الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٦

٥ ـ بل إننا نجد بعض المؤلفين في الأصول ، قد عقد باباً في كتابه ، لكون قول الصحابي فيما يمكن فيه الرأي ملحق بالنسبة لغيره ، أي لغير الصحابي .. بالسنة. وقيل : إن ذلك خاص بقول الشيخين : أبي بكر ، وعمر (١).

٦ ـ وحينما أُخبِرَ عمر بقضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرأة التي قتلت أخرى بعمود : « كبّر. وأخذ عمر بذلك ، وقال : لو لم أسمع بهذا لقلت فيه » (٢).

٧ ـ ثم هو يصر على رأيه فيمن تحيض بعد الأفاضة ، رغم إخبارهم إياه بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها (٣).

٨ ـ وفي قصة التكنية بأبي عيسى ، نرى عمر لا يتزحزح عن موقفه ، رغم إخبارهم إياه : بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أذن لهم بذلك ، وتصديق عمر لهم .. لكنه عده ذنباً مغفوراً له صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

٩ ـ وقال عمر بن عبد العزيز : « ألا إن ، ما سنه أبو بكر وعمر ، فهو دين نأخذ به ، وندعو إليه ». وزاد المتقي الهندي : « وما سن سواهما فإنا نرجيه » (٥).

__________________

١ ـ فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى ج ٢ ص ١٨٦ وراجع التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٦٦ / ٣٦٧.

٢ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ٥٧.

٣ ـ الغدير ج ٦ ص ١١١ / ١١٢ عن عدة مصادر.

٤ ـ راجع : سنن أبي داود ج ٤ ص ٢٩١ وسنن البيهقي ج ٩ ص ٣١٠ وتيسير الوصول ط الهند ج ١ ص ٢٥ والنهية لابن الأثير ج ١ ص ٢٨٣ والإصابة ج ٣ ص ٣٨٨ والغدير ج ٦ ص ٣١٩ / ٣١٠ عنهم وعن الأسماء والكنى للدولابي ج ١ ص ٨٥.

٥ ـ كنز العمال ج ١ ص ٣٣٢ عن ابن عساكر وكشف الغمة للشعراني ج ١ ص ٦ والنص له ...

وفي رسالة عمر بن عبد العزيز لأبي بكر ، ومحمد بن عمرو بن حزم : « اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله ، وبحديث عمر ، فإني الخ » سنن الدارمي ج ١ ص ١٢٦. لكن في تقييد العلم ص ١٠٥ و ١٠٦ وهوامش : « أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن » وهي امرأة أنصارية أكثر ما تروى عن عائشة.

وراجع : السنة قبل التدوين ص ٣٢٨ ـ ٣٣٣ ، وتاريخ السنة المشرفة ص ٢٢٦

=

١٠١

وذكر في كنز العمال : أن فتوى عمر تصير سنة.

١٠ ـ وفي حادثة أخرى : نجد عمر لا يرتدع عن مخالفته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى يستدل عليه ذلك الرجل بقوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة ) (١).

١١ ـ وقد رووا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين » (٢).

وبهذا استدل الشافعي على حجية قول أبي بكر وعمر.

مع أن المقصود بالخلفاء الراشدين هو الأئمة الإثنا عشر ، عليهم‌السلام لكن هذا اللقب سرق منهم (ع).

١٢ ـ وعثمان بن عفان يقول : « إن السنة سنة رسول الله ، وسنة صاحبيه » (٣).

١٣ ـ كما أن عبد الرحمن بن عوف يعرض على أمير المؤمنين : أن يبايعه على العمل بسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسنة الشيخين أبي بكر وعمر ، فيأبى عليه‌السلام ذلك ، ويقبل عثمان ، فيفوز بالأمر (٤).

١٤ ـ وخطب عثمان حينما بويع ، فقال : « إن لكم عليّ بعد كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه صلى عليه وآله ثلاثاً : إتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم

__________________

=

و ٢٢٧ وتاريخ الخلفاء ص ٢٤١ والجزء الأول من كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم.

١ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٣٨٢.

٢ ـ راجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٤ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٢ ، وعن كشف الغمة للشعراني ج ١ ص ٦.

٣ ـ سنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ ، والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنه.

ولتراجع رواية صالح بن كيسان والزهري في تقييد العلم ص ١٠٦ / ١٠٧ وفي هامشه عن العديد من المصادر وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ١٣٥.

٤ ـ راجع قصة الشورى في أي كتاب تاريخي شئت ..

١٠٢

عليه ، وسننتم ، وسنّ سنة أهل الخير فيما لم تسنّوا عن ملأ » (١).

١٥ ـ وبعد .. فإن الأمويين يصرون على معاوية : أن يصلي بهم صلاة عثمان بن عفان في منى تماماً ، ويرفضون الاستمرار على صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رغم اعترافهم بذلك ..

وعثمان نفسه يصر على رأيه في مقابل سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رغم اعترافه بأن ذلك رأي رآه (٢).

وقد عرض عثمان على أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يصلي بالناس في منى ، فلم يقبل عليه‌السلام إلا أن يصلي بهم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيأبى عثمان ذلك ، ويأبى هو القبول : « وقد استمر الأمراء على صلاة عثمان فيما بعد ذلك » (٣)!.

١٦ ـ بل إننا لنجد ربيعة بن شداد لا يرضى بأن يبايع أمير المؤمنين عليه‌السلام. على كتاب الله وسنة رسوله ، وقال : على سنة أبي بكر وعمر. فقال له علي عليه‌السلام : « ويلك ، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء الخ .. » (٤).

١٧ ـ وحتى معاوية فإنه يصر على رأيه ، ويرفض الحكم النبوي بشكل

__________________

١ ـ حياة الصحابة ج ٣ ص ٥٠٥ عن تاريخ الطبري ج ٣ ص ٤٤٦.

٢ ـ راجع البداية والنهاية ج ٣ ص ١٥٤ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٥٠٧ / ٥٠٨ عن كنز العمال ج ٤ ص ٢٣٩ عن ابن عساكر والبيهقي ، والغدير ج ٨ ص ١٠١ / ١٠٢ عن المصادر التالية : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ والطبري ج ٥ ص ٥٦ حوادث سنة ٢٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٤٢ والبداية والنهاية جح ٧ ص ١٥٤ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٢ ص ٣٨٦.

٣ ـ راجع : الكافي ج ٤ ص ٥١٨ / ٥١٩ والوسائل ج ٥ ص ٥٠٠ / ٥٠١ وحاشية ابن التركماني ذيل سنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ / ١٤٥ والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنه وعن المحلى ج ٤ ص ٢٧٠ وليراجع الغدير ج ٨ ص ٩٨ ـ ١١٦.

٤ ـ بهج الصباغة ج ١٢ ص ٢٠٣.

١٠٣

صريح (١).

١٨ ـ وحينما ينكر أبو الدرداء على معاوية بعض قبائحه ، ويذكر بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها ، نجده يقول : أما أنا فلا أرى به بأساً (٢).

١٩ ـ وقد كتب ابن الزبير إلى قاضيه يأمره بأن يعمل بفتوى أبي بكر في الجد ، فيجعله أباً لأن النبي صلى عليه وآله قال : لو كنت متخذاً خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر إلى أن قال : « وأحق ما أخذناه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه » (٣).

٢٠ ـ كما أن عطاء قد استدل بقضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العُمْرَى ، فاعترض عليه رجل ـ وقد صرحت بعض النصوص بأنه : الزهري!! ـ بقوله : «لكن عبد الملك بن مروان لم يقض بهذا » أو قال : « إن الخلفاء لا يقضون بذلك » فقال : بل قضى بها عبد الملك في بني فلان (٤) ..

٢١ ـ واعترض البعض على مروان : بانه أخرج المنبر ، ولم يكن يخرج ، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، وجلس في الخطبة. فقال له مروان : « إن تلك السنة قد تركت » (٥).

٢٢ ـ بل لقد بلغ بهم الأمر : أن ادعى البعض : أن من خالف الحجاج فقد

__________________

١ ـ راجع : المصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٢٠١.

٢ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ١٣٠ والموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج ٢ ص ١٣٥ ، وسنن البيهقي ج ٥ ص ٢٨٠ وسنن النسائي ج ٧ ص ٢٧٧ ، واختلاف الحديث للشافعي بهامش الأم ج ٧ ص ٢٣ والغدير ج ١٠ ص ١٨٤ عن بعض من تقدم.

٣ ـ مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٤ وراجع ص ٥.

٤ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٩ ص ١٨٨ وسنن البيهقي ج ٦ ص ١٧٤.

٥ ـ لسان الميزان ج ٦ ص ٨٩.

١٠٤

٢٣ ـ وعن ابن عباس : السنة سنتان : من نبي ، أو من إمام عادل (١).

٢٤ ـ وقضية إمضاء عمر للطلاق ثلاثاً ، لأنهم استعجلوا ذلك تدل على أنه كان يرى أن لهم الحق في ذلك (٢).

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه (٣).

هذا كله .. عدا عن ادعائهم :

نزول الوحي على الخلفاء ،

وأفضلية الخليفة على الرسول ،

ونزول الوحي على الحجاج ، والخلفاء وغير ذلك ..

ولقد صدق أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما قال في كتابه للأشتر : « فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ، يعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا » (٤).

الأئمة عليهم‌السلام في مواجهة الخطة :

إنما نتحدث هنا عن موضوع مواجهة هذه الخطة بمقدار ما يرتبط بمواقف الإمام الحسن عليه‌السلام منها .. وإن كانت الأساليب التي اتبعها الأئمة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة.

وقد تقدم بعض ما يرتبط بمواقف الأئمة عليهم‌السلام من قضية التمييز

__________________

١ ـ كنز العمال ج ١ ص ١٦٠.

٢ ـ راجع : تفسير القرآن العظيم ( الخاتمة ) ، ج ٤ ص ٢٢ والغدير ج ٦ ص ١٧٨ ـ ١٨٣ عن مصادر كثيرة.

٣ ـ راجع أيضاً المصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٢٥٨ / ٢٥٩ و ج ٨٨ و ٤٧٥ / ٤٧٦ وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ١٣٤ ـ ١٣٦.

٤ ـ راجع عهد الأشتر في نهج البلاغة ، بشرح عبده ج ٣ ص ١٠٥ وعهد الاشتر موجود في كثير من المصادر.

١٠٥

العنصري البغيض ، وتقدم كذلك بعض اللمحات عن موقف أمير المؤمنين وغيره من الأئمة ، ومنهم الإمام الحسن عليه‌السلام من قضية الحديث والرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

وحيث إننا لا نستطيع الإلمام ـ في عجالة كهذه ـ بكل ما يرتبط بمواقف الأئمة الهادفة إلى إفشال تلك الخطة ، لأن ذلك يستدعي تأليف كتاب مستقل ، وقد لا يكفي له العديد من المجلدات .. وبما أن أهم عنصر تستهدفه تلك الخطة هو عنصر الإمامة والخلافة ، والأحقية بالأمر. وبمعالجتها ، واتخاذ الموقف الصحيح منها ، لا يبقى لمجمل تلك الخطة تأثير يذكر ، ولا خطر يخاف. ـ من أجل ذلك .. فإننا سوف نقتصر هنا على الإشارة إلى لمحات من مواقفهم عليهم‌السلام ـ وبالأخص موقف الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ـ من هذه القضية بالذات .. فنقول :

قضية الإمامة هي الأساس :

ليس خافياً على أحد مدى خطورة النتائج التي سوف تتمخض عنها تلك السياسة ، التي تقدمت لمحات خاطفة وسريعة عن بعض خيوطها وفقراتها .. سواء على الإسلام ، أو على المسلمين ، في الحاضر ، أو في المستقبل. والأخطار المستقبلية هي الأعظم ، وهي الأدهى .. وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث معروف : بأن في كل خلف عدول ينفون عنه ( أي عن الإسلام ) تحريف الغالين.

وقد عودنا الأئمة عليهم‌السلام : أنهم باستمرار يعيشون بالقرب من الأحداث ، ويتواجدون دائماً وأبداً في صميمها وفي العمق منها ، حتى إن المطالع للتاريخ ليجد ـ نتيجة لذلك التواجد ـ أن قضايا أهل البيت بصورة عامة ، وقضية أحقيتهم بالأمر ، وإمامتهم على الخصوص ، تبقى على الدوام محتفظة بحيويتها وعمقها في ضمير الأمة وفي وجدانها.

وأن كل صراع ، فإنما له ارتباط مباشر أحياناً ، أو غير مباشر أحياناً أخرى بهذه القضية بالذات ، حتى ليصرح الشهرستاني بقوله :

١٠٦

« وأعظم خلاف بين الأمَّة خلاف الإمامة ، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان .. » (١).

وقد رأينا أن تلك الخطة الملعونة التي أسلفنا الإشارة إليها ، إنما كانت تستهدف بالدرجة الأولى قضية الإمامة بالذات ، الأمر الذي يعني : أن الخصوم قد أدركوا مدى خطورة هذه القضية ، على مجمل خطهم ، على المدى البعيد ..

كما أننا نجد في المقابل : أن تواجد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على الساحة ، ورصدهم الأحداث بدقة ووعي ، وإحساسهم العميق بالمسؤولية الإلهية والإنسانية الملقاة على عواتقهم تجاه هذه السياسة ، التي رأوا فيها خطراً داهماً ، يتهدد كيان الإسلام ومصيره على المدى البعيد .. إن كل ذلك لم يترك لهم أي خيار ، سوى خخيار المواجهة لهذه السياسة ، والعمل على إفشالها ، فإن ذلك واجب شرعي ، ومسؤولية إلهية ، لا يمكن التساهل ولا التواني فيها على الإطلاق : إذ على حد تعبير العبد الصالح حجر بن عدي الكندي : « إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب » (٢).

نعم .. وقد أدوا عليهم الصلاة والسلام ، وشيعتهم الأبرار وضوان الله تعالى عليهم واجباتهم على أكمل وجه في هذا المجال ، وفي كل مجال .. وبذلوا جهوداً جبارة ، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر ، والاضطهاد والبلاء ، نتيجة لمواقفهم ومواجهاتهم تلك .. وبذلوا مهجهم الغالية في هذا السبيل ..

وذلك لأن قضية الإمامة بنظرهم هي قضية الإسلام الكبرى ، وعلى أساس الاعتقاد بها يتحدد اتجاه الإنسان ، وخطه الفكري ، ثم السياسي ، بل وحتى الاجتماعي في الحياة. فهي المنطلق والأساس لكل المفاهيم ، والاعتقادات ، والقضايا التي يؤمن بها ، والمواقف التي يتخذها ، والمصير الذي ينتهي إليه ـ.

وعلى هذا الأساس ، فإننا نجد الأئمة عليهم‌السلام على استعداد للاستفادة

__________________

١ ـ الملل والنحل ج ١ ص ٢٤.

٢ ـ البداية والنهاية ج ٨ ص ٥١.

١٠٧

من عنصر التقية الإيجابية البناءة ، وإيثار الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية ، على حد تعبير الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام (١) وهو يؤبن أخاه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه.

ـ إنهم عليهم‌السلام يستفيدون من عنصر التقية في كل القضايا ، باستثناء قضية الإمامة ، وشؤونها .. لأنهم أدركوا : أن التقية من شأنها أن تحفظ كل تلك القضايا .. إلا قضية الإمامة ، وأحقيتهم بالأمر ، فإنها يمكن أن تضيعها ..

وإذن .. ومن أجل درء الخطر الذي يتهدد كيان الإسلام ووجوده من الأساس .. فقد كان لا بد من بذل المهج ، وخوض اللجج ، من أجل أن ( يحق الله الحق بكلماته ، ولو كره المجرمون ) (٢) ..

ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الكاظم عليه‌السلام : السلام عليك يا أبة ، وذلك حينما جاء الرشيد إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : السلام عليك يا ابن عم ، في محاولة منه لإظهار : أن خلافته تتسم بالشرعية ، لاتصاله نسباً به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونه ابن عمه ـ وقد نشأ عن هذا الموقف اعتقال الإمام موسى الكاظم عليه الصلاة والسلام وإيداعه السجن ، حيث قضى عليه‌السلام مسموماً ، شهيداً ، صابراً ، محتسباً ـ.

وحتى حينما يضطر الإمام الحسن عليه‌السلام للصلح مع معاوية ، إيثاراً

__________________

١ ـ راجع : تهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٣٠ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٣١٤ ، وحياة الحسن بن علي عليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ٤٣٩ عنه ، وليراجع حول التقية كتابنا : الصحيح من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤٦.

وكلمات الإمام الحسين عليه‌السلام عند قبر أخيه ـ حسب نص ابن قتيبة هي : « رحمك الله أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحق مظانَّة ، وتؤثر الله عند تداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة ، ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى روح وريحان وجنة نعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه ».

٢ ـ سورة يونس : آية ٨٢.

١٠٨

لطاعة الله في مداحض الباطل ، في مكان التقية ، فإنَّه يحسن الرَّوية ، ويهتم في أن لا يقدم تنزلاً في قضية الإمامة ـ وإن توهم ذلك ابن قتيبة ـ ولا في قضية الخلافة ـ وإن توهم ذلك آخر ـ وإنما تنازل عن الأمر (١) .. وإنما يقصد معاوية من الأمر : الأمرة والملك ، فإنه لم يقاتلهم ليصموا ولا ليصلوا ، « وإنما ليتأمر عليهم » أو « ليلي رقابهم »!! كما قال (٢).

ويقول معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسن عليه‌السلام : « رضينا بها ملكاً » (٣).

وقد عبَّر عن ذلك هو وغيره في عدة مناسبات (٤).

وكان معاوية يقول عن نفسه : « أنا أول الملوك » (٥).

كما أن سعد بن أبي وقاص يقول لمعاوية : «السلام عليك أيها الملك»(٦).

والإمام الحسن عليه‌السلام يقول مشيراً إلى ذلك : « ليس الخليفة من سار بالجور ، ذاك ملك ملكاً يتمتع به قليلاً ، ثم تنقطع لذته ، وتبقى تبعته .. » (٧).

هذا .. وقد اشترط عليه : السلام على معاوية أن لا يقيم عنده شهادة!! وأن لا يسميه « أمير المؤمنين » (٨). الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ما ذكرناه..

وليس موقف الإمام الحسن عليه‌السلام هنا ، وتعبيره بكلمة : « الأمر » ،

__________________

١ ـ الإمام الحسن لآل يس ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢ وعن الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥٠ و ١٥٦ وعن الصواعق المحرقة ص ٨١.

٢ ـ راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٥ و ٤٦ ومقاتل الطالبيين.

٣ ـ البداية والنهاية ج ٦ ص ٢٠٠.

٤ ـ الإمام الحسن بن علي لآل يس ص ١١٠ ـ ١١٤ عن المصادر التالية : تاريخ الطبري ج ٥ ص ٥٣٤ و ٥٣٦ / ٥٣٧ والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٢٠٥ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٢١ و ٢٢٠ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٨٣ ومروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٠.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٣٢.

٦ ـ المصنف ج ١ ص ٢٩١.

٧ ـ تقدمت المصادر لذلك.

٨ ـ البحار ج ٤٤ ص ٢ وليراجع كلام الصدوق رضوان الله تعالى عليه في البحار ج ٤٤ ص ٢ ـ ١٩ وفي علل الشرايع ج ١ ص ٢١٢ فما بعدها ..

١٠٩

واشتراطه ماذكر .. إلا كتعبير النبي صلى عليه وآله عن حاكم الروم بـ « عظيم الروم » ، وعن حاكم القبط والفرس بـ « عظيم القبط » (١) و« عظيم فارس » (٢). ولم يقل : ملك الروم ، ولا ملك القبط وفارس ، لئلا يكون ذلك تقريراً لملكهما.

وما يدل على ذلك في كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام وغيره من الأئمة ، كثير ، لا مجال لتتبعه ..

فالإمام الحسن عليه‌السلام لم يستعمل التقية في أمر الأمامة ، وإنما سلَّم إلى معاوية الأمر النيوي الذي أُشيرَ إليه بقوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ). وهو حكم الدنيا وسلطانها ، والملك المحض ، ولم يعترف له بالإمامة الدينية والبيعة ، والخلافة الشرعية (٣).

هذا .. وقد صرح الإمام الحسن عليه‌السلام في كتبه وخطبه ، بأنه لم يكن يرى معاوية للخلافة أهلاً ، وإنما صالحه من أجل حقن دماء المسلمين ، وحفاظاً على شيعة أمير المؤمنين .. بل لقد قال له فور تسليمه الأمر إليه :

« إن معاوية بن صخر زعم إني رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية. وأيم الله ، لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله ، وعلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين ، مضطهدين ، منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا الخ » (٤).

وقد كتب له أيضاً فور البيعة له عليه‌السلام : « فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله » (٥).

__________________

١ ـ راجع التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٤٢.

٢ ـ كنز العمال ج ٤ ص ٢٧٤.

٣ ـ راجع : الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص ١١٠ و ١١٤ وعن شرح نهج البلاغة ..

٤ ـ أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ١٧٢ والاحتجاج ج ٢ ص ٨ والبحار ج ٤٤ ص ٢٢ و ٦٣ و ج ١٠ ص ١٤٢ وبهج الصباغة ج ٣ ص ٤٤٨.

٥ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٣٤ وستأتي بقية المصادر حين الكلام تحت

=

١١٠

وسيأتي قوله عليه‌السلام : « نحن أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ، وعلى لسان نبيه ». ومثل ذلك كثير عنه.

هذا .. وقد تمدَّحه أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام على استعماله التقية ، وعلى حسن رويّته فيها ، كما تقدم ..

كما أنه حينما ذُكر له عدم استجابة الإمام الحسن عليه‌السلام لمن دعاه للثورة على معاوية بعد الصلح ، قال عليه‌السلام : « صدق أبو محمد ، فليكن كل رجل منكم من أحلاس بيته ، ما دام هذا الإنسان حياً » (١).

كما أنه بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام ، يدافع عن موقف أخيه في قضية الصلح ، في رسالة منه لأهل الكوفة ، ويأمرهم بالسكون إلى أن يموت معاوية (٢).

بل إن الإمام الحسن عليه‌السلام نفسه يعتبر صلحه مع معاوية خيراً من ألف شهر ، فقد سئل مرة عن أسباب صلحه مع معاوية ، فأجاب : ليلة القدر خير من ألف شهر (٣) ..

وما ذلك إلا لأن صلحه هذا قد فضح الأمويين ، وفضح معاوية بالذات ، وجعله يعلن عن أهدافه الشريرة ، وفوت عليهم الفرصة لهدم الإسلام ، والقضاء على أهل البيت وشيعتهم (٤). ومهد الطريق لثورة الإمام الحسين ، ثم إلى زوال الحكم الأموي البغيض ، وإلى الأبد ..

مواقف هامة :

وبعد .. فإننا نرى : أن مما يدخل في مجال العمل على إفشال تلك الخطة

__________________

= عنوان : هل كان الإمام الحسن عليه‌السلام عثمانياً حين ذكر الشواهد على أنه كان مدافعاً قوياً عن حق أبيه في النموذج رقم ٤.

١ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢١ وراجع ص ٢٢٠.

٢ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢٢.

٣ ـ الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص ١٤٩.

٤ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢٠ و ٢٢١ والبحار ج ٤٤ ص ٢ وغير ذلك كثير.

١١١

أيضاً ، وإبقاء حق أهل البيت عليهم‌السلام ، وقضيتهم حية في ضمير الأمة ووجدانها ، بالإضافة إلى ما تقدم من تأكيدات الإمام الحسن عليه‌السلام على بنوته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى أنه من أهل البيت ، الذين افترض الله طاعتهم إلى آخر ما تقدم.

ـ إن مما يدخل في هذا المجال : وصيته عليه‌السلام بأن يدفن عند جده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع علمه بعدم رضا عائشة والأمويين بذلك ، حسبما أشار إليه هو نفسه عليه‌السلام في وصيته تلك ، وصدقته الوقايع التالية (١) وكان ذلك هو السبب في ضرب الجدار على القبر الشريف (٢) ، فإن تلك الوصية لم تكن إلا

__________________

١ ـ راجع : البحار ج ٤٤ ص ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٦ و ١٤٣ و ١٤١ و ١٤٢ و ١٥٤ عن عيون المعجزات ، والمعتزلي ، والكافي ، وعلل الشرايع ، وأمالي المفيد ، والخرايج والجرايح ، وغير ذلك ، والفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٢٠٧ / ٢٠٨ عن الترجمة الفارسية ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٤ ، وأمالي الشيخ الطوسي ج ١ ص ١٦١ وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٢٥والخرايج والجرايح ص ٢٢٣ وتذكرة الخواص ص ٢١٣ ومقاتل الطالبيين ص ٧٤ و ٧٥ والأخبار الطول ٢٢١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٤ و ١٥ و ٥٠ / ٥١ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ٢٢٥ وكتاب الفتن لنعيم بي حماد ( مخطوط ) الورقة ٤٠ ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٢٩ / ٢٣٠ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص ٣٢ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ وصلح الحسن لآل يس ص ٣٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٧٨ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٣٩ وكشف الغمة للاربلي ج ٢ ص ٢١١ و ٢١٢ والإرشاد للمفيد ص ٢١٢ و ٢١٣ وحليم أهل البيت الإمام الحسن بن علي ص ٢٥٢ و ذخائر العقبى ص ١٤٢ وإثبات الوصية ص ١٦٠ والاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٣٧٧ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٦٢ و ٦٠ و ٦١ و ٦٤ و ٦٥ غن تاريخ ابن عساكر ج ١٢ ص ٦٣ و ج ٦٤ ص ٩٩ وغيرها ، ونقل عن إثبات الهداة ج ٥ ص ١٧٠ وعن الكافي ج ١ ص ٣٠٤ وعن الخرايج وعن نظم درر السمطين ص ٢٠٣ والغدير ج ١١ ص ١٤.

٢ ـ وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ عن الكازروني شارح المصابيح.

وقال : إنه سأل جمعاً من العلماء فذكر له بعضهم ذلك.

١١٢

لإظهار صلته بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي يجهد الأمويون وأعوانهم لقطعها وطمسها. كما أن هذه الوصية تهدف إلى التأكيد على أنهم عليهم‌السلام مظلومون مقهورون ، مغتصبة حقوقهم ، منتهب براثهم ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( أرى تراثي نهباً ) (١).

بالأضافة إلى تعريف الناس على ما يكنه أولئك الحكام وأعوانهم من حقد وكره لأهل بيت النبوة ، الذين أمر الله ورسوله مراراً وتكراراً ليس فقط بمحبتهم ، وإنما « بمودتهم أيضاً » (٢).

انزل عن منبر أبي :

ومما يدخل في هذا المجال أيضاً موقف آخر ، هام جداً للإمام الحسن عليه‌السلام في مقابل أبي بكر ، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر ، فقال له :

انزل عن منبر أبي.

فأجابه أبو بكر : صدقت. والله ، إنه لمنبر أبيك ، لا منبر أبي. فبعث علي إلى أبي بكر : إنَّه غلام حدث ، وإنا لم نأمره. فقال أبو بكر : إنا لم نتهمك (٣).

__________________

١ ـ الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

٢ ـ راجع بحث : الحب في التشريع الاسلامي في كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ٢ للمؤلف.

٣ ـ راجع : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٨٠ و ١٤٣ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤١ عن أبي نعيم ، وغيره ، وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٦ /٢٧ بسند صحيح عندهم والصواعق المحرقة ص ١٧٥ عن الدار قطني ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٠ عن فضائل السمعاني ، وأبي السعادات ، وتارسخ الخطيب ، وسير الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٥٢٩ ، وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٢٣ عن الدارقطني ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٢ / ٤٣ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ٩٣ وينابيع المودة ص ٣٠٦ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٩٤ عن الكنز وأبي سعد وأبي نعيم والجابري في جزئه والغدير ج ٧ ص ١٢٦ عن السيوطي ، وعن الرياض النضرة ج ١

=

١١٣

وليتأمل قوله عليه‌السلام : إنا لم نأمره. فإنه لا يتضمن إنكاراً على الإمام الحسن عليه‌السلام ، ولا إدانة لموقفه.

ولقد صدق أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ؛ فلم يكن الإمام الحسن عليه‌السلام يحتاج إلى أمر ، فلقد أدرك خطة الخصوم بما آتاه الله من فضله ، وبإحساسه المرهف ، وفكره الثاقب. وهو الذي عايش الأحداث عن كثب ، بل كان في صميمها.

وإذن .. فمن الطبيعي أن يدرك : أن عليه فيه مسؤولية العمل على إفشال تلك الخطة ، وإبقاء حق أهل البيت وقضيتهم على حيويتها في ضمير ووجدان الأمة. وكان علي وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحتاط للأمر ، حتى لا تحدث تشنجات حادة ، ليس من مصلحة القضية ، ولا من مصلحة الإسلام المساهمة في حدوثها في تلك الظروف.

والإمام الحسين أيضاً :

ولا عجب إذا رأينا للإمام السبط الشهيد الحسين عليه‌السلام موقفاً مماثلاً تماماً مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب .. ونجد أن عمر قد أخذه إلى بيته ، وحاول تقريره : إن كان أبوه أمره بهذا ، أو لا. فأجابه عن ذلك بالنفي.

وبعض الروايات تقول : إنه سأله عن ذلك في نفس ذلك الموقف أيضاً ، فنفى ذلك. فقال عمر : منبر أبيك والله ، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم (١)

__________________

=

ص ١٣٩ ، وعن كنز العمال ج ٣ ص ١٣٢. وحياة الحسن للقرشي ج ١ ص ٨٤ عن بعض من تقدم. والاتحاف بحب الأشراف ص ٢٣.

١ ـ راجع : مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٤٥، والإصابة ج ١ ص ٣٣٣ وقال سنده صحيح وأمالي الطوسي ج ٢ ص ٣١٣ /٣١٤ وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٢٣ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٩٥ عن كنز العمال ج ٧ ص ١٠٥ عن ابن كثير

=

١١٤

فأبو بكر لم يكن يرى : أن اتهام أمير المؤمنين في قضية الإمام الحسن من صالحه .. أما عمر .. الذي رأى أنه قد أصبح قوياً في الحكم ، وقد تكرس الموقف لصالح غير أهل البيت على الصعيد السياسي .. عمر هذا ـ يهتم بالتعرف على مصدر هذه الأرهاصات ، ليعمل على القضاء عليها قبل فوات الأوان ، مادام يملك القدرة على ذلك بنظره.

لقد كانت مواقف الحسنين هذه تعتبر تحدياً عميقاً للسلطة ، في أدقِّ وأخطر قضية عملت من أجل حسم الأمور فيها لصالحها ، ورأت أنها قد وفقت في مقاصدها تلك إلى حدٍ بعيد .. فجاءت هذه المواقف لتهز من الأعماق ما كاد يعتبر ، أو قد اعتبر بالفعل من الثوابت الراسخة.

والحسنان هما ذانك الفرعان من دوحة الإمامة ، وغرس الرسالة ، اللذان يفهمان الظروف التي تحيط بهما ، ويقيمانها التقييم الصحيح والسليم ، ليتخذا مواقفهما على أساس أنها وظيفة شرعية ، ومسؤولية إلهية.

أما التكليف الشرعي ، والموقف الذي لأبيهما ، فهو وإن كان في ظاهره

__________________

=

وابن عساكر وابن سعد وابن راهويه والخطيب والصواعق المحرقة ص ١٧٥ عن ابن سعد ، وغيره، والاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ١٣ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٠ ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤١ ، وكشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ٤٢ ، وحياة الحسن للقرشي ج ١ ص ٨٤ ، والإمام الحسن للعلايلي ص ٣٠٥ عن الإصابة ، وصححه ، وينابيع المودة ص ١٦٨ ، وتذكرة الخواص ٢٣٥ ، وسيرة الأئمة الاثني عشر للحسني ج ٢ ص ١٥ وكفاية الطالب ص ٢٢٤ عن مسند احمد ، وابن سعد وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٣٢٤ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٣٤٦ وصححه ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٣ ص ٣٦٩ وهامش أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٢٧ عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١٣ ص ١٥ ، أو ١١٠ بعدة أسانيد ، وترجمة الإمام الحسين من تاريخ دمشق بتحقيق المحمودي ص ١٤١ و ١٤٢ وفي هامشه عن ابن سعد ج ٨ في ترجمة الإمام الحسين وعن كنز العمال ج ٧ ص ١٠٥ عن ابن راهويه وغيره والغدير ج ٧ ص ١٢٦ عن ابن عساكر.

١١٥

مختلفاً هنا ، إلا أنه ولا شك يخدم نفس الهدف ، ويسير في نفس الإتجاه ، حسبما ألمحنا إليه.

الحسنان .. وأذان بلال :

ولعلنا لا نبعد كثيراً إذا قلنا : إن قضية أذان بلال كانت كذلك تخدم نفس الهدف ، وتسير في نفس الاتجاه الذي توخياه صلوات الله وسلامه عليهما من موقفيهما من أبي بكر وعمر ، حسبما تقدمت الإشارة إليه ..

ومجمل تلك القضية هو : أن بلالاً كان في الشام ، فقدم إلى المدينة لزيارة قبر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لرؤيا رآها.

وفيما هو يناجيه ، وإذا بالحسن والحسين قد أقبلا لزيارة جدهما وأمهما ، فلما رآهما تجددت أحزانه ، وأقبل إليهما يضمهما إلى صدره ، ويقول : كأني بكما رسول الله.

والتفتا إليه ، وقالا : إذا رأيناك ذكرنا صوتك ، وأنت تؤذن لرسول الله ، ونشتهي أن نسمعه الآن بعد غيابك الطويل.

وانطلق بلال من ساعته إلى سطح المسجد ، تلبية لرغبة السبطين ، فأجهش بالبكاء ، وانطلق صوته من ناحية المسجد إلى كل بيت في المدينة : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فهز المشاعر ، وارتجت المدينة من أصوات الباكين.

ومضى الذهبي يقول : فلما قال بلال : أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهن ، وظن الناس أنَّ رسول الله قد بعث من قبره. وما رؤي يوم أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم (١).

__________________

١ ـ تهذيب تاريخ دمشق ج ٢ ص ٢٥٩ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٥٨ وسيرة الأئمة

=

١١٦

وهذه القضية هي غير قضية أذان بلال ، بطلب من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وذلك لأن الأذان الذي كان بطلب من الحسنين عليهما‌السلام إنَّما كان بعد وفاتها ، كما نصت عليه الرواية آنفاً (١).

ومهما يكن من أمر ، فإن السياسة قد كانت تتجه إلى تناسي ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمنع من حديثه ومن العمل بسنته (٢) وجعل ذكره مجرد أمر روتيني لا أكثر ، فجاءت هذه الهزة لتعيد الربط العاطفي والشعوري بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون ذلك بمثابة إدانة للتوجه العام تجاه الرسول وكل ما يرتبط به.

الإمام الحسن عليه‌السلام وأسئلة الأعرابي :

وإذا كانت الإمامة تقوم على ركنين رئيسين ، أحدهما : النص ، والآخر : العلم. فإننا نجد الأئمة عليهم‌السلام يهتمون بإظهار هذا النص ، والتركيز عليه باستمرار. وقد رأينا الإمام الحسن عليه‌السلام يهتم بهذه الناحية ، في كثير من أقواله ومواقفه ، فلقد ذكر في خطبه : أنهم هم الذين افترض الله طاعتهم ، وأنهم أحد الثقلين ، واستدل بحديث الغدير ، وبالأعلمية (٣) وغير ذلك.

وكان هذا دأب الأئمة عليهم‌السلام وشيعتهم الأبرار بصورة عامة ، حتى لقد رأينا الإمام علياً عليه‌السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في رحبة

__________________

=

الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني ج ١ ص ٥٣١ / ٥٣٢ وراجع : أُسد الغابة ج ١ ص ٢٠٨ ، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٢٣٩.

١ ـ راجع قاموس الرجال ج ٢ ص ٢٣٩ / ٢٤٠.

٢ ـ راجع : كتاب الصحيح من سيرة النبي ج ١ ، الطبعة الثانية.

٣ ـ راجع : الغدير ج ١ ص ١٩٨ عن ابن عقدة ومروج الذهب ج ٢ ص ٤٣١ و ٤٣٢ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ١١ و ١٢ وينابيع المودة ص ٤٨٢.

١١٧

الكوفة وغيرها (١).

والإمام الحسين عليه‌السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في منى (٢) .. إلى غير ذلك من مواقف لا مجال لتتبعها هنا.

وكذلك الحال بالنسبة إلى العلم ، فإنهم عليهم‌السلام ما فتئوا يؤكدون على أنهم هم ورثة علم رسول الله صلى عليه وآله ، وعندهم الجفر ، والجامعة ، وغير ذلك (٣) ..

وقد رأينا : أن الإمام علياً عليه‌السلام يهتم في إثبات صفة علم الإمامة للإمام الحسن عليه‌السلام منذ طفولته .. حتى ليصبح إطلاعه على تلك العلوم ، التي لم ينل الآخرون منها شيئاً دليلاً على إمامته عليه آلاف التحية والسلام ..

ويلاحظ : أن أمير المومنين عليه‌السلام يهتم في إظهار ذلك لخصوص أولئك الذين استأثروا بالأمر ، وأقصوا أصحاب الحق الحقيقيين عن حقهم الذي جعله الله تعالى لهم ، وما ذلك إلا ليؤكد لهم ، ولكل أحد على أنهم ليسوا أهلاً لما تصدّوا له ، فضلاً عن أن يكون لهم أدنى حق فيه ..

وقد اتبع عليه‌السلام في صياغة الحدث أسلوباً من شأنه أن يتناقله الناس ، ويتندروا به في مجالسهم .. إذ أن إجابة طفل لم يبلغ عمره العشر سنوات على أسئلة عويصة وغامضة ، لأمر يثير عجبهم ، ويستأثر باهتمامهم.

__________________

١ ـ راجع : الغدير ج ١ ودلائل الصدق ج ٣ وغير ذلك كثير ..

٢ ـ راجع : الغدير ج ١ ودلائل الصدق ج ٣ وغير ذلك كثير ..

٣ ـ راجع مكاتيب الرسول ج ١ ص ٥٩ حتى ص ٨٩ فقد أسهب القول حول هذه الكتب واستشهادات الأئمة بها ، وغير ذلك.

ومن الطريف في الأمر : أننا وجدنا العباسيين يحاولون أن يدَّعوا : أن عندهم صحيفة الدولة ، ولكنها تنتهي إلى محمد بن الحنفية ، ثم إلى علي عليه‌السلام. وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا عليه‌السلام ..

بل لقد حاول الأمويون أن يدَّعوا مثل ذلك أيضاً راجع : محاضرات الراغب ج ٢ ص ٣٤٣.

١١٨

فقد ذكر القاضي النعمان في شرح الأخبار ، بإسناده عن عبادة بن الصامت ، ورواه جماعة عن غيره : أن أعرابياً سأل أبا بكر ، فقال : إني أصبت بيض نعام ، فشويته ، وأكلته وأنا مُحرم ، فما يجب عليّ؟

فقال له : يا أعرابي ، أشكلت عليّ في قضيتك. فدلهّ على عمر ، ودلَّه عمر على عبد الرحمن بن عوف. فلما عجزوا قالوا : عليك بالأصلع.

فقال أمير المؤمنين : سل أي الغلامين شئت. ( وأشار إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام ).

فقال الحسن : يا أعرابي ، ألك إبل؟

قال : نعم.

قال : فاعمد إلي عدد ما أكلت من البيض نوقاً ، فاضربهن بالفحول ، فما فصل منها فأهده إلى بيت الله العتيق الذي حجبت إليه.

فقال أمير المؤمنين : إن من النوق السلوب. ومنها ما يزلق (١).

فقال : إن يكن من النوق السلوب وما يزلق ، فإن من البيض ما يمرق (٢).

قال : فسمع صوت : أيها الناس ، إن الذي فهًّم هذا الغلام هو الذي فهًّمها سليمان بن داود (٣).

__________________

١ ـ الناقة السلوب : التي مات ولدها ، أو القته لغير تمام ، وأزلقت الفرس : أجهضت ، أي ألقت ولدها قبل تمامه..

٢ ـ مرقت البيضة : فسدت.

٣ ـ المناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٥٤ / ٣٥٥ و ٣٣٥ عنه وعن العدد ، وحياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ٨٦ / ٨٧.

وقد ذكر القضية لكن بدون إحالة السؤال على الإمام الحسن كل من : ذخائر العقبى ص ٨٢ وإحقاق الحق ج ٨ ص ٢٠٧ وفرائد السمطين ج ١ ص ٣٤٢ / ٣٤٣ والغدير ج ٦ ص ٤٣ عن بعض من تقدم ، وعن كفاية الشنقيطي ص ٥٧ والرياض النضرة ج ٢ ص ٥٠ و ١٩٤ وفي هامش ترجمة أمير المؤمنين لابن عساكر ج ٤٩ ص ٨٣ ، أو ٤٩٨ ترجمة محمد بن الزبير.

١١٩

وثمة قضية أخرى ، وهي قضية ذلك الذي أقرّ على نفسه بالقتل ، حينما رأى : أن بريئاً سيقتل ، فحكم عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام بعدم وجوب القَود ، فإنه إن كان قتل فعلاً ، فقد أحيا نفساً ، و من أحيا نفساً ، فلا قَوَد عليه.

قال ابن شهرآشوب : « وفي الكافي والتهذيب : أبو جعفر : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سأل فتوى ذلك الحسن ، فقال : يطلق كلاهما ، والدية من بيت المال. قال : ولم؟ قال : لقوله : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً » (١).

وهناك أيضاً أسئلة الإمام عليه‌السلام لولده الإمام الحسن عليه‌السلام عن السداد ، والشرف ، والمروّة ، وغير ذلك من صفات .. فأجاب عنها ، فلتراجع (٢).

وأيضاً .. فهناك أسئلة ذلك الرجل عن الناس ، أشباه الناس ، وعن النسناس ، فأحاله الإمام على ولده الإمام الحسن عليه‌السلام : فأجابه عنها (٣).

وسأل أمير المؤمنين عليه‌السلام ولده الإمام الحسن عليه‌السلام : كم بين الإيمان واليقين؟ قال : أربع أصابع. قال : كيف ذلك؟ قال : الإيمان كل ما سمعته أذناك الخ (٤) ..

وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فسأله عن الرجل ، إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه الأعمام

__________________

١ ـ المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ١١. والآية في سورة المائدة آية ٣٤.

٢ ـ راجع : نور الأبصار ص ١٢١ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٤ ص ٢٢٠ / ٢٢١ وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣٦ والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣٩ وحياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٤٠ وكشف الغمة ج ٢ ص ١٩٤ / ١٩٥ ، والفصول المهمة للمالكي ١٤٤ ومعاني الأخبار ص ٢٤٣ و ٢٤٥ وتحف العقول ص ١٥٨ / ١٥٩ وعن شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٢٥٠ وعن البحار ج ١٧ وعن إرشاد القلوب للديلمي ج ١ ص ١١٦ وعن مطالب السؤل.

٣ ـ تفسير فرات ص ٨ وعن البحار ج ٧ ص ١٥٠ ط عبد الرحيم.

٤ ـ العقد الفريد ج ٦ ص ٢٦٨ وليراجع البحار ج ٤٣ ص ٣٥٧.

١٢٠