الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٨
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : الحمّى نصيب كلّ مؤمن من النار .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من مرض سبعة أيّام مرضاً سخيناً كفّر الله عنه ذنوب سبعين سنة .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تكرهوا أربعة ، الرّمد فإنّه يقطع عروق العمى ، والزكام فإنّه يقطع عروق الجذام ، والسعال فإنّه يقطع عروق الفالج ، والدماميل فإنّها تقطع عروق البرص .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا وجع إلّا وجع العين ، ولا همَّ إلّا همُّ الدَّين .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : الحمّى تحطّ الخطايا كما تحطّ من الشجرة الورق .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من سبق العاطس بالحمد لله أمن من الشوص واللوص والعلوص .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما قال عبد عند امرىء مريض « أسئل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك » سبع مرّات ، إلّا عوفي .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من شكا ضرسه فليضع إصبعه عليه وليقرأ « وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » (١) « قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ » (٢) « وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ » (٣) الآية .
وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا أتى مريضاً قال : أذهب الوسواس والباس ربّ الناس ، اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلّا شفاؤك .
وقيل : عاد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : مريضاً فقال : أرقيك رقية علّمنيها جبرئيل ؟ فقال : نعم يا رسول الله . قال : بسم الله يشفيك من كلّ داء ، ولا يأتيك ، ومن شرّ النفّاثات في العقد ، ومن شرّ حاسد إذا حسد (٤) .
__________________
(١) الانعام : ٩٨ .
(٢) الانعام : ١٢٦ .
(٣) الاسراء : ١٠٥ .
(٤) زاد في المصدر : وما أرسلناك الا رحمة للعالمين . طب النبى : ١٩ ـ ٣٢ .
بيان : « أصل كلّ داء » أي غالباً ، أو في تلك البلاد الغالب على أهلها البرودة « الجماعة » أي الاجتماع في الأكل ، والحمل على الصلاة بعيد ، وسيأتي التصريح بالأوّل . « من استعمل الخشبتين » أي الخلال والسواك « أمن من عذاب الكلبتين » أي لا يحتاج إلى إدخال الكلبتين في فمه لقلع أسنانه . « فإنّها ضجعة الناب » في أكثر النسخ « مضجعه » .
قال في القاموس : الضجع غاسول للثياب ، الواحدة بهاء . وفي بعض النسخ « مصحّة » وهو أظهر .
قوله « فليستقىء » أي فليتقيّأ . قال في النهاية : فيه « أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم استقاء عامداً فأفطر » هو استفعل من القيء ، والتقيّوء أبلغ منه ، لأنّ في الاستقاء تكلّفاً أكثر منه ، وهو استخراج ما في الجوف تعمّداً .
ومنها الحديث « لو يعلم الشارب قائماً ماذا عليه لاستقا ما شرب منه » . وقال في النهاية : الأخشم الّذي لا يجد ريح الشيء ، وهو الخشام . قوله « مرضاً سخينا » أي حاراً شديداً مولماً .
قال في القاموس : ضرب سخين : مولم حارّ . وفي النهاية : فيه « شرّ الشتاء السخين » أي الحارّ الّذي لا برد فيه .
أقول : ويحتمل أن يكون بالثاء المثلّثة ، من قولهم « أثخن في العدوّ » : بالغ في الجراحة فيهم ، وفلاناً أوهنه . ومنه قوله تعالى « حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ » (١) أي غلبتموهم وكثر فيهم الجراح .
وقال في النهاية ، فيه « من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص و العلوص » الشوص وجع الضرس ، وقيل : الشوصة وجع في البطن من ريح تنعقد تحت الأضلاع . واللوص . وجع الاُذن . وقيل : وجع النحر . والعلوص : وهو وجع البطن وقيل التخمة ـ انتهى ـ .
__________________
(١) محمد : ٤ .
وأقول : إنّما أوردت جميع هذه الرسالة في هذا المقام مع أنَّ كثيراً من أجزائها يناسب أبواباً اُخرى لكون جميعها بمنزلة خبر واحد ، فأحببت اجتماعها في مكان واحد وعدم الاعتناء كثيراً بسندها وذكر الأجزاء بأسانيد اُخرى في محالّها .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « عليكم بالحزازمة » كذا في النسخ الّتي رأينا ، ولم أر ما يناسبه في روايات الفريقين ، وكونه من الاحتزام وهو شدّ الوسط بعيد لفظاً ومعنى ، وإن كان يناسب التفسير الّذي ذكره المستغفريّ .
قال في النهاية : فيه نهى أن يصلّي الرجل بغير حزام . أي من غير أن يشدّ ثوبه عليه لئلّا تنكشف عورته ، ومنه الحديث : نهى أن يصلّي الرجل حتّى يحتزم . أي يتلبّب بشدّ وسطه . والحديث الآخر أنّه أمر بالتحزّم في الصلاة ـ انتهى ـ .
ومناسبته للمقام لأنّه حمل الخبر على مطلق شدّ الوسط ، ففيه مصلحة طبّيّة وإنّما فسّره بما قال لأنّ الحزازمة الّذين يفعلون ذلك لا هذا الفعل لكن في مجىء الحزازمة بهذا المعنى نظر . وقد يقال إنّه تصحيف المرازمة بالمهملة أولاً ثمّ المعجمة . قال في النهاية : فيه « إذا أكلتم فرازموا » المرازمة الملازمة والمخالطة ، أراد : اخلطوا الأكل بالشُكر ، وقولوا بين اللقم : الحمد لله . وقيل : أراد : اخلطوا أكلكم وكلوا ليناً مع خشن ، وسائغاً مع جشب .
وقيل : المرازمة في الأكل المعاقبة ، وهو أن تأكل يوما لحماً ويوماً لبناً ويوما تمراً ويوماً خبزاً قفاراً . يقال للإبل إذا رعت يوماً خلّة ويوما خمصاً قد رازمت ـ انتهى ـ .
وقال الإصبهانيّ في شرح المقامات الحريريّة : رزمت الشيء أي جمعته . ومنه الحديث « إذا أكلتم فرازموا » أي اجمعوا بين حمد الله والأكل ، ومنه المرازمة الّتي كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يحبّها ، وهي الجمع بين الخبز والعنب والائتدام به .
وأقول : التفسير لا
يناسب هذا ، ولو فتحنا باب التصحيف يمكن أن يكون تصحيف
« الحضارمة » أي الحضرميّون نسبة إلى « حضر موت يمن » أو حضارمة مصر ، ويناسبه التفسير أيضاً ، فيكون مدحاً لهم وأمراً بمعاشرتهم وسكنى بلادهم ، أو « الخضارمة » بالمعجمتين .
قال في القاموس : الخضرم ـ كزبرج ـ : الجواد العطاء والسيّد الحمول ، و الجمع : خضارم وخضارمة . والخضارمة ـ بالمعجمتين ـ قوم من العجم خرجوا في بدء الإسلام فسكنوا الشّام .
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]
٩٠
( باب آخر )
* ( في الرسالة المذهبة المعروفة بالذهبية ) *
أقول : وجدت بخطّ الشيخ الأجل الأفضل ، العلّامة الكامل في فنون العلوم والأدب ، مروّج الملّة [ والدين ] والمذهب ، نور الدين عليّ بن عبد العالي الكركيّ ـ جزاه الله سبحانه عن الإيمان و [ عن ] أهله الجزاء السنيّ ـ ما هذا لفظه :
الرسالة الذهبيّة في الطبّ ، الّتي بعث بها الإمام عليُّ بن موسى الرضا عليهالسلام إلى المأمون العبّاسيّ في حفظ صحّة المزاج وتدبيره بالأغذية والأشربة والأدوية .
قال إمام الأنام ، غرّة وجه الإسلام مظهر الغموض بالرويّة اللّامعة ، كاشف الرموز في الجفر والجامعة ، أقضى من قضى بعد جدّه المصطفى ، وأغزى من غزا بعد أبيه عليّ المرتضى ، إمام الجنّ والإنس أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا ، صلوات الله عليه وعلى آبائه النجباء [ النّقباء ] الكرام الأتقياء : اعلم يا أمير المؤمنين ـ إلى آخر ما سيأتي من الرسالة ـ .
ووجدت في تأليف بعض
الأفاضل بهذين السندين : قال موسى بن عليّ بن
جابر السلامي ، أخبرني الشيخ الأجلّ العالم الأوحد سديد الدين يحيى بن محمّد بن علبان الخازن ـ أدام الله توفيقه ـ قال : أخبرني أبو محمّد الحسن بن محمّد بن جمهور .
وقال : هارون بن موسى التلعكبريّ ـ رضي الله عنه ـ حدّثنا محمّد بن هشام بن سهل ـ رحمه الله ـ . قال : حدّثنا الحسن بن محمّد بن جمهور ، قال : حدّثني أبي وكان عالماً بأبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهالسلام خاصّة به ، ملازماً لخدمته ، وكان معه حين حمل من المدينة إلى أن سار إلى خراسان واستشهد عليه الصلاة والسلام بطوس ، وهو ابن تسع وأربعين سنة .
قال : وكان المأمون بنيسابور ، وفي مجلسه سيّدي أبو الحسن الرضا عليهالسلام وجماعة من المتطبّبين والفلاسفة ، مثل يوحنّا بن ماسويه ، وجبرئيل بن بختيشوع ، وصالح بن سلهمة (١) الهنديّ ، وغيرهم من منتحلي العلوم وذوي البحث والنظر ، فجرى ذكر الطبّ وما فيه صلاح الأجسام وقوامها ، فأغرق المأمون ومن بحضرته في الكلام وتغلغلوا في علم ذلك ، وكيف ركّب الله تعالى هذا الجسد وجميع ما فيه من هذه الأشياء المتضادّة من الطبائع الأربع ، ومضارّ الأغذية ومنافعها ، وما يلحق الأجسام من مضارّها من العلل .
قال : وأبو الحسن عليهالسلام ساكت لا يتكلّم في شيء من ذلك . فقال له المأمون : ما تقول يا أبا الحسن في هذا الأمر الّذي نحن فيه هذا اليوم ، والّذي لا بدّ منه من معرفة هذه الأشياء والأغذية ، النافع منها والضارّ ، وتدبير الجسد ؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام : عندي من ذلك ما جرّبته وعرفت صحّته بالاختبار ومرور الأيّام ، مع ما وقفني عليه من مضى من السلف ، ممّا لا يسع الإنسان جهله ، ولا يعذر في تركه ، فأنا أجمع ذلك مع ما يقاربه ممّا يحتاج إلى معرفته .
قال : وعاجل المأمون الخروج إلى بلخ ، وتخلّف عنه أبو الحسن عليهالسلام ، وكتب المأمون إليه كتاباً يتنجّزه ما كان ذكره مما يحتاج إلى معرفته من جهته على ما سمعه منه
__________________
(١) بلهمة ( خ ) .
وجرّبه من الأطعمة والأشربة وأخذ الأدوية والفصد والحجامة والسواك والحمّام والنورة والتدبير في ذلك .
فكتب الرضا عليهالسلام إليه كتاباً نسخته : « بسم الله الرحمن الرحيم . اعتصمت بالله . أمّا بعد ، فإنّه وصل إليّ كتاب أمير المؤمنين فيما أمرني من توقيفه على ما يحتاج إليه ممّا جرّبته و [ ما ] سمعته في الأطعمة والأشربة وأخذ الأدوية والفصد والحجامة والحمّام والنورة والباه وغير ذلك ممّا يدبّر استقامة أمر الجسد ، وقد فسّرت له ما يحتاج إليه ، وشرحت له ما يعمل عليه ، من تدبير مطعمه ومشربه وأخذه الدواء وفصده وحجامته وباهه وغير ذلك ممّا يحتاج إليه من سياسة جسمه ، وبالله التوفيق . اعلم أنّ الله عزّ وجلّ لم يبتل الجسد بداء حتّى جعل له دواء » ـ إلى آخر ما سيأتي ـ .
اقول : وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسيّ ـ قدس الله روحه القدّوسي ـ في الفهرست في ترجمة محمّد بن الحسن بن جمهور العمّيّ البصريّ : له كتب ، منها كتاب الملاحم ، و كتاب الواحدة ، وكتاب صاحب الزمان عليهالسلام وله الرسالة المذهبّة عن الرضا عليهالسلام أخبرنا برواياته كلّها إلّا ما كان فيها من غلوّ أو تخليط جماعة ، عن محمّد بن عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن جمهور .
ورواها محمّد بن عليّ بن الحسين ، عن محمّد بن الحسن بن الوليد ، عن الحسن بن متّيل (١) ، عن محمّد بن أحمد العلويّ عن العمركيّ بن علي ، عن محمّد بن جمهور .
وذكر النجاشيّ أيضاً طريقه إليه هكذا : أخبرنا محمّد بن عليّ الكاتب ، عن محمّد بن عبد الله ، عن عليّ بن الحسين الهذليّ المسعوديّ قال : لقيت الحسن بن محمّد بن جمهور ، فقال لي : حدّثني أبي محمّد بن جمهور وهو ابن مائة وعشر سنين .
__________________
(١) قد ضبط العلامة في الخلاصة والايضاح : متيل بالميم المفتوحة والتاء المثناة فوقها المشددة ، والياء المثناة من تحت الساكنة . ويوافقه ما حكاه في التكملة عن كتاب ضوابط الاسماء . ولكن ضبطه ابن داود بضم الميم وتضعيف التاء المفتوحة والتاء المثناة من تحت . قال النجاشي : وجه من وجوه أصحابنا كثير الحديث . وصحح العلامة حديثه ، و هو لا يقصر عن توثيقه .
وأخبرنا ابن شاذان عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن سعد ، عن أحمد بن الحسين بن سعيد عن محمّد بن جمهور بجميع كتبه .
وقال محمّد بن شهر اشوب ـ قدّس سرّه ـ في كتاب معالم العلماء في ترجمة محمّد بن الحسن : له الرسالة المذهّبة عن الرضا عليهالسلام في الطبّ ـ انتهى ـ .
وذكر الشيخ منتجب الدين في الفهرست أنّ السيّد فضل الله بن عليّ الراونديّ كتب عليها شرحاً سمّاه ترجمة العلويّ للطبّ الرضوي .
فظهر أنّ الرسالة كانت من المشهورات بين علمائنا ، ولهم إليه طرق وأسانيد لكن كان في نسختها الّتي وصلت إلينا اختلاف فاحش أشرنا إلى بعضها ، ولنشرع في ذكر الرسالة ثمّ في شرحها على الإجمال .
« اعلم يا أمير المؤمنين أنّ الله تعالى لم يبتل العبد المؤمن ببلاء حتّى جعل له دواء يعالج به ، ولكلّ صنف من الداء صنف من الدواء وتدبير ونعت ، وذلك أنّ الأجسام الإنسانية جعلت على مثال الملك ، فملك الجسد هو القلب (١) ، والعمّال العروق و الأوصال والدماغ ، وبيت الملك قلبه وأرضه الجسد ، والأعوان يداه ورجلاه و شفتاه وعيناه ولسانه واُذناه ، وخزانته معدته وبطنه ، وحجابه صدره .
فاليدان عونان يقرّبان ويبعّدان ويعملان على ما يوحي إليهما الملك والرجلان تنقلان الملك حيث يشاء .
والعينان تدلّانه على ما يغيب عنه ، لأنّ الملك من وراء الحجاب لا يوصل إليه شيء إلّا بهما ، (٢) وهما سراجان أيضاً ، وحصن الجسد وحرزه الاُذنان لا يُدخلان على الملك إلّا ما يوافقه ، لأنّهما لا يقدران أن يدخلا شيئاً حتّى يوحي الملك إليهما فإذا أوحى الملك إليهما أطرق الملك منصتاً لهما حتّى يسمع منهما ، ثمّ يجيب بما يريد فيترجم عنه اللسان بأدوات كثيرة ، منها ريح الفؤاد ، وبخار المعدة ، ومعونة الشفتين
__________________
(١) هو ما في القلب ( خ ) .
(٢) باذن ( خ ) .
وليس للشفتين قوّة إلّا باللسان (١) ، وليس يستغني بعضها عن بعض . والكلام لا يحسن إلّا بترجيعه في الأنف ، لأنّ الأنف يزيّن الكلام كما يزيّن النافخ (٢) في المزمار وكذلك المنخران ، وهما ثقبتا (٣) الأنف ، يدخلان على الملك ممّا يحبّ من الرياح الطيّبة ، فإذا جاءت ريح تسوء على الملك أوحى إلى اليدين فحجبا بين الملك وتلك الرّيح .
وللملك مع هذا ثواب وعقاب ، فعذابه أشدُّ من عذاب الملوك الظاهرة القاهرة في الدنيا ، وثوابه أفضل من ثوابهم ! فأمّا عذابه فالحزن ، وأمّا ثوابه فالفرح ، وأصل الحزن في الطحال ، وأصل الفرح في الثرب والكليتين ، ومنهما عرقان موصلان إلى الوجه .
فمن هناك يظهر الفرح والحزن ، فترى علامتهما في الوجه . وهذه العروق كلّها طرق من العمّال إلى الملك ومن الملك إلى العمّال ، ومصداق ذلك أنّك (٤) إذا تناولت الدواء أدّته العروق إلى موضع الداء بإعانتها .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ الجسد بمنزلة الأرض الطيّبة ، متى تعوهدت بالعمارة والسقي من حيث لا يزداد في الماء فتغرق . ولا ينقص منه فتعطش ، دامت عمارتها ، و كثر ريعها ، وزكى زرعها ، وإن تغوفل عنها فسدت ، ولم ينبت فيها العشب ، فالجسد بهذه المنزلة .
وبالتدبير في الأغذية والأشربة يصلح ويصحّ ، وتزكو العافية [ فيه ] فانظر يا أمير المؤمنين ما يوافقك ، ويوافق معدنك ، ويقوى عليه بدنك ، ويستمرئه من الطعام فقدّره لنفسك واجعله غذاءك .
__________________
(١) في المصدر وبعض نسخ الكتاب : بالاسنان .
(٢) النفخ ( خ ) .
(٣) ثقبتان للانف ( خ ) .
(٤) أنه ( خ ) .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ كلّ واحدة من هذه الطبائع تحت ما يشاكلها ، فاغتذِ ما يشاكل جسدك ، ومن أخذ من الطعام زيادة لم (١) يغذه ومن أخذه بقدر لا زيادة عليه ولا نقص في غذائه نفعه . وكذلك الماء فسبيله أن تأخذ من الطعام كفايتك في أيّامه (٢) وارفع يديك منه ويك إليه بعض القرم (٣) ، وعندك إليه ميل ، فإنّه أصلح لمعدتك ولبدنك ، وأزكى لعقلك (٤) وأخفّ لجسمك (٥) .
يا أمير المؤمنين كل البارد في الصيف ، والحارّ في الشتاء ، والمعتدل في الفصلين على قدر قوّتك وشهوتك . وابدأ في أوّل الطعام بأخفّ الأغذية الّتي يغتذي بها بدنك بقدر عادتك وبحسب طاقتك ونشاطك . وزمانك الّذي يجب أن يكون أكلك في كلّ يوم عند ما يمضي من النهار ثمان ساعات أكلة واحدة ، أو ثلاث أكلات في يومين تتغدّى باكراً في أوّل يوم ، ثمّ تتعشّى ، فإذا كان في اليوم الثاني ، فعند مضيّ ثمان ساعات من النهار أكلت أكلة واحدة ولم تحتج إلى العشاء . وكذا أمر جدّي محمّد صلىاللهعليهوآله عليّاً عليهالسلام في كلّ يوم وجبة ، (٦) وفي غده وجبتين . وليكن ذلك بقدر لا يزيد ولا ينقص
وارفع يديك من الطعام وأنت تشتهيه ، وليكن شرابك على أثر طعامك من الشراب الصافي العتيق ممّا يحلّ شربه ، والّذي أنا واصفه فيما بعد .
ونذكر الآن ما ينبغي ذكره من تدبير فصول السنة وشهورها الرومية الواقعة فيها في كلّ فصل على حدة ، وما يستعمل من الأطعمة والأشربة وما يجتنب منه ، وكيفيّة حفظ الصحّة من أقاويل القدماء ونعود إلى قول الأئمّة عليهمالسلام في صفة شراب يحلّ شربه ويستعمل بعد الطعام .
__________________
(١) في المصدر : لم ينفعه وضره .
(٢) ابانه ( خ ) .
(٣) القرم ـ بالتحريك ـ : شهوة الطعام .
(٤) لعلمك ( خ ) .
(٥) على جسمك ( خ ) .
(٦) الوجبة ـ بالفتح ـ الاكلة الواحدة في اليوم .
( ذكر فصول السنة )
أمّا فصل الربيع فإنّه روح الأزمان (١) وأوّله « آذار » وعدد (٢) أيّامه ثلاثون يوماً ، وفيه يطيب الليل والنهار ، وتلين الأرض . ويذهب سلطان البلغم ، ويهيج الدم ، ويستعمل فيه من الغذاء اللطيف واللّحوم والبيض النّيمبرشت ، ويشرب الشراب بعد تعديله بالماء ، ويتّقى فيه أكل البصل والثوم والحامض ، ويحمد فيه شرب المسهل ويستعمل فيه الفصد والحجامة .
نيسان ثلاثون يوماً ، فيه يطول النهار ويقوى مزاج الفصل ، ويتحرّك الدّم وتهبّ فيه الرياح الشرقيّة ، ويستعمل فيه من المآكل المشويّة ، وما يعمل بالخلّ ولحوم الصيد ويعالج (٣) الجماع والتمريخ (٤) بالدهن في الحمّام ، ولا يشرب الماء على الريق ، ويشمّ الرياحين والطيب .
ايار أحد وثلاثون يوماً ، [ و ] تصفو فيه الرياح ، وهو آخر فصل الربيع ، و قد نهي فيه عن أكل الملوحات واللحوم الغليظة كالرؤوس ولحم (٥) البقر واللبن ، و ينفع فيه دخول الحمّام أوّل النهار ويكره فيه الرياضة قبل الغذاء .
حزيران ثلاثون يوماً ، يذهب فيه سلطان البلغم والدم ، ويقبل زمان المرّة الصفراوية (٦) ونهي فيه عن التعب وأكل اللحم داسماً (٧) والإكثار منه ، وشمّ المسك و
__________________
(١) الزمان ( خ ) .
(٢) عدة ( خ ) .
(٣) في المصدر وبعض نسخ الكتاب : يصالح .
(٤) التمريخ : التدهين .
(٥) لحوم ( خ ) .
(٦) الصفراء ( خ ) .
(٧) دائماً ( خ ) .
العنبر ، وينفع فيه أكل البقول الباردة كالهندباء وبقلة الحمقاء ، وأكل الخضر كالخيار والقثّاء ، والشيرخشت ، والفاكهة الرطبة ، واستعمال المحمّضات ، ومن اللحوم لحم المعز الثنيّ والجَذَع (١) ، ومن الطيور الدجاج والطيهوج والدرّاج والألبان والسمك الطريّ .
تموز أحد وثلاثون يوماً ، فيه شدّة الحرارة وتغور المياه ، ويستعمل فيه شرب الماء البارد على الريق ، ويؤكل فيه الأشياء الباردة الرطبة (٢) ويكسر فيه مزاج الشراب ، وتؤكل فيه الأغذية اللطيفة السريعة الهضم ، كما ذكر في حزيران ويستعمل فيه من النَّور والرياحين الباردة الرطبة الطيّبة الرائحة .
آب أحد وثلاثون يوماً فيه تشتدّ السموم ، ويهيج الزكام بالليل ، وتهبّ الشمال ، ويصلح المزاج بالتبريد والترطيب ، وينفع فيه شرب اللبن الرائب (٣) و يجتنب فيه الجماع والمسهل ، ويقلّ من الرياضة ، ويشمّ من الرياحين الباردة .
أيلول ثلاثون يوماً ، فيه يطيب الهواء ، ويقوى سلطان المرّة السوداء ، ويصلح شرب المسهل ، وينفع فيه أكل الحلاوات وأصناف اللحوم المعتدلة كالجداء والحوليّ (٤) من الضّأن ، ويجتنب فيه لحم البقر ، والإكثار من الشواء ، ودخول الحمّام ، و يستعمل فيه الطيب المعتدل المزاج ويجتنب فيه أكل البطيخ والقثّاء .
تشرين الاول أحد وثلاثون يوماً ، فيه تهبّ الرياح المختلفة ، ويتنفّس فيه ريح الصبا ، ويجتنب فيه الفصد وشرب الدواء ، ويحمد فيه الجماع ، وينفع فيه أكل اللحم السمين والرّمان المزّ والفاكهة بعد الطعام ، ويستعمل فيه أكل اللحوم
__________________
(١) الجذع من البهائم صغيرها ، وفي بعض النسخ « الجداء » جمع الجدى وهو ولد المعز .
(٢) المرطبة ( خ ) .
(٣) راب اللبن اي خثر وأدرك .
(٤) أي ما أتى عليه حول .
بالتوابل ، (١) ويقلّل فيه من شرب الماء ، ويحمد فيه الرّياضة .
تشرين الاخر (٢) ثلاثون يوماً ، فيه يقطع المطر الوسميّ ، (٣) وينهى فيه عن شرب الماء باللّيل ، ويقلّل فيه من دخول الحمّام والجماع ، ويشرب بكرةً كلَّ يوم جرعة ماء حارّ ، ويجتنب أكل البقول كالكرفس والنعناع والجرجير .
كانون الاول أحد وثلاثون يوماً ، يقوى فيه العواصف ، وتشتدّ (٤) فيه البرد وينفع فيه كلّ ما ذكرناه في تشرين الآخر ، ويحذر فيه من أكل الطعام البارد ، ويتّقى فيه الحجامة والفصد ، ويستعمل فيه الأغذية الحارَّة بالقوّة والفعل .
كانون الاخر أحد وثلاثون يوماً ، يقوى فيه غلبة البلغم وينبغي أن يتجرّع فيه الماء الحارّ على الريق ، ويحمد فيه الجماع ، وينفع الأحشاء (٥) فيه مثلُ البقول الحارّة كالكرفس والجرجير والكراث ، وينفع فيه دخول الحمّام أوّل النهار ، و التمريخ بدهن الخيري وما ناسبه ، ويحذر فيه الحلو وأكل السمك الطريّ واللبن .
شباط ثمانية وعشرون يوماً ، تختلف فيه الرياح ، وتكثر الأمطار ، ويظهر فيه العشب ، ويجري فيه الماء في العود ، وينفع فيه أكل الثوم ولحم الطير والصيود والفاكهة اليابسة ، ويقلّل من أكل الحلاوة ، ويحمد فيه كثرة الجماع والحركة و الرّياضة .
صفة الشراب الّذي يحلّ شربه واستعماله بعد الطعام ، وقد تقدّم ذكر نفعه في ابتدائنا بالقول على فصول السنة وما يعتمد فيها من حفظ الصحّة .
وصفته أن يؤخذ من الزبيب المنقّى عشرة أرطال ، فيغسل وينقع في ماء صاف في
__________________
(١) جمع « تابل » وهو ما يطيب به الطعام كالفلفل والكمون .
(٢) الثاني ( خ ) .
(٣) أي المطر الربيع الاول ، لانه يسم الارض بالنبات .
(٤) كذا .
(٥) في بعض النسخ : « يقع الاحساء » والظاهر انه تصحيف .
غمرة وزيادة عليه أربع أصابع ، (١) ويترك في إنائه ذلك ثلاثة أيّام في الشتاء وفي الصيف يوماً وليلة . ثمّ يجعل في قدر نظيفة ، وليكن الماء ماء السماء ، إن قدر عليه وإلّا فمن الماء العذب الّذي ينبوعه من ناحية المشرق ماءً برّاقاً أبيض خفيفاً ، وهو القابل لما يعترضه على سرعة من السخونة والبرودة ، وتلك دلالة على صفة (٢) الماء ويطبخ حتّى ينشف (٣) الزبيب وينضج ، ثمّ يعصر ويصفّى ماؤه ويبرد ، ثمّ يردّ إلى القدر ثانياً ويؤخذ مقداره بعود ويغلى بنار ليّنة غلياناً ليّناً رقيقاً حتّى يمضي ثلثاه ويبقى ثلثه .
ثمّ يؤخذ من عسل النحل المصفّى رطل ، فيلقى عليه ويؤخذ مقداره ومقدار الماء إلى أين كان من القدر ، ويغلى حتّى يذهب قدر العسل ويعود إلى حدّه ويؤخذ خرقة صفيقة فيجعل فيها زنجبيل وزن درهم ، ومن القرنفل نصف درهم ، ومن الدارچينيّ نصف درهم ، ومن الزعفران درهم ، ومن سنبل الطيب نصف درهم ، ومن الهندباء مثله ، ومن مصطكي نصف درهم ، بعد أن يسحق الجميع كلّ واحدة على حدة ، وينخل ويجعل في الخرقة ، (٤) ويشدّ بخيط شدّاً جيّداً ، وتلقى فيه وتمرّس الخرقة في الشراب بحيث تنزل قوى العقاقير الّتي فيها ، ولا يزال يعاهد بالتحريك على نار ليّنة برفق حتّى يذهب عنه مقدار العسل ، ويرفع القدر ويبرد ويؤخذ مدّة ثلاثة أشهر حتّى يتداخل مزاجه بعضه ببعض وحينئذ يستعمل .
ومقدار ما يشرب منه أوقية إلى أوقيتين من الماء القراح .
فإذا أكلت يا أمير المؤمنين مقدار ما وصفت لك من الطعام فاشرب من هذا الشراب مقدار ثلاثة أقداح بعد طعامك ، فإذا فعلت ذلك فقد أمنت بإذن الله تعالى يومك وليلتك من الأوجاع الباردة المزمنة كالنقرس ، والرياح ، وغير ذلك من أوجاع العصب و
__________________
(١) في المصدر وبعض نسخ الكتاب : أربعة أرطال .
(٢) خفة ( خ ) .
(٣) ينتفخ ( خ ) .
(٤) خرقة ( خ ) .
الدماغ والمعدة وبعض أوجاع الكبد والطحال والمعاء (١) والأحشاء .
فإن صدقت بعد ذلك شهوة الماء فليشرب منه مقدار النصف ممّا كان يشرب قبله فإنّه أصلح لبدن أمير المؤمنين ، وأكثر لجماعه ، وأشدُّ لضبطه وحفظه ، فإنّ صلاح البدن وقوامه يكون بالطعام والشراب ، وفساده يكون بهما ، فإن أصلحتهما (٢) صلح البدن ، وإن أفسدتهما فسد البدن .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ قوّة النفوس تابعة لأمزجة الأبدان ، وأنّ الأمزجة تابعة للهواء ، وتتغيّر بحسب تغيّر الهواء في الأمكنة . فإذا برد الهواء مرّة وسخن اُخرى تغيّرت بسببه أمزجة الأبدان ، وأثّر ذلك التغيّر في الصور ، فإذا كان الهواء معتدلاً اعتدلت أمزجة الأبدان ، وصلحت تصرّفات الأمزجة في الحركات الطبيعيّة كالهضم والجماع والنوم والحركة وسائر الحركات .
لأنّ الله تعالى بنى الأجسام على أربع طبائع ، وهي : المرّتان والدم والبلغم وبالجملة حارّان وباردان ، قد خولف بينهما فجعل الحارّين ليناً ويابساً ، وكذلك الباردين رطباً ويابساً ، ثمّ فرّق ذلك على أربعة أجزاء من الجسد ، [ و ]على الرأس والصدر والشراسيف وأسفل البطن .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ الرأس والاذنين والعينين والمنخرين والفم والأنف من الدم ، وأنّ الصدر من البلغم والرّيح ، والشراسيف من المرّة الصفراء ، وأنّ أسفل البطن من المرّة السوداء .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ النوم سلطان الدماغ ، وهو قوام الجسد وقوّته فإذا أردت النوم فليكن اضطجاعك أوّلاً على شقّك الأيمن ، ثّم انقلب على الأيسر وكذلك فقم من مضجعك على شقّك الأيمن كما بدأت به عند نومك .
وعوّد نفسك القعود من الليل ساعتين [ مثل ما تنام . فإذا بقي من الليل
__________________
(١) والامعاء ( خ ) .
(٢) فان أصلحته بهما صلح ، وان أفسدته بها فسد ( خ ) .
ساعتان فادخل ] وادخل الخلاء لحاجة الإنسان ، والبث فيه بقدر ما تقضي حاجتك ولا تطل فيه ، فإنّ ذلك يورث داء الفيل .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ أجود ما استكتَ به ليف الأراك ، فإنّه يجلو الأسنان ويطيّب النكهة ، ويشدّ اللثة ويسننها (١) ، وهو نافع من الحفر إذا كان باعتدال والإكثار منه يرقّ الأسنان ويزعزعها ، ويضعف اُصولها ، فمن أراد حفظ الأسنان فليأخذ قرن الايّل محرقاً وكزمازجاً وسعداً وورداً وسنبل الطيب وحبّ الاثل أجزاءً سواءً وملحاً أندرانيّاً ربع جزء فيدقّ الجميع ناعماً ويستنّ به فإنّه يمسك الأسنان ، ويحفظ اُصولها من الآفات العارضة .
ومن أراد أن يبيّض أسنانه فليأخذ جزءً من ملح أندرانيّ ومثله زبد البحر فيسحقهما ناعماً ويستنّ به (٢) .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ أحوال الإنسان الّتي بناه الله تعالى عليها وجعله متصرّفاً بها فإنّها أربعة أحوال : الحالة الاُولى لخمس عشرة سنة (٣) ، وفيها شبابه و حسنه وبهاؤه ، وسلطان الدم في جسمه .
ثمّ الحالة الثانية من خمس وعشرين سنة إلى خمس وثلاثين سنة ، وفيها سلطان المرّة الصفراء وقوّة غلبتها على الشخص ، وهي أقوى ما يكون ، ولا يزال كذلك حتّى يستوفي المدّة المذكورة ، وهي خمس وثلاثون سنة .
ثمّ يدخل في الحالة الثالثة إلى أن تتكامل مدّة العمر (٤) ستّين سنة ، فيكون في سلطان المرّة السوداء ، وهي سنّ الحكمة والموعظة والمعرفة والدراية ، وانتظام الاُمور ، وصحّة النظر في العواقب ، وصدق الرأي ، وثبات الجأش في التصرّفات .
ثمّ يدخل في الحالة الرابعة . وهي سلطان البلغم ، وهي الحالة الّتي لا يتحوّل
__________________
(١) أي يسددها ، وفي المصدر وبعض النسخ « يسمنها » .
(٢) أي يستاك به .
(٣) زاد في المصدر : الى خمس وعشرين .
(٤) عمره ( خ ) .
عنها ما بقي إلّا إلى الهرم ، ونكد عيش ، وذبول ، ونقص في القوّة ، وفساد في كونه (١) ونكتته أنّ كل شيء كان لا يعرفه حتّى ينام عند القوّة ، ويسهر عند النوم ، ولا يتذكّر ما تقدّم ، وينسى ما يحدث في الأوقات ويذبل عوده ، ويتغيّر معهوده ، و يجفّ ماء رونقه وبهائه ، ويقلّ نبت شعره وأظفاره ، ولا يزال جسمه في انعكاس و إدبار ما عاش ، لأنّه في سلطان المرّة البلغم ، وهو بارد وجامد ، فبجموده وبرده يكون فناء كلّ جسم يستولي عليه في آخر القوّة البلغميّة .
وقد ذكرت لأمير المؤمنين جميع ما يحتاج إليه في سياسة المزاج وأحوال جسمه وعلاجه .
وأنا أذكر ما يحتاج إلى تناوله من الأغذية والأدوية ، وما يجب أن يفعله في أوقاته . فإذا أردت الحجامة فليكن في اثنتي عشرة ليلة من الهلال إلى خمس عشرة ، فإنّه أصحّ لبدنك ، فإذا انقضى الشهر فلا تحتجم إلّا أن تكون مضطرّاً إلى ذلك . و هو لأنّ الدم ينقص في نقصان الهلال . ويزيد في زيادته .
ولتكن الحجامة بقدر ما يمضي من السنين : ابن (٢) عشرين سنة يحتجم في كلّ عشرين يوماً (٣) ، وابن الثلاثين في كلِّ ثلاثين يوماً مرّة واحدة ، وكذلك من بلغ من العمر أربعين سنة يحتجم في كلّ أربعين يوماً [ مرّة ] وما زاد فبحسب ذلك .
واعلم يا أمير المؤمنين أنّ الحجامة إنّما تأخذ دمها من صغار العروق المبثوثة في اللحم ، ومصداق ذلك ما أذكره أنّها لا تضعّف القوّة كما يوجد من الضعف عند الفصد .
وحجامة النقرة تنفع من ثقل الرأس ، وحجامة الأخدعين تخفّف عن الرأس والوجه والعينين ، وهي نافعة لوجع الأضراس .
وربما ناب الفصد عن جميع ذلك ، وقد يحتجم تحت الذقن لعلاج القلاع في الفم
__________________
(١) في المصدر : تكونه ، واستنكر كل شيء كان يعرف من نفسه حتى ينام عند القوم .
(٢) في المصدر : فابن .
(٣) زاد فيه : مرة .
ومن فساد اللثة وغير ذلك من أوجاع الفم ، وكذلك الحجامة بين الكتفين تنفع من الخفقان الّذي يكون من الامتلاء والحرارة ، والذي يوضع على الساقين قد ينقص من الامتلاء نقصاً بيّناً ، وينفع من الأوجاع المزمنة في الكلى والمثانة والأرحام ، و يدرّ الطمث ، غير أنّها تنهك الجسد .
وقد يعرض منها الغشي (١) الشديد ، إلّا أنّها تنفع ذوي البثور والدماميل .
والّذي يخفّف من ألم الحجامة تخفيف المصّ عند أوّل ما يضع المحاجم ثمّ يدرج المصّ قليلاً قليلاً ، والثواني أزيد في المصّ من الأوائل ، وكذلك الثوالث فصاعداً ، ويتوقّف عن الشرط حتّى يحمرّ الموضع جيّداً بتكرير المحاجم عليه ، ويلين المشراط على جلود ليّنة ، ويمسح الموضع قبل شرطه بالدهن .
وكذلك الفصد يمسح الموضع الّذي يفصد فيه بالدهن ، فإنّه يقلّل الألم ، و كذلك يليّن المشرط والمبضع بالدهن عند الحجامة ، وعند الفراغ منها يليّن الموضع بالدهن . وليقطر (٢) على العروق إذا فصد شيئاً من الدهن ، لئلّا يحتجب فيضرّ ذلك بالمفصود .
وليعمد الفاصد أن يفصد من العروق ما كان في المواضع القليلة اللحم ، لأنّ في قلّة اللّحم من العروق قلّة الألم .
وأكثر العروق ألماً إذا فصد حبل الذراع والقيفال ، لاتّصالهما بالعضل وصلابة الجلد ، فأمّا الباسليق والأكحل فإنّهما في الفصد أقلّ ألماً إذا لم يكن فوقهما لحم .
والواجب تكميد موضع الفصد بالماء الحارّ ليظهر الدم ، وخاصّة في الشتاء فإنّه يليّن الجلد ، ويقلّل الألم ، ويسهّل الفصد . ويجب في كلّ ما ذكرناه من إخراج الدم اجتناب النساء قبل ذلك باثني عشرة (٣) ساعة .
ويحتجم في يوم صاحٍ صافٍ لا غيم فيه ولا ريح شديدة ويخرج من الدم بقدر
__________________
(١) الغشوة البدنية ( خ ) .
(٢) ولينقط ( خ ) .
(٣) باثنتي عشرة ( خ ) .
ما ترى (١) من تغيّره ، ولا تدخل يومك ذلك الحمّام ، فإنّه يورث الداء . وصبّ (٢) على رأسك وجسدك الماء الحارّ ، ولا تفعل ذلك من ساعتك .
وإيّاك والحمّام إذا احتجمت ، فإنّ الحمّى الدائمة يكون فيه ، (٣) فإذا اغتسلت من الحجامة فخذ خرقة مرغرى (٤) فألقها على محاجمك ، أو ثوباً ليناً من قزّ أو غيره ، وخذ قدر حمّصة من الترياق الأكبر واشربه (٥) إن كان شتاء وإن كان صيفاً فاشرب السكنجبين العنصليّ ، وامزجه بالشراب المفرّح المعتدل ، وتناوله أو بشراب الفاكهة .
وإن تعذّر ذلك فشراب الاُترج فإن لم تجد شيئاً من ذلك فتناوله بعد عركه ناعماً تحت الأسنان ، واشرب عليه جرع ماء فاتر .
وإن كان في زمان الشتاء والبرد فاشرب عليه السكنجبين [ العنصليّ ] العسليّ فإنّك متى فعلت ذلك أمنت من اللقوة والبرص والبهق والجذام بإذن الله تعالى وامتصّ من الرمّان المزّ ، فإنّه يقوّي النفس ، ويحيي (٦) الدم ، ولا تأكل طعاماً مالحاً بعد ذلك بثلاث ساعات ، فإنّه يخاف أن يعرض من ذلك الجرب .
وإن كان (٧) شتاء فكل من الطباهيج إذا احتجمت ، واشرب عليه من الشراب المذكّى الّذي ذكرته أوّلاً ، وادّهن بدهن الخيريّ أو شيء من المسك وماء ورد ، (٨) وصبّ منه على هامتك ساعة فراغك من الحجامة .
وأمّا في الصيف فإذا احتجمت فكل السكباج والهلام والمصوص أيضاً والحامض
__________________
(١) يرى ( خ ) .
(٢) واصبب ( خ ) .
(٣) في المصدر وبعض نسخ الكتاب : يكون منه .
(٤) فيه : من قز .
(٥) من هنا الى قوله « العنصلي » غير موجود في المصدر .
(٦) في المصدر : يجلي .
(٧) فيه : وان شئت فكل .
(٨) في بعض النسخ « ماء بارد » وفي المصدر « ماء الورد » .