الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٦

قال : فقال عمر بن الخطاب : صدقت يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن علياً كما ذكرت ، وفوق ما وصفت ، ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة.

قال له أبو بكر : ما هذه الخصلة التي تخاف علي منها منه؟.

فقال عمر : أخاف أن يأبى القتال القوم ، فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك ، فلن تجد أحداً يسير إليهم (١) إلاَّ على المكروه منه. ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة ، فإنك لا تستغني عنه ، وعن مشورته. واكتب إلى عكرمة الخ .. » (٢).

وبعد .. فأن يجدوا أمير المؤمنين عليه‌السلام قائداً عسكرياً ، يراه الناس تحت أمرهم ، وفي خدمتهم أحب إليهم من أن يجدوه منافساً قوياً ، يحتج عليهم بأقوال ومواقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقه (٤).

وأما عن مشورة أمير المؤمنين على عمر في ما يرتبط بحرب الفرس ، فإنما كان يهدف منها إلى الحفاظ على بيضة الإسلام ، كما يظهر من نفس نص كلامه

__________________

١ ـ هذه الكلمات تدل على مدى ما ككان يتمتع به أمير المؤمنين من احترام وتقدير لدى الناس جميعاً ، بحيث لو لم يقاتل لم يقاتل أحد من الناس!! وإن كانوا ربما لا يقاتلون معه لو أرادهم على ذلك.

٢ ـ الفتوح لابن أعثم ج ١ ص ٧٢.

٣ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٧٨.

٤ ـ وقد قال المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي الميانجي هنا ما يلي : إنه هل يمكن للخليفة الذي عزل خالد بن سعيد بن العاص عن امارة الجيش ، لميله إلى علي عليه‌السلام ـ هل يمكن ـ أن يرغب في تولية علي عليه‌السلام هنا؟! اللهم إلا أن يكون هناك تخطيط بأن يقوم بعرض ذلك عليه ، فإن قبله ، فإن ذلك يكون تأييداً لخلافتهم ، ثم يعزلونه إيذاناً منهم للناس بعدم كفايته .. فيربحون في الحالتين .. أو يقال : إن الظروف في عهد أبي بكر تختلف عنها في عهد عمر.

١٦١

عليه‌السلام فيها .. فمن أراد ذلك فليراجعه في مصادره ..

وبعد .. فإن أخذ سائر ما قدمناه بنظر الاعتبار ، يجعلنا نطمئن ، بل نقطع بعدم صحة ما ينسب إلى الحسنين عليهما‌السلام من الاشتراك في الغزوات آنئذٍ.

وقد قال السهمي : « وذكر عباس بن عبد الرحمن المروزي في كتابه : التاريخ ، قال : قدم الحسن بن علي ، وعبد الله بن الزبير اصبهان ، مجتازين إلى جرجان ، فإن ثبت هذا يدل : على أنه كان في أيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه » (١).

وأما بالنسبة لاشتراك بعض المخلصين من كبار الصحابة في الفتوح ، فالظاهر هو أنهم كانوا غافلين عن حقيقة الأمر ، فكانوا يقصدون بذلك خدمة الدين ، ونصرة الإسلام والمسلمين ، مع عدم إطلاعهم على رأي الأئمة عليهم‌السلام في هذه الفتوحات ، كما يظهر مما تقدم ، حيث نجد اهتماماً واضحاً في أن لا يعرف الناس رأي علي عليه‌السلام في هذا المجال ، أو لعل السلطة كانت تهتم في إرسالهم في مهمات كهذه ، وتمارس عليهم بعض الضغوط في ذلك.

الإمام الحسن عليه‌السلام وحصار عثمان :

ويروي المؤرخون : أنه حينما حاصر الثائرون عثمان ، بعث الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بولديه : الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما ، للدفاع عنه ، كما وبعث طلحة والزبير بولديهما أيضاً.

ويقولون : إن الإمام الحسن عليه‌السلام قد جرح ، وخضب بالدماء على باب عثمان ، من جراء رمي الناس عثمان بالسهام ، ثم تسوّر الثائرون الدار على عثمان ، وقتلوه.

وجاء الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كالواله الحزين ، فلطم

__________________

١ ـ تاريخ جرجان ص ٩.

١٦٢

الحسن ، وضرب صدر الحسين عليهما‌السلام ، وشتم آخرين ، منكراً عليهم أن يقتل عثمان ، وهم على الباب (١).

وقد استبعد البعض ذلك ، استناداً إلى أن خطة عثمان وسيرته ، تبعد كل البعد ما نسب إلى علي وولديه عليهم‌السلام. كما ويبعدها : أن يتخذوا موقفاً يخالف موقف البقية الصالحة من الصحابة ، وينفصلوا عنهم. ولو فرض صحة ذلك ، فإنه لم يكن إلا لتبرير موقفه وموقف أبنيه عليهما الصلاة والسلام من الاشتراك في دمه ، وأن لا يتهمه المغرضون بشيء (٢).

ويلوح من كلام السيد المرتضى رحمه‌الله أيضاً شكه في إرسال أمير المؤمنين عليه‌السلام ولديه للدفاع عن عثمان ، قال : « فإنما أنفذهما ـ إن كان أنفذهما ـ ليمنعا من انتهاك حريمه ، وتعمد قتله ، ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب. ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع » (٣).

وعلى حد تعبير العلامة الحسني رحمه‌الله : « ومن المستبعد أن يزج بريحانتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك المعركة للدفاع عن الظالمين ، وهو الذي وهب نفسه وكل حياته للحق والعدالة ، وإنصاف المظلومين (٤).

ويرى باحث آخر : « أن الخليفة كان مستحقاً للقتل بسوء فعله ، كما أن

__________________

١ ـ راجع : الصواعق المحرقة ص ١١٥ / ١١٦ ، ومروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٤ / ٣٤٥ ، والإمامة والسياسة ج ١ ص ٤٤ و ٤٣ وأنساب الأشراف ج ٥ ص ٧٠ و ٦٩ و ٧٤ و ٨٠ و ٩٣ و ٩٥ والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٢٠٦ ، وتاريخ مختصر الدول ص ١٠٥ وسيرة الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٥٢٧ و ٥٤٠ عن ابن كثير ، وتاريخ الطبري ج ٣ ص ٤١٨ و ٤١٩ ودلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ١٩٣ عن بعض من تقدم وعن ابن الأثير ، وابن عبد البر ، والفخري في الأداب السلطانية ص ٩٨ وفيه : أن الحسن قاتل قتالاً شديداً ، حتى كان يستكفه ، وهو يقاتل عنه ، ويبذل نفسه دونه والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٩٠ و ٢٩١.

٢ ـ راجع : حياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ١١٥ / ١١٦.

٣ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٨.

٤ ـ سيرة الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٤٢٨.

١٦٣

قتلته ، أو الراضون بقتله هم جمهرة الصحابة الأخيار ، ولا يعقل أن يقف الحسنان في وجه هؤلاء وضدهم » (١).

ونقول :

١ ـ أما ما ذكره هؤلاء من أن الصحابة الأخيار كانوا هم قتلة عثمان ، أو الراضون بقتله ، فهو صحيح ، ولكن مما لا شك فيه ، هو أنه قد كان من بينهم أيضاً بعض من ثار على عثمان ، من أمثال الزبير ، وطلحة وغيرهما ولكن لا لأجل الانتصار للحق ، وللمظلومين ، وإنما من أجل الحصول على بعض المكاسب الدنيوية.

٢ ـ وأما ماذكرته الرواية : من أن طلحة والزبير قد أرسلا بإبنيهما للدفاع عن عثمان ، فهو مما لا ريب في بطلانه ، فإن المصادر الموثوقة قد أطبقت : على أن طلحة ، والزبير ، وعائشة ، وغيرهم ، كانوا من أشد الناس على عثمان .. ( ولا نرى حاجة لذكر مصادر ذلك ، فإنه من بديهيات التاريخ .. ).

٣ ـ وأما أنه عليه‌السلام قد ضرب الحسن عليه‌السلام ، ودفع في صدر الحسين ، فهو غير صحيح أيضاً ، فإن علياً عليه‌السلام قد كرر غير مرة : أن قتل عثمان لم يسره ولم يسؤه (٢) .. كما أنه لم يكن ليتهم الحسنين عليهما‌السلام بالتواني في تنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهما ، وهما من الذين نصَّ الله سبحانه على تطهيرهم ، وأكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عظيم فضلهم ، وسامق مجدهم ، وعلى محبته العظيمة لهم.

وأما بالنسبة للدفاع عن عثمان. فإنَّ ثمة وجهة نظر أخرى جديرة بالتقدير ، وقمينة بأن تقدم تفسيراً صحيحاً ، ومنطلقاً موضوعياً ومنطقياً لموقف أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه القضية. لا مجرد عدم توجيه أصابع الاتهام إليه عليه‌السلام ، في موضوع قتل عثمان.

وملخص ما يمكن اعتباره كافياً لتبرير دفاع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن

____________

١ ـ الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام لآل يس ص ٥٠ / ٥١.

٢ ـ راجع : الغدير ج ٩ ص ٦٩ ـ ٧٧ عن مصادر كثيرة.

١٦٤

عثمان ، هو :

أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإن كان لا يرى خلافة عثمان شرعية من الأساس ، وكان كذلك على اطلاع تام على جميع المخالفات والتجاوزات ، التي كانت تصدر من الهيئة الحاكمة باستمرار. ويرى رأي العين : أن فسادها قد استشرى ، وتفاقم خطره ، حتى لم يعد من السهل تحمله ، أو الإغضاء عنه ..

إنه .. وإن كان يرى ذلك ـ إلا أنه لم يكن يرى : أن علاج الأمر بهذا الأسلوب الانعالي العنيف هو الطريقة المثلى والفضلى .. وقد نقل عنه عليه‌السلام قوله عن عثمان : إنه استأثر فأساء الأثرة ، وجزعوا فأساؤوا الجزع (١).

وما ذلك .. إلا أن هذا الأسلوب بالذات ، وقتل عثمان في تلك الظروف ، وعلى النحو الذي كان ، لم يكن بالذي يخدم القضية ، قضية الإسلام ، بل كان من شأنه أن يلحق بها ضرراً فادحاً ، وجسيماً .. إذ أنه سوف يعطي الفرصة لأولئك المترصدين من أصحاب المطامع والأهواء لركوب الموجة ، واستغلال جهل الناس ، وضعفهم ، وظروف حياتهم ، بملاحظة ما تركت عليهم السياسية من آثار في مفاهيمهم ، وفي عقليتهم ، ونظرتهم ، وفي عقائدهم ، وغير ذلك .. ـ لسوف يعطي هؤلاء الفرصة ، لاستغلال كهذا. ورفع شعار الأخذ بثارات عثمان ، واتخاذ ذلك ذريعة للوقوف في وجه الشرعية المتمثلة بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإلقاء الشبهات والتشكيكات حول علي ، وأصحاب علي عليه‌السلام .. الأمر .. الذي نشأ عنه حروب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، على النحو الذي سجله التاريخ ..

وقد كان أمير المؤمنين عليه‌السلام مدركاً ذلك كله ، ومطلعاً عليه بصورة تامة ، حتى انه حينما جاءه اليمنيون لتهنئته بالخلافة ، قال لهم : « إنكم صناديد اليمن وساداتها ، فليت شعري ، إن دهمنا أمر من الأمور كيف صبركم على ضرب الطلا ، وطعن الكلا » (٢) .. الأمر الذي يعني : أنه كان يتوقع منذئذٍ حروباً ، لا بد

__________________

١ ـ نهج البلاغة ج ١ ص ٧٢ بشرح عبده ، الخطبة رقم ٢٩.

٢ ـ الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٢٥٥.

١٦٥

له من خوضها ، ضد أصحاب المطامع والمنحرفين.

وقد كان ذلك بطبيعة الحال وَبَالاً على الإسلام ، وعلى المسلمين ، وسبباً للكثير من المصائب والبلايا ، التي لا يزال يعاني الإسلام والمسلمون من آثارها ..

وإذا كان علي أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يرغب في قتل عثمان يهذه الصورة التي حدثت ، وإذا كان قد أرسل الحسنين عليهما‌السلام للدفع والذب عنه ، وإذا كان قد بلغ في دفاعه عنه حداً جعل مروان يعترف بذلك ويقول :

« ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي ، فقيل له : ما لكم تسبونه على المنابر؟ قال : إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك » (١).

ويقول علي عليه‌السلام : « واللهِ ، لقد دفعت عنه ، حتى خشيت أن أكون آثماً » (٢).

إنه إذا كان كذلك .. فإنه لم يكن يريد أن يكون ذلك الدفع عن عثمان ، موجباً لفهم خاطيء لحقيقة رأيه في عثمان ، وفي مخالفته .. فكان يذكر تلك المخالفات تصريحاً تارة ، وتلويحاً أخرى ، كما أنه كان يجيب سائليه عن أمر عثمان بأجوبة صريحة أحياناً ، ومبهمة أحياناً أخرى ، أو على الأقل لا تسمح بالتشبث بها واستغلالها ، من قبل المغرضين والمستغلين (٣) ..

كما أن دفاعه عليه‌السلام عن عثمان ، ومحاولته دفع القتل عنه ، لا يعني : أنه كان يسكت عن تلك المخالفات الشنيعة ، التي كانت تصدر منه ، ومن أعوانه .. ولا أنه لا يرى بها خطراً داهماً ومدمراً .. بل ما فتىء عليه‌السلام

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ص ٥٣ والنصائح الكافية ص ٨٨ عن الدارقطني.

٢ ـ نهج البلاغة ، بشرح عبده ج ٢ ص ٢٦١ ، ومصادر نهج البلاغة ج ٣ ص ١٨٩ عن العديد من المصادر ، وبهج الصباغة ج ٦ ص ٧٩ عن الطبري ، وفيه : والله ، ما زلت أذب عنه حتى إني لأستحي الخ ..

٣ ـ راجع هذه الأجوبة في : كتاب الغدير ج ٩ ص ٧٠ ـ بل راجع من ص ٦٩ حتى ص ٧٧.

١٦٦

يجهر بالحقيقة مرة بعد أخرى ، وقد حاول إسداء النصيحة لعثمان في العديد من المناسبات ، حتى ضاق عثمان به ذرعاً ، فأمره أن يخرج إلى أرضه بينبع (١).

كما أنه ـ أي عثمان ـ قد واجه الإمام الحسن عليه‌السلام بأنه لا يرغب بنصائح أبيه ، وذلك لأنه :

« كان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان ، أرسل إبنه الحسن عليه‌السلام إليه ، فلما أكثر عليه ، قال : أن أباك يرى : أن أحداً لا يعلم ما يعلم؟ ونحن أعلم بما نفعل ، فكف عنا ، فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك .. » (٢).

وهكذا .. يتضح : أن نصرة الحسنين عليهما‌السلام لعثمان ، بأمر من أبيهما أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، قد كانت منسجمة كل الانسجام مع خطهم عليهم‌السلام ، الذي هو خط الإسلام الصافي ، والصحيح. وهو يدخل في عداد تضحياتهما الجسام ـ وما أكثرها ـ في سبيل هذا الدين ، ومن أجل إعلاء كلمة الحق .. كما أنه دليل واضح على بعد نظرهم ، وعلى دقة وعمق تفكيرهم ..

معاوية هو قاتل عثمان :

ولا نذهب بعيداً إذا قلنا : إن معاوية قد أدرك منذ البداية : أن قتل عثمان يخدم مصالحه وأهدافه ، وأنه كان يرغب في أن يتم على عثمان ما تم .. وقد استنجده عثمان ، فتلكأ عنه ، وتربص به ، ثم أرسل جيشاً ، وأمره بالمقام بذي خشب ، ولا يتجاوزها. وحذر قائده من أن يقول :

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، بشرح عبده ج ٢ ص ٢٦١ وبهج الصباغة ج ٦ ص ٧٩ عن الطبري ، ومصادر نهج البلاغة ج ٣ ص ١٨٩ عن العديد من المصادر ، والغدير ج ٩ ص ٦٠ ـ ٦٢ و ٦٩ عن مصادر أخرى أيضاً.

٢ ـ الغدير ج ٩ ص ٧١ عن العقد ج ٢ ص ٢٧٤ وعن الإمامة والسياسة ج ١ ص ٣٠.

١٦٧

« الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال : فأقام بذي خشب ، حتى قتل عثمان ، فاستقدمه حينئذٍ معاوية ، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه. وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان ، فيدعو إلى نفسه » (١).

وكتب علي أمير المؤمنين عليه‌السلام إليه : « ولعمري ، ما قتله غيرك ، ولا خَذَلَهُ سواك ، ولقد تربصت به الدوائر ، وتمنيت له الأماني » (٢).

وعنه عليه‌السلام فيما كتبه له : « إنك إنما نصرت عثمان حينما كان النصر لك ، وخذلته حينما كان النصر له » (٣).

وكتب أبو أيوب الأنصاري لمعاوية : « فما نحن وقتلة عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان ، وثبط أهل الشام عن نصرته لأنت الخ » (٤).

وكتب إليه شبث بن ربعي : « إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس ، وتستميل له أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم ، إلا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوماً ، فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ، وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب » (٥).

__________________

١ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٥٤ والنصائح الكافية ص ٢٠ عن البلاذري ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص ١٦٦.

٢ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٤١١ ط قديم ، والغدير ج ٩ ص ١٥٠ والنصائح الكافية ص ٢٠ عن الكامل ، والبيهقي في المحاسن والمساوي ، والإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام سيرة وتاريخ ص ١٦٧ عن الأول.

٣ ـ راجع : نهج البلاغة ج ٣ ص ٧٠ ط عبده والنصائح الكافية ص ٢٠ وشرح النهج للبحراني ج ٥ ص ٨١ وعن شرح المعتزلي ج ٤ ص ٥٧.

٤ ـ الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٠٩ / ١١٠ والغدير ج ٩ ص ١٥١ عنه ، وعن شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٦٠.

٥ ـ وقعة صفين ص ١٨٧ / ١٨٨ ، وتاريخ الطبري ج ٣ ص ٥٧٠ ، والغدير ج٩ ص ١٥١ ، عنهما وعن الكامل لابن الأثير ج ٣ ص ١٢٣ وعن شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٣٤٢.

١٦٨

وقال الطبري : فلما جاء معاوية الكتاب تريض به ، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وقد علم اجتماعهم. فلما أبطأ أمره على عثمان الخ (١).

وكتب إليه ابن عباس : « .. فأقسم بالله ، لأنت المتربص بقتله ، والمحب لهلاكه ، والحابس الناس قِبَلك عنه .. ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ فما حفلت به .. فقتل كما كنت أردت .. فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين » (٢).

ولابن عباس كتاب آخر يذكر له فيه ذلك أيضاً (٣).

كما أن المنقري يقول : إنه لما نُعِيَ عثمان إلى معاوية : « ضاق معاوية صدراً بما أتاه ، وندم على خذلانه عثمان ، وقال في جملة أبيات له:

ندمـت علـى ما كان من تبعي الهوى

وقصـري فيـه حسـرة وعـويـل (٤)

الأبيات.

وحينما سأل معاوية أبا الطفيل الكناني عن سبب عدم نصره عثمان ، قال له : « منعني ما منعك ، إذ تربَّص به ريب المنون ، وأنت بالشام. قال : أو ما ترى طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ، ثم قال : أنت وعثمان كما قال الشاعر الجعدي :

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ج ٣ ص ٤٠٢.

٢ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٥٥ ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص ١٦٧ عنه.

٣ ـ الفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٢٥٦ والمناقب للخوارزمي ص ١٨١ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١١٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ٨ ص ٦٦ والغدير ج ١٠ ص ٣٢٥.

٤ ـ وقعة صفين ص ٧٩ والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص ١٦٦ / ١٦٧ عنه والغدير ج ٩ ص ١٥١ والفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٢٦٦.

١٦٩

لا ألفينك بعد المـوت تـنـدبـني

وفي حياتي ما زودتـنـي زادا (١)

بل لقد ذكر اليعقوبي : أن معاوية أمر الجيش بالمقام في أوائل الشام ، وأن يكونوا مكانهم ، حتى يأتي عثمان ليعرف صحة الأمر ، فأتى عثمان وسأله عن المدة ، فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم ، فأجيئك بهم. قال : « لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول : أنا ولي الثار. إرجع فجئني بالناس ، فرجع ولم يعد إليه حتى قتل .. » (٢).

وقد اعترف معاوية نفسه للحجاج بن خزيمة بأنه قد قعد عن عثمان ، وقد استغاث به فلم يجبه ، وأنه قال في ذلك أبياتاً (٣) ، وهي الأبيات اللامية التي أشرنا إليها آنفاً.

وصرح الشهرستاني بأن جميع عمال عثمان وأمراءه قد « خذلوه ، ورفضوه حتى أتى قدره عليه » ، وهم : معاوية ، وسعد بن أبي وقاص ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (٤).

وقال له ابن عباس في المدينة ، حينما اتهم بني هاشم بقتل عثمان : « أنت قتلت عثمان ، ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه ، فانكسر معاوية » (٥).

وكتب محمد بن مسلمة لمعاوية : « .. ولعمري يا معاوية ، ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميتاً ،

__________________

١ ـ مروج الذهب ج ٣ والنصائح الكافية ص ٢١ والعقد الفريد ج ٤ ص ٣٠ عن تاريخ الخلفاء ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص ١٦٨ والغدير ج ٩ ص ١٣٩ / ١٤٠ عن تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٣ وعن تاريخ ابن عساكر ج ٧ ص ٢٠١ وعن الاستيعاب ، في الكنى ، والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥١ والمسعودي.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٧٥.

٣ ـ الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٢٦٥.

٤ ـ الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٢٦ وراجع هامش : الشيعة في التاريخ ص ١٤٢.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٢٣.

١٧٠

خذلته حياً » (١).

ومن كتاب لأمير المؤمنين عليه‌السلام إليه : « أما بعد ، فوالله ما قتل ابن عمك غيرك ، وإني لأرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه ، وأعظم من خطيئته » (٢).

كما أن الاصبغ بن نباته قد واجهه بمثل ما تقدم عن غير واحد (٣).

وكذلك .. فإن الإمام الحسن عليه‌السلام قال له : « ثم ولاك عثمان فتربصت عليه » (٤). وقال معاوية لعمرو بن العاص : « صدقت ، ولكننا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو : واسوأتاه ، ان أحق الناس ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال : ولم؟ ويحك. قال : أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام ، حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي ، فسار إليه : وأما أنا فتركته عياناً ، وهربت إلى فلسطين. فقال معاوية : دعني من هذا الخ .. » (٥).

ولما وصلت رسالة عثمان الاستنجادية إلى معاوية ، قال له المسور بن مخرمة : « يا معاوية، إن عثمان مقتول ، فانظر فيما كتبت به إليه ، فقال معاوية : يا مسور ، إني مصرح : إن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه ، ثم غير وبدل ، فغير الله عليه ، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل؟ » (٦).

فهو يستدل بالجبر من أجل تبرير تخاذله عن نصر عثمان!!.

هل جرح الإمام الحسن عليه‌السلام في الدفاع عن عثمان :

ويبقى أن نشير : إلى أننا نشك في صحة ما ذكرته الرواية من أن الإمام

__________________

١ ـ الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٠١ والغدير ج ١٠ ص ٣٣٣.

٢ ـ الغدير ج ٩ ص ٧٦ والعقد الفريد ج ٤ ص ٣٣٤.

٣ ـ تذكرة الخواص ص ٨٥ ومناقب الخوارزمي ص ١٣٤ / ١٣٥.

٤ ـ تذكرة الخواص ص ٢٠١.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٨٦ والإمامة والسياسة ج ١ ص ٩٨.

٦ ـ الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٢٢٨.

١٧١

الحسن عليه‌السلام قد جرح في الدفاع عن عثمان ، وذلك لان الامام عليا عليه‌السلام ، وإن كان يمكن أن يكون قد أرسل ابنيه ـ أو الإمام الحسن وحده ـ للدفاع عن عثمان .. وقد جاءا إليه ، وعرضا له المهمة التي أوكلها إليهما أبوهما .. إلا أن الظاهر : هو أن عثمان قد ردهما ، ولم يقبل منهما ذلك .. ويوضح ذلك النصوص التالية :

١ ـ « قال : ثم دعا علي بابنه الحسن ، فقال : انطلق يا ابني إلى عثمان ، فقل له : يقول لك أبي : أفتحب أن أنصرك؟ فأقبل الحسن إلى عثمان برسالة أبيه ، فقال عثمان : لا ، ما أريد ذلك ، لأني قد رأيت رسول الله .. إلى أن قال : فسكت الحسن ، وانصرف إلى أبيه فأخبره بذلك » (١).

٢ ـ « ثم اقتحم الناس الدار على عثمان وهو صائم .. إلى أن قال : والتفت عثمان إلى الحسن بن علي ، وهو جالس عنده ، فقال : سألتك بالله يا ابن الأخ إلا ما خرجت؟ فإني أعلم ما في قلب أبيك من الشفقة عليك ، فخرج الحسن رضي الله عنه ، وخرج معه عبد الله بن عمر » (٢).

٣ ـ « كان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان أرسل ابنه الحسن إليه ، فلما أكثر عليه قال : إن أباك يرى : أن أحداً لا يعلم ما يعلم؟ ونحن أعلم بما نفعل ، فكف عنا. فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك .. » (٣).

وقال ابن قتيبة : « ثم دخل عليه الحسن بن علي ، فقال : مرني بما شئت ، فإني طوع يديك. فقال له عثمان ارجع يا ابن أخي ، اجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره » (٤).

__________________

١ ـ الفتوح لابن اعثم ج ٢ ص ٢٢٨.

٢ ـ الفتوح لابن اعثم ج ٢ ص ٢٣١.

٣ ـ تقدمت المصادر لذلك.

٤ ـ الإمامة والسياسة ج ١ ص ٣٩ وحياة الصحابة ج ٢ ص ١٣٤ عن الرياض النضرة ج ٢ ص ٢٦٩.

١٧٢

٤ ـ « وشمَّر أناس من الناس ، فاستقتلوا ، منهم سعد بن مالك ، وأبوهريرة ، وزيد بن ثابت ، والحسن بن علي ، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا ، فأنصرفوا » (١).

٥ ـ « بعث عثمان إلى علي بن أبي طالب : أن ائتني ، فبعث حسيناً ابنه ، فلما جاءه ، قال له عثمان : يا ابن أخي اتقدر على أن تمنعني من الناس؟ قال : لا. قال : فأنت في حلٍ من بيعتي ، فقل لأبيك يأتني ، فجاء الحسين إلى عليَّ فأخبره بقول عثمان ، فقام علي ليأتيه. فقام إليه ابي الحنفية فأخذ بضبعيه ، يمنعه من ذلك .. ». وفي هذه الأثناء جاء الصريخ : أن قد قتل عثمان (٢).

٦ ـ « قال أبو مخنف في روايته : نظر مروان بن الحكم إلى الحسين بن علي فقال : ما جاء بك؟ قال : الوفاء ببيعتي. قال : اخرج عنا ، أبوك يؤلب الناس علينا ، وأنت هاهنا معنا؟. وقال له عثمان : انصرف ، فست أريد قتالاً ولا آمر به » (٣).

وما تقدم يشير إلى أن عثمان قد رفض مساعدة الإمام الحسن ، أو هو مع الحسين عليهما‌السلام ولم يشاركا عليهما‌السلام في الحرب ضد الثائرين. ـ ولعل العرض والرفض قد تعدد عدة مرات ـ. وذلك يوجب الريب في تلك الرواية القائلة بأن الإمام الحسن عليه‌السلام قد جرح في هذه القضية ، ثم كان من علي عليه‌السلام بالنسبة إليه ولأخيه ما كان ، مما تقدمت الإشارة إلى عدم صحته أيضاً.

نعم ربما يكون الإمام الحسن عليه‌السلام قد ساعد على نجاة البعض ، من دون اشتراك في القتال ، وإنما بما له من أحترام خاص في النفوس ، ففي محاورة جرت بينه وبين مروان بن الحكم ، قال عليه‌السلام لمروان : « أفلا أرقت دم من

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٨٩.

٢ ـ أنساب الأشراف ج ٥ ص ٩٤.

٣ ـ أنسب الأشراف ج ٥ ص ٧٨.

١٧٣

وثب على عثمان في الدار ، فذبحه كما يذبح الجمل ، وأنت تثغو ثغاء النعجة ، وتنادي بالويل والثبور ، كالأمة اللكعاء. ألا دفعت عنه بيد؟ أو ناضلت عنه بسهم؟ لقد ارتعدت فرائصك ، وغشي بصرك ، فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه ، فأنجيتك من القتل ، ومنعتك منه ، ثم تحث معاوية على قتلي؟! ولو رام ذلك لذبح كما ذبح ابن عفان الخ .. » (١).

قوة موقف الإمام الحسن عليه‌السلام :

هذا .. وإن النص المتقدم آنفاً ، ليدل دلالة واضحة على قوة لا يستهان بها في موقف الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام.

وقد تقدم قول ابن العاص لمعاوية عن الإمام الحسن (ع) : « خفقت النعال خلفه ، وأمر فأطيع ، وقال فصدق ، وهذان يرفعان إلى ما هو أعظم ، فلو بعثت إليه ، فقصرنا به وبأبيه ، وسببناه وأباه ، وصغرنا بقدره وقدر أبيه الخ .. ».

وقال سفيان بن أبي ليلى للإمام الحسن عليه‌السلام في ضمن كلام له : « .. فقد جمع الله عليك أمر الناس .. » (٢).

وروى أبو جعفر قال : قال ابن عباس : « أول ذل دخل على العرب موت الحسن عليه‌السلام » (٣).

وقال أبو الفرج : « قيل لأبي إسحاق السبيعي : متى ذل الناس؟ فقال : حين مات الحسن ، وادعي زياد ، وقتل حجر بن عدي » (٤).

وقد اعترف معاوية نفسه : بأن الحسن عليه‌السلام ليس ممن يُرمي به

__________________

١ ـ المحاسن والمساوي ج ١ ص ١٣٥ وفي هامشه عن المحاسن والأضداد ..

٢ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٤٤.

٣ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٠.

٤ ـ مقاتل الطالبيين ص ٧٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٥١.

١٧٤

الرجوان (١) .. أي ليس ممن يستهان به ، والنصوص التي تدخل هذا المجال كثيرة ، لا مجال لتتبعها فعلاً.

ولعل ما تقدم من نصرة الإمام الحسن عليه‌السلام لعثمان ، بالإضافة إلى أنه لم يكن قد ساهم في قتل مشركي قريش وغيرها على عهد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بسبب صغر سنه آنئذٍ. ثم ما سمعته الأمة ورأته من أقوال ومواقف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاهه عليه‌السلام .. ثم علم الجميع بنزول العديد من الآيات القرآنية ، التي تعرب عن فضله ، وتشيد بكريم خصاله ، وتؤكد على ما يؤهله الله له من دورٍ قيادي في مستقبل الأمة ..

ـ إن كل ذلك وسواه ـ قد جعل موقفه عليه‌السلام في قبال معاوية والأمويين ، أكثر قوة ، وأعظم أثراً ، حيث لم يكن ثمة شبهات يستطيع خصومه التشبث بها لتضعيف مركزه ، وزعزعة سلطانه ، كما أنه لم يواجه ما يشبه قضية التحكيم ، التي فُرِضَت على أمير المؤمنين عليه‌السلام من قبل ..

نعم .. هو ابن لذلك الذي وَتَرَ قريشاً ، وقتل صناديدها ، الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله سبحانه ، بكل ما يملكون من حيلة ووسيلة.

ولعل مدى ضعف حجة معاوية في مقابل الإمام الحسن عليه‌السلام ، يتجلى أكثر ، بالمراجعة إلى أقوال معاوية نفسه ، وذلك حينما لا يجد حجة يحتج بها لتصديه لهذا الأمر ، سوى أنه أطول من الإمام الحسن عليه‌السلام ولاية ، وأقدم تجربة ، وأكثر سياسة ، وأكبر سناً (٢).

قال بعض الباحثين : « وهكذا .. صارت مقاييس الخلافة كمقاييس الأزياء ، أو الكمال الجسماني : أطول ، وأكبر ، وأقدم ، وأكثر » (٣).

إلا أن جيش الإمام الحسن عليه‌السلام ، وكذلك الظروف الخاصة التي

__________________

١ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٩ و ١٩٥.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ص ٥٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٣٦ ، وحياة الحسن بن علي ، للقرشي ج ٢ ص ٣٣ و ٣٥.

٣ ـ حياة الإمام الحسن بن عليه‌السلام ، لآل يس ص ٨٥.

١٧٥

مرت بها الأمة ، والعراق خاصة ، والنواحي العقيدية والاجتماعية ، وغير ذلك ـ كل ذلك وسواه ـ هو الذي أضعف من موقف الإمام الحسن عليه‌السلام ، وقوى من شوكة معاوي ، وإن كان العامل الزمني قد كان ـ على ما يبدو ـ لصالح الإمام الحسن عليه‌السلام على المدى الطويل. ولا سيما بعد وجود بعض التحول في المجتمع العراقي تجاه أهل البيت ، بعد جهود أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال ..

وقد شرحنا بعض ما يرتبط المجتمع العراقي في بحث لنا آخر حول الخوارج ، وفيما تقدم بعض ما يمكن أن يفيد في ذلك. وليس هذا موضع بحثنا الآن ، لأنه يرتبط بظروف صلح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية .. كما هو معلوم ..

هل كان الإمام الحسن عليه‌السلام عثمانياً؟!

ويحاول البعض أن يدعي : أن الإمام الحسن عليه‌السلام « كان عثمانياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة » ، قال : « وربما غلا في عثمانيته ، حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب ، فقد روى الرواة : أن علياً مر بابنه الحسن ن وهو يتوضأ ، فقال له : أسبغ الوضوء يا حسن ، فأجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : « لقد قتلتم بالأمس رجلاً كان يسبغ الوضوء » ، فلم يزد على أن قال : لقد أطال الله حزنك على عثمان ». وفي نص آخر للبلاذري : « لقد قتلت رجلاً كان يسبغ والوضوء » (١).

وفي قصة أخرى يقولون : « إن الحسن بن علي ، قال لعلي : يا أمير المؤمنين ، إني لا أستطيع أن أكلمك ، وبكى ، فقال علي : تكلم ، ولا تحنَّ حنين

__________________

١ ـ راجع : الفتنة الكبرى ، قسم : علي وبنوه ص ١٧٦ ، وأنساب الأشراف ج ٣ ص ١٢ بتحقيق المحمودي و ج ٥ ص ٨١ وراجع : الإمام الحسن بن علي لآل يس ص ٥٠ وسيرة الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٥٤٣.

١٧٦

المرأة ، فقال : إن لناس حصروا عثمان ، فأمرتك أن تعتزلهم وتلحق بمكة ، حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها ، فأبيت. ثم قتله الناس ، فأمرتك أن تعتزل الناس فلو كنت في جحر ضب لضربت إليك العرب آباط الإبل حتى يستخرجوك ، فغلبتني. ثم أمرتك اليوم : أن لا تقدم العراق ، فإني أخاف عليك أن تقتل بمضيعة .. فقال علي الخ » (١).

وثمة روايات أخرى تفيد هذا المعنى ، لا مجال لإيرادها وهي تدل على أنه عليه‌السلام كان يكره أن يذهب أبوه إلى العراق لحرب طلحة والزبير ، كما قاله البعض (٢).

ونقول : إن كل ذلك لا يمكن أن يصح ، فـ :

أولاً : كيف يمكن أن نجمع بين ما قيل هنا ، وبين قولهم الآنف الذكر : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد أرسل الإمام الحسن وأخاه عليهم‌السلام للدفاع عن عثمان .. وأنه لما علم بمصيره جاء كالواله الحزين ، ولطم الحسن المخضب بالدماء ، ودفع في صدر الحسين عليهما‌السلام ، بتخيُّل : أنهما قد قصرا في أداء مهمتهما الخ؟!.

ثانياً : غن المتتبع لعامة مواقف الإمام الحسن عليه‌السلام يجده ـ باستمرار وبمزيد من الإصرار ـ يشدُّ أزر أبيه ، ويدافع عن حقه ، ويهتم في دفع حجج خصومه ، بل .. ويخوض غمرات الحروب في الجمل ، وفي صفين ، ويعرِّض نفسه للأخطار الجسام ، في سبيل الدفاع عنه عليه‌السلام ، وعن قضيته ، حتى لقد قال الإمام عليه‌السلام : أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني ـ حسبما تقدم ..

وبالنسبة لدفاعه عن قضية أهل البيت عليهم‌السلام ، وحقهم بالخلافة ، دون كل من عداهم ، فإننا لا نستطيع استقصا جميع مواقفه وأقواله فعلاً ، ولكننا

__________________

١ ـ أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢١٦ / ٢١٧ وتاريخ الطبري ج ٣ ص ٤٧٤ وليراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٢٦ / ٢٢٧ و ج ١٩ ص ١١٧ وسيرة الأئمة الاثني عشر ج ١ ص ٥٤٣ عن طه حسين وغيره.

٢ ـ راجع : سيرة الأئمة الاثني عشر علي بن أبي طالب ١ ص ٥٤٢ ـ ٥٤٤ وغير ذلك.

١٧٧

نذكر نموذجاً منها :

١ ـ عن الحسن عليه‌السلام : « إن أبا بكر وعمر عمدا إلى هذا الأمر ، وهو لنا كله ، فأخذاه دوننا ، وجعلا لنا فيه سهماً كَسَهم الجدة ، أما والله ، لتهمنهما أنفسهما ، يوم يطلب الناس فيه شفاعتنا » (١).

قال التستري : « والظاهر : أن المراد بقوله عليه‌السلام : كسهم الجدة : أنهما جعلا لهم من الخلافة ، وباقي حقوقهم ، مجرد طعمة ، كالجدة مع الوالدين » (٢).

٢ ـ وعنه عليه‌السلام في خطبة له : « ولولا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصياؤه ، كنتم حيارى ، لا تعرفون فرضاً من الفرائض الخ .. » قال هذا بعد أن عدد الفرائض ، وكان منها الولاية لأهل البيت عليهم‌السلام (٣).

٣ ـ وتقدم قوله عليه‌السلام في خطبة له بعد بيعة الناس له : « فإن طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة ، قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا ، أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) الخ ... (٤).

٤ ـ وقال الأربلي : عن معاوية : « وكان بينه وبين الحسن مكاتبات ، واحتج عليه الحسن ، في استحقاقه الأمر ، وتوثب من تقدم على أبيه ، وابتزازه سلطان ابن عمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... » (٥).

وقد كتب عليه‌السلام لمعاوية ، بعد ذكره ، مجاهدة قريش لهم ، بعد وفاة

__________________

١ ـ أمالي المفيد ص ٤٩ وبهج الصباغة ج ٤ ص ٥٦٩.

٢ ـ بهج الصباغة ج ٤ ص ٥٦٩.

٣ ـ ينابيع المودة ص ٤٨٠ وعن الأمالي للطوسي ص ٥٦.

٤ ـ ينابيع المودة ص ٢١ وأمالي المفيد ص ٣٤٩ ومروج الذهب ج ٢ ص ٤٣٢ وحياة الحسن بن علي للقرشي ج ١ ص ١٥٣ وأمالي الشيخ الطوسي ج ١ ص ١٢١ ، وصلح الحسن لآل يس ، ص ٥٩ وعن جمهرة الخطب ج ٢ ص ١٧ عن المسعودي.

٥ ـ كشف الغمة ج ٢ ص ١٦٥.

١٧٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مايلي :

« وقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا ، في حقنا ، وسلطان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله .. إلى أن قال : فأمسكنا عن منازعتهم ، مخافة على الدين : أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به. إلى أن قال : وبعد ، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، لما نزل به الموت ولاَّني الأمر بعده » (١).

٥ ـ وحسبنا أن نذكر هنا : أن أباه أرسله إلى الكوفة ، فعزل أبا موسى الأشعري ، الذي كان يثبط الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. وجاء إلى أبيه بعشرة آلاف مقاتل. وجرت في هذه القضية حوادث مثيرة وهامة ، عبر فيها الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام عن فنائه المطلق في قضية أبيه ، التي هي قضية الإسلام والإيمان ، والتي نذر نفسه للدفاع عنها ، مهما كلفه ذلك من تضحيات (٢).

٦ ـ ثم هناك موقفه عليه‌السلام في تفنيد ما احتج به المعترضون على قضية التحكيم ، حيث أورد بهذه المناسبة احتجاجات هامة ، جديرة بالبحث والدراسة ، وهي تدل على بعد نظره ، وثاقب فكره ، وعمق وعيه لكل الأمور والقضايا .. فلتراجع في مصادرها (٣).

__________________

١ ـ راجع : مروج الذهب ج ٢ ص ٤٣٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٣٤ ومقاتل الطالبيين ص ٥٥ / ٥٦ والفتوح لابن اعثم ج ٤ ص ١٥١ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣١ وحياة الحسن بن علي للقرشي ج ٢ ص ٢٩ والبحار ج ٤٤ ص ٥٤ وصلح الإمام الحسن لآل يس ص ٨٢ والأحمدي عن ناسخ التواريخ ج ٥ ص ٨٤ وعن جمهرة رسائل العرب ج ٢ ص ٩ وعن مكاتيب الأئمة ص ٣ و ٤ و ٧.

وفي بعض تلك المصادر : « ولاني المسلمون الأمر بعده » وراجع : الغدير ج ١٠ ص ١٥٩.

٢ ـ راجع حياة الحسن بن علي للقرشي ، وسيرة الأئمة الاثني عشر ج ١ ص ٥٤٦ / ٥٤٨.

٣ ـ العقد الفريد ج ٤ ص ٣٥٠ والبحار ط قديم ج ٨ ص ٥٦٤ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٣٨ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١٩٣ وحياة الحسن بن علي للقرشي ج ١ ص ٢٦١ و ٢٦٢ وعن جمهرة خطب العرب ج ١ ص ٣٩٢.

١٧٩

٧ ـ وعنه عليه‌السلام : نحن أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ، وعلى لسان نبيه (١).

٨ ـ وقال عليه‌السلام في خطبة له : « إن علياً باب من دخله كان مؤمناً ، ومن خرج عنه كان كافراً » (٢).

٩ ـ وفي موقف له من حبيب بن مسلمة ، قال له : « رُب مسير لك في غير طاعة الله ، فقال له حبيب : أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك ، قال : بلى والله ، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك ، ولو كنت إذ فعلت شراً ، قلت خيراً الخ .. » (٣).

١٠ ـ ولتراجع خطبة الإمام الحسن عليه‌السلام ، التي يُكَّذِب فيها : أن يكون يرى معاوية أهلاً للخلافة. وقد تقدمت إشارة إلى ذلك مع مصادره ، حين الكلام تحت عنوان : « الأئمة في مواجهة الخطة » فلا نعيد.

وحسبنا ما ذكرناه هنا ، فإننا لم لم نقصد إلا إلى ذكر نماذج من ذلك ، ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة كتب الحديث والتاريخ.

ثالثاً : إن تطهير الله سبحانه وتعالى للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه ، وكلمات النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه ، ثم ما عرف عنه عليه‌السلام من أخلاق فاضلة ، وسجايا كريمة .. ليكذب كل ما ينسب إليه صلوات الله وسلامه عليه من أمور وكلمات ؛ مثل قوله : أمرتك ، ونحو ذلك تتنافى مع أبسط قواعد الأدب الإسلامي الرفيع ، والخلق الإنساني الفاضل ، ولا سيما مع أبيه الذي يعرف هو قبل كل أحد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : أنه مع الحق ، والحق معه ، يدور معه حيث

____________

١ ـ نقل ذلك العلامة الأحمدي عن ناسخ التواريخ ج ١ ص ١٠١ ط حجرية وعن البحار باب احتجاجاته عليه‌السلام.

٢ ـ كشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ١٩٨ والبحار ج ٤٣ ص ٣٥٠ و ٣٥١ عن تفسير فرات. ونقل عن ناسخ التواريخ ج ٥.

٣ ـ شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٨.

١٨٠