي بذلك لانه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية ، وقد عظم الله ذم اتباع الهوى ، فقال : « أفرأيت من اتخذ إلهه هواه » وقال : « ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله » (٣) « واتبع هواه وكان أمره فرطا » (٤) وقوله : « ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم » (٥) فانما قاله بلفظ الجمع تنبيها على أن لكل هوى غير هوى الآخر ثم هوى كل واحد لايتناهى فاذن اتباع أهوائهم نهاية الضلال والحيرة قال : « ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون » (٦) وقال : « كالذي استهوته الشياطين في الارض » (٧) « ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل » (٨) وقال : « قل لا أتبع أهوائكم قد ضللت إذا » (٩) « ولا تتبع أهوائهم وقل آمنت بما أنزل الله

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٣٥.

(٢) الصحاح ج ٦ ص ٢٥٣٧.

(٣) سورة ص : ٢٦.

(٤) الكهف : ٢٨.

(٥) البقرة : ١٢٠.

(٦) الجاثية : ١٨.

(٧) الانعام : ٧١.

(٨) المائدة : ٧٧.

(٩) الانعام : ٥٦.

٨٣

من كتاب » (١) « ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله » (٢) انتهى.

وأقول : ينبغي أن يعلم أن ماتهواه النفس ليس كله مذموما ومالاتهواه النفس ليس كله ممدوحا ، بل المعيار مامر في باب ذم الدنيا (٣) وهو أن كل مايرتكبه الانسان لمحض الشهوة النفسانية واللذة الجسمانية والمقاصد الفانية الدنيوية ، ولم يكن الله مقصودا له في ذلك ، فهو من الهوى المذموم ، ويتبع فيه النفس الامارة بالسوء ، وإن كان مشتملا على زجر النفس عن بعض المشتهيات أيضا كمن يترك لذيد المأكل والمطعم والملبس ، ويقاسي الجوع والصوم والسهر للاشتهار بالعبادة ، وجلب قلوب الجهال ، ومايرتكبه الانسان لاطاعة أمره سبحانه وتحصيل رضاه وإن كان مما تشتهيه نفسه وتهواه ، فليس هو من الهوى المذموم كمن يأكل ويشرب لامره تعالى بهما أو لتحصيل القوة على العبادة وكمن يجامع الحلال لكونه مأمورا به ، أو لتحصيل الاولاد الصالحين ، أو لعدم ابتلائه بالحرام.

فهؤلاء وإن حصل لهم الالتذاذ بهذه الامور لكن ليس مقصودهم محض اللذة بل لهم في ذلك أغراض صحيحة إن صدقتهم أنفسهم ولم تكن تلك من التسويلات النفسانية ، والتخييلات الشيطانية ، ولو لم يكن غرضهم من ارتكاب تلك اللذات هذه الامور ، فليسوا بمعاقبين في ذلك إذا كان حلالا لكن إطاعة النفس في أكثر ما تشتهيه قد ينجر إلى ارتكاب الشبهات والمكروهات ، ثم إلى المحرمات ، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

فظهر أن كل ماتهواه النفس ليس مما يلزم اجتنابه ، فان كثيرا من العلماء قد يتلذون بعلمهم أكثر مما يلتذ الفساق بفسقهم ، وكثيرا من العباد يأنسون بالعبادات بحيث يحصل لهم الهم العظيم بتركها ، وليس كل مالاتشتهيه النفس

____________________

(١) الشورى : ١٥.

(٢) القصص : ٥٠ ، راجع مفردات غريب القرآن ٥٤٨.

(٣) يعنى باب ذم الدنيا والزهد فيها من الكافي.

٨٤

يحسن ارتكابه ، كأكل القاذورات والزنا بالجارية القبيحة ، ويطلق أيضا الهوى على اختيار ملة أو طريقة أو رأي لم يستند إلى برهان قطعي أو دليل من الكتاب والسنة كمذاهب المخالفين ، وآرائهم وبدعهم ، فانها من شهوات أنفسهم ومن أوهامهم المعارضة للحق الصريح ، كما دلت عليه أكثر الآيات المتقدمة.

فذم الهوى مطلقا إما مبني على أن الغالب فيما تشتهيه الانفس أنها مخالفة لما ترتضيه العقل أو على أن المراد بالنفس النفس المعتادة بالشر ، الداعية إلى السوء والفساد ، ويعبر عنها بالنفس الامارة كما قال تعالى : « إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي » (١) أو صار الهوى حقيقة شرعية في المعاصي والامور القبيحة التي تدعو النفس إليها ، والآراء والملل والمذاهب الباطلة التي تدعو إليها الشهوات الباطلة ، والاوهام الفاسدة ، لا البراهين الحقة.

« فليس شئ أعدى للرجال » لان ضرر العدو على فرض وقوعه راجع إلى الدنيا الزائلة ، ومنافعها الفانية ، وضرر الهوى راجع إلى الآخرة الباقية.

« وحصائد ألسنتهم » قال في النهاية : فيه وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم أي مايقطعونه من الكلام الذي لاخير فيه ، واحدتها حصيدة ، تشبيها بما يحصد من الزرع ، وتشبيها للسان وما يقتطعه من القوب بحد المنجل الذي يحصد به ، وقال الطيبي : أي كلامهم القبيح كالكفر والقذف والغيبة وقال الجوهري : حصدت الزرع وغيره أحصده وأحصده حصدا والزرع محصود وحصيد وحصيدة ، وحصائد ألسنتهم الذي في الحديث هو ماقيل في الناس باللسان وقطع به عليهم.

١٨ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن عبدالله بن القاسم ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول الله عزوجل : وعزتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لايؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه ، وشغلت قلبه بها ، ولم اوته

____________________

(١) يوسف : ٥٣.

٨٥

منها إلا ماقدرت ، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لايؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والارضين رزقه ، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر ، وأتته الدنيا وهي راغمة (١).

بيان : « وعزتي » أقسم سبحانه تأكيدا لتحقيق مضمون الخطاب ، وتثبيته في قلوب السامعين ، أولا بعزته وهي القوة والغلبة وخلاف الذلة وعدم المثل والنظير ، وثانيا بجلاله وهو التنزه من النقائص أو عن أن يصل إليه عقول الخلق أو القدرة التي تصغر لديها قدرة كل ذي قدرة ، وثالثا بعظمته وهي تنصرف إلى عظمة الشأن والقدر الذي يذل عندها شأن كل ذي شأن أو هو أعظم من أن يصل إلى كنه صفاته احد ، ورابعا بكبريائه وهو كون جميع الخلائق مقهورا له منقادا لارادته ، وخامسا بنوره وهو هدايته التي بها يهتدي أهل السماوات والارضين إليه وإلى مصالحهم ومراشدهم كما يهتدى بالنور ، وسادسا بعلوه أي كونه أرفع من أن يصل إليه العقول والافهام أو كونه فوق الممكنات بالعلية أو تعاليه عن الاتصاف بصفات المخلوقين ، وسابعا بارتفاع مكانه وهو كونه أرفع من أن يصل إليه وصف الواصفين أو يبلغه نعت الناعتين ، وكان بعضها تأكيد لبعض.

« لايؤثر » أي لايختار « عبد هواه » أي مايحبه ويهواه « على هواي » أي على ما أرضاه وأمرت به « إلا شتت عليه أمره » على بناء المجرد أو التفعيل ، في القاموس شت يشت شتا وشتاتا وشتيتا فرق وافترق كانشت وتشتت وشتته الله وأشته (٢) وأقول : تشتت أمره إما كناية عن تحيره في أمر دينه ، فان الذين يتبعون الاهواء الباطلة في سبل الضلالة يتيهون ، وفي طرق الغواية يهيمون ، أو كناية عن عدم انتظام امور دنياهم ، فان من اتبع الشهوات لاينظر في العواقب فيختل عليه امور معاشه ، ويسلب الله البركة عما في يده أو الاعم منهما وعلى الثاني الفقرة الثانية تأكيد ، وعلى الثالث تخصيص بعد التعميم « ولبست عليه

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٣٥.

(٢) القاموس ج ١ ص ١٥١.

٨٦

دنياه » أي خلطتها أو أشكلتها وضيقت عليه المخرج منهما ، قال : في المصباح لبست الامر لبسا من باب ضرب خلطته ، وفي التنزيل « وللبسنا عليهم مايلبسون » (١) والتشديد مبالغة وفي الامر لبس بالضم ولبسة أيضا إشكال والتبس الامر أشكل ولابسته بمعنى خالطته.

وقال الراغب : أصل اللبس ستر الشئ ، ويقال : ذلك في المعاني يقال لبست عليه أمره قال تعالى : « وللبسنا عليهم مايلبسون ولا تلبسوا الحق بالباطل » (٢) « لم تلبسون الحق بالباطل » (٣) « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » (٤) و يقال في الامر لبسة أي التباس ولابست فلانا : خالطته (٥).

« وشغلت قلبه بها » أي هو دائما في ذكرها وفكرها غافلا عن الآخرة و تحصيلها ولا يصل من الدنيا غاية مناه فيخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين « إلا استحفظته ملائكتي » أي أمرتهم بحفظه من الضياع والهلاك في الدين والدنيا « وكفلت السماوات والارضين رزقه » وقد مر « وضمنت » أي جعلتهما ضامنين وكفيلين لرزقه ، كناية عن تسبيب الاسباب السماوية والارضية لوصول رزقه المقدر إليه.

« وكنت له من وراء تجارة كل تاجر » أقول : قد مر أنه يحتمل وجوها الاول أن يكون المعنى كنت من وراء تجارة التاجرين أي عقبها أسوقها إليه أي اسخر له قلوبهم له ، والقي فيها أن يدفعوا قسطا من أرباح تجاراتهم إليه الثاني أني أتجر له عوضا عن تجارة كل تاجر له ، لو كانوا اتجروا له الثالث أن المعنى أنا أي قربي وحبي له عوضا عن المنافع الزائلة الفانية التي

____________________

(١) الانعام : ٩.

(٢) البقرة : ٤٢.

(٣) آل عمران : ٧١.

(٤) الانعام : ٨٢.

(٥) مفردات غريب القرآن ٤٤٧.

٨٧

تحصل للتجار في تجارتهم وبعبارة اخرى أنا مقصوده في تجارته المعنوية بدلا عما يقصده التجار من أرباحهم الدنيوية « فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين » الرابع أن المعنى كنت له بعد أن أسوق إليه أرباح التاجرين فتجتمع له الدنيا و الآخرة ، وهي التجارة الرابحة.

« وأتته الدنيا وهي راغمة » أي ذليلة منقادة كناية عن تيسر حصولها بلا مشقة ولا ذلة أو مع هوانها عليه وليست لها عنده منزلة لزهده فيها ، أو مع كرهها كناية عن بعد حصولها له بحسب الاسباب الظاهرة ، لعدم توسله بأسباب حصولها وهذا معنى لطيف وإن كان بعيدا وفي القاموس الرغم الكره ويثلث كالمرغمة رغمه كعلمه ومنعه كرهه والتراب كالرغام ورغم أنفي لله مثلثة ذل عن كره وأرغمه الله أسخطه ورغمته فعلت شيئا على رغمه ، وفي النهاية أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام ، وهو التراب ، هذا هو الاصل ثم استعمل في الذل والعجر عن الانتصاف والانقياد على كره.

١٩ ـ كا : عن الحسين بن محمد ، عن المعلى ، عن الوشاء ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة ، عن يحيى بن عقيل قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنما أخاف عليكم اثنتين ابتاع الهوى وطول الامل ، أما اتباع الهوى فانه يصد عن الحق وأما طول الامل فينسي الآخرة (١).

بيان : « أما اتباع الهوى فانه يصد عن الحق » لان حب الدنيا وشهواتها يعمي القلب عن رؤية الحق وتمنع النفس عن متابعته ، فان الحق والباطل متقابلان والآخرة والدنيا ضرتان متنافرتان والدنيا مع أهل الباطل ، فاتباع الهوى إما يصير سببا لاشتباه الحق بالباطل في نظره ، أو يصير باعثا على إنكار الحق مع العلم به والاول كعوام أهل الباطل ، والثاني كعلمائهم.

« وطول الامل » أي ظن البقاء في الدنيا وتوقع حصول المشتهيات فيها بالاماني الكاذبة الشيطانية ينسي الموت والآخرة وأهوالهما ، فلا يتوجه إلى تحصيل

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٣٦.

٨٨

الآخرة وماينفعه فيها ويخلصه من شدائدها ، وإنما نسب الخوف منهما إلى نفسه القدسية ، لانه هو مولى المؤمنين والمتولي لاصلاحهم والراعي لهم في معاشهم والداعي لهم إلى صلاح معادهم.

٢٠ ـ كا : عن العدة ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبدالله بن عبدالرحمان الاصم ، عن عبدالرحمان بن الحجاج قال : قال لي أبوالحسن عليه‌السلام : اتق المرقى السهل إذا كان منحدره وعرا ، وقال : كان أبوعبدالله عليه‌السلام يقول : لاتدع النفس وهواها ، فان هواها في رداها ، وترك النفس وماتهوى أذاها وكف النفس عما تهوى دواها (١).

بيان : « اتق المرقى السهل » الخ المرقى والمرتقى والمرقاة موضع الرقى والصعود من رقيت السلم والسطح والجبل علوته ، والمنحدر الموضع الذي ينحدر منه أي ينزل من الانحدار وهو النزول ، الوعر ضد السهل ، قال الجوهري : جبل وعر بالتسكين ومطلب وعر قال الاصمعي : ولا تقل وعر ، أقول : ولعل المراد به النهي عن طلب الجاه والرياسة وسائر الشهوات الدنيا ومرتفعاتها فانها وإن كانت مؤاتية على اليسر والخفض ، إلا أن عاقبتها عاقبة سوء ، والتخلص من غوائلها وتبعاتها في غاية الصعوبة.

والحاصل أن متابعة النفس في أهوائها والترقي من بعضها إلى بعض ، وإن كانت كل واحدة منها في نظره حقيرة ، وتحصل له بسهولة ، لكن عند الموت يصعب عليه ترك جميعها ، والمحاسبة عليها ، فهو كمن صعد جبلا بحيل شتى فاذا انتهى إلى ذروته تحير في تدبير النزول عنها وأيضا تلك المنازل الدنية تحصل له في الدنيا بالتدريج وعند الموت لابد من تركها دفعة ولذا تشق عليها سكرات الموت بقطع تلك العلائق ، فهو كمن صعد سلما درجة درجة ، ثم سقط في آخر درجة منه دفعة فكلما كانت الدرجات في الصعود أكثر كان السقوط منها أشد ضررا وأعظم خطرا فلابد للعاقل أن يتفكر عند الصعود على درجات الدنيا في شدة النزول عنها فلا يرقى

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٣٦.

٨٩

كثيرا ويكتفي بقدر الضرورة والحاجة ، فهذا التشبيه البليغ على كل من الوجهين من أبلغ الاستعارات وأحسن التشبيهات.

وفي بعض النسخ « اتقي » بالياء وكأنه من تصحيف النساخ ولذا قرأ بعض الشارحين أتقى بصيغة التفضيل ( والمرتقى ظ ) على البناء للمفعول وقرأ السهل مرفوعا ليكون خبرا للمبتدأ وهو أتقى ، أو يكون أتقي بتشديد التاء بصيغة المتكلم من باب الافتعال فالسهل منصوب صفة للمرقى ، وكل منهما لايخلو من بعد.

« لاتدع النفس وهواها » أي لاتتركها مع هواها ، وماتهواه وتحبه من الشهوات المردية « فان هواها في رداها » أي هلاكها في الآخرة بالهلاك المعنوي في القاموس : ردى في البئر سقط كتردى وأرداه غيره ورداه وردى كرضي ردى هلك وأرداه ورجل رد هالك قوله عليه‌السلام « أذاها » الاذى مايؤذي الانسان من مرض أو مكروه والشئ القذر ، وفي بعض داؤها أي مرضها وهو أنسب بقوله « دواؤها » لفظا ومعنى وفي القاموس الدواء مثلثة ماداويت به وبالقصر المرض.

٩٠

٤٧

* ( باب ) *

* « طاعة الله ورسوله وحججه عليهم‌السلام والتسليم لهم والنهى عن معصيتهم ، والاعراض عن قولهم وايذائهم » *

الايات : البقرة : قالوا سمعنا وأطعنا (١).

آل عمران : قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا فان الله لايحب الكافرين (٢).

وقال تعالى : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (٣).

النساء : ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (٤).

وقال تعالى : ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم (٥).

وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (٦).

وقال تعالى : ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من

____________________

(١) البقرة : ٢٨٥.

(٢) آل عمران : ٣٢.

(٣) آل عمران : ١٣١.

(٤) النساء : ١٣ و ١٤.

(٥) النساء : ٤٦.

(٦) النساء : ٥٩.

٩١

النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا (١).

المائدة : إذ قلتم سمعنا وأطعنا (٢).

وقال تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (٣).

الانفال : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (٤).

وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لايسمعون (٥).

التوبة : ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله (٦).

النور : ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما اولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل اولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا واولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لاتقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون * قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ماحمل وعليكم ماحملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين إلى قوله تعالى : وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (٧).

____________________

(١) النساء : ٦٩. (٢) المائدة : ٧.

(٣) المائدة : ٩٢.

(٤) الانفال : ١.

(٥) الانفال : ٢٠ و ١٢.

(٦) براءة : ٧٢.

(٧) النور : ٤٧ ٥٦.

٩٢

لقمان : واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون (١).

الاحزاب : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (٢).

وقال تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ـ إلى قوله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (٣).

وقال تعالى : إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبدا لايجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا * يا أيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها إلى قوله سبحانه : ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (٤).

الزخرف : واتبعون هذا صراط مستقيم (٥).

وقال تعالى : فاتقوا الله وأطيعون (٦).

محمد : فأولى لهم * طاعة وقول معروف فاذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم * اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم إلى قوله تعالى : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (٧).

____________________

(١) لقمان : ١٥. (٢) الاحزاب : ٣٦.

(٣) الاحزاب : ٥٣ ٥٧.

(٤) الاحزاب : ٦٤ ٧١.

(٥) الزخرف : ٦١.

(٦) الزخرف : ٦٣.

(٧) القتال : ٢١ ٢٨.

٩٣

وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (١).

الفتح : ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (٢).

الحجرات : يا أيها الذين آمنوا لاتقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (٣).

وقال تعالى : وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (٤).

المجادلة : إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين * يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد (٥).

وقال تعالى : وأطيعوا الله ورسوله ـ إلى قوله تعالى ـ أن الذين يحادون الله ورسوله اولئك في الاذلين كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز (٦).

الحشر : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فان الله شديد العقاب (٧).

وقال تعالى : وما آتيكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (٨).

____________________

(١) القتال : ٣٣. (٢) الفتح : ١٧.

(٣) الحجرات : ١.

(٤) الحجرات : ١٤.

(٥) المجادلة : ٥ ٦.

(٦) المجادلة : ١٣ ٢١.

(٧) الحشر : ٤.

(٨) الحشر : ٧.

٩٤

الصف : وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لايهدي القوم الفاسقين (١).

التغابن : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين (٢).

وقال تعالى : واسمعوا وأطيعوا (٣).

الطلاق : وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه (٤).

نوح : قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (٥).

أقول : أكثر أخبار هذا الباب مذكورة في مطاوي الابواب السابقة واللاحقة ولا سيما في باب الطاعة والتقوى.

١ ـ نهج : عليكم بطاعة من لاتعذرون بجهالته (٦).

٢ ـ كا : عن علي ، عن أبيه ، عن البزنطي ، عن محمد أخي غرام ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لايذهب بكم المذاهب ، فوالله ماشيعتنا إلا من أطاع الله عزوجل (٨).

بيان : « لايذهب بكم المذاهب » على بناء المعلوم ، والباء للتعدية ، وإسناد الاذهاب إلى المذاهب على المجاز ، فان فاعله النفس أو الشيطان أي لايذهبكم المذاهب الباطلة إلى الضلال والوبال أو على بناء المجهول أي لايذهب بكم الشيطان في المذاهب

____________________

(١) الصف : ٥.

(٢) التغابن : ١٣.

(٣) التغابن : ١٦.

(٤) الطلاق : ١.

(٥) نوح : ٢١.

(٦) نهج البلاغة ج ٢ ص ١٨٣ ، الرقم ١٥٦ من الحكم.

(٧) الكافي ج ٢ ص ٧٣.

٩٥

الباطلة من الاماني الكاذبة ، والعقائد الفاسدة ، بأن تجترؤا على المعاصي اتكالا على دعوى التشيع والمحبة والولاية من غير حقيقة ، فانه ليس شيعتهم إلا من شايعهم في الاقوال والافعال ، لا من ادعى التشيع بمحض المقال.

٣ ـ كا : عن العدة ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع فقال : يا أيها الناس والله ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به ، وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، ألا وإن الروح الامين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحمل أحدكم استبطاء شئ من الرزق أن يطلبه بغير حله ، فانه لايدرك ماعند الله إلا بطاعته (١).

بيان : الروح الامين جبرئيل عليه‌السلام لانه سبب لحياة النفوس بالعلم وأمين على وحي الله إلى الرسل ، وفي النهاية فيه أن روح القدس نفث في روعي يعني جبرئيل أي أوحى وألقى من النفث بالفم وهو شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل لان التفل لايكون إلا ومعه شئ من الريق « في روعي » أي في نفسي وخلدي انتهى « حتى تستكمل رزقها » أي تأخذ رزقها المقدر على وجه الكمال « فاتقوا الله » أي في خصوص طلب الرزق أو مطلقا « وأجملوا في الطلب » أي اطلبوا طلبا جميلا ولا يكون كدكم كدا فاحشا ، وفي المصباح أجملت في الطلب رفقت.

قال الشيخ البهائي قدس‌سره : يحتمل معنيين الاول أن يكون المراد ( اتقوا الله في هذا الكد الفاحش أي لاتقيموا عليه كما تقول : اتق الله في فعل كذا أي لاتفعله ، والثاني أن يكون المراد ) (٢) أنكم إذا اتقيتموه لاتحتاجون إلى هذا الكد التعب ويكون إشارة إلى قوله تعالى : « ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب » (٣).

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٧٤.

(٢) مابين العلامتين ساقط من الكمبانى.

(٣) الطلاق : ٢ و ٣.

٩٦

« ولا يحصل أحدكم » أي لايبعثه ويحدوه ، والمصدر المسبوك من « أن » المصدرية ومعمولها منصوب بنزع الخافض ، أي لايبعثكم استبطاء الرزق على طلبه من غير حله ، وسيأتي في خبر آخر ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فان الله تعالى قسم الارزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما ومن اتقى الله وصبر أتاه رزقه من حله ، ومن هتك حجاب ستر الله عزوجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة.

وأقول : هذه الجمل كالتفسير لقوله عليه‌السلام : « فانه لايدرك ماعند الله » أي من الثواب الجزيل والرزق الحلال « إلا بطاعته » في الاوامر والنواهي ، والحاصل أن قوله : « ماعند الله » يحتمل الرزق الحلال والدرجات الاخروية والاعم والاول أوفق بالتعليل ، وكذا الثالث ، وإن كان الثاني أظهر في نفسه.

واعلم أن الرزق عند المعتزلة كل ماصح الانتفاع به بالتغدي وغيره ، وليس لاحد منعه منه ، وليس الحرام عندهم رزقا ، والحديث يدل عليه. وعند الاشاعرة كل ماينتفع به ذو حياة بالتغذي وغيره ، وإن كان حراما ، وخص بعضهم بالاغذية والاشربة وسيأتي تمام القول في ذلك في كتاب المكاسب إنشاء الله تعالى.

٤ ـ كا : عن أبي علي الاشعري ، عن محمد بن سالم ، وأحمد بن أبي عبدالله عن أبيه جميعا ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال لي : يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ماشيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخضع والامانة ، وكثرة ذكر الله ، والصوم ، والصلاة ، والبر بالوالدين ، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة ، والغارمين ، والايتام وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكف الالسن عن الناس ، إلا من خير ، وكانوا امناء عشائرهم في الاشياء.

قال جابر : فقلت : يا ابن رسول الله مانعرف اليوم أحدا بهذه الصفة ، فقال عليه‌السلام : يا جابر لاتذهبن بك المذاهب ، حسب الرجل أن يقول : احب

٩٧

عليا وأتولاه ، ثم لايكون مع ذلك فعالا؟ فلو قال : إني احب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خير من علي عليه‌السلام ثم لايتبع سيرته ، ولا يعمل بسنته مانفعه حبه إياه شيئا ، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة أحب العباد إلى الله عزوجل ( وأكرمهم عليه ) أتقاهم وأعملهم بطاعته.

يا جابر فوالله مايتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة ، وما معنا براءة من النار ، ولا على الله لاحد من حجة ، من كان لله مطيعا فهو لنا ولي ، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو ، ولا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع (١).

لى : عن ابن الوليد ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن أحمد بن النضر مثله (٢).

ما : عن المفيد ، عن ابن أبي حميد ، عن ابن الوليد ، عن الصفار ، عن ابن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن يونس بن عبدالرحمان ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن جابر الجعفي مثله (٣).

مشكوة الانوار : مرسلا مثله (٤).

تبيان : « من ينتحل التشيع » أي يدعيه من غير أن يتصف به ، وفي غير كا « انتحل » في القاموس انتحله وتنحله ادعاه لنفسه وهو لغيره « وما كانوا يعرفون » على بناء المجهول والضمير راجع إلى الشيعة أو إلى خيار العباد أي كان في زمن النبي وأمير المؤمنين وسائر الائمة الماضين صلوات الله عليهم يعرفون الشيعة بتلك الصفات فمن لم يكن فيه تلك الخلال لم يكونوا يعدونهم من الشيعة ، أو كانوا موصوفين معروفين باتصافهم بها ، « إلا بالتواضع » أي بالتذلل لله عند أوامره ونواهيه ولائمة الدين بتعظيمهم وإطاعتهم ، وللمؤمنين بتكريمهم وإظهار حبهم ، وعدم التكبر عليهم ، وحسن العشرة معهم.

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٧٤.

(٢) أمالي الصدوق ص ٣٧١.

(٣) أمالي الطوسي ج ٢ ص ٣٦٥.

(٤) مشكاة الانوار : ٥٩.

٩٨

والتخشع إظهار الخشوع ، وهو التذلل لله مع الخوف منه ، واستعمال الجوارح فيما أمر الله به ، وينسب إلى القلب وإلى الجوارح معا ، والامانة ضد الخيانة أي أداء حقوق الله والخلق ، وعهودهم ، وترك الغدر والخيانة فيها ، وفي.

ما والانابة أي التوبة والرجوع إلى الله ، وكثرة ذكر الله ، باللسان والقلب والصوم عطف على الذكر ، وفي ما « وبر الوالدين ».

« والتعهد للجيران » أي رعاية أحوالهم وترك إيذائهم ، وتحمل الاذى عنهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وعدم منع الماعون عنهم ، وسيأتي الخلاف في كون الفقير أسوء حالا أو المسكين والتخصيص بهما لكون رعايتهما أهم ، وإلا يلزم رعاية الجيران مطلقا ، وفي ما « وتعاهد الجيران ».

« والغارمين » إما عطف على الفقراء أو على الجيران « وكانوا امناء عشائرهم » أي يأتمنونهم ويعتمدون عليهم في جميع الاشياء من الاموال والفروج وحفظ الاسرار « والعشاير » جمع العشيرة وهي القبيلة ، وفي لى وغيره « فقال جابر يا ابن رسول الله لست أعرف أحدا بهذه الصفة ».

قوله عليه‌السلام : « لاتذهبن بك المذاهب » أي إلى الباطل والاغترار وترك العمل « حسب الرجل أن يقول » التركيب مثل حسبك درهم أي كافيك ، وحرف الاستفهام مقدر وهو على الانكار أي لايكفيه ذلك « فعالا » أي كثير الفعل لما يقتضيه اعتقاده في متابعة الائمة عليهم‌السلام في جميع الامور ، وليست هذه الفقرة في لى ، قوله : « فرسول الله » الظاهر أنها جملة معترضة ، وفي لي وبعض الكتب « ورسول الله » وهو أظهر ، فتكون جملة حالية ، ويحتمل أن يكون على النسختين عطفا على احب ويكون داخلا في مقول القول أي لو قال المخالف : إني احب رسول الله وهو أفضل من علي فكما أنكم تتكلون على حب علي أنا أتكل على حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يمكنكم إلزامه بالجواب ، لانكم إذا قلتم لاينفعكم حب محمد مع مخالفته في القول بأوصيائه يمكنه أن يقول : فكذا لاينفعكم حب علي مع مخالفتكم له في الافعال والاقوال ، وفي لى غيره « لايعمل بعمله ولايتبع سنته

٩٩

مانفعه ».

قوله عليه‌السلام : « ليس بين الله وبين أحد قرابة » أي ليس بين الله وبين الشيعة قرابة حتى يسامحهم ولا يسامح مخالفيهم ، مع كونهم مشتركين معهم في مخالفته تعالى ، أو ليس بينه وبين علي قرابة حتى يسامح شيعة علي ولا يسامح شيعة الرسول ، والحاصل أن جهة القرب بين العبد وبين الله إنما هي الطاعة والتقوى ولذا صار أئمتكم أحب الخلق إلى الله ، فلو لم تكن هذه الجهة فيكم لم ينفعكم شئ وفي لى « إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم له وأعملهم بطاعته والله ما يتقرب إلى الله جل ثناؤه إلا بالطاعة مامعنا ».

« وما معنا براءة من النار » أي ليس معناصك (١) وحكم ببرائتنا وبراءة شيعتنا من النار وإن عملوا بعمل الفجار « ولا على الله لاحد من حجة » أي ليس لاحد على الله حجة إذا لم يغفر له بأن يقول : كنت من شيعة علي عليه‌السلام فلم لم تغفر لي؟ لان الله تعالى لم يحتم بغفران من ادعى التشيع بلا عمل ، أو المعنى ليس لنا على الله حجة في إنقاذ من ادعى التشيع من العذاب ويؤيده أن في ما « وما لنا على الله حجة ».

« من كان لله مطيعا » كأنه جواب عما يتوهم في هذا المقام أنهم عليهم‌السلام حكموا بأن شيعتهم وأولياءهم لايدخولن النار فأجاب عليه‌السلام بأن العاصي لله ليس بولي لنا ولا تدرك ولايتنا إلا بالعمل بالطاعات ، والورع عن المعاصي.

قيل : للورع أربع درجات : الاولى ورع التائبين ، وهو مايخرج به الانسان من الفسق وهو المصحح لقبول الشهادة ، الثانية ورع الصالحين وهو الاجتناب عن الشبهات خوفا منها ، ومن الوقوع في المحرمات ، الثالثة ورع المتقين وهو ترك الحلال خوفا من أن ينحر إلى الحرام ، مثل ترك التحدث بأحوال الناس مخافة أن ينحر إلى الغيبة ، الرابعة ورع السالكين وهو الاعراض عما سواه تعالى خوفا من صرف ساعة من العمر فيما لايفيد زيادة القرب منه تعالى وإن علم أنه لاينجر

____________________

(١) الصك معرب جك ، كتاب الحوالة.

١٠٠