بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف فأذكره ولده وزوجته حتى يولي وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها (١).

١٧٠ ـ وعن أنس قال : إن نوحا لما ركب السفينة أتاه إبليس فقال له نوح من أنت قال أنا إبليس قال فما جاء بك قال جئت تسأل لي ربك هل لي من توبة فأوحى الله إليه أن توبته أن يأتي قبر آدم فيسجد له قال أما أنا لم أسجد له حيا أسجد له ميتا قال فاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٢).

١٧١ ـ وعن جنادة بن أبي أمية قال : أول خطيئة كانت الحسد حسد إبليس آدم أن يسجد له حين أمره فحمله الحسد على المعصية (٣).

١٧٢ ـ وعن قتادة قال : لما هبط إبليس قال آدم أي رب قد لعنته فما علمه قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته (٤) قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين مجلسه قال الأسواق قال فما صوته قال المزمار قال فما مصايده قال النساء (٥).

١٧٣ ـ وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إبليس لربه تعالى يا رب قد أهبط آدم وقد علمت أنه سيكون كتب ورسل فما كتبهم ورسلهم قال رسلهم الملائكة والنبيون وكتبهم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قال فما كتابي قال كتابك الوشم وقراءتك الشعر ورسلك الكهنة وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه وشرابك كل مسكر وصدقك الكذب وبيتك الحمام ومصايدك النساء ومؤذنك المزمار ومسجدك الأسواق (٦).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٥١.

(٢) الدر المنثور ١ : ٥١.

(٣) الدر المنثور ١ : ٥١.

(٤) في المصدر : فما كتابه؟.

(٥) الدر المنثور ١ : ٦٣.

(٦) الدر المنثور ١ : ٦٣.

٢٨١

١٧٤ ـ وعن ابن عباس قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان « لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ » وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده (١) وولى مدبرا وشيعته فقال الرجل يا سراقة إنك جار لنا فقال « إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ » وذلك حين رأى الملائكة « إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ » (٢).

١٧٥ ـ وعن رفاعة الأنصاري قال : لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر يرفع يديه فقال اللهم إني أسألك نظرتك إياي (٣).

١٧٦ ـ وعن أبي التياح (٤) قال : قال رجل لعبد الرحمن بن خنيش كيف صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كادته الشياطين قال نعم تحدرت الشياطين من الجبال والأودية يريدون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما رآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فزع منهم وجاءه جبرئيل فقال يا محمد قل ما أقول أعوذ بكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان قال فطفئت نار الشياطين وهزمهم الله عز وجل (٥).

__________________

(١) في المصدر : وأقبل جبريل عليه‌السلام على إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يده وولى مدبرا هو وشيعته.

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٩٠.

(٣) الدر المنثور ٣ : ١٩٠.

(٤) قال ابن حجر في التقريب : أبو التياح بفتح اوله وتشديد التحتانية اسمه يزيد ابن حميد.

(٥) الدر المنثور :.

٢٨٢

١٧٧ ـ وعن ابن مسعود قال : لما كان ليلة الجن أقبل عفريت من الجن في يده شعلة من نار فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ القرآن فلا يزداد إلا قربا فقال له جبرئيل ألا أعلمك كلمات تقولهن ينكب منها لفيه وتطفئ شعلته قل أعوذ بوجه الله الكريم وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر « ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ » ومن شر « ما يَعْرُجُ فِيها » ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر « ما يَخْرُجُ مِنْها » ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان فقالها فانكب لفيه وطفيت شعلته (١).

تتمة تشمل على فوائد جمة الأولى لا خلاف بين الإمامية بل بين المسلمين في أن الجن والشياطين أجسام لطيفة يرون في بعض الأحيان ولا يرون في بعضها ولهم حركات سريعة وقدرة على أعمال قوية ويجرون في أجساد بني آدم مجرى الدم وقد يشكلهم الله بحسب المصالح بأشكال مختلفة وصور متنوعة كما ذهب إليه السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه أو جعل الله لهم القدرة على ذلك كما هو الأظهر من الأخبار والآثار.

قال صاحب المقاصد ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة إن الملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة كاملة في العلم والقدرة على الأفعال الشاقة وساق الكلام إلى قوله والجن أجسام لطيفة هوائية متشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أفعال عجيبة منهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء النفس في الفساد والغواية بتذكير أسباب المعاصي واللذات وإنساء منافع الطاعات وما أشبه ذلك على ما قال تعالى حكاية عن الشيطان « وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ » (٢) وقيل تركيب الأنواع الثلاثة من امتزاج العناصر الأربعة إلا أن الغالب على الشيطان عنصر النار وعلى الآخرين عنصر الهواء وذلك أن امتزاج العناصر قد لا يكون على القرب من الاعتدال بل على قدر صالح من غلبة أحدهما فإن كانت الغلبة

__________________

(١) الدر المنثور :.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

٢٨٣

للأرضية يكون الممتزج مائلا إلى عنصر الأرض وإن كانت للمائية فإلى الماء أو للهوائية فإلى الهواء أو للنارية فإلى النار لا يبرح ولا يفارق إلا بالإجبار أو بأن يكون حيوانا فيفارق بالاختيار وليس لهذه الغلبة حد معين بل تختلف إلى مراتب بحسب أنواع الممتزجات التي تسكن هذا العنصر ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين بحيث يدخلون المنافذ والمضايق حتى أجواف الإنسان ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات الأخر التي تغلب عليها الأرضية والمائية جلابيب وغواشي فيرون في أبدان كأبدان الناس أو غيره من الحيوانات والملائكة كثيرا ما تعاون الإنسان على أعمال يعجز هو عنها بقوته كالغلبة على الأعداء والطيران في الهواء والمشي على الماء ويحفظه خصوصا المضطرين عن كثير من الآفات.

وأما الجن والشياطين فيخالطون بعض الأناسي ويعاونونهم على السحر والطلسمات والنيرنجات ثم تعرض لدفع الشبهة الواردة على هذا القول وهي أن الملائكة والجن والشياطين إن كانت أجساما ممتزجة من العناصر يجب أن تكون مرئية لكل سليم الحس كسائر المركبات وإلا لجاز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة وأصوات هائلة لا نبصرها ولا نسمعها والعقل جازم ببطلان ذلك على ما هو شأن العلوم العادية وإن كانت غلبته اللطيف بحيث لا تجوز رؤية الممتزج يلزم أن لا يروا أصلا وأن تتمزق أبدانهم وتنحل تراكيبهم بأدنى سبب واللازم باطل لما تواتر من مشاهدة بعض الأولياء والأنبياء (١) إياهم ومكالمتهم ومن بقائهم زمانا طويلا مع هبوب الرياح العاصفة والدخول في المضايق الضيقة وأيضا لو كانوا من المركبات المزاجية لكانت لهم صور نوعية وأمزجة مخصوصة تقتضي أشكالا مخصوصة كما في سائر الممتزجات فلا يتصور التصور بأشكال مختلفة (٢).

والجواب منع الملازمات أما على القول باستناد الممكنات إلى القادر المختار

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : بعض الأنبياء والأولياء.

(٢) في النسخة المخطوطة : بالاشكال المختلفة.

٢٨٤

فظاهر لجواز أن يخلق رؤيتهم في بعض الأبصار والأحوال دون البعض وأن يحفظ بالقدرة والإرادة تركيبهم ويبدل أشكالهم.

وأما على القول بالإيجاب فلجواز أن يكون فيهم من العنصر الكثيف ما يحصل منه الرؤية لبعض الأبصار دون البعض وفي بعض الأحوال دون البعض أو يظهروا أحيانا في أجسام كثيفة هي بمنزلة الغشاء والجلباب لهم فيبصروا وأن يكون نفوسهم أو أمزجتهم أو صورهم النوعية تقتضي حفظ تركيبهم عن الانحلال وتبدل أشكالهم بحسب اختلاف الأوضاع والأحوال ويكون فيهم من الفطنة والذكاء ما يعرفون به جهات هبوب الرياح وسائر أسباب انحلال التركيب فيحترزون عنها ويأوون إلى أماكن لا يلحقهم ضرر.

وأما الجواب بأنه يجوز أن تكون لطافتهم بمعنى الشفافية دون رقة القوام فلا يلائم ما يحكى عنهم من النفوذ في المنافذ الضيقة والظهور في ساعة واحدة في صور مختلفة بالصغر والكبر ونحو ذلك.

ثم ذكر مذاهب الحكماء في ذلك فقال والقائلون من الفلاسفة بالجن والشيطان زعموا أن الجن جواهر مجردة لها تصرف وتأثير في الأجسام العنصرية من غير تعلق بها تعلق النفوس البشرية بأبدانها والشياطين هي القوى المتخيلة في أفراد الإنسان من حيث استيلائها على القوى العقلية وصرفها عن جانب القدس واكتساب الكمالات العقلية إلى اتباع الشهوات واللذات الحسية والوهمية.

ومنهم من زعم أن النفوس البشرية بعد مفارقتها عن الأبدان وقطع العلاقة عنها إن كانت خيرة مطيعة للدواعي العقلية فهم الجن وإن كانت شريرة باعثة على الشرور والقبائح معينة على الضلال والانهماك في الغواية فهم الشياطين وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليه‌السلام وحكي مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء فلا وجه لنفيها كما لا سبيل إلى إثباتها بالأدلة العقلية ثم ذكر طريقة المتألهين من الحكماء وقولهم بالعالم بين العالمين وعالم المثال وأنهم جعلوا الملائكة والجن والشياطين والغيلان من هذا العالم وقد مضى بعض الكلام فيه.

٢٨٥

الثانية : اختلف أصحابنا والمخالفون في أن إبليس هل كان من الملائكة أم لا فالذي ذهب إليه أكثر المتكلمين من أصحابنا وغيرهم أنه لم يكن من الملائكة وقد مرت الأخبار الدالة عليه قال الشيخ المفيد رحمه‌الله في كتاب المقالات إن إبليس من الجن خاصة وإنه ليس من الملائكة ولا كان منها قال الله تعالى « إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ » (١) وجاءت الأخبار متواترة عن أئمة الهدى من آل محمد عليه‌السلام بذلك وهو مذهب الإمامية كلها وكثير من المعتزلة وأصحاب الحديث (٢) انتهى.

وذهب طائفة من المتكلمين إلى أنه منهم واختاره من أصحابنا شيخ الطائفة روح الله روحه في التبيان وقال وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام والظاهر في تفاسيرنا ثم قال رحمه‌الله ثم اختلف من قال كان منهم فمنهم من قال إنه كان خازنا على الجنان ومنهم من قال كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض ومنهم من قال إنه كان يوسوس ما بين السماء والأرض (٣) انتهى.

واحتج الأولون بوجوه أحدها قوله تعالى « إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » قالوا ومتى أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعنى به إلا الجنس المعروف الذي يقابل بالإنس في الكتاب الكريم.

وأجيب عنه بوجهين الأول أن معنى « كانَ مِنَ الْجِنِ » صار من الجن كما أن قوله « وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » معناه صار من الكافرين ذكر ذلك الأخفش وجماعة من أهل اللغة.

الثاني أن إبليس كان من طائفة من الملائكة يسمون جنا من حيث كانوا خزنة الجنة وقيل سموا جنا لاجتنانهم من العيون واستشهدوا بقول الأعشى في سليمان عليه‌السلام :

وسخر من جن الملائك تسعة.

قياما لديه يعملون بلا أجر.

__________________

(١) الكهف : ٥١.

(٢) اوائل المقالات : ١١٠.

(٣) التبيان ١ : ١٥٠ و ١٥١.

٢٨٦

ورد الأول بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا لدليل (١).

وثانيها قوله تعالى « لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » (٢) فنفى عن الملائكة المعصية نفيا عاما فوجب أن لا يكون إبليس منهم.

وأجيب عنه بأنه قوله تعالى « لا يَعْصُونَ » صفة لخزنة النيران لا لمطلق الملائكة يدل عليه قوله تعالى « عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ » (٣) ولا يلزم من كونهم معصومين كون الجميع كذلك ويرد عليه أن الدلائل الدالة على عصمة الملائكة كثيرة وقد مر كثير منها.

وثالثها أن إبليس له نسل وذرية قال تعالى « أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ » (٤) والملائكة لا ذرية لهم لأنه ليس فيهم أنثى لقوله تعالى « وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً » (٥) والذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى.

ويمكن الجواب عنه بعد تسليم دلالة الآية على السلب الكلي بأن انتفاء الأنثى فيهم لا يدل على انتفاء الذرية كما أن الشياطين ليس فيهم أنثى مع أن لهم ذرية كما مر أن ذرية إبليس من نفسه وأنه يبيض ويفرخ.

وقال الشيخ رحمه‌الله في التبيان من قال إن إبليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم ولا يتناكحون ولا يتناسلون فقد عول على خبر غير معلوم (٦).

ورابعها أن الملائكة رسول الله لقوله « جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً » (٧) ورسل الله معصومون لقوله سبحانه « اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » (٨) ولا يجوز على رسل الله الكفر

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : بدليل.

(٢) التحريم : ٩.

(٣) التحريم : ٩.

(٤) الكهف : ٥١.

(٥) الزخرف : ١٥.

(٦) التبيان ٧ : ٥٧.

(٧) فاطر : ١.

(٨) الأنعام : ١٢٤.

٢٨٧

والعصيان ملائكة كانوا أم بشرا.

وأجيب بأنه ليس المراد بالآية العموم لقوله تعالى « اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ » (١) قال في التبيان وكلمة من للتبعيض بلا خلاف (٢).

ولو لم يكن كذلك لجاز لنا أن نخص هذا العموم بقوله تعالى « إِلاَّ إِبْلِيسَ » لأن حمل الاستثناء على أنه منقطع حمل له على المجاز كما أن تخصيص العموم مجاز وإذا تعارضا سقطا لو لم يكن التخصيص أولى (٣).

واستدلوا على مغايرة الجن للملائكة بأن الملائكة روحانيون مخلوقون من الريح في قول بعضهم ومن النور في قول بعضهم ولا يطعمون ولا يشربون والجن خلقوا من النار لقوله تعالى « وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ » (٤) وقد ورد في الأخبار النهي عن التمسح بالعظم والروث لكونهما طعاما لهم ولدوابهم.

وأجيب بمنع المقدمات قال في التبيان الأكل والشرب لو علم فقدهما في الملائكة فلا نعلم أن إبليس كان يأكل ويشرب وقد قيل إنهم يتشممون الطعام ولا يأكلونه (٥) انتهى.

واستدل أيضا بقوله تعالى « وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ » (٦) وعورض بقوله تعالى « وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً » (٧) لأن قريشا قالت الملائكة بنات الله فرد الله عليهم بقوله « سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ » (٨)

__________________

(١) الحج : ٧٥.

(٢) لم يذكر فيه قوله : بلا خلاف ، نعم ذكر في ج ٧ : ٣٤٢ : عند أهل اللغة.

(٣) التبيان ١ : ١٥٣.

(٤) الحجر : ٢٧.

(٥) التبيان ٧ : ٥٧ : لم يذكر فيه قوله : وقد قيل ولعله في موضع آخر.

(٦) سبأ : ٤٠ و ٤١.

(٧) الصافات : ١٥٩ و ١٦٠.

(٨) الصافات : ١٥٩ و ١٦٠.

٢٨٨

وأجيب بالمنع فإنه فسرت الآية بوجوه أخرى منها أن المراد به قول الزنادقة إن الله وإبليس أخوان أو أن الله خلق النور والخير والحيوان النافع وإبليس خلق الظلمة والشر والحيوان الضار وبعضهم أشركوا الشيطان في عبادة الله تعالى وذلك هو النسب الذي جعلوه بينه سبحانه وبين الجنة.

ومنها أنهم قالوا صاهر الله الجن فحدثت الملائكة.

واحتج القائلون بأنه من الملائكة بوجهين الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل وذلك يوجب كونه من الملائكة.

وأجيب بأن الاستثناء هاهنا منقطع وهو مشهور في كلام العرب كثير في كلامه تعالى قال سبحانه « لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً » (١) وقال « لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ » (٢) وأيضا فلأنه كان جنيا واحدا بين الألوف من الملائكة فغلبوا عليه في قوله « فَسَجَدُوا » ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم وقد كان مأمورا بالسجود معهم فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم.

ورد بأن كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا عند الضرورة والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ولو قلنا إنه ليس من الملائكة لزمنا حمل الاستثناء على المنقطع ومعلوم أن تخصيص العموم أكثر في كتاب الله من حمل الاستثناء على المنقطع فكان قولي أولى وأما قولكم إنه جني واحد بين الألوف من الملائكة فغلبوا عليه فنقول إنما يغلب الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إذا كان معظم الحديث ليس إلا عن ذلك الواحد لم يجز تغليب غيره عليه وفيه نظر.

الثاني : أنه لو لم يكن من الملائكة لما كان قوله تعالى « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ

__________________

(١) الواقعة : ٢٦.

(٢) النساء : ٢٨.

٢٨٩

اسْجُدُوا » متناولا له فلا يكون تركه للسجود إباء واستكبارا ومعصية ولما استحق الذم والعقاب فعلم أن الخطاب كان متناولا له ولا يتناوله الخطاب إلا إذا كان من الملائكة.

وأجيب بأنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ منهم وطالت خلطته بهم والتصق بهم فلا جرم تناوله ذلك الخطاب وأيضا يجوز أن يكون مأمورا بالسجود بأمر آخر ويكون قوله تعالى « ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ » إشارة إلى ذلك الأمر ورد الأول بأن مخالطته لهم لا يوجب توجه الخطاب إليه كما حقق في موضعه والثاني بأن ظاهر قوله تعالى « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ » الآية أن الإباء والعصيان إنما حصل بمخالفة هذا الأمر لا بمخالفة أمر آخر.

هذا ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا المقام لكن الظاهر من أكثر الأخبار والآثار عدم كونه من الملائكة وأنه لما كان مخلوطا بهم وتوجه الخطاب إليهم شمله هذا الخطاب وقوله تعالى « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ » مبني على التغليب الشائع في الكلام وأما ما يشعر به كلام الشيخ رحمه‌الله في التبيان من ورود الأخبار (١) بأن إبليس كان من الملائكة فلم نظفر بها وإن ورد في بعضها فهو نادر مأوّل.

وقال رحمه‌الله وأما ما روي عن ابن عباس من أن الملائكة كانت تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة (٢) فتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا إلا إبليس (٣) فلذلك قال تعالى « إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ » فإنه خبر واحد لا يصح والمعروف عن ابن عباس أنه كان (٤) من الملائكة فأَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥).

__________________

(١) راجع التبيان ١ : ١٥٠ و ١٥١.

(٢) في المصدر : « كان صغيرا مع الملائكة.

(٣) في المصدر : الا إبليس أبى.

(٤) في المصدر : ما قلناه انه كان.

(٥) التبيان ١ : ١٥٣.

٢٩٠

الثالثة : لا خلاف في أن الجن والشياطين مكلفون وأن كفارهم في النار معذبون وأما أن مؤمنهم يدخلون الجنة فقد اختلف فيه العامة ولم أر لأصحابنا فيه تصريحا.

قال علي بن إبراهيم في تفسيره سئل العالم عليه‌السلام عن مؤمني الجن يدخلون الجنة فقال لا ولكن لله حظائر بين الجنة والنار يكون فيها مؤمنو الجن وفساق الشيعة (١).

ولا خلاف في أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث عليهم وأما سائر أولي العزم عليه‌السلام فلم يتحقق عندي بعثهم عليهم نفيا أو إثباتا وإن كان بعض الأخبار يشعر بكونهم مبعوثين عليهم ولا بد في إثبات الحجة عليهم من بعثة نبي عليهم منهم أو بعثة الأنبياء من الإنس عليهم أيضا وقد مر أنه بعث فيهم نبي يقال له يوسف وقد مضى كلام الطبرسي رحمه‌الله والأقوال التي ذكرها في ذلك.

الرابعة : فيما ذكره المخالفون في ذلك ورواياتهم التي رووها في خواصهم وأنواعهم وأحكامهم قال الدميري في كتاب حياة الحيوان إن الجن أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة لها عقول وأفهام وقدرة على الكلام والأعمال الشاقة وهم خلاف الإنس الواحد جني ويقال إنما سميت بذلك لأنها تبقى ولا ترى وروى الطبراني بإسناد حسن عن ثعلبة الحسني (٢) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء وصنف حيات وصنف يحلون ويظعنون ، وكذلك رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد وروى أبو الدنيا في كتاب مكايد الشيطان من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الجن ثلاثة أصناف : صنف حيات وعقارب وخشاش

__________________

(١) تفسير القمي : ٦٦٤.

(٢) هكذا في الكتاب وفيه وهم والصحيح كما في المصدر : [ عن ابى ثعلبة الخشنى ] قال ابن الأثير في اللباب ١ : ٣٧٤ : الخشنى بضم الخاء وفتح الشين وفي آخرها نون. هذه النسبة الى قبيلة وقرية ، أما القبيلة فهي من قضاعة نسبة الى خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن عمران بن حلوان بن الحاف بن قضاعة ، منها أبو ثعلبة الخشنى.

٢٩١

الأرض وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف صنف كالبهائم (١) « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها » وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين وصنف كالملائكة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.

وأجمع المسلمون على أن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى الجن كما هو مبعوث إلى الإنس قال الله تعالى « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » (٢) والجن بلغهم القرآن وقال تعالى « وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ » (٣) الآية وقال « تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً » (٤) وقال « وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً » (٥) « لِلْعالَمِينَ » (٦) « وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ » (٧).

وقال الجوهري الناس قد تكون من الجن والإنس وقال تعالى خطابا لفريقين « سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » (٨) والثقلان الجن والإنس سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض وقيل لأنهما مثقلان بالذنوب وقال « وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ » (٩) ولذلك قيل إن من الجن مقربين وأبرارا كما أن من الإنس كذلك وخالف في ذلك أبو حنيفة والليث فقال ثواب

__________________

(١) في المصدر : كالبهائم قال الله عز وجل : « إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ». وقال تعالى : « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ». ذكر الآية بتمامها.

(٢) الأنعام : ١٩.

(٣) الأحقاف : ٢٩.

(٤) الفرقان : ١.

(٥) الأنبياء : ١٠٧.

(٦) في المصدر : وقال تعالى.

(٧) سبأ : ٢٨.

(٨) الرحمن : ٣١ و ٣٢.

(٩) الرحمن : ٤٦.

٢٩٢

المؤمنين منهم أن يجاروا من العذاب وخالفهم الأكثرون (١) حتى أبو يوسف ومحمد وليس لأبي حنيفة والليث حجة إلا قوله تعالى « يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ » (٢) وقوله « فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً » (٣) فلم يذكر في الآيتين ثوابا غير النجاة من العذاب.

والجواب : من وجهين أحدهما أن الثواب مسكوت عنه.

والثاني : أن ذلك من قول الجن ويجوز أن يكونوا لم يطلعوا إلا على ذلك وخفي عليهم ما أعد الله لهم من الثواب وقيل إنهم إذا دخلوا الجنة لا يكونون مع الإنس بل يكونون في ربضها (٤) وفي الحديث عن ابن عباس قال الخلق كلهم أربعة أصناف فخلق في الجنة كلهم وهم الملائكة وخلق في النار كلهم وهم الشياطين وخلق في الجنة والنار وهم الجن والإنس لهم الثواب وعليهم العقاب وفيه شيء (٥) وهو أن الملائكة لا يثابون بنعيم الجنة.

ومن المستغربات ما رواه أحمد بن مروان المالكي الدينوري عن مجاهد أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة فقال يدخلونها ولكن لا يأكلون فيها ولا يشربون بل يلهمون التسبيح والتقديس فيجدون فيه ما يجد أهل الجنة من لذيذ الطعام والشراب.

ويدلّ على عموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله من السنة أحاديث منها ما روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أعطيت جوامع الكلم وأرسلت إلى الناس (٦) كافة.

__________________

(١) في المصدر : وخالفهما الاكثرون.

(٢) الأحقاف : ٣١.

(٣) الجن : ١٣.

(٤) الربض : مأوى الغنم. مسكن القوم. ما حول المدينة من بيوت ومساكن سور المدينة.

(٥) أي في الحديث شيء من الغرابة.

(٦) بناء على ما تقدم من قول الجوهري : الناس قد تكون من الجن والانس.

٢٩٣

وفيه : من حديث جابر وبعثت إلى كل أحمر وأسود.

وفيه : عن ابن مسعود قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تأخذونه فيقع في أيديكم أوفر ما كان لحما وكل بعر علف لدوابكم قال فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن.

وروى الطبراني بإسناد حسن عن الزبير بن العوام قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة فسكت القوم ولم يتكلم منهم أحد قال ذلك ثلاثا فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى يتباعد (١) عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز وإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستثفري (٢) ثيابهم من بين أرجلهم فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق (٣) فلما دنونا منهم خط لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبهام رجله في الأرض خطا وقال لي اقعد في وسطه فلما جلست ذهب عني كل شيء أجده من ريبة وبقي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) بيني وبينهم فتلا قرآنا رفيعا حتى طلع الفجر ثم أقبل حتى مر بي فقال الحق بي فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد فقال (٥) التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد؟

قلت يا رسول الله أرى سوادا كثيرة فخفض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأسه إلى الأرض

__________________

(١) في المصادر : حتى تباعدت.

(٢) في المصدر : مستدثرى.

(٣) الفرق : الفزع.

(٤) في المصدر : ومضى رسول الله ٦.

(٥) في المصدر : فقال ٦ لي.

٢٩٤

فنظم (١) عظما بروثة فرمى (٢) به إليهم ثم قال هؤلاء وفد جن نصيبين سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة.

قال الزبير ولا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة. ثم روى أيضا عن ابن مسعود قال : استتبعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة فقال إن نفرا من الجن خمسة عشر بنو إخوة وبنو عم يأتون الليلة فأقرأ عليهم القرآن فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فجعل لي خطا ثم أجلسني فيه وقال لا تخرجن من هذا فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من السحر (٣) وفي يده عظم حائل وروثة وجمجمة وقال إذا أتيت الخلا فلا تستنج بشيء من هذا قال فلما أصبحت قلت لأعلمن حيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذهبت فرأيت موضع سبعين بعيرا.

وفي كتاب خبر البشر بخير البشر للعلامة محمد بن ظفر عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) وهو بمكة من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن (٥) فانطلقت معه حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي خطا ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسود كثيرة فحالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انطلقوا يتقطعون مثل قطع السحاب (٦) ذاهبين حتى بقي منهم رهط ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال ما فعل الرهط قلت هم أولئك يا رسول الله فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه ونهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث. وفي إسناده ضعف وفيه أيضا عن بلال بن الحارث قال نزلنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أسفاره بالعرج فتوجهت نحوه فلما قاربته سمعت لغطا (٧) وخصومة

__________________

(١) المصدر : فنظر عظما وروثا.

(٢) في المصدر : فرمى بهما.

(٣) في المصدر : مع السحر.

(٤) في المصدر : قال رسول الله ٦ لاصحابه.

(٥) في المصدر : أمر الجن فلينطلق معى.

(٦) في المصدر : كما يتقطع السحاب.

(٧) في المصدر : سمعت لغة.

٢٩٥

رجال لم أسمع أحد من ألسنتهم فوقفت حتى جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يضحك فقال اختصم إلي الجن المسلمون والجن المشركون وسألوني أن أسكنهم فأسكنت المشركين الغور (١) كل مرتفع من الأرض جلس ونجد وكل منخفض غور.

وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال : انطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم قد حيل (٢) بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا (٣) ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فالتقى الذين أخذوا نحو تهامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن أنصتوا (٤) وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ورجعوا إلى قومهم « فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً » الآيتين (٥).

وهذا الذي ذكره ابن عباس أول ما كان من أمر الجن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم إذ ذاك إنما أوحي إليه بما كان منهم.

روى الشافعي والبيهقي أن رجلا من الأنصار خرج يصلي العشاء فسبته الجن وفقد أعواما وتزوجت امرأته ثم أتى المدينة فسأله عمر عن ذلك فقال اختطفتني الجن فلبثت فيهم زمانا طويلا فغزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم فسبوا منهم سبايا وسبوني معهم فقالوا نراك رجلا مسلما ولا يحل لنا سباؤك فخيروني بين المقام عندهم أو القفول إلى أهلي فاخترت أهلي فأتوا بي إلى المدينة فقال له عمر ما كان طعامهم (٦).

__________________

(١) في المصدر : [ فأسكنت المسلمين الجلس واسكنت المشركين الغور ] أقول : الظاهر أن الحديث ينتهى بذلك : والباقي كلام الدميرى.

(٢) في المصدر : فقالوا : مالكم؟ قالوا حيل.

(٣) في المصدر : فقالوا.

(٤) في المصدر : أنصتوا له :.

(٥) الجن : ١ و ٢.

(٦) أي طعام مشركيهم ، لان مؤمنيهم قد مر ان طعامهم مما يذكر اسم الله عليه.

٢٩٦

قال الفول (١) وما لم يذكر اسم الله عليه قال فما كان شرابهم قال الجذف وهو الرغوة لأنها تجذف عن الماء وقيل نبات يقطع ويؤكل وقيل كل إناء كشف عنه غطاؤه.

وأما الإجماع فنقل ابن عطية وغيره الاتفاق على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة على الخصوص وأن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى الثقلين.

فإن قيل لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لكانوا يترددون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتعلمونها (٢) ولم ينقل أنهم أتوه إلا مرتين بمكة وقد تجدد بعد ذلك أكثر الشريعة.

قلنا لا يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به وحضورهم مجلسه وسماعهم كلامه من غير أن يراهم المؤمنون ويكون (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله يراهم هو ولا يراهم أصحابه فإن الله تعالى يقول عن رأس الجن « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ » (٤) فقد يراهم هو صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوة يعطيها الله له زائدة على قوة أصحابه وقد يراهم بعض الصحابة في بعض الأحوال كما رأى أبو هريرة الشيطان الذي يسرق (٥) من زكاة رمضان كما رواه البخاري.

فإن قيل فما تقول فيما حكي عن بعض المعتزلة أنه ينكر وجود الجن قلنا عجب (٦) أن يثبت ذلك عمن صدق بالقرآن وهو ناطق بوجودهم وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة يريد أن يقطع علي صلاتي فذعته بالذال المعجمة والعين المهملة أي خنقته وأردت أن أربطه في سواري المسجد فذكرت قول أخي سليمان عليه‌السلام وقال إن

__________________

(١) الفول : الباقلى.

(٢) في المصدر : حتى يتعلمونها.

(٣) في المصدر : ويكون هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراهم.

(٤) الأعراف : ٢٦.

(٥) في المصدر : الشيطان الذي أتاه ليسرق.

(٦) في المصدر : عجيب.

٢٩٧

بالمدينة جنا قد أسلموا وقال لا يسمع نداء صوت المؤذن (١) جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة.

وروى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير.

وروي فأسلم بفتح الميم وضمها وصحح الخطابي الرفع ورجح القاضي عياض والنووي الفتح وأجمعت الأمة على عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشيطان وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه وأعلمنا أنه معنا لنتحرز منه بحسب الإمكان والأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى وكذلك أشعار العرب وأخبارها فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر ثم إنه أمر لا يحيله العقل ولا يكذبه الحس ولذلك جرت التكاليف عليهم ومما اشتهر أن سعد بن عبادة (٢) لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر سار إلى الشام فنزل حوران وأقام بها إلى أن مات في سنة خمس عشرة ولم يختلفوا في أنه وجد ميتا في مغتسله بحوران وأنهم لم يشعروا بموته (٣) حتى سمعوا قائلا يقول :

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة.

فرميناه بسهمين ولم نخط فؤاده.

فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه ووقع في صحيح مسلم أنه شهد بدرا.

__________________

(١) في المصدر : مدى صوت المؤذن.

(٢) لما تخلف سعد عن بيعة أبى بكر وبعده عن بيعة عمر كان ذلك قدحا في امرهما فأرسل عمر محمد بن سلمة الأنصاري وخالد بن الوليد من المدينة ليقتلاه فرمى كل واحد منهما إليه سهما فقتلاه ، وكان مصلحة الوقت يوجب ستره عن العامة فنسبوه الى الجن ، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ان رجلا من العامة سأل شيعيا : لم سكت على ٧ عن المطالبة بحقه الذي تزعمونه حتى أمات نفسه وهو صاحب ما هو صاحبه من المآثر المشهورة؟ فقال له : انه خاف أن تقتله الجن!!.

(٣) في المصدر : وانهم لم يشعروا بموته بمدينة.

٢٩٨

وروي عن حجاج بن علاط السلمي أنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش فقال له أهل الركب قم فخذ لنفسك أمانا ولأصحابك فجعل لا ينام بل يطوف بالركب ويقول.

أعيذ نفسي وأعيذ صحبي

من كل جني بهذا النقب

حتى أعود سالما وركبي

فسمع قائلا يقول « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الآية (١) فلما قدم مكة أخبر كفار قريش بما سمع فقالوا صبأت (٢) يا أبا كلاب إن هذا يزعم أنه أنزل على محمد (٣) فقال والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي ثم أسلم وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة وابتنى بها مسجدا يعرف به.

وقال محمد بن الحسن الأبرسي قال الربيع سمعت الشافعي يقول من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلنا شهادته لقوله تعالى « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ » إلا أن يكون الزاعم نبيا.

وعد ابن سعد والطبراني والحافظ وأبو موسى (٤) وغيرهم عمرو بن جابر الجني في الصحابة فرووا بأسانيدهم عن صفوان بن المعطل السلمي أنه قال خرجنا حجاجا فلما كنا بالعرج إذا نحن بحية تضطرب فلم نلبث أن ماتت فأخرج لها رجل منا خرقة فلفها فيها ثم حفر لها في الأرض ثم قدمنا مكة فأتينا المسجد الحرام فوقف علينا رجل فقال أيكم صاحب عمرو بن جابر قلنا ما نعرفه قال أيكم صاحب الجان قالوا هذا قال جزاك الله (٥) خيرا أما إنه كان آخر التسعة الجن (٦)

__________________

(١) الرحمن : ٣٣.

(٢) صبأ الرجل : خرج من دين الى دين آخر. تدين بدين الصابئين ، وكان مشركو مكة يسمعون من دخل في الإسلام صابئا.

(٣) في المصدر : ان هذا الذي قلته يزعم محمد انه انزل عليه.

(٤) في المصدر : والحافظ ابى موسى.

(٥) في المصدر : جزاك الله عنا خيرا.

(٦) في المصدر : من الجن.

٢٩٩

الذين سمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله موتا وكذا رواه الحاكم في المستدرك.

وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم إنها ماتت فدفنها فأتى له من الليل فسلم عليه وشكر وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا صالحا من جن نصيبين اسمه زوبعة.

قال وبلغنا من فضائل عمر بن عبد العزيز أنه كان يمشي بأرض فلاة فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه (١) فإذا قائل يقول يا سرق أشهد لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لك ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح فقال ومن أنت يرحمك الله فقال أنا من الجن الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبق منهم إلا أنا (٢) وهذا الذي قد مات (٣).

وروى البيهقي في دلائله عن الحسن أن عمار بن ياسر قال : قاتلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإنس والجن (٤) فسئل عن قتال الجن فقال أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بئر أستقي منها فلقيت (٥) الشيطان في صورته حتى قاتلني (٦) فصرعته ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه إن عمارا لقي الشيطان عند بئر فقاتله فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر ، وكان أبو هريرة يقول إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا الذي أشار إليه البخاري بما رواه (٧)

__________________

(١) في المصدر : من ردائه ودفنها.

(٢) في المصدر : وسرق هذا.

(٣) قد عرفت في حكاية صفوان قبل ذلك أن آخر التسعة مات في زمانها فلم يبق أحد من التسعة حتى يكفنه ويدفنه عمر بن عبد العزيز هذا : وصفوان بن المعطل من الصحابة مات سنة ثمان وخمسين على ما قيل وعمر بن عبد العزيز مات سنة احدى ومائة وله أربعون سنة.

(٤) في المصدر : الجن والانس.

(٥) في المصدر : فرأيت.

(٦) في المصدر : فصارعنى.

(٧) في المصدر : وقد أشار إليه البخارى فيما رواه.

٣٠٠