بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

فقال لهم : إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزردة بالذهب ، ويجلس على متكآت آل فرعون ويحكم ، إنما يراد من الامام قسطه وعدله : إذا قال صدق ، وإذا حكم عدل ، وإذا وعد أنجز ، إن الله لم يحرم لبوسا ولا مطعما ثم قرأ : « قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق » الآية (١).

١٢ ـ ثم قال ابن أبي الحديد : رويت عن الشيوخ ورأيت بخط عبدالله بن أحمد الخشاب رحمه‌الله أن الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام ، فأتاه علي عليه‌السلام عائدا فقال : كيف تجدك أبا عبد الرحمن؟ قال : أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لايذهب مابي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه ، قال : وما قيمة بصرك عندك؟ قال : لو كانت لي الدنيا لفديته بها ، قال : لاجرم ليعطينك الله على قدر ذلك ، إن الله يعطي على قدر الالم والمصيبة ، وعنده تضعيف كثير.

قال الربيع : يا أمير المؤمنين ألا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي؟ قال : ماله؟ قال : لبس العباء وترك الملاء ، وغم أهله وحزن ولده ، فقال عليه‌السلام : ادعوا لي عاصما ، فلما أتاه عبس في وجهه وقال : ويحكم يا عاصم أترى الله أباح لك اللذات ، وهو يكره ما أخذت منها؟ لانت أهون على الله من ذلك ، أو ما سمعته يقول : « مرج البحرين يلتقيان » ثم قال : « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » (٢) وقال : « ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها » (٣) أما والله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد سمعتم الله يقول : « وأما بنعمة ربك فحدث » (٤) وقوله : « قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ».

____________________

(١) الاعراف : ٣٢.

(٢) الرحمن ٢٢ ١٩.

(٣) فاطر : ٣٥.

(٤) الضحى : ١١.

١٢١

إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال : « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم » (١) وقال : « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا » (٢) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض نسائه : مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء (٣)؟ قال عاصم : فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن ، وأكل الجشب؟ قال : إن الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لانفسهم بالقوم كيلا يتبيغ بالفقير فقره ، فما قام علي عليه‌السلام حتى نزع عاصم العباءة ولبس ملاءة (٤).

١٣ ـ ف : دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله عليه‌السلام فرأى عليه ثياب بياض كأنها غرقئ البيض (٥) فقال له : إن هذا ( اللباس ) ليس من لباسك ، فقال له : اسمع مني وع ما أقول لك ، فانه خير لك عاجلا وآجلا ، إن كنت أنت مت على السنة والحق ، ولم تمت على بدعة.

اخبرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في زمان مقفر جشب (٦) فاذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها ، ومؤمنها لا منافقوها ، ومسملوها لا كفارها فما أنكرت ياثوري؟ فوالله إني لمع ماترى ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته.

____________________

(١) المائدة : ٨٧.

(٢) المؤمنون : ٥١.

(٣) الشعثاء : التى اغبر رأسها وتلبد شعرها وانتشر لقلة تعهده بالدهن ، والمرهاء : التى تركت الاكتحال حتى تبيض بواطن أجفانها وفي بعض النسخ « المرتاء » وهى التي أزالت الشعر من حاجبيها ، أو لاتختضبهما والسلتاء : هي التي لاتختضب.

(٤) يعنى أنه ترك الثوب الخشن ولبس ثوبا واسعا ناعما أبيض.

(٥) الغرقئ كزبرح القشرة الملتزقة ببياض البيض ، شبهه بها للطافتها وشفوفها ونعومتها وبياضها.

(٦) في الكافي : مقفر جدب ، يعنى عام الضيق والقحط.

١٢٢

فقال : ثم أتاه قومه ممن يظهر التزهد ، ويدعون الناس أن يكونوا معهم مثل الذي هم عليه من التقشف (١) فقالوا : إن صاحبنا حصر عن كلامك ، ولم تحضره حجة ، فقال لهم : هاتوا حججكم ، فقالوا : إن حججنا من كتاب الله قال لهم : فأدلوا بها (٢) فانها أحق ما اتبع وعمل به.

فقالوا : يقول الله تبارك وتعالى يخبر عن قوم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون » (٣) فمدح فعلهم ، وقال في موضع آخر : « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » (٤) فنحن نكتفي بهذا ، فقال رجل من الجلساء : إنا مارأيناكم (٥) تزهدون في الاطعمة الطيبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تتمتعوا أنتم منها؟ فقال ( له ) : أبوعبدالله عليه‌السلام دعوا عنكم مالاينتفع به ، أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه ، الذي في مثله ضل من ضل ، وهلك من هلك من هذه الامة؟ فقالوا له : أو بعضه ، فأما كله فلا ، فقال لهم : من ههنا اتيتم (٦) وكذلك أحاريث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فأما ماذكرتم من إخبار الله إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن

____________________

(١) المتقشف : المتبلغ بقوت ومرقع ، ومن لايبالى بما تلطخ جسده. يقال : قشف قشافة : قذر جلده ولم يتعهد النظافة ، وان كان مع ذلك يطهر نفسه بالماء والاغتسال وقشف فلان : رثت هيئة وساءت حاله وضاق عيشه كما هو سيرة المتصوفين.

(٢) يقال أدلى بحجته : اذا أحضرها واحتج بها.

(٣) الحشر : ٩.

(٤) الدهر : ٨.

(٥) في الكافي : انا رأيناكم ، وهو الظاهر.

(٦) اتى فلان كعنى ، وهى وتغير عليه حسه ، فتوهم ماليس بصحيح صحيحا نقله الشرتوني عن التاج.

١٢٣

فعالهم ، فقد كان مباحا جائزا ، ولم يكونوا نهوا عنه ، وثوابهم منه على الله ، وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ماعملوا به ، فصار أمره ناسخا لفعلهم ، وكان نهي الله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين ، ونظرا ، لكي لايضروا بأنفسهم وعيالاتهم منهم الضعفة الصغار ، والولدان ، والشيخ الفان ، والعجوز الكبيرة ، الذين لايصبرون على الجوع ، فان تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ، ضاعوا وهلكوا جوعا.

فمن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الانسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الانسان على والديه ، ثم الثانية على نفسه وعياله ، ثم الثالثة القرابة وإخوانه المؤمنين ، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثم الخامس في سبيل الله وهو أخسها أجرا.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للانصاري حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ، ولم يكن يملك غيرهم ، وله أولاد صغار : لو أعلمتموني أمره ماتركتكم تدفنونه مع المسلمين ، ترك صبية صغارا يتكففون الناس ثم قال : حدثني أبي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ابدأ بمن تعول الادنى فالادنى.

ثم هذا مانطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه ، مفروض من الله العزيز الحكيم ، قال : « الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما » (١) أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون ( الناس إليه من الاثرة على أنفسهم ، وسمى من فعل ماتدعون ) (٢) إليه مسرفا؟ وفي غير آية من كتاب الله يقول : « إنه لايحب المسرفين » (٣) فنهاهم عن الاسراف ، ونهاهم عن التقتير لكن أمر بين أمرين : لايعطي جميع ماعنده ، ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

« إن أصنافا من امتي لايستجاب لهم دعاؤهم : رجل يدعو على والديه

____________________

(١) الفرقان : ٦٧.

(٢) مابين العلامتين ساقط من نسخة التحف والكمبانى ، أضفناه من نسخة الكافي.

(٣) الانعام : ١٤١ ، الاعراف : ٣١.

١٢٤

ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في البيت يقول : يارب ارزقني ولا يخرج يطلب الرزق ، فيقول الله عزوجل : عبدي! أولم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الارض بجوارح صحيحة؟ فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ، ولكيلا تكون كلا على أهلك فان شئت رزقتك ، وإن شئت قترت عليك ، وأنت معذور عندي ، ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يارب ارزقني ، فيقول الله : ألم أرزقك رزقا واسعا؟ أفلا اقتصدت فيه كما أمرتك ، ولم تسرف كما نهيتك ، ورجل يدعو في قطيعة رحم ».

ثم علم الله نبيه كيف ينفق ، وذلك أنه كان عنده أوقية من ذهب ، فكره أن تبيت عنده فصدق وأصبح ليس عنده شئ ، وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه ، فلامه السايل واغتم هو حيث لم يكن عنده مايعطيه ، وكان رحيما رفيقا فأدب الله نبيه بأمره إياه فقال : « ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا » (١) يقول : إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فاذا أعطيت جميع ماعندك كنت قد حسرت من المال.

فهذه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين ، وقال أبوبكر عند موته : اوصي بالخمس والخمس كثير فان الله قد رضي بالخمس فأوصى بالخمس ، وقد جعل الله له الثلث عند موته ، ولو علم أن الثلث خير [ اً ] له أوصى به.

ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سليمان وأبوذر ، فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته ، حتى يحضره عطاؤه من قابل ، فقيل له : يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا؟ وإنك لاتدري لعلك تموت اليوم أو غدا ، وكان جوابه أن قال : مالكم لاترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء ، أو ما علمتم يا

____________________

(١) أسرى : ٢٩.

١٢٥

جهلة أن النفس قد تلتاث (١) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش مايعتمد عليه فاذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت.

فأما أبوذر فكانت له نويقات وشويهات (٢) يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رآى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء على قدر مايذهب عنهم قرم اللحم ، فيقسمه بينهم ، ويأخذ كنصيب أحدهم لايفضل عليهم ، ومن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قال ، ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لايملكان شيئا البتة ، كما تأمرون الناس بالقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوما : ماعجبت من شئ كعجبي من المؤمن ، إنه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض ، كان خيرا له ، وإن ملك مابين مشارق الارض ومغاربها كان خيرا له فكل مايصنع الله به فهو خير له ، فليت شعري هل يحيق (٣) فيكم اليوم ماقد شرحت لكم أم أزيد كم؟

أو ما علمتم أن الله جل اسمه فرض على المؤمنين في أول الامر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ، ليس له أن يولي وجهه عنهم ، ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوء مقعده من النار ، ثم حولهم من حالهم رحمة منه لهم ، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل من المشركين تخفيفا من الله عن المؤمنين فنسخ الرجلان العشرة.

____________________

(١) يعنى تلتف بصاحبها وتوسوسه بسوء الظن بالله.

(٢) نويقات جمع نويقة وهى مصغر ناقة ، وهكذا شويهات وشويهة وشاة ، وقوله « بقرم اللحم » محركة ، القرم : الشهوة والميل المفرط بأكل اللحم.

(٣) يقال حاق القول في القلب حيقا وحيقانا : أخذ ، وأصله من حاق فيه السيف : اذا أثر وعمل ، وحاق الشفرة : أى قطعت ، فشبه حججه التي ألقاها في المضي وفصل الخصومة بالسيف القاطع.

١٢٦

وأخبروني أيضا عن القضاة أجور منهم (١) حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال : أنا زاهد وإنه لا شئ لي ، فان قلتم جور ظلمتم أهل الاسلام (٢) وإن قلتم بل عدل خصمتم أنفسكم ، وحيث يردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.

أخبروني لو كان الناس كلهم كما تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم فعلى من كان يتصدق بكفارات الايمان والنذور ، والصدقات من فرض الزكاة من الابل والغنم والبقر ، وغير ذلك من الذهب والفضة والنخل والزبيب وسائر ماقد وجبت فيه الزكاة ، إذا كان الامر على ماتقولون لاينبغي لاحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه ، وإن كان به خصاصة ، فبئس ماذهبتم إليه ، وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنة نبيه وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل ، وردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ ، والمحكم والمتشابه والامر والنهي.

وأخبروني أنتم عن سليمان بن داود عليه‌السلام حيث سأل الله ملكا لاينبغي لاحد من بعده ، فأعطاه الله ذلك ، وكان يقول الحق ويعمل به ، ثم لم نجد الله عاب ذلك عليه ، ولا أحدا من المؤمنين ، وداود قبله في ملكه وشدة سلطانه.

ثم يوسف النبي حيث قال لملك مصر « اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم » (٣) فكان من أمره الذي كان ( أن ) اختار مملكة الملك ، وما حولها إلى اليمن ، فكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم ، وكان يقول الحق

____________________

(١) في الكافي : « أجورة هم » وهى جمع جائر نحو جهلة جمع جاهل.

(٢) في نسخة الكافي : « فان قلتم جورة ظلمكم أهل الاسلام وان قلتم بل عدول » والمعنى ان قلتم أن القضاة جورة في ذلك ظلمكم اى نسبكم أهل الاسلام إلى الظلم في هذا القول ، وعلى نسخة التحف : نسبتم أهل الاسلام وهم القضاة الحكام إلى الظلم ، فظلم من باب التفعيل للنسبة ، ويحتمل التخفيف.

(٣) يوسف : ٥٦.

١٢٧

ويعمل به ، فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه.

ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه ، طوى له الاسباب وملكه مشارق الارض ومغاربها وكان يقول بالحق ، ويعمل به ثم لم نجد أحد عاب ذلك عليه.

فتأدبوا أيها النفر بآداب الله للمؤمنين ، واقتصروا على أمر الله ونهيه ، و دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به ، وردوا العلم إلى أهله تؤجروا ، و تعذروا عند الله ، وكونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ، ومحكمه من متشابهه ، وما أحل الله فيه مما حرم ، فانه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل ، ودعوا الجهالة لاهلها ، فان أهل الجهل كثير ، وأهل العلم قليل وقد قال الله « فوق كل ذي علم عليم » (١).

١٤ ـ نبه : قيل إن سلمان رضي‌الله‌عنه جاء زائرا لابي الدرداء فوجد ام الدرداء مبتذلة ، فقال : ماشأنك؟ قالت : إن أخاك ليست له حاجة في شئ من أمر الدنيا ، قال : فلما جاء أبوالدرداء رحب لسلمان وقرب إليه طعاما فقال لسلمان اطعم ، فقال : إني صائم ، قال : أقسمت عليك إلا ماطعمت ، فقال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال : وبات عنده ، فلما جاء الليل قام أبوالدرداء فحبسه سلمان قال : يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا وإن لجسدك عليك حقا ولاهلك عليك حقا فصم وأفطر ، وصل ونم ، وأعط كل ذي حق حقه ، فأتى أبوالدرداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بما قال سلمان ، فقال له مثل قول سلمان (٢).

١٥ ـ نوادر الراوندى : باسناده ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي أهل الصفة وكانوا ضيفان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة ، فأسكنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صفة المسجد وهم

____________________

(١) يوسف : ٧٦ ، راجع نص الحديث في التحف ص ٣٦٣ ٣٦٩ الكافي ج ٥ ص ٦٥ ٧٠ ، وأخرجه المؤلف رضوان الله عليه في تاريخ الامام جعفر الصادق عليه‌السلام ج ٤٧ ص ٢٣٢ ٢٣٧ من هذه الطبعة.

(٢) تنبيه الخاطر ج ١ ص ٢.

١٢٨

أربعمائة رجل ، فكان يسل عليهم بالغداة والعشي فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله ، ومنهم من يرقع ثوبه ، ومنهم من يتفلى (١) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرزقهم مدا مدا من تمر في كل يوم.

فقام رجل منهم فقال : يارسول الله التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا فقال رسول الله : أما إني لو استطعت أن اطعمكم الدنيا لاطعمتكم ، ولكن من عاش منكم من بعدي يغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان ، ويغدو أحدكم في قميصة و يروح في اخرى ، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة (٢) فقام رجل فقال : يا رسول الله أنا إلى ذلك الزمان بالاشواق فمتى هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : زمانكم هذا خير من ذلك الزمان ، إنكم إن ملاتم بطونكم من الحلال ، توشكون أن تملاؤها من الحرام.

فقام سعد بن أشج فقال : يارسول الله مايعف بنا بعد الموت؟ قال الحساب والقبر ، ثم ضيقه بعد ذلك أو سعته ، فقال : يارسول الله هل تخاف أنت ذلك؟ فقال : لا ولكن أستحيي من النعم المتظاهرة التي لا اجازيها ولا جزءا من سبعة ، فقال سعد بن أشج إني اشهد الله واشهد رسوله ومن حضرني أن نوم الليل علي حرام ( والاكل بالنهار علي حرام ، ولباس الليل علي حرام ، ومخالطة الناس علي حرام وإتيان النساء علي حرام ) (٣) فقال رسول الله : ياسعد لم تصنع شيئا كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، إذا لم تخالط الناس ، وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة. نم بالليل ، وكل بالنهار ، والبس مالم يكن ذهبا أو حريرا أو معصفرا ، وآت النساء.

ياسعد اذهب إلى بني المصطلق فانهم قد ردوا رسولي فذهب إليهم فجاء بصدقة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف رأيتهم؟ قال : خير قوم مارأيت قوما قط أحسن أخلاقا فيما بينهم من قوم بعثتني إليهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنه لاينبغي لاولياء الله تعالى من أهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم أن يكونوا أولياء

____________________

(١) تفلى : أى نقى رأسه وثيابه من القمل ونحوه.

(٢) نجد البيت من باب التفعيل زينه وعبارة اللسان : نجدت البيت : بسطته بثياب موشبة. (٣) زيادة من المصدر.

١٢٩

الشيطان من أهل دار الغرور الذين ( كان ) لها سعيهم ، وفيها رغبتهم.

ثم قال : بئس القوم قوم لايأمرون بالمعروف ولاينهون عن المنكر ، بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، بئس القوم قوم لايقومون لله تعالى بالقسط ، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس ، بئس القوم قوم يكون الطلاق عندهم أوثق من عهد الله تعالى ، بئس القوم قوم جعلوا طاعة إمامهم دون طاعة الله ، بئس القوم قوم يختارون الدنيا على الدين ، بئس القوم قوم يستحلون المحارم والشهوات والشبهات.

قيل : يارسول الله فأي المؤمنين أكيس؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا ، وأحسنهم له استعدادا اولئك هم الاكياس (١).

٥٢

* ( باب ) *

* « اليقين والصبر على الشدايد في الدين » *

الايات : البقرة : وبالآخرة هم يوقنون (٢).

وقال تعالى : قد بينا الآيات لقوم يوقنون (٣) وقال تعالى مخاطبا لابراهيم عليه‌السلام : أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي (٤).

الانعام : وليكون من الموقنين (٥).

الرعد : يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (٦).

طه : فالقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلا قطعن أيديكم وأرجلكم

____________________

(١) نوادر الراوندى ص ٢٥ و ٢٦.

(٢ ـ ٤) البقرة : ٤ ، ١١٨ ، ٢٦٠.

(٥) الانعام : ٧٥.

(٦) الرعد : ٢.

١٣٠

من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على جائنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحيوة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (١).

الشعراء : قال رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين : إلى قوله تعالى : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (٢).

النمل : وهم بالآخرة هم يوقنون (٣).

العنكبوت : ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولون إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (٤).

لقمان : وهم بالآخرة هم يوقنون (٥).

التنزيل : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (٦).

الجاثية : وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (٧) وقال تعالى : وهدى ورحمة لقوم يوقنون (٨).

الذاريات : وفي الارض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون (٩).

____________________

(١) طه : ٧٠ ٧٣. (٢) الشعراء : ٢٤ ٥١.

(٣) النمل : ٣.

(٤) العنكبوت : ١٠.

(٥) لقمان : ٤.

(٦) السجدة : ٢٤.

(٧ و ٨) الجاثية : ٣ ، ١٩.

(٩) الذاريات : ٢٠ و ٢١.

١٣١

الطور : بل لايوقنون (١).

الواقعة : إن هذا لهو حق اليقين (٢).

الحاقة : وإنه لحق اليقين (٣).

التكاثر : كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين (٤).

تفسير : « وبالآخرة هم يوقنون » أي يوقنون إيقانا زال معه الشك ، قال البيضاوي : اليقين إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه بالاستدلال ، ولذلك لا يوصف به علم الباري تعالى ولا العلوم الضرورية (٥).

« ولكن ليطمئن قلبي » قال الطبرسي رحمه‌الله : أي بلى أنا مؤمن ، ولكن سألت ذاك لازداد يقينا إلى يقيني ، عن الحسن وقتادة ومجاهد وابن جبير ، وقيل لاعاين ذلك ويسكن قلبي إلى علم العيان بعد علم الاستدلال ، وقيل : ليطمئن قلبي بأنك قد أجبت مسألتي واتخذتني خليلا كما وعدتني (٦).

« وليكون من الموقنين » (٧) قال : أي من المتيقنين بأن الله سبحانه هو خالق ذلك والمالك له.

« يفصل الآيات » (٨) أي يأتي بآية في أثر آية فصلا فصلا مميزا بعضها عن بعض ، ليكون أمكن للاعتبار والتفكر ، وقيل : معناه يبين الدلائل بما يحدثه في السماوات والارض « لعلكم بلقاء ربكم توقنون » أي لكي توقنوا بالبعث والنشور

____________________

(١) الطور : ٣٦. (٢) الواقعة : ٩٥.

(٣) الحاقة : ٥١.

(٤) التكاثر : ٥ ٧.

(٥) أنوار التنزيل ص ١٠ مع اختلاف.

(٦) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٧٣.

(٧) الانعام : ٧٥.

(٨) الرعد : ٢.

١٣٢

وتعلموا أن القادر على هذه الاشياء قادر على البعث بعد الموت ، وفي هذا دلالة على وجوب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ، وعلى بطلان التقليد ، ولولا ذلك لم يكن لتفصيل الآيات معنى.

« إن كنتم موقنين » (١) أي بأن الرب بهذه الصفة أو بأن هذه الاشياء محدثة ، وليست من فعلكم ، والمحدث لابد له من محدث « لا ضير » أي لاضرر علينا فيما تفعله « إنا إلى ربنا منقلبون » أي إلى ثواب ربنا راجعون « خطايانا » أي من السحر وغيره ، « أن كنا أول المؤمنين » أي لان كنا أول من صدق بموسى عند تلك الآية أو مطلقا.

« ومن الناس من يقول آمنا بالله » (٢) بلسانه « فاذا اوذي في الله » أي في دين الله أو في ذات الله « جعل فتنة الناس كعذاب الله » أي إذا اوذي بسبب دين الله رجع عن الدين مخالفة عذاب الناس كما ينبغي أن يترك الكافر دينه مخافة عذاب الله فيسوى بين عذاب فان منقطع ، وبين عذاب دائم غير منقطع أبدا لقلة تمييزه ، وسمى أذية الناس فتنة لما في احتمالها من المشقة وقال علي بن إبراهيم (٣) : قال : إذا آذاه إنسان أو أصابه ضر أو فاقة أو خوف من الظالمين ، دخل معهم في دينهم ، فرأى أن مايفعلونه هو مثل عذاب الله الذي لاينقطع ، « ولئن جاء نصر من ربك » أي فتح وغنيمة ، وقال علي بن إبراهيم (٤) : يعني القائم عليه‌السلام « ليقولن إنا كنا معكم » في الدين ، فأشركونا : « بما في صدور العالمين » من الاخلاص والنفاق.

« وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا » قال علي بن إبراهيم : كان في علم الله أنهم يصبرون على مايصيبهم ، فجعلهم أئمة (٥) « وكانوا بآياتنا يوقنون » أي لايشكون فيها.

____________________

(١) الشعراء : ٢٤.

(٢) العنكبوت : ١٠.

(٣ ـ ٤) تفسير القمى ص ٤٩٥.

(٥) تفسير القمي ٥١٣ ، والاية في سورة السجدة : ٢٤.

١٣٣

« وفي خلقكم ومايبث من دابة » (١) أي في خلقه إياكم بما فيكم من بدائع الصنعة ، وما يتعاقب عليكم من غرائب الاحوال ، من مبتدأ خلقكم إلى انقضاء الآجال ، وفي خلق ماتفرق على وجه الارض من الحيوانات على اختلاف أجناسها ومنافعها ، دلالات واضحات على ماذكرنا « لقوم يوقنون » أي يطلبون علم اليقين بالتفكر والتدبر. « لقوم يوقنون » لانهم به (٢) ينتفعون.

« وفي الارض آيات للموقنين » (٣) أي دلائل تدل على عظمة الله وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته « وفي أنفسكم » أي وفي أنفسكم آيات إذ مافي العالم شئ إلا وفي الانسان له نظير يدل دلالته مع ما انفرد به من الهيآت النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة ، والتمكن من الافعال الغريبة ، واستنباط الصنائع المختلفة ، واستجماع الكمالات المتنوعة ، وفي المجمع وتفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام : يعني أنه خلقك سميعا بصيرا تغضب وترضى ، وتجوع وتشبع ، وذلك كله من آيات الله (٤) « أفلا تبصرون » أي تنظرون نظر من يعتبر.

« إن هذا لهو حق اليقين » قال في المجمع : أضاف الحق إلى اليقين ، وهما واحد للتأكيد ، أي هذا الذي أخبرتك به من منازل هؤلاء الاصناف الثلاثة هو الحق الذي لاشك فيه ، اليقين الذي لاشبهة فيه ، وقيل : تقديره حق الامر اليقين (٥).

« كلا لو تعلمون علم اليقين » قال الطبرسي قدس‌سره : أي لو تعلمون الامر علما يقينا لشغلكم ماتعلمون من التفاخر والتباهي بالعز والكثرة ، وعلم اليقين هو

____________________

(١) الجاثية : ٣.

(٢) أى بالقرآن ، والاية هكذا : هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون الجاثية : ١٩.

(٣) الذاريات : ٢٠ و ٢١.

(٤) مجمع البيان ج ٩ ص ١٥٦ ، تفسير القمي ٤٤٨.

(٥) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٢٨.

١٣٤

العلم الذي يثلج به الصدر بعد اضطراب الشك فيه ، ولهذا لايوصف الله تعالى بأنه متيقن « لترون الجحيم » يعني حين تبرز الجحيم في القيامة قبل دخولهم إليها « ثم لترونها » يعني بعد الدخول إليها « عين اليقين » كما يقال : حق اليقين ، ومحض اليقين ، ومعناه ثم لترونها بالمشاهدة إذا ادخلتموها وعذبتم بها انتهى (١).

أقول : وجعل بعض المحققين لليقين ثلاث درجات : الاولى علم اليقين وهو العلم الذي حصل بالدليل كمن علم وجود النار برؤية الدخان ، والثانية عين اليقين ، وهو إذا وصل إلى حد المشاهدة كمن رأى النار ، والثالثة حق اليقين وهو كمن دخل النار واتصف بصفاتها ، وسيأتي بعض القول فيها.

١ ـ كا : عن أبي علي الاشعري ، عن محمد بن سالم ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال : قال لي أبوعبدالله عليه‌السلام : يا أخا جعف إن الايمان أفضل من الاسلام ، وإن اليقين أفضل من الايمان ، وما من شئ أعز من اليقين (٢).

بيان : « يا أخا جعف » أي ياجعفي وهم قبيلة من اليمن (٣) وفي المصباح : هو أخو تميم : أي واحد منهم ، وفضل الايمان على الاسلام إما باعتبار الولاية في الاول أو الاذغان القلبي فيه مع الاعمال أو بدونها كما مر جميع ذلك ، وعلى أي معنى أخذت يعتبر في الايمان مالايعتبر في الاسلام ، فهو أخص وأفضل ، وكذا اليقين يعتبر فيه أعلا مراتب الجزم ، بحيث يترتب عليه الآثار ، ويوجب فعل الطاعات وترك المناهي ، ولا يعتبر ذلك في الايمان أي في حقيقته ، حتى يكون جميع أفراده ، فهو أخص وأفضل أفراد الايمان ، أو يعتبر في اليقين عدم احتمال النقيض ولا يعتبر ذلك في الايمان مطلقا كما مر ، والاظهر أن التصديق الذي لا

____________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٣٤.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٥١.

(٣) جعفى بن سعد العشيرة : بطن من سعد العشيرة ( من مذحج ، من القحطانية ) ابن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب ، والنسبة اليه كذلك جعفى.

١٣٥

يحتمل النقيض تختلف مراتبه حتى يصل إلى مرتبة اليقين كما أومأنا إليه سابقا.

« وما من شئ أعز من اليقين » أي أقل وجودا في الناس منه أو أشرف منه والاول أظهر إذ اليقين لايجتمع مع المعصية ، لا سيما مع الاصرار عليها ، وتارك ذلك نادر قليل ، بل يمكن أن يدعى أن إيمان أكثر الخلق ليس إلا تقليدا وظنا يزول بأدى وسوسة من النفس والشيطان ، ألا ترى أن الطبيب إذا أخبر أحدهم بأن الطعام الفلاني يضره ويوجب زيادة مرضه أو بطؤبرئه يحتمي من ذلك الطعام بمحض قول هذا الطبيب ، حفظا لنفسه من الضرر الضعيف المتوهم ولا يترك المعصية الكبيرة مع إخبار الله ورسوله وأئمة الهدى عليهم‌السلام بأنها مهلكة وموجبة للعذاب الشديد ، وليس ذلك إلا لضعف الايمان وعدم اليقين.

٢ ـ كا : عن العدة ، عن سهل ، والحسين بن محمد ، عن المعلى جميعا ، عن الوشاء عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سمعته يقول : الايمان فوق الاسلام بدرجة ، والتقوى فوق الايمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، وماقسم في الناس شئ أقل من اليقين (١).

بيان : يدل على أن التقوى أفضل من الايمان ، والتقوى من الوقاية وهي في اللغة فرط الصيانة ، وفي العرف صيانة النفس عما يضرها في الآخرة ، وقصرها على ماينفعها فيها ، ولها ثلاث مراتب : الاولى وقاية النفس عن العذاب المخلد بتصحيح العقائد الايمانية ، والثانية التجنب عن كل مايؤثم من فعل أو ترك وهو المعروف عند أهل الشرع ، والثالثة التوقي عن كل مايشغل القلب عن الحق وهذه درجة الخواص بل خاص الخاص ، والمراد هنا أحد المعنيين الاخيرين وكونه فوق الايمان بالمعنى الثالث ظاهر على أكثر معاني الايمان التي سبق ذكرها وإن اريد المعنى الثاني فالمراد بالايمان إما محض العقائد الحقة أو مع فعل الفرائض وترك الكبائر ، بأن يعتبر ترك الصغائر أيضا في المعنى الثاني ، وقيل : باعتبار أن الملكة معتبرة فيها لا فيه ، ولا يخفى مافيه.

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥١.

١٣٦

وكون اليقين فوق التقوى كأنه يعين حملها على المعنى الثاني ، وإلا فيشكل الفرق ، لكن درجات المرتبة الاخيرة أيضا كثيرة ، فيمكن حمل اليقين على أعالي درجاتها ، وما قيل : في الفرق أن التقوى قد يوجد بدون اليقين كما في بعض المقلدين فهو ظاهر الفساد إذ لا توجد هذه الدرجة الكاملة من التقوى لمن كان بناء إيمانه على الظن والتخمين ، وقوله عليه‌السلام : « وما قسم للناس » يدل على أن للاستعدادات الذاتية والعنايات الالهية مدخلا في مراتب الايمان واليقين ، كما مرت الاشارة إليه.

٣ ـ كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن هارون بن الجهم أو غيره عن عمر ابن أبان الكلبي ، عن عبدالحميد الواسطي ، عن أبي بصير قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام يابا محمد الاسلام درجة؟ قلت : نعم ، قال : والايمان على الاسلام درجة؟ قلت : نعم ، قال : والتقوى على الايمان درجة؟ قال : قلت : نعم ، قال : واليقين على التقوى درجة؟ قلت : نعم ، قال : فما اوتي الناس أقل من اليقين وإنما تمسكتم بأدنى الاسلام فاياكم أن ينفلت من أيديكم (١).

بيان : « الاسلام درجة » أي درجة من الدرجات أو أول درجة ، وهو استفهام أو خبر ، ونعم يقع في جوابهما « على الاسلام » أي مشرفا أو زايدا عليه « ما اوتي الناس أقل من اليقين » أي الايمان أقل من سائر ما اعطي الناس من الكمالات ، أو عزيز نادر فيهم كما مر ، وقيل : المعنى ما اعطي الناس شيئا قليلا من اليقين ، ولا يخفى بعده ، وكأنه حمله على ذلك ماسيأتي : قوله عليه‌السلام : « بأدنى الاسلام » كأن المراد بالاسلام هنا مجموع العقايد الحقة ، بل مع قدر من الاعمال كما مر من اختلاف معاني الاسلام ، ويحتمل أن يكون المراد بالخطاب غير المخاطب من ضعفاء الشيعة وقيل : المراد بأدنى الاسلام أدنى الدرجات إلى الاسلام ، وهو الايمان من قبيل يوسف أحسن إخوته.

« أن ينفلت من أيديكم » أي يخرج من قلوبكم فجاءه فيدل على أن من لم يكن في درجة كاملة من الايمان ، فهو على خطر من زواله ، فلا يغتر من

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥٢.

١٣٧

لم يتق المعاصي بحصول العقائد له ، فانه يمكن زواله عنه بحيث لم يعلم ، فان الاعمال الصالحة والاخلاق الحسنة حصون للايمان تحفظه من سراق شياطين الانس والجان ، قال الجوهري : يقال : كان ذلك الامر فلتة أي فجاءة إذا لم يكن عن تدبر ولا تردد ، وأفلت الشئ وتفلت وانفلت بمعنى وأفلته غيره.

٤ ـ كا : عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الايمان والاسلام فقال : قال أبوجعفر عليه‌السلام : إنما هو الاسلام ، والايمان فوقه بدرجة ، والتقوى فوق الايمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، ولم يقسم بين الناس شئ أقل من اليقين ، قال : قلت : فأي شئ اليقين؟ قال : التوكل على الله ، والتسليم لله ، والرضا بقضاء الله ، والتفويض إلى الله قلت : فما تفسير ذلك؟ قال : هكذا قال أبوجعفر عليه‌السلام (١).

بيان : « إنما هو الاسلام » كأن الضمير راجع إلى الدين ، لقوله تعالى : « إن الدين عند الله الاسلام » (٢) أو ليس أول الدخول في الدين إلا درجة الاسلام قوله عليه‌السلام : « التوكل على الله » تفسير اليقين بما ذكر من باب تعريف الشئ بلوازمه وآثاره ، فانه إذا حصل اليقين في النفس بالله سبحانه ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ، وتقديره للاشياء ، وتدبيره فيها ، ورأفته بالعباد ورحمته يلزمه التوكل عليه في اموره ، والاعتماد عليه والوثوق به ، وإن توسل بالاسباب تعبدا ، والتسليم له في جميع أحكامه ، ولخلفائه فيما يصدر عنهم ، والرضا بكل ما يقضي عليه على حسب المصالح من النعمة والبلاء والفقر والغنا والعز والذل وغيرها وتفويض الامر إليه في دفع شر الاعادي الظاهرة والباطنة ، أورد الامر بالكلية إليه في جميع الامور ، بحيث يرى قدرته مضمحلة في جنب قدرته ، وإرادته معدومة عند إرادته ، كما قال تعالى : « وماتشاؤن إلا أن يشاء الله » (٣) ويعبر عن هذه المرتبة بالفناء في الله.

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥٢.

(٢) آل عمران : ١٩.

(٣) الانسان : ٣٠ ، التكوير : ٢٩.

١٣٨

قوله عليه‌السلام : « هكذا » الخ لما كان السائل قاصرا عن فهم حقائق هذه الصفات ، لم يجبه عليه‌السلام بالتفسير ، بل أكد حقيته بالرواية عن والده عليه‌السلام وقيل : استبعد الراوي كون هذه الامور تفسيرا لليقين ، فأجاب عليه‌السلام بأن الباقر عليه‌السلام كذا فسره.

٥ ـ كا : عن محمد بن يحيى ، عن ابن عيسى ، عن البزنطي ، عن الرضا عليه‌السلام قال : الايمان فوق الاسلام بدرجة ، والتقوى فوق الايمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، ولم يقسم بين العباد شئ أقل من اليقين (١).

بيان : قال بعض المحققين : اعلم أن العلم والعبادة جوهران لاجلهما كان كلما ترى وتسمع ، من تصنيف المصنفين ، وتعليم المعلمين ، ووعظ الواعظين ونظر الناظرين ، بل لاجلهما انزلت الكتب ، وارسلت الرسل ، بل لاجلهما خلقت السماوات والارض ، وما فيهما من الخلق ، وناهيك لشرف العلم قول الله عزوجل : « الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما » (٢) ولشرف العبادة قوله سبحانه : « وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون » (٣) فحق للعبد أن لايشتغل إلا؟ ولا يتعب إلا لهما ، وأشرف الجوهرين العلم كما ورد « فضل العالم على؟ كفضلي على أنادكم ».

والمراد بالعلم الدين أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قال الله عزوجل : « آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله » (٤) وقال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ، ومن يكفر

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥٢.

(٢) الطلاق : ١٢.

(٣) الذاريات : ٥٦.

(٤) البقرة : ٢٨٥.

١٣٩

بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا » (١).

ومرجع الايمان إلى العلم ، وذلك لان الايمان هو التصديق بالشئ على ماهو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصور ذلك الشئ كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم ، والكفر مايقابله ، وهو بمعنى الستر والغطاء ومرجعه إلى الجهل وقد خص الايمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة ولو إجمالا فالعلم بها لابد منه وإليه الاشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » ولكن لكل إنسان بحسب طاقته ووسعه « لايكلف الله نفسا إلا وسعها » (٢) فان للعلم والايمان درجات مترتبة في القوة والضعف ، والزيادة والنقصان ، بعضها فوق بعض ، كما دلت عليه الاخبار الكثيرة.

وذلك لان الايمان إنما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب ، وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الله جل جلاله « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » (٣) « أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها » (٤) وليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه.

وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الانوار « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا » (٥) « وقل رب زدني علما » (٦) كلما ارتفع حجاب ازداد نور ، فيقوى الايمان ويتكامل إلى أن ينبسط نور فينشرح صدره ، ويطلع على حقائق الاشياء ، وتجلى له الغيوب ، ويعرف كل شئ في موضعه ، فيظهر له

____________________

(١) النساء : ١٣٦.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) البقرة : ٢٥٧.

(٤) الانعام : ١٢٢.

(٥) الانفال : ٢.

(٦) طه : ١١٤.

١٤٠