بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٩
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

كما مر (١) أو بكمال المعرفة وقد مر تمام القول فيه في كتاب العدل وفي بعض النسخ « صبغ » بالباء الموحدة والغين المعجمة أي هل لهذه الكتابة صبغ ولون وكأنه تصحيف.

تذييل

اعلم أن المتكلمين من الخاصة والعامة اختلفوا في أن الايمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا؟ ومنهم من جعل هذا الخلاف فرع الخلاف في أن الاعمال داخلة فيه أم لا ، قال إمامهم الرازي في المحصل : الايمان عندنا لايزيد ولاينقص لانه لما كان اسما لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به ، وهذا لا يقبل التفاوت فسمي الايمان لايقبل الزيادة والنقصان ، وعند المعتزلة لما كان اسما لاداء العبادات كان قابلا لهما ، وعند السلف لما كان اسما للاقرار والاعتقاد والعمل فكذلك والبحث لغوي ولكل واحد من الفرق نصوص والتوفيق أن يقال الاعمال من ثمرات التصديق ، فما دل على أن الايمان لايقبل الزيادة والنقصان كان مصروفا إلى أصل الايمان. وما دل على كونه قابلا لهما فهو مصروف إلى الايمان الكامل انتهى.

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره في رسالة العقائد : حقيقة الايمان بعد الاتصاف بها بحيث يكون المتصف بها مؤمنا عندالله تعالى هل تقبل الزيادة أم لا؟ فقيل بالثاني لما تقدم من أنه التصديق القلبي الذي بلغ الجزم والثبات فلا تتصور فيه الزيادة عن ذلك سواء أتى بالطاعات وترك المعاصي أم لا ، وكذا لاتعرض له النقيصة وإلا لما كان ثابتا ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، وأيضا حقيقة الشئ لو قبلت الزيادة والنقصان لكانت حقائق متعددة ، وقد فرضناها واحدة ، وهذا خلف.

____________________

(١) مر في شرحه للكافى راجع كتاب التوحيد باب البيان ولزوم الجحة وباب الهداية أنها من الله عزوجل.

٢٠١

إن قلت : حقيقة الايمان من الامور الاعتبارية للشارع وحينئذ فيجوز أن يعتبر الشارع للايمان حقائق متعددة متفاوتة زيادة ونقصانا بحسب مراتب المكلفين في قوة الادراك وضعفه ، فانا نقطع بتفاوت المكلفين في العلم والادراك ، قلت : لو جاز ذلك وكان واقعا لوجب على الشارع بيان حقيقة إيمان كل فرقة يتفاوتون في قوة الادراك ، مع أنه لم يبين ، وما ورد من جهة الشارع فيما به يتحقق الايمان من حديث جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره من الاحاديث قد مر ذكره ، وليس فيه شئ يدل على تعدد الحقائق بحسب تفاوت قوى المكلفين وأما ما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة مما يشعر بقبوله الزيادة والنقصان ، كقوله تعالى « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا » (١) وقوله تعالى « وليزدادوا إيمانا مع إيمانهم » (٢) وقوله تعالى « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين » (٣) وكذا ما ورد من أمثال ذلك في القرآن العزيز فمحمول على زيادة الكمال ، وهو أمر خارج عن أصل الحقيقة الذي هو محل النزاع والاية الثانية صريحة في ذلك ، فان قوله تعالى « مع إيمانهم » يدل على أن أصل الايمان ثابت أو على من كان في عصرالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كانوا يسمعون فرضا بعد فرض منه عليه‌السلام فيزداد إيمانهم به لانهم لم يكونوا مصدقين به قبل أن يسمعوه وحاصله أن الحقيقة الشرعية للايمان لم تكن حصلت بتمامها في ذلك الوقت ، فكان كلما حصل منها شئ صدقوا به.

واعترض بأن من كان بعد عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمكن في حقه تجدد الاطلاع على تفاصيل الفرائض المتوقف عليها الايمان ، فانه يجب الاعتقاد إجمالا فيما علم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، ولا ريب أن اعتقاد الامور المتعددة تفصيلا

____________________

(١) الانفال : ٢.

(٢) الفتح : ٤.

(٣) المائدة : ٩٣.

٢٠٢

أزيد وأظهر عند النفس من اعتقادها إجمالا فعلم من ذلك قبول حقيقة الايمان الزيادة.

أقول : فيه بحث فان الجازم بحقيقة الجملة جازم بحقيقة كل جزء منها وإن لم يعلمه بعينه ، ألا ترى أنا بعد علمنا بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جازمون بصدق كل ما يخبر به ، وإن لم نعلم تفصيل ذلك جزءا جزءا حتى لو فصل ذلك علينا واحدا واحدا لما ازداد ذلك الجزم ، نعم الزائد في التفصيل ، إنما هو إدراك الصور المتعددة من حيث التعدد والتشخص ، وهو لايوجب زيادة في التصديق الاجمالي الجازم ، فان هذه الصور قد كانت مجزوما بها على تقدير دخولها في الهيئة الاجمالية وإنما الشاذ عن النفس إدراك خصوصياتها ، وهو أمر خارج عن تحقق الحقيقة المجزوم بها ، نعم لاريب في حصول الاكملية به ، وليس الكلام فيها.

وقد أجاب بعض المفسرين عن الاية الثالثة بأن تكرار الايمان فيها ليس فيه دلالة على الزيادة بل إما أن يكون باعتبار الازمنة الثلاثة ، أو باعتبار الاحوال الثلاث حال المؤمن مع نفسه ، وحاله مع الناس ، وحاله مع الله تعالى ، ولذا بدل الايمان بالاحسان كما يرشد إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسيره : الاحسان أن تعبدالله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك ، أو باعتبار المراتب الثلاث : المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما ينبغي فانه ينبغي تر؟ المحرمات حذرا عن العقاب ، وترك الشبهات تباعدا عن الوقوع في المحرمات وهو مرتبة الورع ، وترك بعض المباحات المؤذنة بالنقص حفظا للنفس عن الخسة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة ، أو يكون هذا التكرار كناية عن أنه ينبغي للمؤمن أن يجدد الايمان في كل وقت بقلبه ولسانه وأعماله الصالحة وعبر [ به حرصا ] منه على بقائه والثبات عليه عند الذهول ، ليصير الايمان ملكة للنفس ، فلا يزلزله عروض شبهة انتهى.

قيل في بيان قبول الايمان الزيادة : إن الثبات والدوام على الايمان أمر زائد عليه في كل زمان ، وحاصل ذلك يرجع إلى أن الايمان عرض لانه من الكيفيات النفسانية ، والعرض لايبقى زمانين ، بل بقاؤه إنما يكون بتجدد الامثال.

أقول : وهذا مع بنائه على مالم يثبت حقيته بل نفيه فليس من الزيادة في شئ إذلا يقال

٢٠٣

للمماثل الحاصل بعد انعدام مثله أنه زائد وهذا ظاهر.

وقيل في توجيه قبوله الزيادة أنه بمعنى زيادة ثمرته من الطاعات وإشراق نوره وضيائه في القلب ، فانه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.

أقول : هذا التوجيه وجيه لوكان النزاع في مطلق الزيادة لكنه ليس كذلك بل النزاع إنما هو في أصل حقيقته لافي كمالها.

واستدل بعض المحققين على أن حقيقة التصديق الجازم الثابت يقبل الزيادة والنقصان بأنا نقطع أن تصديقنا ليس كتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : لاريب في أنا قاطعون بأن تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقوى من تصديقنا وأكمل ، لكن هذا لايدل على اختلاف أصل حقيقة الايمان التي قدرها الشارع باعتقاد امور مخصوصة على وجه الجزم والثبات ، فان تلك الحقيقة إنما هي من اعتبارات الشارع ، ولم يعهد من الشارع اختلاف حقيقة الايمان باختلاف المكلفين في قوة الادراك بحيث يحكم بكفر قوي الادراك لو كان جزمه بالمعارف الالهية كجزم من هو أضعف إدراكا منه ، نعم الذي تفاوت فيه المكلفون إنما هو مراتب كماله بعد تحقق أصل حقيقته التي يخاطب بتحصيلها كل مكلف ويعتبر بها مؤمنا عندالله تعالى ويستحق الثواب الدائم وبدونها العقاب الدائم.

وأما تلك الكمالات الزائدة فانما تكون باعتبار قرب المكلف إلى الله تعالى بسبب استشعاره لعظمة الله وكبريائه ، وشمول قدرته وعلمه ، وذلك لاشراق نفسه واطلاعها على ما في مصنوعات الله تعالى من الاحكام والاتقان والحكم والمصالح فان النفس إذا لاحظت هذه البدائع الغريبة العظيمة التي تحارفي تعلقها مع علمها بأنها تشرك في الامكان والافتقار إلى صانع يبدعها ويبديها ، متوحد في ذاته بذاته انكشف عليها كبرياء ذلك الصانع وعظمته وجلاله وإحاطته بكل شئ فيكثر خوفها وخشيتها واحترامها لذلك الصانع ، حتى كأنها لاتشاهد سواه ، ولا تخشى غيره ، فتنقطع عن غيره إليه وتسلم أزمة امورها إليه ، حيث علمت أن لارب غيره وأن المبدأ منه والمعاد إليه ، فلا تزال شاخصة منتظرة لامرة لامره حتى تأتيها فتفر

٢٠٤

إليه من ضيق الجهالة إلى سعة معرفته (١) ورحمته ولطفه ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وكذا ما ورد من السنة المطهرة مما يشعر بقبوله الزيادة والنقصان يمكن حمله على ما ذكرناه كحديث الجوارح ذكره في الكافي باسناده ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام (٢) قال : قلت : صفه لي يعني الايمان جعلت فداك حتى أفهمه فقال : الايمان حالات ودرجات ـ إلى قوله ـ وبالنقصان دخل المفرطون النار انتهى.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أن سند الحديث ضعيف لان في طريقه بكربن صالح الرازي وهو ضعيف جدا كثير التفرد بالغرائب وأبوعمرو الزبيري وهو مجهول فسقط الاستدلال به. ولو سلم سنده فلا دلالة فيه على اختلاف نفس حقيقة الايمان ألا ترى أنه قال عليه‌السلام : « ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنة » فأشار بذلك إلى نفس حقيقة الايمان التي يترتب عليها النجاة ، وجعل الناقص عنها مما يترتب عليه دخول النار ، فلم يكن إيمانا وإلا لم يدخل صاحبه النار لقوله تعالى : « وعدالله المؤمنين والمؤمنات جنات » (٣) وجعل الزيادة في الايمان مما يوجب التفاضل في الدرجات ، ولاريب أن هذه الزيادة لوتركت ، واقتصر المكلف على ما يحصل به التمام ، لم يعاقب على ترك هذه الزيادة ، ولانه عليه‌السلام جعل التمام موجبا للجنة ، فكيف يوجب العقاب ترك الزيادة ، مع أن ما دونه وهو التمام يوجب الجنة ، وعلى هذا فتكون الزيادة غير مكلف بها ، فلم تكن داخلة في أصل حقيقة الايمان ، لانه مكلف به بالنص والاجماع ، فيكون من الكمال ، فظهر بذلك كون هذا الحديث دليلا على عدم قبول حقيقة الايمان للزيادة والنقصان لا دليلا على قبولهما.

____________________

(١) مغفرته خ ل.

(٢) مر تحت الرقم ٦ ص ٢٣ فراجع.

(٣) براءة : ٧٢

٢٠٥

وهذا استخراج لم نسبق إليه وبيان لم يعثر غيرنا عليه ، على أن هذا الحديث لو قطعنا النظر عما ذكرناه ، وحملناه على ظاهره ، لكان معارضا بما سبق من حديث جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث سأله عن الايمان فقال : أن تؤمن بالله ورسله واليوم الاخر أي تصدق بذلك ، ولو بقي من حقيقته شي ء سوى ما ذكره له لبينه له ، فدل على أن حقيقته تتم بما أجابه بالقياس إلى كل مكلف ، أما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلانه المجاب به حين سأله ، وأما لغيره فللتأسي به ، وطريق الجمع بينهما حينئذ حمل ما في حديث الجوارح من الزيادة عن ذلك على مرتبة الكمال كما بيناه سابقا.

وههنا بحث وهو أن حقيقة الايمان كما كانت من الامور الاعتبارية للشارع كان تحديدها إنما هو بجعل الشارع وتقريره لها ، فلا يعلم حينئذ مقداره وحقيقته إلا منه ، وحيث رأينا ما وصل إلينا من خطاباته تعالى غير قاطع في الدلالة على تعيين قدر مخصوص من أنواع الاعتقاد أو الاعمال ، بحيث تشترك الكل في التكليف به ، من غير تفاوت بين قوي الادراك وضعيفه ، بل رأيناها متفاوتة في الدلالة على ذلك ، يعلم ذلك من تتبع آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، وقد سبق نبذة من ذلك ، ولايجوز الاختلاف في خطاباته ولا أن يكلف عباده بأمر لايبين لهم مراده تعالى منه ، لاستحالة تكليف مالا يطاق ، وإخلاله باللطف ، ورأينا الاكثر ورودا في كتابه بذلك الامر بالاعتقاد القلبي من غير تعيين مقدار مخصوص منه بقاطع يوقفنا على اعتباره ، أمكن حينئذ أن يكون مراده منه مطلق الاعتقاد العلمي سواء كان علم الطمأنينة ، أو علم اليقين ، أو حق اليقين ، أو عين اليقين ، فتكون حقيقة واحدة وهو الاذعان القلبي والاعتقاد العلمي والتفاوت بالزيادة والنقصان إنما هو في أفراد تلك الحقيقة ومن مشخصاتها ، فلا يكون داخلا في الحقيقة المذكورة.

وما ورد مما ظاهره الاختلاف في الدلالة على مراد الشارع منه يمكن تنزيله على تفاوت الافراد المذكورة كعلم الطمأنينة ، وعلم اليقين ، وغيرهما ، فيكون كل واحد منها مرادا وكافيا في امتثال أمر الشارع ، وهذا هو المناسب لسهولة التكليف واختلاف طبقات المكلفين في الادراك كما لايخفى.

٢٠٦

وبذلك يسهل الخطب في الحكم بايمان أكثر العوام الذين لايتيسر لانفسهم الاتصاف بالعلم الذي لايقبل تشكيك المشكك ، فان علم الطمأنينة متيسر لكل واحد ، وعلى هذا فيكون ما تشعر النفس به من الازدياد في التصديق والاطمينان عند ما تشاهده من برهان أو عيان إنما هو انتقال في أفراد تلك الحقيقة وتبدل واحد بآخر ، والحقيقة واحدة.

لايقال : أفراد الحقيقة الواحدة لاتنافي الاجتماع في القوة العاقلة ، فان أفراد الحيوان والانسان يصلح اجتماعها في القوة العاقلة ، وما نحن فيه ليس كذلك إذلا يمكن اتصاف النفس بحصول علم الطمأنينة وعلم اليقين في حالة واحدة لتضادهما ، ولهذا يزول الاول بحصول الثاني ، فلا يكون ماذكرت أفراد حقيقة واحدة بل حقائق.

قلت : لانسلم أن أفراد كل حقيقة يصح اجتماعها في الحصول عند القوة العاقلة ، بل قد لايصح ذلك لما بينها من التضاد كما في البياض والسواد ، فانهما فردان لحقيقة واحدة هي اللون ، مع عدم صحة اجتماعهما في محل واحد لاخارجا ولاذهنا.

بقي ههنا شئ وهو أنه لاريب في تحقق الايمان الشرعي بالتصديق الجازم الثابت ، وإن أخل المتصف به ببعض الطاعات ، وقارف بعض المنهيات عند من يكتفي في حصول الايمان باذعان الجنان ، وإذا كان الامر كذلك فلا معنى للنزاع عند هؤلاء في أن حقيقة الايمان هل تقبل الزيادة والنقصان إذ لو قبلت شيئا منهما لم تكن واحدة بل متعددة ، لان القابل غير المقبول ، والعارض غير المعروض فان دخل الزائد في مفهوم الحقيقة بحيث صار ذاتيا لها تعددت وتبدلت ، وكذا الناقص إذا خرج عنها فلا تكون واحدة ، وقد فرضناها كذلك هذا خلف ، وإن لم يدخل ولم يخرج شئ منهما كانت واحدة من غير نقصان وزيادة فيها ، بل هما راجعان إلى الكمال وعدمه ، وحينئذ فيبقى محل النزاع هل يقبل كمالها الزيادة

٢٠٧

والنقصان ، وأنت خبير بأن هذا مما لايختلف في صحته اثنان.

وقد ذكر بعض العلماء أن هذا النزاع إنما يتمشى على قول من جعل الطاعات من الايمان ، وأقول : الذي يقتضيه النظر أنه لايتمشى على قولهم أيضا وذلك أن ما اعتبروه في الايمان من الطاعات إما أن يريدوا به توقف حصول الايمان على جميع ما اعتبروه ، أو عليه في الجملة ، وعلى الاول يلزم كون حقيقته واحدة ، فاذا ترك فرضا من تلك الطاعات يخرج من الايمان ، وعلى الثاني يلزم كون ما يتحقق به الايمان من تلك الطاعات داخلا في حقيقته ، وما زاد عليه خارجا فتكون واحدة على التقديرين فليس الزيادة والنقصان إلا في الكمال على جميع الاقوال انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وقال شارح المقاصد : ظاهر الكتاب والسنة وهو مذهب الاشاعرة والمعتزلة والمحكي عن الشافعي وكثير من العلماء أن الايمان يزيد وينقص ، وعند أبي حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء وهو اختيار إمام الحرمين أنه لايزيد ولا ينقص ، لانه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والاذعان ، ولايتصور فيه الزيادة والنقصان ، والمصدق إذا ضم الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي ، فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة ، ولهذا قال الامام الرازي وغيره : إن هذا الخلاف فرع تفسير الايمان ، فان قلنا : هو التصديق فلا تتفاوت ، وإن قلنا : هو الاعمال فمتفاوت ، وقال إمام الحرمين : إذا حملنا الايمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقا كما لايفضل علم علما ، ومن حمله على الطاعة سرا وعلنا وقد مال إليه القلانسي فلا يبعد إطلاق القول بأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ونحن لانؤثر هذا.

ثم قال : ولقائل أن يقول : لانسلم أن التصديق لايتفاوت ، بل يتفاوت قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس ، والتصديق بحدوث العالم ، لانه إما نفس الاعتقاد القابل للتفاوت ، أو مبني عليه قلة وكثرة كما في التصديق الاجمالي والتفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل وأكثر ، فان ذلك من الايمان لكونه تصديقا

٢٠٨

بما جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله إجمالا فيما علم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا.

لايقال : الواجب تصديق يبلغ حد اليقين ، وهو لا يتفاوت لان التفاوت لايتصور إلا باحتمال النقيص ، لانا نقول : اليقين من باب العلم والمعرفة ، وقد سبق أنه غير التصديق ولو سلم أنه التصديق وأن المراد به ما يبلغ حد الاذعان والقبول ، ويصدق عليه المعنى المسمى بإرويدن ليكون تصديقا قطعا فلا نسلم أنه لايقبل التفاوت ، بل لليقين مراتب من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات ، وكون التفاوت راجعا إلى مجرد الجلاء والخفاء غير مسلم بل عند الحصول وزوال التردد التفاوت بحاله وكفاك قول الخليل « ولكن ليطمئن قلبي » (١) وعن علي عليه‌السلام « لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا » على أن القول بأن المعتبر في حق الكل هو اليقين ، وأن ليس للظن الغالب الذي لايخطر معه النقيض بالبال حكم اليقين محل نظر.

احتج القائلون بالزيادة والنقصان بالعقل والنقل ، أما العقل فلانه لو لم يتفاوت لكان إيمان آحاد الامة بل المنهمك في الفسق مساويا لتصديق الانبياء واللازم باطل قطعا ، وأما النقل فلكثرة النصوص الواردة في هذا المعنى قال الله « وإذ اتليت عليهم آياته زادتهم إيمانا » (٢) « ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم » (٣) « ويزداد الذين آمنوا إيمانا » (٤) « ومازادهم إلا إيمانا وتسليما » (٥) « فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا » (٦) وعن ابن عمر قلنا : يا رسول الله إن الايمان يزيد وينقص؟ قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار.

____________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) الانفال : ٢.

(٣) الفتح : ٤.

(٤) المدثر : ٣١.

(٥) الاحزاب : ٢٢.

(٦) براءة : ١٢٤.

٢٠٩

واجيب وبوجوه : الاول أن المراد الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الازمان والساعات ، وهذا ما قال إمام الحرمين : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك ، والتصديق عرض لايبقى فيقع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متوالياولغيره على الفترات ، فثبت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعداد من الايمان لايثبت لغيره إلا بعضها ، فيكون إيمانه أكثر ، والزيادة بهذا المعنى مما لانزاع فيه ، وما يقال من أن حصول المثل بعد انعدام الشئ لايكون زيادة ، مدفوع بأن المراد زيادة أعداد حصلت ، وعدم البقاء لاينافي ذلك.

الثاني أن المراد الزيادة بحسب زيادة المؤمن به والصحابة كانوا آمنوا في الجملة ، وكان يأتي فرض بعد فرض وكانوا يؤمنون بكل فرض خاص ، وحاصله أن الايمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا ، وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، والناس متفاوتون في ملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ، فيتفاوت إيمانهم زيادة ونقصانا ، ولايختص ذلك بعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يتوهم.

الثالث أن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب ، فانه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، وهذا مما لاخفاء فيه ، وهذه الوجوه جيدة في التأويل لوثبت لهم أن التصديق في نفسه لايقبل التفاوت ، والكلام فيه انتهى.

والحق أن الايمان يقبل الزيادة والنقصان سواء كانت الاعمال أجزاءه أو شرائطه أو آثاره الدالة عليه ، فان التصديق القلبي بأي معنى فسر لاريب أنه يزيد و كلما زاد زادت آثاره على الاعضاء والجوارح ، فهي كثرة وقلة تدل على مراتب الايمان زيادة ونقصانا ، وكل منهما يتفرع على الاخر فان كل مرتبة من مراتب الايمان تصير سببا لقدر من الاعمال يناسبها ، فاذا أتى بها قوي الايمان القلبي وحصلت مرتبة أعلى تقتضي عملا أكثر ، وهكذا.

وجملة القول في ذلك أن للايمان ولكل من الاعمال الايمانية أفرادا كثيرة وحقيقة ونورا وروحا كالصلاة ، فان لها روحا هي الاخلاص مثلا ، فاذا فارقها كانت جسدا بلا روح لايترتب عليه أثر ، ولاينهى عن الفحشاء والمنكر ، فللايمان

٢١٠

أيضا مراتب يترتب على كل مرتبة منها آثار ، فاذا ارتكب المؤمن الكبائر نقص إيمانه وفارقه روح الايمان وحقيقته ، وكيف يؤمن بالله وبالمعاد وبالجنة والنار ويرتكب ما أخبرالله بأنه موجب لدخول النار ، فلا يكون ذلك إلا لضعف في اليقين كما ورد في أخبار كثيرة أنهم عليهم‌السلام سألوا عنه ادعاء الايمان أو اليقين ما حقيقة إيمانك ، وما حقيقة يقينك ، فظهر لهما حقائق مختلفة تظهر بآثارهما.

وروح الايمان الواردة في الاخبار يمكن حملها على ذلك ، فان الايمان إذا ضعف حتى غلب عليه الشهوات البدنية ، فكأنه لاروح له ، ولايترتب عليه أثر ، بل لابقاء له ، فان غلب عليه الشهوة ، وعاد إلى التوبة ، قوي الايمان وعاد إليه الروح ، وترتب عليه الاثار ، وعاد إليه الملك المؤيد له ، ولذا اطلق الروح في بعض الاخبار على ذلك الملك أيضا ، وقد يعود إليه بعد انقضاء الشهوة وقوة العقل والايمان ، وتصرف العقل في ممالكه ، بعد ما صار مغلوبا مقهورا بالشهوات الدنية ، فيتذكر قبح فعله ، فيعود إليه الملك المؤيد أو شئ من نور الايمان ، وإن لم تكمل له التوبة ، ولم يقدر على العزم التام على تركها فيما سيأتي ولذا ورد في بعض الاخبار أنه يعود إليه روح الايمان بدون التوبة أيضا ، وقد مر بعض القول في ذلك وسيأتي إن شاءالله تعالى.

٢١١

٣٤

*(باب)*

*«(ان الايمان مصتقر ومستودع ، وامكان زوال الايمان)»*

الايات : الانعام : وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع (١).

تفسير : قال الطبرسي رحمه‌الله : « وهو الذي أنشأكم » أي أبدعكم وخلقكم « من نفس واحدة » أي من آدم عليه‌السلام لان الله تعالى خلقنا جميعا منه ، وخلق امنا حواء من ضلع من أضلاعه انتهى (٢).

أقول : وقد مر أن خلقهم من أب واحد لايقتضي عدم مدخلية الام ولا يكون الام مخلوقة منه ، لما مر نفي ذلك في أخبار. « فمستقر ومستودع » قال المفسرون فيه وجوها : الاول مستقر في الرحم إلى أن يولد ، ومستودع في القبر إلى أن يبعث ، والثاني مستقر في بطن الامهات ، ومستودع في أصلاب الاباء ، الثالث مستقر على ظهر الارض في الدنيا ، ومستودع عندالله في الاخرة ، الرابع مستقر في القبر ، ومستودع في الدنيا ، وقيل : مستقرها أيام حياتها ، ومستودعها حيث يموت.

وأقول : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر القاف والباقون بالفتح ، وعلى ما سيأتي من التأويل في الاخبار تستقيم القراءتان فبالفتح أي فلكم استقرار في الايمان ، واستيداع فيه أو فمنكم من هو محل استقرار الايمان ، ومنكم من هو محل استيداعه ، ففيه حذف وإيصال أي مستقر فيه ، وبالكسر أي فمنكم مستقر في الايمان ، ومنكم مستودع فيه ، أو فايمان بعضكم مستقر وإيمان بعضكم مستودع على القراءتين.

١ ـ كا : عن محمد بن يحيى ، عن ابن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن حسين بن

____________________

(١) الانعام : ٩٨.

(٢) مجمع البيان ج ٤ : ٣٣٩.

٢١٢

نعيم الصحاف قال : قلت لابي عبدالله عليه‌السلام : لم يكون الرجل عندالله مؤمنا قد ثبت له الايمان عنده ثم ينقله الله بعد من الايمان إلى الكفر؟ قال : فقال : إن الله عزوجل هوالعدل ، إنما دعا العباد إلى الايمان به لا إلى الكفر ، ولايدعو أحدا إلى الكفر به ، فمن آمن بالله ثم ثبت له الايمان عندالله لم ينقله الله عزوجل بعد ذلك من الايمان إلى الكفر.

قلت له : فيكون الرجل كافرا قد ثبت له الكفر عندالله ثم ينقله الله بعد ذلك من الكفر إلى الايمان؟ قال : فقال : إن الله عزوجل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها ، لايعرفون إيمانا بشريعة ، ولاكفرا بجحود ، ثم بعث الله الرسل تدعو العباد إلى الايمان به ، فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده الله (١).

بيان : يمكن أن يكون بناء الجوابين على أمر واحد ، وهو أن هدايته تعالى وخذلانه المعبر عنه بالاضلال ليسا علتين مستقلتين للنقل من الكفر إلى الايمان ومن الايمان إلى الكفر ، بل كل منهما باختيار العبد ، والهدايات الخاصة لبعض لاتصيره مجبورا على الايمان ، وترك تلك الهدايات لبعض لعدم استحقاقه لها لايصيره مجبورا على الكفر كما مر تحقيقه.

ويحتمل أن يكون بناؤها على الفرق بينهما ، فحاصل الجواب الاول أن المؤمن الواقعي الذي ثبت إيمانه عندالله ، ولم يكن منافقا ومستودعا لايسلب الله منه توفيقه وهدايته ، ولايرجع عن الايمان أبدا ، ومن تراه يرجع فليس بمؤمن واقعي بل هو ممن يظهر الايمان ، ولم يستقر في قلبه ، كما اختاره بعض المتكلمين وحاصل الثاني أن الكفر لما كان أمرا عدميا والناس في بدو الفطرة لم يتصفوا بالايمان ، لكنهم على الفطرة القابلة للايمان ، وللكفر بمعنى الجحود لا الكفر بمعنى عدم الايمان ، فانه متصف به قبل التصديق والاذعان ، فعبث الله الرسل لاتمام الحجة عليهم ، ثم بعد ذلك بعضهم يستحق الهدايات والالطاف الخاصة بحسن اختياره ، وعدم إبطاله الفطرة الاصلية ، فتشمله تلك الالطاف فيختار الايمان

____________________

(١) الكافى ج ٢ ص ٤١٦.

٢١٣

وبعضهم لم يستحق ذلك فيخذ له الله فيختار الكفر بمعنى الجحود.

وكأن هذا أظهر من الخبر ، لكن فيه أنه لم يظهر منه أنه هل يمكن أن ينقله الله من كفر الجحود إلى الايمان؟ والظاهر أن مراد السائل كان استعلام ذلك ويمكن الجواب بوجهين الاول أن نحمل كلام السائل ثانيا على الاخبار أو التعجب لا الاستفهام ، ولما كان كلامه موهما لكون ذلك على الجبر أفاد عليه‌السلام أن هدايته سبحانه وخذلانه لايوجبان سلب الاختيار ، فانهم على الفطرة القابلة لهما ، والثاني أن يقال إنه أفاد عليه‌السلام قاعدة كلية يظهر منه جواب ذلك ، وهو أنه يمكن ذلك لكن بهذا النحو المذكور لا بالجبر.

فاذا عرفت ذلك فاعلم أن المتكلمين اختلفوا في أن المؤمن بعد اتصافه بالايمان الحقيقي في نفس الامر ، هل يمكن أن يكفر أم لا؟ ولا خلاف في أنه لايمكن مادام الوصف ، وإنما النزاع في إمكان زواله بضد أو غيره ، فذهب أكثرهم إلى جواز ذلك بل إلى وقوعه ، وذلك لان زوال الضد بطريان ضده أو مثله على القول بعدم اجتماع الامثال ممكن ، لانه لايلزم من فرض وقوعه محال وظاهر كثير من الايات الكريمة دال عليه كقوله تعالى « إن الذين آمنوا ثم كفروا [ ثم آمنوا ثم كفروا ] ثم ازدادوا كفرا » (١) وقوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين اوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين » (٢).

وذهب بعضهم إلى عدم جواز زوال الايمان الحقيقي بضد أو غيره ، وقال الشهيد الثاني قدس الله روحه ونسب ذلك إلى السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه مستدلا بأن ثواب الايمان دائم ، وعقاب الكفر دائم ، والاحباط والموافاة عنده باطلان أما الاحباط فلاستلزام أن يكون الجامع بين الاحسان والاساءة بمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما ، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الاساءة ، وبمنزلة من لم يسئ مع العكس ، واللازم بقسميه باطل قطعا فالملزوم مثله وأما الموافاة فليست

____________________

(١) النساء : ١٣٧ وتصحيح الاية من المصحف الشريف.

(٢) آل عمران : ١٠٠.

٢١٤

عندنا شرطا في استحقاق الثواب بالايمان ، لان وجوه الافعال وشروطها التي يستحق بها ما يستحق ، لايجوز أن تكون منفصلة عنها ولا متأخرة عن وقت حدوثها ، والموافاة منفصلة عن وقت حدوث الايمان ، فلا يكون وجها ولا شرطا في استحقاق الثواب.

لايقال : الثواب إنما يستحقه العبد على الفعل كما هو مذهب العدلية ، والايمان ليس فعلا للعبد وإلا لما صح الشكر عليه ، لكن التالي باطل إذ الامة مجتمعة عى وجوب شكرالله تعالى على نعمة الايمان ، فيكون الايمان من فعل الله تعالى إذلا يشكر على فعل غيره ، وإذا لم يكن من فعل العبد فلا يستحق عليه ثوابا فلا يتم دليله ، على أنه لايتعقبه كفر ، لان مبناه على استحقاق الثواب على الايمان.

لانا نقول : بل هو من فعل العبد ونلتزم عدم صحة الشكر عليه ، ونمنع بطلانه ، قولك في إثباته « الامة مجتمعة » الخ قلنا الشكر إنما هو على مقدمات الايمان وهي تمكين العبد من فعله ، وإقداره عليه ، وتوفيقه على تحصيل أسبابه وتوفيق ذلك له ، لا على نفس الايمان الذي هو فعل العبد ، فان ادعي الاجماع على ذلك سلمناه ، ولا يضرنا ، وإن ادعي الاجماع على غيره منعناه فلا ينفعهم.

والاعتراض عليه رحمه‌الله من وجوه أحدها توجه المنع إلى المقدمة القابلة بأن الموافاة ليست شرطا في استحقاق الثواب ، وما ذكره في إثباتها من أن وجوه الافعال وشروطها التي يستحق بها مايستحق لايجوز أن تكون منفصلة عنها ، والموافاة منفصلة عن وقت الحدوث ، فلا يكون وجها. لادلالة له على ذلك ، بل إن دل فانما يدل على أن الموافاة ليست من وجوه الافعال ، لكن لايلزم من ذلك أن لايكون شرطا لاستحقاق الثواب ، فلم لايجوز أن يكون استحقاق الثواب مشروطا بوجوه الافعال مع الموافاة أيضا ، لابد لنفي ذلك من دليل.

ثانيها الايات الكريمة التي مر بعضها ، فانها تدل على إمكان عروض الكفر بعد الايمان بل بعضها على وقوعه ، وأجاب السيد عن ذلك بأن المراد والله أعلم من وصفهم بالايمان الايمان اللساني دون القلبي ، وقد وقع مثله كثيرا في القرآن

٢١٥

العزيز كقوله تعالى « آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم » (١) وحيث أمكن صحة هذا الاطلاق ، ولو مجازا ، سقط الاستدلال بها.

ثالثها أن الشارع جعل للمرتد أحكاما خاصة به ، لايشاركه فيها الكافر الاصلي ، كما هو مذكور في كتب الفروع ، وهذا أمر لايمكن دفعه ، ولا مدخل للطعن فيه ، فان الكتاب العزيز والسنة المطهرة ناطقان بذلك ، والاجماع واقع عليه كذلك ، ولاريب أن الارتداد هو الكفر المتعقب للايمان ، كما دل عليه قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه » (٢) [ « ومن يرتدد منكم عن دينه ] فيمت وهو كافر » (٣) الاية فقد دل على ما ذكرناه ، على أن المؤمن يمكن أن يكفر ، أقول : والسيد رحمه‌الله أن يجيب عليه‌السلام عن ذلك بأن ما ذكر إنما يدل على أن من اتصف في ظاهر الشرع بالارتداد ، فحكمه كذا وكذا ، ولايدل على أنه صار مرتدا بذلك في نفس الامر فلعله كان كافرا في الاصل ، وحكمنا بايمانه ظاهرا للاقرار بما يوجب الايمان مع بقائه على كفره عندالله تعالى ، وبفعله مايوجب الارتداد ظاهرا حكمنا بارتداده أو كان مؤمنا في الاصل وهو باق على إيمانه عندالله تعالى لكن لاقتحامه حرمات الشارع ، وتعديه هذه الحدود العظيمة جعل الشارع الحكم بالارتداد عليه عقوبة له لتنحسم بذلك مادة الاقتحام والتعدي من المكلفين ، فيتم نظام النواميس الالهية.

وأقول : الحق أن المعلومات التي يتحقق الايمان بالعلم بها امور متحققة ثابتة لاتقبل التغير والتبدل ، وإذ لايخفى أن وحدة الصانع تعالى ووجوده وأزليته وأبديته وعلمه وقدرته وحياته إلى غيرذلك من الصفات امور تستحيل تغيرها وكذا كونه تعالى عدلا لايفعل قبيحا ولايخل بواجب وكذا النبوة والمعاد ، فاذا علمها الشخص على وجه اليقين والثبات ، صار علمه بها كعلمه بوجود نفسه ، غير

____________________

(١) المائدة : ٤١.

(٢) المائدة : ٥٤.

(٣) البقرة : ٢١٧ ، وقد اختلطت الايتيان عليه

٢١٦

أن الاول نظري والثاني بديهي ، لكن لما كان النظري إنما يصير يقينيا بانتهائه إلى البديهي ولم يبق فرق بين العلمين ، امتنع تغير ذلك العلم وتبدله كما يمتنع تغير علمه بوجود نفسه.

والحاصل أن العلم إذا انطبق على المعلوم الحقيقي الذي لايتغير أصلا فمحال تغيره ، وإلا لما كان منطبقا ، فعلم أن ما يحصل لبعض الناس من تغيير عقيدة الايمان لم يكن بعد اتصاف أنفسهم بما ذكرناه من العلم ، بل كان الحاصل لهم ظنا غالبا بتلك المعلومات ، لا العلم بها ، والظن يمكن تبدله وتغيره ، وإن كان المظنون لا يمكن تبدله ، لان الانطباق غير حاصل وإلا لصار علما.

إن قلت : يتصور زوال الايمان بصدور بعض الافعال الموجبة للكفر كما تقدم وإن بقي التصديق اليقيني بالمعارف المذكورة فقد صح أن المؤمن قد يكفر بعد اتصافه بالايمان.

قلت : لانسلم إمكان صدور فعل يوجب الكفر ممن اتصف بالعلم المذكور ، بل صار ذلك الفعل ممتنعا بالغير الذي هو العلم اليقيني وإن أمكن بالذات ، وحينئذ فصدور بعض الافعال المذكورة إنما كان لعدم حصول العلم المذكور ، وبالجملة فكلام علم الهدى ومذهبه هنا رضي‌الله‌عنه في غاية القوة والمتانة ، بعد تدقيق النظر وقد ظهر مما حررناه أن القائلين بامكان زوال الايمان بعروض الكفر إن أرادوا به إمكان زوال العلم بالامور المذكورة ، فظاهر أنه ممتنع بالذات ، كانقلاب الحقائق وإن أرادوا به إمكان انتفاء الايمان بعروض شئ من الافعال وإن بقي العلم فقد بينا أنه ممتنع بالغير ، فان أرادوا بالامكان على هذا التقدير الامكان الذاتي فلا نزاع لاحد فيه ، وإن أرادوا به عدم الامتناع ولو بالغير فقد بينا منعه وامتناعه.

وبالجملة فظواهر كثير من الايات الكريمة والسنة والمطهرة تدل على إمكان طروء الكفر على الايمان ، وعلى هذا بناء أحكام المرتدين ، وهو مذهب أكثر المسلمين ، نعم في الاعتبار ما يدل على عدم جواز طروئه عليه كما أشرنا إليه ، إن جعلنا الايمان عبارة عن التصديق مع الاقرار أو حكمه ، لكن الاول هو الارجح

٢١٧

في النفس انتهى.

وأقول : إذا اكتفي في الايمان بالظن الحاصل من التقليد أو غيره ، فلاريب في أنه يجوز تبدل الايمان بالكفر ، وإن اشترط فيه العلم القطعي ففي جواز زواله إشكال ، ولما لم يقم دليل تام على عدم الجواز مع أن ظواهر الايات والاخبار تدل على الجواز ، فالجواز أقوى مع أن كثيرا ما يعرض للانسان أنه يقطع بأمر بحيث لايحتمل عنده خلافه ، ثم يتزلزل لشبهة قوية تعرض له ، والقول بأنه ظن قوي يتوهم قطعا بعيد ، نعم إن اعتبر في الايمان اليقين ، وفسر بأنه اعتقاد جازم ثابت مطابق للواقع يمتنع زواله ، فبعد زواله انكشف أنه لم يكن مؤمنا لكن اعتبار ذلك أول الكلام ، وقد شرحنا الخبر في مرآة العقول وحققنا ذلك بوجه آخر فان أردت الاطلاع عليه فارجع إليه.

٢ ـ سن : عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصر ، ومن لم يدر الامر الذي هو عليه مقيم أنفع هو له أم ضرر ، قال : قلت : فبما يعرف الناجي؟ قال : من كان فعله لقوله موافقا فاثبت له الشهادة بالنجاة ، ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فانما ذلك مستودع (١).

كا : عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن سنان مثله إلى قوله فبما يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك إلى قوله فاثبتت له الشهادة (٢).

بيان : « إن الحسرة والندامة والويل » الحسرة اسم من حسرت على الشئ حسرا من باب تعب وهي التلهف والتأسف على فوات أمر مرغوب ، والندامة الحزن على فعل شئ مكروه ، والويل العذاب ، وواد في جهنم يعني هذا كله لمن لم ينتفع بما أبصره وعلمه من العقائد والاحكام والاعمال والاخلاق والاداب ، وعدم الانتفاع بها بأن لايعمل بمقتضى علمه بها ، ولم يدر ما الامر الذي هو عليه مقيم من العقائد

____________________

(١) المحاسن ص ٢٥٢.

(٢) الكافى ج ٢ : ٤١٩.

٢١٨

والاعمال والاخلاق. « أنفع » بصيغة المصدر أي نافع ، ويحتمل الماضي ، وكذا « أو ضر » يحتملهما ، والاول أظهر فيهما ، وفيه حث على مراقبة النفس في جميع الحالات ، ومحاسبتها في جميع الحركات والسكنات ، ليعلم ما ينفعها ، فيجلبها ويزيد منها ، وما يضرها فيجتنبها.

« فبما يعرف الناجي من هؤلاء » أي من يكون أمره آئلا إلى النجاة من المهالك وعقوبات الاخرة « فقال من كان فعله لقوله موافقا » أي لقوله الحق ، وهو ما يأمر الناس به من الخيرات والطاعات وترك المنكرات ، أو لما يدعيه من الايمان بالله واليوم الاخر والانبياء والاوصياء عليهم‌السلام ، فان مقتضى ذلك العمل بما يأمره الله تعالى ، ويوجب الوصول إلى مثوباته ، والنجاة من عقوباته ، ومتابعة أئمة الدين في أقوالهم وأفعالهم ، أولما يدعي لنفسه من الكمالات ، وما نصب نفسه له من الحالات والدرجات أو الجميع.

« فاثبتت له الشهادة » على صيغة المجهول أي يشهد الله تعالى وملائكته وحججه عليهم‌السلام وكمل المؤمنين بأنه من الناجين ، لاتصافه بكمال الحكمة النظرية لقوله الحق ، وكمال الحكمة العملية لعمله بأقواله الحقة ، وفي بعض النسخ « فأتت ». « ومن لم يكن فعله لقوله موافقا » أي بأن يكون قوله حقا وفعله باطلا كما هو شأن أكثر الخلق « فانما ذلك مستودع » إيمانه ، غير ثابت فيه ، فيحتمل أن يبقى على الحق ويثبت له الايمان ، وتحصل له النجاة ، وأن يزول عن الحق ويعود إلى الشقاوة ، ويستحق الويل والحسرة والندامة.

٣ ـ كا : عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري وغيره ، عن عيسى شلقان قال : كنت قاعدا فمر أبوالحسن موسى عليه‌السلام ومعه بهمة ، قال : فقلت : يا غلام ماترى مايصنع أبوك؟ يأمرنا بالشئ ثم ينهانا عنه : أمرنا أن نتولى أبا الخطاب ، ثم أمرنا أن نلعنه ونتبرأ منه؟ فقال أبوالحسن عليه‌السلام وهو غلام : إن الله خلق خلقا للايمان لازوال له ، وخلق خلقا للكفر لازوال له ، وخلق خلقا بين ذلك أعارهم الايمان ، يسمون المعارين ، إذا

٢١٩

شاء سلبهم ، وكان أبوالخطاب ممن اعير الايمان ، قال : فدخلت على أبي عبدالله عليه‌السلام فأخبرته بما قلت لابي الحسن عليه‌السلام وما قال لي ، فقال أبوعبدالله عليه‌السلام : إنه نبعة نبوة (١).

بيان : في المصباح البهمة والدالضأن ، يطلق على الذكر والانثى ، والجمع بهم ، مثل تمرة وتمر ، وجمع البهم بهام مثل سهم وسهام ، وتطلق البهام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليبا ، فاذا انفردت قيل للاولاد الضأن بهام ولاولاد المعز سخال ، وقال ابن فارس : البهم صغار الغنم ، وقال أبوزيد : يقال للاولاد الغنم ساعة تضعها الضأن أو المعز ذكرا كان الولد أو انثى : سخلة ثم هي بهمة والجمع بهم وقال : الغلام الابن الصغير ، وأبوالخطاب هو محمد بن مقلاص الاسدي الكوفي وكان في أول الحال ظاهرا من أجلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام ثم ارتد وابتدع مذاهب باطلة ، ولعنه الصادق عليه‌السلام وتبرأ منه ، وروى الكشي روايات كثيرة ، تدل على كفره ولعنه (٢) واختلف الاصحاب فيما رواه في حال استقامته ، والاكثر على جواز العمل بها ، وكأنه متفرع على المسألة السابقة ، فمن ادعى جواز تحقق الايمان وزواله يجوز العمل بروايته لانه حينئذ كان مؤمنا ومن زعم أنه كاشف من عدم كونه مؤمنا لايجوز العمل بها.

« إنه نبعة نبوة » أي علمه من ينبوع النبوة ، أو هو غصن من شجرة النبوة والرسالة ، في القاموس : نبع الماء ينبع مثلثة نبعا ونبوعا خرج من العين ، والنبع شجر للقسي وللسهام ينبت في قلة الجبل (٣).

٤ ـ كا : عن محمد بن يحيى ، عن ابن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم ابن حبيب ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إن الله جبل النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبدا ، وجبل الاوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبدا ، و

____________________

(١) الكافى ج ٢ : ٤١٨.

(٢) راجع رجال الكشى ص ٢٤٦ ـ ٢٦٠ تحت الرقم ١٣٥.

(٣) القاموس ج ٣ : ٨٧.

٢٢٠