بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

على الموت أو وقع الموت عليه.

وعن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي إسحاق قال : خرج علي عليه‌السلام يوم صفين وبيده عنيزة فمر على سعيد بن قيس الهمداني فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك؟ فقال له علي عليه‌السلام : إنه ليس من أحد إلا عليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردى في قليب أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة ، فاذا جاء القدر خلوا بينه وبينه.

٥١ ـ نهج : سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلا من الحرورية يتهجد ويقرأ فقال : نوم على يقين خير من صلاة في شك (١).

ومن خطبة له عليه‌السلام : إنما سميت الشبهة شبهة لانها تشبه الحق وأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ، ودليلهم العمى ، فما ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه (٢).

ومن كلام له عليه‌السلام لما خوف من الغيلة : وإن علي من الله جنة حصينة ، فاذا جاء يومي انفرجت عني وأسلمتني فحينئذ يطيش السهم ولا يبرأ الكلم (٣).

وقال في وصيته لابنه الحسن عليهما‌السلام : اطرح عنك واردات الامور بعزائم الصبر وحسن اليقين (٤).

٥٢ ـ مشكوة الانوار : عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام في خطبة له طويلة : الايمان على أربع دعائم : على الصبر ، واليقين ، والعدل ، والتوحيد.

ومنه نقلا من المحاسن عن أبي عبدالله عليه‌السلام إن الايمان أفضل من الاسلام

____________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ ص ١٦٣ ، الرقم ٩٧ من الحكم.

(٢) نهج البلاغة ج ١ ص ٩٨ ، الرقم ٣٨ من الخطب.

(٣) نهج البلاغة ج ١ ص ١١٧ ، الرقم ٦٠ من الخطب.

(٤) نهج البلاغة ج ٢ ص ٣٨ الرقم ٣١ من الحكم.

١٨١

وإن اليقين أفضل من الايمان ، وما من شئ أعز من اليقين (١).

وعن صفوان الجمال قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : « وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما » فقال : أما إنه ماكان ذهبا ولا فضة إنما كان أربع كلمات : أنا الله لا إله إلا أنا من أيقن بالموت لم يضحك سنه ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله (٢).

وقال أبوعبدالله عليه‌السلام : الصبر من اليقين ، وعن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : كان قنبر غلام علي عليه‌السلام يحب عليا حبا شديدا فاذا خرج علي عليه‌السلام خرج على أثره بالسيف ، فرآه ذات ليلة فقال : ياقنبر مالك؟ فقال : جئت لامشي خلفك يا أمير المؤمنين ، فقال : ويحك أمن أهل السماء تحرسني أو من أهل الارض؟ قال : لا بل من أهل الارض ، فقال : إن أهل الارض لايستطيعون لو شاؤا إلا باذن الله من السماء ، فارجع قال : فرجع.

وعنه عليه‌السلام : ليس شئ إلا له حد قال : قلت : جعلت فداك فما حد التوكل؟ قال : اليقين ، قلت : فما حد اليقين؟ قال : لاتخاف ( مع الله ) شيئا.

وقال : إن محمد بن الحنفية كان رجلا رابط الجأش ، وكان الحجاج يلقاه فيقول له : لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك ، فيقول : كلا إن الله في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة فأرجو أن يكفيك باحداهن (٣).

وسأل أمير المؤمنين الحسن والحسين عليهما‌السلام فقال لهما : مابين الايمان واليقين؟ فسكتا فقال للحسن عليه‌السلام : أجب يا أبا محمد قال : بينهما شبر ، قال : وكيف ذاك؟ قال : لان الايمان ماسمعناه بآذاننا وصدقناه بقلوبنا ، واليقين ما أبصرناه بأعيننا واستدللنا به على ماغاب عنا (٤).

____________________

(١) مشكاة الانوار ص ١١.

(٢) مشكاة الانوار ص ١٢.

(٣) مشكاة الانوار ص ١٣.

(٤) مشكاة الانوار ص ١٥.

١٨٢

ومنه عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يأتي على الناس زمان لاينال فيه الملك إلا بالقتل والتجبر ، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة ، وصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر على الذل وهو يقدر على العز ، آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق به (١).

ومنه عن عبدالله بن العباس قال : اهدي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بغلة أهداها كسرى له أو قيصر ، فركبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ من شعرها وأردفنى خلفه ، ثم قال : ياغلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله عزوجل في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الناس أن ينفعوك بأمر لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه فان استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، وإن لم تستطع فان في الصبر على ماتكره خيرا كثيرا ، واعلم أن الصبر مع النصر ، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا (٢).

ومنه : عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : الصبر رأس الايمان ، وعنه عليه‌السلام قال : الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان.

ومنه : عن حفض بن غياث قال : قال لي أبوعبدالله عليه‌السلام : ياحفض إن من صبر صبرا قليلا ، وإن من جزع جزعا قليلا ثم قال : عليك بالصبر في جميع امورك ، فان الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فآمره بالصبر والرفق فقال : « اصبر على مايقولون واهجرهم هجرا جميلا * وذرني والمكذبين » (٣) وقال الله تبارك وتعالى : « ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة

____________________

(١) مشكاة الانوار ص ١٩.

(٢) مشكاة الانوار ص ٢٠.

(٣) المزمل : ١٠.

١٨٣

كأنه ولي حميم * وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم » (١) فصبر حتى نالوه بالعظائم ورموه بها تمام الحديث.

ومنه : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وكل الرزق بالحمق ، ووكل الحرمان بالعقل ، ووكل البلاء باليقين والصبر.

ومنه : عن مهران قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أشكو إليه الدين وتغير الحال ، فكتب لي : اصبر تؤجر فانك إن لم تصبر لم تؤجر ، ولم ترد قضاء الله عزوجل (٢).

ومنه : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن جميل ، وأحسن من ذلك الصبر عند ماحرم الله عليك الخبر.

وقال الباقر عليه‌السلام : لما حضرت أبي علي بن الحسين عليه‌السلام الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال : أي بني اوصيك بما أوصاني أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه عليه‌السلام أوصاه به ( أي بني! اصبر على الحق وإن كان مرا.

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : عجبا للمؤمن إن الله عزوجل لايقضي له قضاء ) (٣) إلا كان له خيرا إن ابتلي صبر ، وإن اعطي شكر.

وقيل لابي عبدالله عليه‌السلام : من أكرم الخلق على الله؟ قال : من إذا اعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر (٤).

____________________

(١) فصلت : ٣٤.

(٢) مشكاة الانوار ص ٢١.

(٣) مابين العلامتين ساقط من نسخة الكمبانى.

(٤) مشكاة الانوار ص ٢٢.

١٨٤

٥٣

* ( باب ) *

* « النية وشرائطها ومراتبها وكمالها وثوابها وأن قبول العمل نادر » *

١ ـ كا : عن علي ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطية ، عن الثمالي ، عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : لا عمل إلا بنية (١).

تبيين : « لا عمل إلا بنية » أي لا عمل صحيحة كما فهمه الاكثر إلا بنية وخص بالعبادات لانه لو كان المراد مطلق تصور الفعل وتصور فائدته والتصديق بترتب الغاية عليه وانبعاث العزم من النفس إليه فهذا لازم لكل فعل اختياري ومعلوم أنه ليس غرض الشارع بيان هذا المعنى ، بل لابد أن يكون المراد بها نية خاصة خالصة بها يضير العمل كاملا أو صحيحا ، والصحة أقرب إلى نفي الحقيقة الذي هو الحقيقة في هذا التركيب ، فلابد من تخصيصها بالعبادات ، لعدم القول باشتراط نية القربة وأمثالها في غيرها ، ولذا استدلوا به وبأمثاله على وجوب النية وتفصيله في كتب الفروع.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره في بعض رسائله : النية هي القصد إلى الفعل ، وهي واسطة بين العلم والعمل ، إذ مالم يعلم الشئ لم يمكن قصده ، وما لم يقصده لم يصدر عنه ، ثم لما كان غرض السالك العامل الوصول إلى مقصد معين كامل على الاطلاق وهو الله تعالى لابد من اشتماله على قصد التقرب به.

وقال بعض المحققين : يعني لا عمل يحسب من عبادة الله تعالى ويعد من طاعته بحيث يصح أن يترتب عليه الاجر في الآخرة ، إلا ما يراد به التقرب إلى الله تعالى ، والدار الآخرة ، أعني يقصد به وجه الله سبحانه أو التوصل إلى ثوابه أو الخلاص من عقابه ، وبالجملة امتثال أمر الله تعالى فيما ندب عباده إليه ووعدهم

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٨٤.

١٨٥

الاجر عليه وإنما يأجرهم على حسب أقدارهم ومنازلهم ونياتهم ، فمن عرف الله بجماله وجلاله ولطف فعاله فأحبه واشتاق إليه وأخلص عبادته له لكونه أهلا للعبادة ولمحبته له ، أحبه الله ، وأخلصه واجتباه ، وقربه إلى نفسه وأدناه قربا معنويا ودنوا رواحانيا كما قال في حق بعض من هذه صفته : « وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب » (١).

وقال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه : ماعبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، ومن لم يعرف من الله سوى كونه إلها صانعا للعالم ، قادرا قاهرا عالما وأن له جنة ينعم بها المطيعين ، ونارا يعذب بها العاصين ، فعبده ليفوز بجنته أو يكون له النجاة من ناره أدخله الله تعالى بعبادته وطاعته الجنة ، وأنجاه من النار لا محالة ، كما أخبر عنه في غير موضع في كتابه. فانما لكل امرئ مانوى.

فلا تصغ إلى قول من ذهب إلى بطلان العبادة ، إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب ، زعما منه أن هذا القصد مناف للاخلاص الذي هو إرادة وجه الله سبحانه وحده ، وأن من قصد ذلك فانما قصد جلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر عنها لا وجه الله سبحانه ، فان هذا قول من لا معرفة له بحقائق التكاليف ومراتب الناس فيها ، فان أكثر الناس يتعذر منهم العبادة ابتغاء وجه الله بهذا المعنى لانهم لايعرفون من الله إلا المرجو والمخوف ، فغايتهم أن يتذكروا النار ويحذروا أنفسهم عقابها ، ويتذكروا الجنة ويرغبوا أنفسهم ثوابها ، وخصوصا من كان الغالب على قلبه الميل إلى الدنيا ، فانه قلما ينبعث له داعية إلى فعل الخيرات لينال بها ثواب الآخرة ، فضلا عن عبادته على نية إجلال الله عزوجل لاستحقاقه الطاعة والعبودية ، فانه قل من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها.

والناس في نياتهم في العبادات على أقسام أدناهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف ، فانه يتقي النار ، ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء ، فانه يرغب

____________________

(١) سورة ص : ٤.

١٨٦

في الجنة وكل من القصدين وإن كان نازلا بالاضافة إلى قصد طاعة الله ، وتعظيمه لذاته ولجلاله ، لا لامر سواه ، إلا أنه من جملة النيات الصحيحة لانه ميل إلى الموعود في الآخرة وإن كان من جنس المألوف في الدنيا.

وأما قول القائل إنه ينافي الاخلاص ، فجوابه أنك ماتريد بالاخلاص؟ إن أردت به أن يكون خالصا للآخرة لايكون مشوبا بشوائب الدنيا والحظوظ العاجلة للنفس ، كمدح الناس ، والخلاص من النفقة بعتق العبد ، ونحو ذلك ، فظاهر أن إرادة الجنة والخلاص من النار لاينافيان الاخلاص بهذا المعنى ، وإن أردت بالاخلاص أن لايراد بالعمل سوى جمال الله وجلاله من غير شوب من حظوظ النفس وإن كان حظا اخرويا فاشتراطه في صحة العبادة متوقف على دليل شرعي وأنى لك به ، بل الدلائل على خلافه أكثر من أن تذكر ، مع أنه تكليف بمالا يطاق بالنسبة إلى أكثر الخلايق ، لانهم لايعرفون الله بجماله وجلاله ، ولا تتأتى منهم العبادة إلا من خوف النار ، أو للطمع في الجنة.

وأيضا فان الله سبحانه قد قال « ادعوه خوفا وطمعا » (١) « ويدعوننا رغبا و رهبا » (٢) فرغب ورهب ، ووعد وأوعد ، فلو كان مثل هذه النيات مفسدا للعبادات لكان الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد عبثا بل مخلا بالمقصود.

وأيضا فان أولياء الله قد يعملون بعض الاعمال للجنة ، وصرف النار لان حبيبهم يحب ذلك أو لتعليم الناس إخلاص العمل للآخرة ، إذا كانوا أئمة يقتدى بهم ، هذا أمير المؤمنين سيد الاولياء قد كتب كتابا لبعض ماوقفه من أمواله فصدر كتابه بعد التسمية بهذا :

« هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبدالله علي ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ، ويصرفني به عن النار ، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ».

____________________

(١) السجدة : ١٦.

(٢) الانبياء : ٩٠.

١٨٧

فان لم تكن العبادة بهذه النية صحيح لم يصح له أن يفعل ذلك ، ويلقن به غيره ، ويظهره في كلامه.

إن قيل : إن جنة الاولياء لقاء الله وقربه ، ونارهم فراقه وبعده ، فيجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام أراد ذلك ، قلنا إرادة ذلك ترجع إلى طلب القرب المعنوي والدنو الروحاني ، ومثل هذه النية مختص بأولياء الله كما اعترف به فغيرهم لماذا يعبدون وليس في الآخرة إلا الله ، والجنة والنار ، فمن لم يكن من أهل الله وأوليائه لايمكن له أن يطلب إلا الجنة أو يهرب إلا من النار المعهودتين ، إذ لايعرف غير ذلك وكل يعمل على شاكلته ، ولما يحبه ويهواه غير هذا لايكون أبدا.

ولعل هذا القائل لم يعرف معنى النية وحقيقتها ، وأن النية ليست مجرد قولك عند الصلاة أو الصوم أو التدريس اصلي أو أصوم أو ادرس قربة إلى الله تعالى ملاحظا معاني هذه الالفاظ بخاطرك ، ومتصورا لها بقلبك ، هيهات إنما هذا تحريك لسان وحديث نفس ، وإنما النية المعتبرة انبعاث النفس وميلها و توجهها إلى مافيه غرضها ومطلبها ، إما عاجلا وإما آجلا.

وهذا الانبعات والميل إذا لم يكن حاصلا لها لايمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد النطق بتلك الالفاظ ، وتصور تلك المعاني ، وما ذلك إلا كقول الشبعان أشتهي الطعام وأميل إليه ، قاصدا حصول الميل والاشتهاء ، وكقول الفارغ أعشق فلانا واحبه وأنقاد إليه واطيعه ، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشئ وميله إليه وإقباله عليه ، إلا بتحصيل الاسباب الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب الامور المنافية لذلك المضادة له ، فان النفس إنما تنبعث إلى الفعل وتقصده ، وتميل إليه تحصيلا للغرض الملايم لها ، بحسب مايغلب عليها من الصفات.

فاذا غلب على قلب المدرس مثلا حب الشهرة ، وإظهار الفضيلة ، وإقبال الطلبة إليه ، فلا يتمكن من التدريس بنية التقرب إلى الله سبحانه بنشر العلم

١٨٨

وإرشاد الجاهلين ، بل لايكون تدريسه إلا لتحصيل تلك المقاصد الواهية ، و الاغراض الفاسدة ، وإن قال بلسانه ادرس قربة إلى اللله ، وتصور ذلك بقلبه و أثبته في ضميره ، ومادام لم يقلع تلك الصفات الذميمة من قلبه لا عبرة بنيته أصلا.

وكذلك إذا كان قبلك عند نية الصلاة منهمكا في امور الدنيا ، والتهالك عليها ، والانبعاث في طلبها ، فلا يتيسر لك توجيهه بكليته ، وتحصيل الميل الصادق إليها ، والاقبال الحقيقي عليها ، بل يكون دخولك فيها دخول متكلف لها متبرم بها ويكون قولك اصلي قربة إلى الله كقول الشبعان أشتهي الطعام ، وقول الفارغ أعشق فلانا مثلا.

والحاصل أنه لا يحصل لك النية الكاملة المعتد بها في العبادات ، من دون ذلك الميل والاقبال ، وقمع مايضاده من الصوارف والاشغال ، وهو لايتيسر الا إذا صرفت قلبك عن الامور الدنيوية ، وطهرت نفسك عن الصفات الذميمة الدنية ، وقطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكلية.

وأقول : أمر النية قد اشتبه على كثير من علمائنا رضوان الله عليهم لاشتباهه على المخالفين ، ولم يحققوا ذلك على الحق واليقين ، وقد حقق شيخنا البهائى قدس الله روحه شيئا من ذلك في شرح الاربعين ، وحققنا كثيرا من غوامض أسرارها في كتاب عين الحيوة ، ورسالة العقائد ، فمن أراد تحقيق ذلك فليرجع إليهما.

٢ ـ كا : عن على ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله ، وكل عامل يعمل على نيته (١).

بيان : هذا الحديث من الاخبار المشهورة بين الخاصة والعامة ، وقد قيل فيه وجوه :

الاول أن المراد بنية المؤمن اعتقاده الحق ولا ريب أنه خير من أعماله

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٨٤.

١٨٩

إذ ثمرته الخلود في الجنة ، وعدمه يوجب الخلود في النار ، بخلاف العمل.

الثاني أن المراد أن النية بدون العمل خير من العمل بدون النية ، ورد بأن العمل بدون نية لا خير فيه أصلا ، وحقيقة التفضيل تقتضي المشاركة ، ولو في الجملة.

الثالث مانقل عن ابن دريد وهو أن المؤمن ينوي خيرات كثيرة لايساعده الزمان على عملها ، فكان الثواب المترتب على نياته أكثر من الثواب المترتب على أعماله.

الرابع ماذكره بعض المحققين وهو أن المؤمن ينوي أن يوقع عباداته على أحسن الوجوه لان إيمانه يقتضي ذلك ، ثم إذا كان يشتغل بها لايتيسر له ذلك ، ولا يتأتى كما يريد ، فلا يأتي بها كما ينبغي ، فالذي ينوي دائما خير من الذى يعمل في كل عبادة ، وهذا قريب من المعنى الاول ويمكن الجمع بينهما ويؤيدهما الخبر الثالث والخامس (١) ومارواه الصدوق ره في علل الشرائع بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه كان يقول نية المؤمن خير من عمله ، وذلك لانه ينوي من الخير مالايدركه ، ونية الكافر شر من عمله ، وذلك لان الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر مالايدركه ، وباسناده عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال له زيد الشحام : إني سمعتك تقول : نية المؤمن خير من عمله ، فكيف تكون النية خيرا من العمل؟ قال : لان العمل إنما كان رئاء المخلوقين ، والنية خالصة لرب العالمين ، فيعطي عزوجل على النية مالا يعطي على العمل ، قال أبوعبدالله عليه‌السلام : إن العيد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل ، فتغلبه عينه فينام ، فيثبت الله له صلاته ويكتب نفسه تسبيحا ويجعل نومه صدقة (٢).

الخامس أن طبيعة النية خير من طبيعة العمل ، لانه لايترتب عليها عقاب أصلا بل إن كانت خيرا اثيب عليها ، وإن كان شرا كان وجودها كعدمها

____________________

(١) يعنى الحديث الثالث والخامس في باب نية الكافي ، وهو كذلك في مانحن فيه.

(٢) علل الشرايع ج ٢ ص ٢١١ ، وسيجئ تحت الرقم ١٨ و ١٩.

١٩٠

بخلاف العمل فان من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فصح أن النية بهذا الاعتبار خير من العمل.

وأقول : يمكن أن يقال هذا في الشر أيضا بناء على أن الكافر يعاقب على نيات الشر ، وإنما العفو عن المؤمنين.

السادس أن النية من أعمال القلب ، وهو أفضل من الجوارح ، فعمله أفضل من عملها ، ألا ترى إلى قوله تعالى « أقم الصلوة لذكري » (١) جعل سبحانه الصلاة وسيلة إلى الذكر ، والمقصود أشرف من الوسيلة ، وأيضا فأعمال القلب مستورة عن الخلق ، لايتطرق إليها الرئاء وغيره ، بخلاف أعمال الجوارح.

السابع أن المراد أن نية بعض الاعمال الشاقة كالحج والجهاد خير من بعض الاعمال الخفية (٢) كتلاوة آية من القرآن والصدقة بدرهم مثلا.

الثامن ماذكره السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في الغرر أن لفظة خير ليست اسم تفضيل ، بل المراد أن نية المؤمن عمل خير من جملة أعماله ومن تبعيضية وبه دفع التنافي بين هذا الحديث ، وبين مايروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الاعمال أحمزها ، ويجري هذا الوجه في قوله : ونية الكافر شر من عمله ، فان المعنى فيه أيضا ليس معنى التفضيل ، بل المعنى شر من جملة عمله.

فان قيل : كيف يصح هذا مع ماورد في الحديث من أن ابن آدم إذا هم بالحسنة كتبت له حسنة ، وإذا هم بالسيئة لم يكتب عليه شئ ، حتى يعمل؟ قلنا قد ذكرنا سابقا أن ظاهر بعض الاخبار أن ذلك مخصوص بالمؤمنين.

التاسع أن المراد بالنية تأثر القلب عند العمل ، وانقياده إلى الطاعة ، وإقباله على الآخرة ، وانصرافه عن الدنيا ، وذلك يشتد بشغل الجوارح في الطاعات وكفها عن المعاصي ، فان بين الجوارح والقلب علاقة شدية يتأثر كل منهما بالآخر ، كما إذا حصل للاعضاء آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب وإذا تألم القلب بخوف مثلا سرى أثره إلى الجوارح فارتعدت ، والقلب هو الامير المتبوع

____________________

(١) طه : ١٤.

(٢) الخفيفة ظ.

١٩١

والجوارح كالرعايا والاتباع ، والمقصود من أعمالها حصول ثمرة القلب.

فلا تظن أن في وضع الجبهة على الارض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والارض ، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب ، فان من يجد في نفسه تواضعا فاذا استعان بأعضائه وصورها بصورة التواضع ، تأكد بذلك تواضعه ، وأما من يسجد غافلا عن التواضع ، وهو مشغول القلب بأغراض الدنيا فلا يصل من وضع جبهته على الارض أثر على قلبه ، بل سجوده كعدمه نظرا إلى الغرض المطلوب منه ، فكانت النية روح العمل وثمرته ، والمقصد الاصلي من التكليف به ، فكانت أفضل.

وهذا الوجه قريب مما ذكره الغزالي في إحيائه ، وهو أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل ، وكل منهما من جملة الخيرات إلا أن النية من الطاعتين خير من العمل ، لان أثر النية في المقصود أكثر من أثر العمل ، لان صلاح القلب هو المقصود من التكليف ، والاعضاء آلات موصلة إلى المقصود ، والغرض من حركات الجوارح أن يعتاد القلب إرادة الخير ، ويؤكد الميل إليه ، ليتفرغ عن شهوات الدنيا ، ويقبل على الذكر والفكر ، فبالضرورة يكون خيرا بالاضافة إلى الغرض قال الله تعالى : « لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم » (١) والتقوى صفة القلب وفي الحديث إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد.

العاشرأن نية المؤمن هي الباعثة له على عمل الخير ، فهي أصل العمل وعلته والعمل فرعها ، لانه لايحصل العمل ولا يوجد إلا بتصور المقصود الحقيقي والتصديق بحصوله ، وانبعاث النفس إليه ، حتى يشتد العزم ، ويوجد الفعل فبهذه الجهة هي أشرف ، وكذانية الكافر سبب لعمله الخبيث فهي شر منه.

الحادي عشر أن النية روح العمل ، والعمل بمثابة البدن لها ، فخيريته وشريته تابعتان لخيرية النية وشريتها ، كما أن شرافة البدن وخباثته تابعتان

____________________

(١) الحج : ٣٧.

١٩٢

لشرافة الروح وخباثته ، فبهذا الاعتبار نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله.

الثاني عشر أن نية المؤمن وقصده أولا هو الله ، وثانيا العمل ، لانه يوصل إليه ، ونية الكافر وقصده غيره تعالى ، وعمله يوصله إليه ، وبهذا الاعتبار صح ماذكر.

وهذا الوجه وماتقدمه مستفادان من كلام المحقق الطوسي قدس‌سره والوجوه المذكورة ربما يرجع بعضها إلى بعض ، وبعد ما أحطت خبرا بما ذكرناه نذكر ماهو أقوى عندنا بعد الاعراض عن الفضول ، وهو الحق الحقيق بالقبول.

فاعلم أن الاشكالات الناشئة من هذا الخبر إنما هو لعدم تحقيق معنى النية وتوهم أنها تصور الغرض والغاية ، وإخطارها بالبال ، وإذا حققتها كما أومأنا إليه سابقا ، عرفت أن تصحيح النية من أشق الاعمال وأحمزها ، وأنها تابعة للحالة التي النفس متصفة بها ، وكمال الاعمال وقبولها وفضلها منطو بها ، ولا يتيسر تصحيحها إلا باخراج حب الدنيا ، وفخرها وعزها من القلب ، برياضات شاقة ، وتفكرات صحيحة ، ومجاهدات كثيرة ، فان القلب سلطان البدن ، وكلما استولى عليه يتبعه سائر الجوارح ، بل هو الحصن الذي كل حب استولى عليه وتصرف فيه ، يستخدم سائر الجوارح والقوى ، ويحكم عليها ، ولاتستقر فيه محبتان غالبتان ، كما قال الله عزوجل : ياعيسى لايصلح لسانا في فم واحد ولا قلبان في صدر واحد ، وكذلك الاذهان (١) وقال سبحانه : « ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه » (٢).

فالدنيا والآخرة ضرتان لايجتمع حبهما في قلب ، فمن استولى على قلبه حب المال لايذهب فكره وخياله وقواه وجوارحه إلا إليه ، ولا يعمل عملا إلا ومقصوده الحقيقي فيه تحصيله ، وإن ادعى غيره ، كان كاذبا ، ولذا يطلب

____________________

(١) راجع الكافي ج ٢ ص ٣٤٣ ، ثواب الاعمال ص ٢٤٠.

(٢) الاحزاب : ٤.

١٩٣

الاعمال التي وعد فيها كثرة المال ولايتوجه إلى الطاعات التي وعد فيها قرب ذي الجلال ، وكذا من استولى عليه حب الجاه ليس مقصوده في أعماله إلا مايوجب حصوله ، وكذا سائر الاغراض الباطلة الدنيوية ، فلا يخلص العمل لله سبحانه وللآخرة إلا باخراج حب هذه الامور من القلب ، وتصفيته عما يوجب البعد عن الحق.

فللناس في نياتهم مراتب شتى بل غير متناهية بحسب حالاتهم ، فمنها مايوجب فساد العمل وبطلانه ، ومنها مايوجب صحته ، ومنها مايوجب كماله ، ومراتب كماله أيضا كثيرة فأما مايوجب بطلانه فلا ريب في أنه إذا قصد الرئاء المحض أو الغالب ، بحيث لو لم يكن رؤية الغير له لايعمل هذا العمل ، إنه باطل لايستحق الثواب عليه ، بل يستحق العقاب ، كما دلت عليه الآيات والاخبار الكثيرة ، وأما إذا ضم إلى القربة غيرها بحيث كان الغالب القربة ، ولو لم تكن الضميمة يأتي بها ففيه إشكال ، ولا تبعد الصحة ، ولو تعلق الرئاء ببعض صفاته المندوبة كاسباغ الوضوء ، وتطويل الصلاة ، فأشد إشكالا.

ولو ضم إليها غير الرئاء كالتبريد ففيه أقوال ثالثها التفصيل بالصحة ، مع كون القربة مقصودة بالذات والبطلان مع العكس ، قال في الذكرى : لو ضم إلى النية منافيا فالاقرب البطلان ، كالرئاء ، والندب في الواجب لان تنافي المرادات يستلزم تنافي الارادات ، وظاهر المرتضى الصحة بمعنى عدم الاعادة ، لا بمعنى حصول الثواب ، ذكر ذلك في الصلاة المنوي بها الرئاء ، وهو يستلزم الصحة فيها وفي غيرها مع ضم الرئاء إلى التقرب ، ولو ضم اللازم كالتبرد قطع الشيخ وصاحب المعتبر بالصحة ، لانه فعل الواجب وزيادة غير منافية ، ويمكن البطلان لعدم الاخلاص الذي هو شرط الصحة ، وكذا التسخن والنظافة انتهى.

وأقول : لو ضم إلى القربة بعض المطالب المباحة الدنيوية فهل تبطل عبادته؟ ظاهر جماعة من الاصحاب البطلان ، ويشكل بأن صلوات الحاجة والاستخارة وتلاوة القرآن والاذكار والدعوات المأثورة للمقاصد الدنيوية عبادات بلا ريب ، مع أن

١٩٤

تكليف خلو القصد عنها تكليف بالمحال والجمع بين الضدين ، كأن يقول أحد : ائت الموضع الفلاني لرؤية الاسد من غير أن يكون غرضك رؤيته ، أو اذهب إلى السوق واشتر المتاع من غير أن تقصد شراء المتاع ، وقد ورد في الاخبار الكثيرة منافع دنيوية للطاعات ككون صلاة الليل سببا لوسعة الرزق ، وكون الحج موجبا للغنا وأمثال ذلك كثيرة ، فلو كانت هذه مخلة بالقربة لكان ذكرها إغراء بالقبيح ، إذ بعد السماع ربما يمتنع تخلية القصد عنها.

نعم يمكن أن تؤل هذه القصود بالاخرة إلى القربة ، كأن يكون غرض طالب الرزق صرفه في وجوه البر والتقوي به على الطاعة ، ومن يكون مقصوده من طول العمر تحصيل رضا الرب تعالى لكن هذا القصد لايتحقق واقعا وحقيقة إلا لآحاد المقربين ، ولا يتيسر لاكثر الناس هذه النية وهذا الغرض ، إلا بالانتحال والدعاوي الكاذبة ، وتوهم أن الاخطار بالبال نية واقعية ، وبينهما بعد المشرقين.

فالظاهر أنه يكفي لكونه طاعة وقربة كونه بأمره سبحانه وموافقا لرضاه ومتضمنا لذكره والتوسل إليه وإن كان المقصود تحصيل بعض الامور المباحة لنيل اللذات المحللة وأما النيات الكاملة والاغراض العرية عن المطالب الدنية الدنيوية فهي تختلف بحسب الاشخاص والاحوال ، ولكل منهم نية تابعة لشاكلته وطريقته وحالته بل لكل شخص في كل حالة نية تتبع تلك الحالة ولنذكر بعض منازلها ودرجاتها.

فالاولى نية من تنبه وتفكر في شديد عذاب الله وأليم عقابه ، فصار ذلك موجبا لحط الدنيا ولذاتها عن نظره ، فهو يعمل كل ما أراد من الاعمال الحسنة ويترك ماينتهي عنه من الاعمال السيئة ، خوفا من عذابه.

الثانية نية من غلب عليه الشوق إلى ما أعد الله للمحسنين في الجنة ، من نعيمها وحورها وقصورها ، فهو يعبد الله لتحصيل تلك الامور ، وهاتان نيتان صحيحتان على الاظهر ، وإن توهم الاكثر بطلان العبادة بهما لغفلتم عن معنى النية كما عرفت ، والعجب أن العلامة رحمه‌الله ادعى اتفاق العدلية على أن من

١٩٥

فعل فعلا لطلب الثواب أو خوف العقاب ، فانه لايستحق بذلك ثوابا.

وأقول : لهاتين النيتين أيضا مراتب شتى بحسب اختلاف أحوال الناس فان من الناس من يطلب الجنة لحصول مشتهياته الجسمانية فيه ، ومنهم من يطلبها لكونها دار كرامة الله ومحل قرب الله ، وكذا منهم من يهرب من النار لالمها ومنهم من يهرب منها لكونها دار البعد والهجران والحرمان ومحل سخط الله كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في الدعاء الذي علمه كميل بن زياد النخعي : « فلئن صيرتني في العقوبات مع أعدائك ، وجمعت بيني وبين أهل بلائك ، وفرقت بيني وبين أحبائك وأوليائك ، فهبني يا إلهي وسيدي صبرت على عذابك ، فكيف أصبر على فراقك؟ وهبني صبرت على حر نارك ، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك »؟ إلى آخر ماذكر في هذا الدعاء المشتمل على جميع منازل المحبين ، ودرجات العارفين ، فظهر أن هاتين الغايتين وطلبهما لاتنافيان درجات المقربين.

الثالثة نية من يعبد الله تعالى شكرا له ، فانه يتفكر في نعم الله التي لاتحصى عليه فيحكم عقله بأن شكر المنعم واجب ، فيعبده لذلك كما هو طريقة المتكلمين وقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار (١).

الرابعة نية من يعبده حياء فانه يحكم عقله بحسن الحسنات وقبح السيئات ويتذكر أن الرب الجليل مطلع عليه في جميع أحواله ، فيعبده ويترك معاصيه لذلك ، وإليه يسير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك (٢).

____________________

(١) راجع نهج البلاغة ج ٢ ص ١٩٧ تحت الرقم ٢٣٧ من الحكم.

(٢) راجع الدر المنثور ج ١ ص ٩٣ في حديث ابن عباس قال جلس رسول الله صلى الله عليه وآله مجلسا فأتاه جبرئيل فجلس بين يدى رسول الله واضعا كفيه على ركبتى رسول الله فقال : حدثنى عن الاسلام إلى أن قال : قال يارسول الله حدثنى ما الاحسان؟ قال : الاحسان أن تعمل لله ( أن تعبد الله ) كانك تراه الحديث.

١٩٦

الخامسة نية من يعبده تقربا إليه تعالى تشبيها للقرب المعنوي بالقرب المكاني ، وهذا هو الذي ذكره أكثر الفقهاء ، ولم أر في كلامهم تحقيق القرب المعنوي ، فالمراد إما القرب بحسب الدرجة والكمال ، إذ العبد لامكانه في غاية النقص ، عار عن جميع الكمالات ، والرب سبحانه متصف بجميع الصفات الكمالية فبينهما غاية البعد ، فكلما رفع عن نفسه شيئا من النقائص ، واتصف بشئ من الكمالات ، حصل له قرب مابذلك الجناب ، أو القرب بحسب التذكر والمصاحبة المعنوية ، فان من كان دائما في ذكر أحد ومشغولا بخدماته فكأنه معه ، وإن كان بينهما غاية البعد بحسب المكان ، وفي قوة هذه النية إيقاع الفعل امتثالا لامره تعالى أو موافقة لارادته أو انقيادا وإجابة لدعوته أو ابتغاء لمرضاته.

فهذه النيات التي ذكرها أكثر الاصحاب وقالوا : لو قصد لله مجردا عن جمعى ذلك كان مجزيا ، فانه تعالى غاية كل مقصد ، وإن كان يرجع إلى بعض الامور السالفة.

السادسة نية من عبدالله لكونه أهلا للعبادة ، وهذه النية الصديقين ، كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ماعبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، ولا تسمع هذه الدعوى من غيرهم ، وإنما يقبل ممن يعلم منه أنه لو لم يكن لله جنة ولا نار ، بل لو كان على الفرض المحال يدخل العاصي الجنة والمطيع النار ، لاختار العبادة لكونه أهلا لها ، كما أنهم في الدنيا اختاروا النار لذلك ، فجعلها الله عليهم بردا وسلاما ، وعقوبة الاشرار فجعلها الله عندهم لذة وراحة ونعيما.

السابعة نية من عبدالله حبا له ودرجة المحبة أعلى درجات المقربين ، والمحب يختار رضا محبوبه ، ولاينظر إلى ثواب ويحذر من عقاب ، وحبه تعالى إذا استولى على القلب يطهره عن حب ماسواه ، ولايختار في شئ من الامور إلا رضا مولاه.

كما روى الصدوق رحمه‌الله باسناده عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : إن الناس

١٩٧

يعبدون الله على ثلاثة أوجه : فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع ، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد ، وهي رهبة ، ولكني أعبده حبا له عزوجل ، فتلك عبادة الكرام وهو الامن ، لقوله عزوجل « وهم من فزغ يومئذ آمنون » (١) ولقوله عزوجل « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » (٢) فمن أحب الله أحبه الله ، ومن أحبه الله عزوجل كان من الآمنين (٣).

وفي تفسير الامام عليه‌السلام قال علي بن الحسين عليه‌السلام : إني أكره أن أعبدالله لاغراض لي ولثوابه فأكون كالعبد الطمع المطيع ، إن طمع عمل ، وإلا لم يعمل وأكره أن أعبده لخوف عباده ، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل ، قيل : فلم تعبده؟ قال : لما هو أهله بأياديه علي وإنعامه ، وقال محمد بن علي الباقر عليه‌السلام : لا يكون العبد عابدا لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كله إليه فحينئذ يقول : هذا خالص لي فيتقبله بكرمه ، وقال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : ما أنعم الله عزوجل على عبد أجل من أن لا يكون في قلبه مع الله غيره ، وقال موسى بن جعفر عليه‌السلام أشرف الاعمال التقرب بعبادة الله عزوجل ، وقال علي الرضا عليه‌السلام : « إليه يصعد الكلم الطيب » قول لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله وخليفة محمد رسول الله حقا وخلفاؤه خلفاء الله « والعمل الصالح يرفعه » علمه في قلبه بأن هذا صحيح كما قلته بلساني (٤).

وأقول : لكل من النيات الفاسدة والصحيحة أفراد اخرى يعلم بالمقايسة مما ذكرنا ، وهي تابعة لاحواله وصفاته ، وملكاته الراسخة منبعثة عنها ، ومن هذا يظهر سر أن أهل الجنة يخلدون فيها بنياتهم ، لان النية الحسنة تستلزم طينة

____________________

(١) النمل : ٨٩.

(٢) آل عمران : ٣١.

(٣) راجع علل الشرائع ج ١ ص ١٢.

(٤) تفسير الامام ص ١٥٢. وسيجئ مستقلا تحت الرقم : ٣٣.

١٩٨

طيبة ، وصفات حسنة وملكات جميلة ، تستحق الخلود بذلك ، إذ لم يكن مانع العمل من قبله فهو بتلك الحالة مهيئ للاعمال الحسنة ، والافعال الجميلة ، والكافر مهيئ لضد ذلك وبتلك الصفات الخبيئة المستلزمة لتلك النية الردية استحق الخلود في النار.

وبما ذكرنا ظهر معنى قوله عليه‌السلام « وكل عامل يعمل على نيته » أي عمل كل عامل يقع على وفق نيته في النقص والكمال ، والرد والقبول ، والمدار عليها كما عرفت ، وعلى بعض الاحتمالات المعنى أن النية سبب للفعل ، وباعث عليه ، ولا يتأتى العمل إلا بها كما مر.

٣ ـ كا : عن العدة ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن أسباط ، عن محمد بن إسحاق بن الحسين بن عمرو ، عن حسن بن أبان ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا؟ فقال : حسن النية بالطاعة (١).

بيان : قد مضى الكلام فيه والحاصل أنه حد العبادة الصحيحة المقبولة بالنية الحسنة غير المشوبة مع طاعة الامام ، لانهما العمدة في الصحة والقبول فالحمل على المبالغة ، أو المراد بالطاعة الاتيان بالوجوه التي يطاع الله منها مطلقا.

٤ ـ كا : عن العدة ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إن العبد المؤمن الفقير ليقول : يارب أرزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير ، فاذا علم الله عزوجل ذلك منه بصدق نية كتب الله له من الاجر مثل مايكتب له لو عمله ، إن الله واسع كريم (٢).

تبيان : « ليقول » أي بلسانه أو بقلبه أو الاعم منهما « فاذا علم الله عزوجل ذلك » أي علم أنه إن رزقه يفي بما يعده من الخير ، فان كثيرا من التمنيات و المواعيد كاذبة لايفي الانسان به « إن الله واسع » أي واسع القدرة أو واسع العطاء

____________________

(١ و ٢) الكافي ج ٢ ص ٨٥.

١٩٩

« كريم » بالذات فالاثابة على نية الخير من سعة جوده وكرمه ، لا من استحقاقهم ذلك.

قال الشيخ البهائي قدس‌سره : هذا الحديث يمكن أن يجعل تفسيرا لقوله عليه‌السلام : « نية المؤمن خير من عمله » فان المؤمن ينوي كثيرا من هذه النيات فيثاب عليها ، ولا يتيسر العمل إلا قليلا انتهى.

وأقول : النية تطلق على النية المقارنة للفعل ، وعلى العزم المتقدم عليه سواء تيسر العمل أم لا ، وعلى التمني للفعل ، وإن علم عدم تمكنه منه ، والمراد هنا أحد المعنيين الاخيرين ، ويمكن أن يقال : إن النية لما كانت من الافعال الاختيارية القلبية ، فلا محالة يترتب عليها ثواب ، وإذا فعل الفعل المنوي يترتب عليه ثواب آخر ، ولا ينافي اشتراط العمل بها تعدد الثواب كما أن الصلاة صحتها مشروطة بالوضوء ، ويترتب على كل منهما ثواب إذا اقترنا.

فاذا لم يتيسر الفعل لعدم دخوله تحت قدرته ، أو لمانع عرض له ، يثاب على العزم ، وترتب الثواب عليه غير مشروط بحصول الفعل ، بل بعدم تقصيره فيه فالثواب الوارد في الخبر يحتمل أن يكون هذا الثواب فله مع الفعل ثوابان ، وبدونه ثواب واحد ، فلا يلزم كون العمل لغوا ، ولا كون ثواب النية والعمل معا ، كثوابها فقط ، ويحتمل أن يكون ثواب النية كثوابها مع العمل بلا مضاعفة ، ومع العمل يضاعف عشر أمثالها أو أكثر.

ويؤيده ماسيأتي أن الله جعل لآدم أن من هم من ذريته بسيئة لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت عليه سيئة ، ومن هم منهم بحسنة فان لم يعملها كتبت له حسنة ، فان هو عملها كتبت له عشرا ، وإن أمكن حمله على ما إذا لم يعملها مع القدرة عليها.

وعلى ماحققنا أن النية تابعة للشاكلة والحالة وأن كمالها لايحصل إلا بكمال النفس واتصافها بالاخلاق الرضية الواقعية فلا استبعاد في تساوي ثواب من عزم على فعل على وجه خاص من الكمال ، ولم يتيسر له ، ومن فعله على هذا

٢٠٠