الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٦

فدك .. والحسنان عليهما‌السلام :

لقد توفي الرسول الإعظم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحدث بعده ماحدث ، من استئثار أبي بكر بالأمر ، وإقصاء أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عن محله الطبيعي ، الذي أهَّله الله سبحانه وتعالى له ..

ثم تعرضت فاطمة الزهراء ، بنت النبي الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاغتصاب إرثها من أبيها، ومصادرة حتى ما كان النبي صلى عليه وآله وسلم قد ملكها إياها في حال حياته .. ومنه : « فدك » .. وجرت بينها وبين أبي بكر مساجلات ، واحتجاجات حول هذا الموضوع. وطلبوا منها : أن تأتي بالشهود لإثبات ما تدعيه ..

فجاءت بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبالحسنين الزكيين عليهما‌السلام ، وبأم أيمن.

ولكن أبا بكر رد الشهود ، ورفض إرجاع حقها إليها .. كما هو معروف.

قال شريف مكة :

ثم قالت : فنحلـة لـي مـن وا

لدي المصطفـى ، فلـم ينحـلاهـا

فأقامت بهـا شهـوداً ، فقالـوا

بعلهـا شـاهـد لهـا وابنـهـا (١)

__________________

١ ـ راجع في كل ما تقدم ، ولا سيما بالنسبة للاستشهاد بالحسنين عليهما‌السلام : المسترشد في إمامة علي بن أبي عليه‌السلام ص ١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٨ ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ والصواعق المحرقة ص ٣٥ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٦٩ وسيرة الأئمة الاثني عشر ج ١ ص ١٢٩ و١٣٠ عن الصواعق المحرقة ، وعن شرح المواقف ودلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٣٨ عن المواقف ، وفدك للقزويني ص ١٦ و ١٧ ومكاتيب

=

٦١

وهكذا .. فإن الزهراء البتول صلوات الله وسلامه عليها ، وهي المرأة المعصومة بحكم آية التطهير وغيرها ، والتي لم تكن لِتُصدر ، ولا لِتوردَ إلاَّ وفق الشرع الإسلامي الحنيف ، قد استشهدت بالحسنين الزكيينعليهما‌السلام بمرأى، وبمسمع ، وبتأييد ورضى من سيد الوصيين ، أمير المؤمنين علي عليه‌السلام .. فلقد رأيا فيهما الأهلية لأداء الشهادة في مناسبة كهذه ، مع أنهما كانا آنئذٍ لا يتجاوز عمرهما السبع سنوات ، فإعطاؤهما دوراً بارزاً في قضية مصيرية وخطيرة كهذه ، لم يكن أمراً عفوياً ، ولا منفصلاً عن الضوابط التي تنظم مواقف أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ... وإنما كان امتداداً لمواقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهما ، في مجال إعدادهما ، ووضعهما في مكانهما الطبيعي على المستوى القيادي للأمة.

هذا .. ولا يجب أن نقلل من أهمية هذه القضية .. على اعتبار أنها ترتبط بحق مالي ، وليست ـ كالبيعة ـ عقداً يشترط فيه البلوغ ، مع ملاحظة : أن سنهما حين الشهادة كان يفوق ما كان لهما من السن حين البيعة (١) ..

لا .. يجب أن نتخيل ذلك .. فإن الشهادة يعتبر فيها البلوغ أيضاً ، والعقل .. كما أن سنهما حينئذٍ كان ـ كما قلنا ـ لا يصل إلى الثمان سنوات .. أضف إلى ذلك : أن الاستشهاد بالحسنين ، وبعلي ، وبأم أيمن التي شهد لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنها من أهل الجنة ، إنما كان ، كما يقول السيد هاشم معروف الحسني رضوان الله تعالى عليه :

__________________

= الرسول ج ٢ ص ٥٧٩ عن المسعودي ، والحلبي ، وابن أبي الحديد ومالكيت خصوصي ( زمين ) للأحمدي ص ١٣٢ عن أكثر من تقدم وعن جامع أحاديث الشيعة ج ٨ ص ٦٠٦ والتهذيب ، والبحار ج ٨ ص ١٠٨ عن كشكول العلامة.

وإنما ذكرنا هنا خصوص المصادر التي ذكرت الحسنين عليهما‌السلام في القضية. وإلا .. فإن مصادر أصل النزاع فيما بين الزهراء وبين أبي بكر والهيئة الحاكمة كثيرة جداً ، لا مجال لتتبعها..

١ ـ راجع : فدك للقزويني ص ١٦ و١٧.

٦٢

« لكي تسجل على القوم رداً صريحاً لنصوص الرسول فيه ، وفي ولديه. على أنها لو أحضرت عشرين شاهداً من خيرة الصحابة لم يكن مستعداً للقضاء لها بما تطلب .. بل كان على ما يبدو من سير الأحداث مستعداً لأن يعارض شهادتهم بعشرات الشهود ، كما عاض شهادة علي وأم أيمن ، بشهادة عمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، كما نصت على ذلك رواية شرح النهج السابقة الخ ... » (١).

ولقد صدق الحسني رحمه الله تعالى فيما قال ، ويؤيد ذلك ، بل يدل عليه ، ما ورد :

« عن عمر : لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئت أنا وأبو بكر إلى علي ، فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال : نحن أحق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فقلت : والذي بخيبر ..

قال : والذي بخيبر.

قلت : والذي بفدك؟

قال : والذي بفدك.

قلت : أما والله ، حتى تحزوا رقابنا بالمناشير ، فلا » (٢).

الخطة العجيبة :

إنه بعد أن أقصِيَ علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عن مركزه الذي جعله الله تعالى له .. وكان ما كان مما هو معروف ومشهور .. فإن سياسة الحكم المتغلب الجديد ثم من جاء بعدهم. كانت تستهدف قضية الإمامة من ناحيتين :

__________________

١ ـ سيرة الأئمة الاثني عشر ج ١ ص ١٣٠.

٢ ـ مجمع الزوائد ج ٩ ص ٤٠.

٦٣

الناحية الأولى : بعث اليأس في نفوس خصوم الحكم ، وبالأخص في نفس شخص أمير المؤمنين عليه‌السلام ، الذي يعتبرونه أقوى منافس ، بل المنافس الوحيد لهم ، وبالتالي في نفوس الهاشميين جميعاً ، والقضاء على كل أثر من آثار الطموح والتطلع إلى هذا الأمر لديهم .. حيث إنهم كانوا يرون ـ حسب فهمهم وتقديراتهم الخاطئة : أن المسألة لا تعدو عن أن تكون مسألة شخصية ، ترتبط بشخص علي عليه‌السلام ، ورغبة نفسية جامحة لديه ، أذكاها النبي الأكرم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تصريحاته ومواقفه المتكررة ، التي كانت تهدف لتكريس الأمر لصالح أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام ..

صحيح .. أنه قد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ذرو من قول ـ على حد تعبير عمر ـ وتصريحات كثيرة ، ولكن ما الذي يمنع من مخالفته ، ما دام أنه لم يكن أكثر من زميل لهم وقرين ، على حد تعبيرهم (١) ...

كما أن شريحاً النميري الذي كان عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعامل أبي بكر ، قد جاء إلى عمر بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذه عمر ، ووضعه تحت قدمه ، وقال : لا ، ما هو إلا ملك انصرف (٢).

نعم .. وإن تلك الرغبة يمكن سلوها ، وصرف النظر عنها ، ثم اليأس منها مع مرور الأيام ، ومع رؤية تمكن الآخرين ، وإحكام أمرهم ، قوة سلطانهم ..

ومما يشهد لما ذكرناه : سؤال عمر لابن عباس : كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر.

__________________

١ ـ فقد قال عمر ، حينما أخبروه : أن الناس يعيبون عليه أنه ينهر الرعية ، ويتصرف ببعض الأحكام : « أنا زميل محمد ». راجع تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٩١ ط الاستقامة. وراجع : الفائق ج ٢ ص ١١.

وتفسير ذلك ، بأنه كان قد زامله في غزوة قرقرة الكدر. ـ كما ذكره الطبري والزمخشري ـ لا ينسجم مع طبيعة الموقف ، وما يريد عمر إظهاره في هذا المجال ، رداً على اعتراضاتهم عليه بأنه يغير بعض الأحكام .. وسيأتي : أنهم كانوا يرون لأنفسهم حق التغيير في الأحكام بل وحق التشريع أيضاً ، فانتظر ..

٢ ـ راجع : تاريخ المدينة ، لابن شبّة ج ١ص ٥٩٦.

٦٤

قلت : خلفته يلعب مع أترابه.

قال : لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.

قلت : خلفته يمتح بالغرب (١) ، على نخيلات فلان ، وهو يقرأ القرآن.

قال : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها : هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟

قلت : نعم.

قال : أيزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص عليه؟

قلت : نعم .. وأزيدك : سألت أبي عما يدعيه ، فقال : صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره ذرو من قول (٢) ، لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذراً ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما. ولقد أراد في مرضه : أن يصرِّح باسمه ، فمنعت من ذلك ، إشفاقاً ، وحيطة على الإسلام. لا ، ورب هذه البنية ، لا تجتمع عليه قريش أبداً الخ ... » (٣).

وفي هذه القضية مواضع هامة ، ينبغي التوقف عندها ملياً ، ومحاكمتها محاكمة موضوعية وعميقة ، ولا سيما قول عمر أخيراً : « لقد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره ذرو من قول ، لا يثبت حجة الخ .. » فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استعمل مختلف الأساليب البيانية لتأكيد هذا الأمر وتثبيته : من التصريح ، والتلميح ، والكناية ، والمجاز ، والحقيقة ، والقول والفعل ، وحتى لقد أخذ البيعة له منهم في مناسبة « الغدير » .. ولو أردنا جمع ما وصل إلينا من

__________________

١ ـ الغرب : الدلو.

٢ ـ ذرو : أي طرف.

٣ ـ شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٢ ص ٢٠ / ٢١ عن كتاب أحمد بن أبي طاهر في كتابه تاريخ بغداد ، مسنداً. وراجع ج ١٢ ص ٧٩ وكشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ٤٩ ، وقاموس الرجال ج ٦ ص ٣٩٨ و ج ٧ ص ١٨٨ وبهج الصباغة ج ٦ ص ٢٤٤ وج ٤ ٣٨١ ، والبحار ط كمباني ج ٦ ص ٢١٣ و ٢٦٦ و ٢٩٢ ، وناسخ التواريخ ، المجلد المتعلق بالخلفاء ص ٧٢ / ٨٠ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٦٢٠. وقد ذكر المحقق العلامة الأحمدي مساجلات عمر مع ابن عباس في كتابه القيم : مواقف الشيعة مع خصومهم .. فلتراجع ثمة مع مصادرها.

٦٥

كلماته صلى‌الله‌عليه‌وآله ومواقفه في هذا السبيل لا حتجنا إلى مجلدات كثيرة وكبيرة ، ولتعذر استيعابه في مدة طويلة .. ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد في مرضه الأخير : أن يسجل ذلك في كتاب لا يمكن المراء فيه ، وليقطع دابر الخلاف من بعده ..

ولكن اتهامه بالهجر والهذيان ، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالذات ، قد جعل ذلك بلا جدوى ، ولا فائدة ، بل جعله سبباً في المزيد من الاختلاف والتشاجر ، والتمزق والتدابر ، فكان لا بد من تركه ، والانصراف عنه (١) ..

وقد صرح عمر نفسه لابن عباس : بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يصرِّح باسم علي عليه‌السلام في ذلك الكتاب ، وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ، ولم ينفذ مراد رسوله. أو كل ما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان (٢)؟!

وقد ادعى عمر : أنه إنما منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة الكتاب حيطة على الإسلام (٣) ..

وذلك عجيب حقاً؟! وأي عجيب!! .. فهل صحيح : إنه قد فعل ذلك من أجل ذلك؟ أم أنه قد كان وراء الأكمة ما وراءها؟!

وكيف يمكن أن نوفق بين دعواه هذه ، وبين نسبته ذلك آنفاً لإرادة الله سبحانه ، وقوله : « أو كلما أراد رسول الله صلى عليه وآله وسلم كان »؟!.

وهل يمكن أن نصدق : أن غيرته على الإسلام أكثر من غيرة نبيِّ الإسلام نفسه عليه؟!

__________________

١ ـ راجع بعض مصادر ذلك في مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٦١٨ ـ ٦٢٦ وكتاب دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٦٣ ـ ٧٠ والنص والإجتهاد ص ١٥٥ ـ ١٦٥ والمراجعات ص ٢٤١ ـ ٢٤٥.

٢ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٧٨ / ٧٩.

٣ ـ نفس المصدر ج ١٢ ص ٧٩.

٦٦

أم أنه قد أدرك بنظره الثاقب ، وفكره الوقاد ما لم يستطع إدراكه سيد ولد آدم ، وإمام الكل ، وعقل الكل ، ومدبر الكل؟!.

وهل غيرته على الإسلام تبرر له اتهام النبي الأكرم صلى عليه وآله وسلم بالهجر والهذيان؟! إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا مجال لها هنا ..

ومما يدل على على أن السياسة كانت تتجه نحو إبعاد علي عليه‌السلام عن الساحة ، بحيث كان الناس يعرفون ذلك ، ويدركونه وكانوا مطمئنين إلى استبعاده من هذا الأمر وكانوا لا يرون حتى دخوله في جملة المرشحين له .. ما رواه عبد الرزاق ، من أن عمر قال لأحد الأنصار : « من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟ قال : فعدد رجالاً من المهاجرين ، ولم يسمِّ علياً ، فقال عمر : فما لهم من أبي الحسن؟ فوالله ، إنه لأحراهم إن كان عليهم أن يقيمهم على طريقة من الحق » (١).

وبعد ذلك كله .. فإنه يحتج لعمله ذاك ـ أعني تنظيم قضية الشورى ـ بأنه لا تجتمع عليه ـ أي على علي عليه‌السلام ـ قريش، أو أن قومه أبوه ، أو غير ذلك (٢).

لكن .. لماذا لا تجتمع قريش وقومه عليه؟. ولماذا وكيف اجتمعوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ، مع أنه هو السبب الأول والأخير في كل ما أتاه إليه؟!.

وإذا كانوا مؤمنين ومسلمين ، فلماذا لا يقبلون بحكم الإسلام ، ولا ينقادون إليه؟!.

وإذا لم يكونوا كذلك ، فما الذي يضر لو خالفوا؟ وما المانع من جهادهم والوقوف في وجههم جينئذٍ ، كما جاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وجاهدهم أمير المؤمنين عليه‌السلام نفسه بعد ذلك؟! ..

__________________

١ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٤٤٦.

٢ ـ راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٠ و ٨٢ و ٨٤ و ٨٥ و ٨٦.

٦٧

أما الذي نريد الاستشهاد به , والإلفات إليه هنا ، فهو سؤال عمر لابن عباس : إن كان قد بقي شيء من أمر الخلافة في نفس علي عليه‌السلام .. فإن ذلك يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً ، من أن الهيئة الحاكمة كانت تهتم في أن ينسى وييأس عليَّ عليه‌السلام من أمر الخلافة نهائياً ..

ولكنهم غفلوا عن أن تصدي علي والأئمة من ولده عليهم‌السلام لهذا الأمر ، لم يكن إلا من أجل أنه مسؤولية شرعية ، وتكليف إلهي ، لا يمكن التسامح فيه ، ولا التخلي عنه .. وليس لهم اي خيار فيه .. تماماً كسائر التكاليف الشرعية الأخرى ، وإن كان هو يزيد عليها من حيث خطورته ، وأهميته القصوى ..

الناحية الثانية : تهيئة الأجواء لتمكين الحكم وتكريسه في غير أهل البيت عليهم‌السلام ، وخلق العوامل والظروف التي لا تسمح بوصول أمير المؤمنين ، ولا أي من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام إلى الخلافة في المستقبل القريب والبعيد على حد سواء. وتكريس الحكم فيمن يرغبون بتكريسه فيهم .. وقد تمثل ذلك في تدبيرات سياسية عدة ، من شأنها أن تجعلهم يطمئنون إلى نجاحهم فيما يرمون إليه ..

ونذكر من ذلك على سبيل المثال :

ألف : على صعيد العمل السياسي ، نجد أنهم :

عدا عن أنهم قد أبعدوا كل من له هوى في علي عليه‌السلام عن مراكز النفوذ (١) كما جرى لخالد بن سعيد بن العاص .. وكحرمانهم الأنصار ، الذين كان لهم هوى في أمير المؤمنين ، وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام من المراكز الحساسة ، بل وحرمانهم من أبسط أنواع الرعاية (٢).

__________________

١ ـ تهذيب تاريخ دمشق ج ٥ ص ٥١ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٣٣ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٤٥٤ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٠ / ٢١ وطبقات ابن سعد ج ٤ ص ٧٠.

٢ ـ راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ج ٣ ص ١٥٠ حتى

=

٦٨

وعدا عن أنهم قد استخدموا المال في محاولة منهم لإسكات المعترضين. كما هو الحال في قضيتهم مع أبي سفيان الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أرسله ساعياً ، فقدم بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجلب عليهم ، فقال عمر لأبي بكر : « إن أبا سفيان قد قدم ، وإنا لا نأمن شره ، فدع له ما في يده ، فتركه ؛ فرضي » (١).

كما أنه .. حينما كان أبو سفيان في أوج غضبه وثورته عليهم ، أخبروه : بأن أبا بكر قد ولى ابنه ، فانقلب في الحال رأساً على عقب ، وقال : « وصلته رحم » (٢).

و « لما اجتمع الناس على أبي بكر ، قسم بين الناس قسماً ، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت ، فقالت : ما هذا؟ قال : قسم قسمه أبو بكر للنساء ، قالت : أتراشوني عن ديني؟ قالوا : « لا »! ثم تذكر الرواية رفضها لذلك المال (٣).

ثم حاول عثمان بعد ذلك أن يرشو ابن أبي حذيفة بالمال ، كما ذكره المؤرخون (٤).

وعن علي عليه‌السلام في إشارة صريحة منه إلى ذلك : « خذوا العطاء ما كان طعمة ، فإذا كان عن دينكم ، فارفضوه أشد الرفض » (٥).

وليراجع كتابنا دراسات وبحوث ج ١ في بحث « أبو ذر .. اشتراكي ، أم شيوعي ، أم مسلم » للإطلاع على المحاولات العديدة لرشوته من قبل الهيئة الحاكمة.

__________________

= ص ١٥٥ و ٢١٧ / ٢١٨. وراجع أيضاً : تاريخ الأمم والملوك ط أورباج ١ /٦ /٣٠٢٦.

١ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٤٤ ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٩ وقاموس الرجال ج ٥ ص ١١٧ والغدير ج ٩ ص ٢٥٤ عن العقد الفريد ج ٢ ص ٢٤٩.

٢ ـ تاريخ الطبري ط الاستقامة ج ٢ ص ٤٤٩ ودلائل الصدق ج ٢ ص ٣٩.

٣ ـ حياة الصحابة ج ١ ص ٤٢٠ عن كنز العمال ج ٣ ص ١٣٠.

٤ ـ أنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج ٣ ص ٣٨٨.

٥ ـ كنز العمال ج ٤ ص ٣٨٢.

٦٩

نعم ـ إنه عدا عن ذلك كله ـ فإننا نجدهم يُحْكمون أمورهم بعد حوادث السقيفة ، ولا يفسحون المجال لأية مناورة أو مبادرة ، من أي كان ، ومن أي نوع كانت ..

فنجد أبا بكر يوصي بالأمر إلى عمر بن الخطاب بعده ، ثم هو يبدأ خطة التمهيد للأمويين ، حيث إنه وهو في مرض الموت ، وقد جاء بعثمان ليكتب له وصيته ـ فأغمى على أبي بكر ، فكتب عثمان اسم عمر في حال غشية وغيبوبة أبي بكر (١) ، فلما أفاق وعلم بذلك قال : « لو تركته ما عدوتك » أو ما هو بمعناه (٢). أو قال له : « والله ، إن كنت لها لأهلاً » وبتعبير مصعب الزبيري : « أصبت يرحمك الله ، ولو كتبت اسمك لكنت لها أهلاً .. » (٣).

ولم نجد أحداً يعترض على صحة خلافة عمر بأن اسمه قد كتب حال إغماء ابي بكر ، في مرض موته ، ولم يصر على ذلك سبباً للفتنة ، مع أنهم يقولون : إن نسبة الهجر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته ، لمنعه عن كتابة الكتاب الذي لن يضلوا بعده كانت في محلها ، لأن ذلك كان سوف يثير فتنة!! فسبحان الله ، كيف صارت باؤهم تجر ، وباء الله ورسوله لاتجر.

ونستطيع أن نلمح في هذه الحادثة قدراً من التفاهم فيما بين أبي بكر وعثمان .. وإن كنا نجد هذا التفاهم أكثر وضوحاً وعمقاً فيما بين أبي بكر وعمر. والشواهد على ذلك كثيرة جداً ، بل لقد صرح أبو بكر نفسه بذلك لعبد الرحمن بن عوف حينما شاوره في استخلاف عمر ، فذكر له غلظته ، فقال أبو بكر : « ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو قد أفضى الأمر إليه ترك كثيراً مما هو عليه ، وقد رمقته إذا ما غضبت على رجل أراني الرضا عنه ، وإذا لنت له

__________________

١ ـ راجع : المراجعات ودلائل الصدق ، والنص والاجتهاد ، وغير ذلك.

٢ ـ راجع : تاريخ الطبري ج ٢ ص ٦١٨ والكامل لابن الأثير ج ٢ص ٤٢٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ١٦٤ ، وسيرة الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٣٥٦ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٥ عن طبقات ابن سعد ، وعن كنز العمال ج ٣ ص ١٤٥.

٣ ـ راجع : نسب قريش ص ١٠٤ وكنز العمال ج ٥ ص ٣٩٨ و ٣٩٩ عن اللالكائي ، وابن سعد ، والحسن بن سفيان في جزئه ، وابن كثير ، وصححه.

٧٠

أراني الشدة عليه » (١).

وحينما تولى عمر بن الخطاب الأمر نجده يسير على نفس هذا الخط أيضاً ، ويعتمد نفس ذلك النهج ، وهو التمهيد المدروس لبني أمية ..

ونذكر على سبيل المثال .. ذلك التدبير الذكي والدقيق لقصة الشورى. وذلك بحيث يطمئن وفقاً لمحاسبات دقيقة إلى أن الذي سيفوز بالأمرهو عثمان ، وعثمان فقط .. ولو فرض جدلاً إخفاقه في ذلك ، فإن علياً عليه‌السلام لن يكون هو الفائز قطعاً .. وقد كان أمير المؤمنين يعلم بذلك بلا ريب ، كما صرح به هو نفسه لابن عباس ، فور خروجه من الجلسة (٢).

ومما يدل على أن عمر كان يهتم في تكريس الأمر في بني أمية : أنه كان يُفرَش لعمر فراش في بيته في وقت خلافته ، فلا يجلس عليه أحد ، إلا العباس بن عبد المطلب (٣). وأبو سفيان بن حرب .. وزاد المبرد قوله : « ويقول : هذا عم رسول الله. وهذا شيخ قريش » (٤).

وأعطى عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص أرضاً في المدينة ، فاستزاده ، فقال له عمر : « حسبك. واختبىء عندك : أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ، ويقضي حاجتك.

قال : فمكث خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان ، وأخذها عن شورى ورضى ، فوصلني ، وأحسن ، وقضى حاجتي » (٥).

وحينما أعتق عمر سبي العرب اشترط عليهم خدمة الخليفة

__________________

١ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٦٤ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٦١٣.

٢ ـ البحار ط قديم ج ٨ ص ٣٣٠. وليراجع كلام المعتزلي في شرح النهج ج ١.

٣ ـ لعله يريد أن يخلق شخصيات أخرى من بني هاشم لا خطر منهم على الحكم ـ وذلك في مقابل علي عليه‌السلام.

٤ ـ راجع العقد الفريد ج ٢ ص ٢٨٩. والكامل للمبرد ج ١ ص ٣١٩.

٥ ـ طبقات ابن سعد ج ٥ ص ٣١ ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٤ ص ٣٨٩ / ٣٩٠.

٧١

بعده ثلاث سنين (١).

وعن أبي ظبيان الأزدي قال : قال لي عمر بن الخطاب : ما مالك يا أبا الظبيان؟ قال : قلت : أنا في ألفين : قال فاتخذ سائماً ، فإنه يوشك أن يجيء اغيلمة من قريش يمنعون هذا العطاء » (٢).

وحتى بالنسبة لعمرو بن العاص ، نجد عمر بن الخطاب يقول : « ما ينبغي لعمرو أن يمشي على الأرض إلا أميراً » (٣).

وبعد ذلك كله .. فقد قال معاوية لابن حصين : « إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم ، ولا خالف بينهم إلا الشورى ، التي جعلها عمر إلى ستة نفر .. إلى أن قال : فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه. وتطلعت إلى ذلك نفسه » (٤).

وأخيراً .. فإننا نجد عمر يستشير كعب الأحبار فيمن يوليه الأمر بعده (!!) حسبما يجدونه في كتبهم (!!) فينفي كعب أن يصل إليها عل ووُلْدُه ، ويؤكد على انتقالها بعد الشيخين إلى بني أمية ، فيصدق عمر ذلك ، ويستشهد له بما ورد عن النبي في شأن بني أمية (٥).

ب : التمهيد لبعض الناس :

لقد كان ثمة تركيز خاص من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على

__________________

١ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٨ ص ٣٨٠ و ٣٨١ و ج ٩ ص ١٦٨ وراجع المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب ص ١١٥.

٢ ـ جامع بيان العلم ج ٢ ص ١٨.

٣ ـ فتوح مصر وأخبارها ص ١٨٠ والإصابة ج ٣ ص ٢ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٧٠ وفي هامشه عن ابن عساكر ج ١٣ ص ٢٥٧ : ب.

٤ ـ العقد الفريد ج ٢ ص ٢٨١.

٥ ـ راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨١ ، فإنها قضية هامة. وليراجع أيضاً الفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٨٧ و ٨٨ فإنها قضية هامة أيضاً.

٧٢

معاوية بن أبي سفيان ، واهتمام كبير بتأهيله للخلافة ، وتهيئة الأجواء له ، رغم أنه كان من الطلقاء .. ويكفي أن نذكر هنا :

أنه أبقاه على ولاية الشام لسنوات عدة ، من دون أن يعرضه في كل عام لتلك الحسابات الدقيقة ، التي كان يتعرض لها عماله في سائر الأقطار (١) ، والتي كانت ربما تصل في كثير الأحيان إلى حد الإهانة ، والمس بالكرامة ، مع أنه كان لا يولي أحداً أكثر من عامين (٢).

وحينما يطلب منه معاوية : أن يصدر له أوامره لينتهي إليها ، يقول له : لا آمرك ولا أنهاك (٣).

هذا بالإضافة إلى أمور أخرى يراها ويعرفها عنه ، ويغضي عنها ، كتعامل معاوية بالربا ، وغير ذلك.

وحول تظاهر معاوية بالقبائح راجع : دلائل الصدق (٤) للمظفر رحمه الله تعالى ...

وقد ذُمَّ معاوية مرة عند عمر ، فقال : دعونا من ذم فتى قريش ، من يضحك في الغضب الخ (٥) ..

وكان يجري عليه في كل شهر ألف دينار. وفي رواية أخرى : في السنة عشرة آلاف دينار ، ومع ذلك يزعمون : أن عمر حج سنة عشر من خلافته ، فكانت نفقته ستة عشر ديناراً ، فقال : أسرفنا في هذا

__________________

١ ـ دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٢٠٩ و ٢١١. وراجع النص والاجتهاد ص ٢٧١.

٢ ـ التراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٦٩.

٣ ـ دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٢١٢ عن الطبري ج ٦ ص ١٨٤ وعن الاستيعاب وراجع : العقد الفريد ج ١ ص ١٤.

٤ ـ دلائل الصدق للمظفر ج ٣ قسم ١ ص ٢١٢ و ٢١٣ عن مسند أحمد ج ٥ ص ٣٤٧ وعن المعتزلي ج ٤ ص ٦٠.

٥ ـ الاستيعاب بهامش الأصابة ج ٣ ص ٣٩٧ ، ودلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٢١١ وفي العقد الفريد ج ١ ص ٢٥ نسبة هذه الكلمات إلى عمرو بن العاص في معاوية.

٧٣

المال (١) ...

وقال فيه عمر : « إحذروا آدم قريش، وابن كريمها ، من لا ينام إلا على الرضا ، ويضحك في الغضب ، ويأخذ ما فوقه من تحته » (٢).

وكان عمر إذا نظر إلى معاوية يقول : هذا كسرى العرب (٣).

وقال مرة لجلسائه : تذكرون كسرى وقيصر ، ودهاءهما ، وعندكم معاوية (٤)؟!.

وفي محاولة لفتح وإذكاء شهية معاوية للخلافة ، نجده يقول : إياكم والفرقة بعدي ، فإن فعلتم ، فاعلموا : أن معاوية بالشام ، فإذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها منكم » أو « وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم » (٥).

ويقول لأهل الشورى : « إن تحاسدتم ، وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان .. وكان معاوية يومئذ أمير الشام من قبل عمر » (٦).

وفي نص آخر : أنه قال لأهل الشورى : « إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام ، وبعده عبد الله بن أبي ربيعة من اليمن ، فلا يريان لكم فضلاً إلا بسابقتكم » (٧).

__________________

١ ـ دلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٢١٢ عن تاريخ الخلفاء ، والصواعق المحرقة في سيرة عمر.

٢ ـ عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٩.

٣ ـ الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ٣٦٩ / ٣٩٧ وفيه أنه كان إذا دخل الشام ، ونظر إليه ، قال ذلك ، والإصابة ج ٣ ص ٤٣٤ وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٨٦ ، والغدير ج ١٠ ص ٢٢٦ عنهم ودلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٢١٢ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ١٣٤ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١٢٥.

٤ ـ الفخري في الآداب السلكانية ص ١٠٥.

٥ ـ الإصابة ج ٣ ص ٤٣٤ والبداية والنهاية.

٦ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٨٧ ، والنص والاجتهاد هامش ص ٢٨١ عنه.

٧ ـ كنز العمال ج ٥ ص ٤٣٦ عن ابن سعد.

٧٤

هذا .. وقد احتج عثمان على أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما طلب منه أن يعزل معاوية : بأن عمر هو الذي استعمله (١) .. كما واحتج معاوية نفسه على صعصعة ، وعلى صلحاء الكوفة بتولية عمر له أيضاً (٢) .. الأمر الذي يعني : أن قول عمر كان قد أصبح كالشرع المتبع ، كما أوضحناه في بحثنا حول الخوارج.

وبعد .. فإننا نرى : أن كعب الأحبار يلوح بالخلافة لمعاوية في عهد عثمان (٣) .. كما أن معاوية نفسه يصرح : بأنه قد دبر الأمر من زمن عمر (٤).

ج : التمييز العنصري :

وإن سياسة التمييز العنصري ، التي انتهجها الحكام آنئذٍ .. فرووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفضيل قريش على غيرها ، وأن الخلافة في قريش .. واستثنوا بني هاشم (٥) حيث لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد ، وإن كان عمر قد ناقض نفسه في ذلك ، بإشراك علي عليه‌السلام في الشورى.

ثم كان التمييز بالعطاء ، وتفضيل العرب على غيرهم في ذلك.

ثم كان التمييز العنصري في الإرث ، وفي الزواج ، وفي العتق ، وفي

__________________

١ ـ أنساب الإشراف ج ٥ ص ٦٠ وتاريخ ابن خلدون ج ٢ قسم ٢ ص ١٤٣ والغدير ج ٩ ص ١٦٠ عنهما وعن تاريخ الطبري ج ٥ ص ٩٧ وعن الكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٦٣ ، وعن تاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٦٨. والنصائح الكافية ص ١٧٤ عن الطبري.

٢ ـ الغدير ج ٩ ص ٣٥ عن المصادر التالية : تاريخ الطبري ج ٥ ص ٨٨ ـ ٩٠ والكامل لابن الاثير ج ٣ ص ٥٧ ـ ٦٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٥٨ ـ ١٦٠ وتاريخ ابن خلدون ج ٢ ص ٣٨٧ ـ ٣٨٩ وأبو الفداء ج ١ ص ١٦٨.

٣ ـ البداية والنهاية ج ٨ ص ١٢٧.

٤ ـ الأذكياء لابن الجوزي ص ٢٨.

٥ ـ مع أن القضية كانت على عكس ذلك تماماً.

٧٥

الصلاة ، وغير ذلك مما لا مجال لتتبعه (١).

____________

١ ـ راجع حول كل ما يرتبط بتفضيل قريش ، والعرب ، والتمييز العنصري البغيض ، المصادر التالية :

لطف التدبير ص ١٩٩ والمسترشد في الإمامة ص ١١٥ والفائق للزمخشري ج ٢ ص ٣٥٣ ، وتلخيص الشافي ج ٤ ص ١٤ والمعرفة والتاريخ ج ٢ ص ٤٨٣ ومحاضرات الراغب ج ١ ص ٣٥١ و ج ٣ ص ٢٠٨ وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٣٣٠ و ٢٦٨ / ٢٦٩ والمحاسن والمساوي ج ٢ ص ٢٧٨ وتاريخ جرجان ص ٤٨٦ والإلمام ج ١ ص ١٨٦ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٠ و ٢١ و ٣١٣ و ج ١ ص ٢٠٥ و ٢٠٧ و ٢٠٨ و ٢٢٥ و ٣٣١ و ٤٤٤ والعقد الفريد ج ٣ ص ٤١٢ ـ ٤١٨ و ج ٢ ص ٢٣٣ وربيع الأبرار ج ١ ص ٧٩٦ و ٨١٠ و ٤٠٢ والأوائل ج ٢ ص ٦١ والموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج ٢ ص ٦٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٥٣ و ١٥٤ والهدى إلى دين المصطفى ج ٢ ص ٣١٦ ـ ٣١٧ ولسان الميزان ج ١ ص ٤٠٦ و ٣٥٤ وكتاب بغداد لطيفور ص ٣٨ وكشف الأستار ج ١ ص ٥١ و ج ٢ ص ١٦١ و ٢٢٧ و ٢٩٢ حتى ٢٩٥ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٧٥ و ١٩٢ و ج ٦ ص ٣ و ج ١ ص ٨٩ و ج ١٠ ص ٣٢ ومسند أحمد ج ٤ ص ٤٧٥ والمجروحون ج ١ ص ١٢٩ والخراج لأبي يوسف ص ٤٥ ـ ٥٠ والغدير ج ٦ ص ١٨٧ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٨٢ و ٢٣٠ حتى٢٣٣ و ٤١٣ و ٤١٥ و ٤٤٧ و ٧٥٣ و ٧٥٤ و ٨٠١ و ج ٣ ص ٤٨٨ عن الطبري ج ٥ ص ١٩ و ٢٣ وعن كنز العمال ج ٣ ص ١٤٨ و ج ٢ ص ٢١٥ و ٢١٩ وعن البيهقي ج ٦ ص ٣٤٩ و ٣٥٠ وعن ابن سعد ج ٣ ص ١٢٢ و ٢١٢ و ٢١٦ وعن مصادر أخرى. وميزان الاعتدال ج١ ص٢٣٠ والإيضاح لابن شاذان ص ١٨٧ والمنار المنيف ص ١٠١ وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج ٢ ص ١٤١، وشرح النهج للمعتزلي ج ٨ ص ١٠٩ وبهج الصباغة ج ١٢ ص ٢٠٤ وتاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٣ و ج ٢ ص ٥٤٩ ط الاستقامة والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٤٤١ و ٤٩٦ و ٤٩٧ و ٤٧٤ و ٤٧٦ و ج ١١ ص ٥٥ و ٥٦ ق و ٥٨ و ٣٢٥ و ٨٦ و ٤٣٩ و ج ١٠ ص ١٠٣ و ١٠٤ و ٣٠٢ و ٣٠٠ و ٣٠١ و ج ١ ص ٤١١ و ج ٧ ص ٢٧٨ و ٢٧٩ و ج ٦ ص ٤٧ و ج ٤ ص ٤٨٥ و ج ٨ ص ٣٨٠ وفي هوامشه عن مصادر كثيرة وكنز العمال ص ٢٠٦ وطبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ١١٧ و ج ٣ قسم ١ ص ٢١٩ ط ليدن و ط صادر ج ٢ ص ٣٨٨ و ج ٣ ص ٣٤٩ و ٣٣٨ و ٣٤٥ و ٢٩٣ و ٣٣٧ وقضاء أمير المؤمنين للتستري ص ٢٦٣ و ٢٦٤ و ٢٦٥. وثمة كتب أخرى قد تعرضت لبحث هذا الموضوع ولبحث موضوع القومية والقوميات ، لا بأس بمراجعتها ..

وقد ذكرنا طائفة من النصوص مع مصادرها في كتابنا : سلمان الفارسي في مواجهة التحدي ، فراجع.

٧٦

ولعل سياسة عمر في العطاء هي التي جعلته يمتدح عدله ـ أي عدل نفسه ـ حتى لقد قال : « إني تعلمت العدل من كسرى. وذكر خشيته وسيرته » (١).

وإن صح هذا ، فيرد سؤال : إنه لماذا تعلم ذلك من كسرى؟ وَلِمَ لَمْ يتعلمه من النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!!. وأية خشية كانت لدى كسرى؟! وأية سيرة له أعجبته ، فقاس عليها عمل نفسه؟!.

أما سياسة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد كانت على العكس من ذلك تماماً.

ولم يكن يفضل أحداً على أحد ، حيث لم يكن يرى لبني إسماعيل فضلاً على بني إسحاق (٢) .. ولم يكن يميز أحداً على أحد ، لا في العطاء ولا في غيره. وقد أشير عليه بأن يفعل ذلك ، فرفض ، حيث إنه لم يكن ليطلب النصر بالجور (٣) ..

وفي مناسبة أخرى ، في مقام التدليل على أنه عليه‌السلام يسير فيهم بسيرة الإسلام قال عليه‌السلام : « أرأيتم لو أني غبت عن الناس منكان يسير فيهم بهذه السيرة » (٤) ..

وقد كتب ابن عباس للإمام الحسن عليه‌السلام : « وقد علمت أن أباك علياً إنما رغب الناس عنه ، وصاروا إلى معاوية ، لأنه واسى بينهم في الفيء ، وسوى

__________________

١ ـ أحسن التقاسيم ج ١٨.

٢ ـ الغارات ج ١ ص ٧٤ ـ ٧٧ وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ١٤١ ، وسنن البيهقي ج ٦ ص ٣٤٩ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ١١٢ عنه والغدير ج ٨ ص ٢٤٠ وبهج الصباغة ج ١٢ ص ١٩٧ ـ ٢٠٧ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٨٣ والكافي ( الروضة ) ص ٦٩.

٣ ـ الأمالي للمفيد ص ١٧٥ / ١٧٦ ، والأمالي للطوسي ج ١ ص ١٩٧ / ١٩٨ والغارات ج ١ ص ٧٥ وبهج الصباغة ج ١٢ ص ١٩٦ ، ونهج البلاغة بشرح عبده ج ٢ ص ١٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ١٩٧ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥٣ وتحف العقول ص ١٢٦ والكافي ج ٤ ص ٣١ وعن البحار ج ٨ باب النوادر والوسائل ج ١١ ص ٨١ / ٨٢.

٤ ـ المصنف ج ١٠ ص ١٢٤.

٧٧

بينهم في العطاء ، فثقل ذلك عليهم » (١).

وقال رجل لأبي عبد الرحمن السلمي : « أنشدك الله ، متى أبغضت علياً عليه‌السلام ، أليس حينما قسم قسماً في الكوفة ، فلم يعطك ولا أهل بيتك؟ قال أما إذا نشدتني ، فنعم » (٢).

وعل كل حال .. فإن سياسة أمير المؤمنين في العطاء ، قد كانت من أهم أسباب خلاف الناس عليه عليه‌السلام. والنصوص في ذلك كثيرة (٣).

ولكن هذه السياسة العادلة قد أثرت على المدى البعيد آثاراً إيجابية كبيرة ، حتى إننا لنجد السودان يثورون على ابن الزبير ، انتصاراً لابن الحنفية والهاشميين.

قال عيسى بن يزيد الكناني : « سمعت المشايخ يتحدثون : أنه لما كان من أمر ابن الحنفية ما كان تجمع بالمدينة قوم من السودان غضباً له ، ومراغمة لابن الزبير ، فرأى ابن عمر غلاماً له فيهم ، وهو شاهر سيفه ، فقال له : رباح؟

قال : رباح. والله ، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا ، فبكى ابن عمر ، وقال : « اللهم إن هذا لذنوبنا » (٤).

وكان الموالي أيضاً هم أنصار المختار ، وكان ذلك هو السبب في تخاذل العرب عن نصرته ، كما هو معلوم (٥).

وليراجع كتابنا : سلمان الفارسي في مواجهة التحدي للوقوف على كثير من النصوص ومصادرها ، مما يدخل في نطاق التمييز العنصري ، وآثاره ومناشئه ..

__________________

١ ـ الفتوح لابن اعثم ج ٤ ص ١٤٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٣ وحياة الحسن بن علي للقرشي ج ٢ ص ٢٦ وعن جمهرة رسائل العرب ج ٢ ص ١.

٢ ـ بهج الصباغة ج ١٢ ص ١٩٧.

٣ ـ راجع بعض النصوص المهمة في بهج الصباغة ج ١٢ ص ١٩٧ ـ ٢٠٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ٣٧ ـ ٤٠.

٤ ـ أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٩٥ بتحقيق المحمودي ...

٥ ـ راجع : الخوارج والشيعة ص ٢٢٨ و ٢٢٧.

٧٨

د : استبدال أهل البيت عليهم‌السلام بغيرهم :

كما أن مما زاد في تأكيد رفعة شأن قوم ، وخمول ذكر آخرين : أن العرب قد استفادوا كثيراً من تلك الفتوح التي جرت في عهد الخلفاء الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان .. على صعيد التوسعة ، والرفاهية المادية ، وإرضاء المشاعر القومية.

وقد كان ثمة سياسة تهتم بترسيخ الاعتقاد بأن الولاة والأمراء كانوا هم السبب في ذلك كله .. الأمر الذي ساعد ـ بالإضافة إلى سياسة التمييز العنصري المشار إليها آنفاً ـ على المزيد من التعلق بأولئك الحكام والأمراء ، وحب استمرار حكمهم وسلطانهم ، وعدم الرغبة في التغيير حتى وإن كان ذلك التغيير لصالح القيم والمثل العليا ..

أضف إلى ذلك : أن الخليفتين الأولين كانا يظهران الزهد في الدنيا ، والانصراف عنها ..

وقد نتج عن ذلك كله .. أن علا شأن قوم ، وتألق نجمهم ، وخمل ذكر آخرين ، وخبت نارهم .. قال أمير المؤمنين عليه الصلاة السلام : مشيراً إلى ذلك : « إن أول ما انتُقِضنا بعده ، إبطال حقنا في الخمس ، فلما رق أمرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا » (١).

وقال عليه‌السلام : « إن العرب كرهت أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه .. حتى قذفت زوجته ، ونقرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها. وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.

__________________

١ ـ أمالي الشيخ المفيد ص ٢٢٤.

٧٩

ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسلماً إلى العز والإ مرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولا ارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً (١).

ثم فتح الله عليها الفتوح ، فأثرت بعد الفاقه ، وتمولت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً. وقالت : لو لا أنه حق لما كان كذا ..

ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم ، وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف » (٢).

هذا كله .. بالإضافة إلى السياسة التي كانت تهدف إلى القضاء على أهل البيت ، وإخماد ذكرهم ، وإبطال أمرهم ، ففي صفين ، في قضية ترتبط بإقدام الحسنين ، وابن جعفر على الحرب ، نجد أمير المؤمنين عليه‌السلام يشير إلى أن الأمويين لو استطاعوا لم يتركوا من بني هاشم نافخ نار ـ كما سيأتي ـ.

وقال عمرو بن عثمان بن عفان للإمام الحسن عليه‌السلام : « ما سمعت كاليوم ، إن بقي من بني عبد المطلب على وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان .. إلى أن قال : فياذلاه ، أن يكون حسن وسائر الناس بني عبد المطلب قتلة عثمان ، أحياء يمشون على مناكب الأرض ».

ثم تذكر الرواية اتهام عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بأنه أراد قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه سم أبا بكر ، وشارك في قتل عمر ، ثم قتل عثمان (٣).

__________________

١ ـ البازل : الذي فطر نابه.

٢ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ٢٠ ص ٢٩٨ / ٢٩٩.

٣ ـ الاحتجاج ج ١ ص ٤٠٣ والبحار ج ٤٤ ص ٧١.

٨٠