بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » (١) فيأمر الله عز وجل جهنم فتصيح بهم صيحة على وجوههم فيقعون في النار حيارى نادمين وينجو المؤمنين (٢) ببركة الله وعونه قال صدقت يا محمد فأخبرني ما يصنع الله بالموت قال يا ابن سلام إذا استوى أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أتي بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال لأهل الجنة يا أولياء الله هذا الموت أتعرفونه فيقولون نعم فيقولون لهم نذبحه فيقولون نعم يا ملائكة ربنا اذبحوه حتى لا يكون موت أبدا فيقولون لأهل النار يا أعداء الله هذا الموت هل تعرفونه فيقولون نعم فتقول الملائكة نذبحه فيقولون يا ملائكة ربنا لا تذبحوه ودعوه لعل الله يقضي علينا بالموت فنستريح قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويذبح الموت بين الجنة والنار فييأس أهل النار من الخروج منها وتطمئن قلوب أهل الجنة للخلود فيها فعندي لك أن تسلم قال صدقت يا محمد ونهض على قدميه وقال امدد يدك الشريفة أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك (٣) رسول الله وأن الجنة حق والميزان حق والحساب حق والساعة « آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ » فكبرت الصحابة عند ذلك وسماه رسول الله عبد الله (٤) بن سلام وصار من الصحابة ونقمة على اليهود.

توضيح إنما أوردت هذه الرواية لاشتهارها بين الخاصة والعامة وذكر الصدوق ره وغيره من أصحابنا أكثر أجزائها بأسانيدهم في مواضع وقد مر بعضها وإنما أوردتها في هذا المجلد لمناسبة أكثر أجزائه لأبوابه وفي بعضها مخالفة ما لسائر الأخبار فهي إما محمولة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره موافقا لما في كتبهم ليصير سببا لإسلامه

__________________

(١) الحديد : ١٤ ـ ١٥.

(٢) كذا ، في جميع النسخ ، والصواب « وينجو المؤمنون » أو « وينجى المؤمنين ».

(٣) لرسول ( خ ).

(٤) في أكثر النسخ « عبد سلام بن سلام ».

٢٦١

أو غير ذلك من الوجوه والمحامل التي تظهر على الناقد البصير وفي بعضها تصحيفات نرجو من الله الظفر بنسخة أخرى لتصحيحها.

قوله كان نبيا مرسلا كان المعنى هل كان في الجنة نبيا مرسلا فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه كان نبيا مرسلا على الملائكة حيث أمر بإنبائهم وفي عد إبراهيم من رسل العرب مخالفة للمشهور قوله فتشهد أي ظاهرا قوله فتؤمن أي باطنا وقلبا.

قوله أربعة كتاب لا يوافق الإجمال التفصيل ولعل في أحدهما خطأ أو تصحيفا وسؤاله هل أنزل عليك كتاب بعد قوله وأنزل علي الفرقان لا يخلو من شيء إلا أن يكون حمل ذلك على أنه قدر أنه سينزل وختمه صدق الله يعني أنه ينبغي أن يختم به لا أنه جزؤه وفي القاموس بيسان قرية بالشام وقرية بمرو وموضع باليمامة أقول وفي بعض النسخ بالنون والأول أظهر وله شواهد ولم يكن في الرجال أي مختصا بهم قوله لأن الله واحد كأنه على هذا يعني يوم الأحد يوم الله قوله لأنه يوم لعل المعنى أول يوم مع أن وجه التسمية لا يلزم اطراده قوله وعلمه تحت التحت أي أحاط علمه بكل تحت ولا ينافي ارتفاع ذاته وعلوه على كل شيء إحاطة علمه بكل شيء مما في العرش أو تحت الثرى.

وفي القاموس غرد الطائر كفرح وغرد تغريدا وأغرد وتغرد رفع صوته وطرب به وفي النهاية الرضراض الحصا الصغار قوله فحام العيون لعله من الفحمة بمعنى السواد وفي القاموس العشراء من النوق التي مضت لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هي كالنفساء من النساء والجمع عشراوات وعشار والعشار اسم يقع على النوق حتى ينتج بعضها وبعضها ينتظر نتاجها وقال الدكداك (١) ويكسر من الرمل ما تكبس واستوى وما التبد منه بالأرض أو هي أرض فيها غلظ و

__________________

(١) في القاموس : الدكدك ويكسر والدكداك من الرمل. الخ وينتهى الى قوله « مدعوكة ». ج ٣ ، ص ٣٠٢.

٢٦٢

أرض مدكدكة مدعوكة كثر بها الناس فكثر آثار المال والأبوال حتى تفسدها انتهى وانقضاض النار عن وجهه كناية عن سرعة ذهابها عنه وعدم إضرارها به كما ينقض الطائر أو الكوكب في الهواء وتلفح وجهه النار أي تحرقه وقال في النهاية فيه أمتي الغر المحجلون أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والأقدام استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه (١).

__________________

(١) النهاية : ج ١ ، ص ٢٠٤.

٢٦٣

(أبواب)

(الإنسان والروح والبدن وأجزائه وقواهما وأحوالهما)

٣٨

(باب)

(أنه لم سمي الإنسان إنسانا والمرأة مرأة والنساء)

(نساء والحواء حواء)

١ ـ العلل ، عن علي بن أحمد بن محمد بن جعفر الأسدي عن معاوية بن حكيم عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمي الإنسان إنسانا لأنه ينسى وقال الله عز وجل « وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ » (١).

بيان الإنسان فعلان عند البصريين لموافقته مع الأنس لفظا ومعنى وقال الكوفيون هو إفعان من نسي أصله إنسيان على إفعلان فحذفت الياء استخفافا لكثرة ما يجري على ألسنتهم فإذا صغروه ردوه إلى أصله لأن التصغير لا يكثر وهذا الخبر يدل على مذهب الكوفيين ورواه العامة عن ابن عباس أيضا قال الخليل في كتاب العين سمي الإنسان من النسيان والإنسان في الأصل إنسيان لأن جماعته أناسي وتصغيره أنيسيان بترجيع المدة التي حذفت وهو (٢) الياء وكذلك إنسان العين وحكى الشيخ في التبيان عن ابن عباس أنه قال إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي قال الله تعالى « وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » وقال الراغب في مفرداته الإنسان قيل سمي بذلك لأنه خلق خلقه لا قوام

__________________

(١) العلل : ج ١ ، ص ١٤. والآية في سورة طه ، آية ١١٥.

(٢) كذا ، والصواب : وهى.

٢٦٤

له إلا بأنس بعضهم ببعض ولهذا قيل الإنسان مدني بالطبع من حيث إنه لا قوام لبعضهم إلا ببعض ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه وقيل سمي بذلك لأنه يأنس بكل ما يألفه وقيل هو إفعلان وأصله إنسيان سمي بذلك لأنه عهد إليه فنسي.

٢ ـ العلل ، عن علي بن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سميت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء يعني خلقت حواء من آدم (١).

٣ ـ معاني الأخبار ، مرسلا معنى الإنسان أنه ينسى ومعنى النساء أنهن أنس للرجال ومعنى المرأة أنها خلقت من المرء (٢).

بيان : كون النساء من الأنس إما مبني على القلب أو على الاشتقاق الكبير أو على أنه إذا أنسوا بهن نسوا غيرهن فاشتقاقه من النسيان.

٤ ـ الدر المنثور ، عن ابن عباس قال : خلق الله آدم من أديم الأرض يوم الجمعة بعد العصر فسماه آدم ثم عهد إليه فنسي فسماه الإنسان قال ابن عباس فبالله ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة قال وإنما سميت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء وسميت حواء لأنها أم كل حي (٣).

٥ ـ العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم ، قال : كان مكث آدم في الجنة نصف ساعة ثم أهبط إلى الأرض لتمام تسع ساعات من يوم الجمعة وذلك في وقت صلاة العصر قال وسميت العصر لأن آدم عصر بالبلاء قال ألقى الله النوم على آدم فأخذ ضلعه القصير (٤) من جانبه الأيسر فخلق منه حواء فلم يؤذه ذلك ولو آذاه ذلك ما عطف عليها أبدا فقال آدم ما هذه قال هذه امرأة لأنها من المرء خلقت قال ما اسمها قال حواء لأنها خلقت من شيء حي فقال ابن عباس سميت حواء لأنها أم

__________________

(١) العلل : ج ١ ، ص ١٦.

(٢) معاني الأخبار : ٤٨.

(٣) الدر المنثور : ج ١ ، ص ٥٢.

(٤) القصيرى ( خ ).

٢٦٥

كل حي قال جعفر سمين النساء لأنس آدم بحواء حين أهبط إلى الأرض ولم يكن له أنس غيرها.

فائدة اعلم أنه قد اتفقت كلمة المليين من المسلمين واليهود والنصارى على أن أول البشر هو آدم وأما الآخرون فخالفوا فيه على أقوال أما الفلاسفة فزعموا أنه لا أول لنوع البشر ولا لغيرهم من الأنواع المتوالدة وأما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فهو يوافقهم في ما ذكر ومن لم يكن منهم على رأي الفلاسفة وقال بحدوث الأجسام لا يثبت (١) آدم ويقول إن الله تعالى خلق الأفلاك وخلف فيها طباعا محركة لها بذاتها فلما تحركت وحشوها أجسام لاستحالة الخلأ وكانت الأجسام على طبيعة واحدة فاختلفت طبائعها بالحركة الفلكية وكان القريب من الفلك أسخن وألطف والبعيد أبرد وأكثف ثم اختلطت العناصر وتكونت منها المركبات ومما تكون منه نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة واللحم والبق في البطائح والمواضع العفنة ثم تكون البشر بعضه من بعض بالتوالد ونسي التخليق الأول الذي كان بالتولد ومن الممكن أن يقول يتولد بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقة بالتولد وإنما انقطع التولد لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون (٢) طريقا استغنت عن طريق ثان وأما المجوس فلا يعرفون آدم ولا نوحا ولا ساما ولا حاما ولا يافث وأول متكون من البشر عندهم كيومرث ولقبه كوهشاه أي ملك الجبل وقد كان كيومرث في الجبال ومنهم من يسميه گلشاه أي ملك الطين لأنه لم يكن حينئذ بشر يملكهم وقيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا وكان قد رزق من الحس ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا وله وأغمي عليه ويزعمون أن مبدأ تكونه وحدوثه أن يزدان وهو الصانع الأول عندهم فكر في أمر أهرمن وهو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق ورمى به فصارت منه كيومرث ولهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن عن فكرة يزدان أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه و

__________________

(١) لم يثبت ( خ ).

(٢) للكون ( خ ).

٢٦٦

بينهم خلاف في قدم أهرمن وحدوثه ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود فقال الأكثرون ثلاثون سنة وقال الأقلون أربعون سنة وقال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة وهي ألف الحمل وألف الثور وألف الجوزاء ثم أهبط إلى الأرض وكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى وهي ألف السرطان وألف الأسد وألف السنبلة ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب وخصام بينه وبين أهرمن حتى هلك واختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى جزوذة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه حفظا للعهود التي كانت بينه وبين أهرمن فقتله بابن أهرمن وقال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينه وبين أهرمن وذكروا في كيفيته أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال وأنه ركبه وجعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن عن أي الأشياء أخوف (١) وأهوالها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه ولم يستمسك فعلاه وسأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل فقال له من جهة الرجل لأكون (٢) ناظرا حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه فبلغ إلى موضع الخصي وأوعية المني من الصلب فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منهما ريباستان في جبل بإصطخر ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع وتمت أجزاؤه فتصور منهما بشران ذكر وأنثى وهما ميشا وميشانة وهما بمنزلة آدم وحواء عند المليين ويسميهما مجوس خوارزم مرد ومردانه وزعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنيين عن الطعام والشراب منعمين غير متأذيين بشيء حتى ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على تناول فواكه الأشجار وأكل منها وهما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا وظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا وولد لهما ولد فأكلاه حرصا ثم

__________________

(١) اخوف له ( خ ).

(٢) فاكون ( خ ).

٢٦٧

ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر وأنثى وأسماؤهم في كتاب زردشت معروفة ثم كان البطن السابع سيامك وفرواك فتزاوجا فولد لهما الملك المعروف الذي لم يعرف قبله ملك وهو هوشنج وهو الذي خلف جده كيومرث وعقد التاج وجلس على السرير وبنى مدينتين بابل والسوس.

أقول هذه هي الخرافات التي ذكروها والآيات والأخبار ناطقة بما هو الحق المبين وبطل أقوال الفرق المضلين.

٣٩

(باب)

(فضل الإنسان وتفضيله على الملك وبعض جوامع أحواله)

الآيات :

البقرة « وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » إلى قوله سبحانه « وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » (١)

الأنعام « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ » (٢)

الحجر « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ » (٣)

الإسراء « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » (٤)

الأنبياء « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » (٥)

الفرقان « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً » (٦)

__________________

(١) البقرة : ٣٠ ـ ٣٤.

(٢) الأنعام : ٩٨.

(٣) الحجر : ٢٦.

(٤) الإسراء : ٧٠.

(٥) الأنبياء : ٣٧.

(٦) الفرقان : ٥٤.

٢٦٨

الروم « اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ » (١)

الأحزاب « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً » (٢)

فاطر « وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ » (٣)

يس « سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ » (٤)

الصافات « إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ » (٥)

الزمر « خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها » (٦)

المؤمن « وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ » (٧)

الرحمن « خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ » (٨) وقال تعالى « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ » (٩)

التغابن « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » (١٠)

البلد « لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١١)

التين « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ » (١٢)

__________________

(١) الروم : ٥٤. (٢) الأحزاب : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) فاطر : ٢٨. (٤) يس : ٣٦.

(٥) الصافات : ١١.

(٦) الزمر : ٦.

(٧) المؤمن : ٦٤.

(٨) الرحمن : ٣ ـ ٤.

(٩) الرحمن : ١٤.

(١٠) التغابن : ٢.

(١١) البلد : ١ ـ ١٠.

(١٢) التين : ٤ ـ ٥.

٢٦٩

العلق « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » (١)

تفسير « وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ » هذه الآيات مما استدل به على تفضيل الإنسان على الملائكة وسيأتي وجه الاستدلال بها « مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » أي من آدم عليه‌السلام لأن الله تعالى خلقنا منه جميعا وخلق حواء من فضل طينته أو من ضلع من أضلاعه ومن علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التألف « فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » أي مستقر في الرحم إلى أن يولد ومستودع في القبر أو مستقر في بطون الأمهات ومستودع في الأصلاب أو مستقر على ظهر الأرض في الدنيا ومستودع عند الله في الآخرة أو مستقرها أيام حياتها ومستودعها حيث (٢) يموت وحيث يبعث أو مستقر في القبر ومستودع في الدنيا أو مستقر فيه الإيمان ومستودع يسلب منه كما ورد في الخبر.

« مِنْ صَلْصالٍ » أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر وقيل من صلصل إذا نتن تضعيف صل « مِنْ حَمَإٍ » من طين تغير واسود من طول مجاورة الماء « مَسْنُونٍ » أي مصور من سنة الوجه أو مصبوب لييبس أو مصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى نقر وصلصل ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل منهما يكون منتنا يسمى سنين.

« وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ » قال الرازي اعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس والبدن فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلى لأن النفس النباتية قواها الأصلية ثلاثة وهي الاغتذاء والنمو والتوليد والنفس الحيوانية لها قوتان أخريان الحاسة والمحركة بالاختيار ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي وهي التي يتجلى

__________________

(١) العلق : ١ ـ ٥.

(٢) حين ( خ ).

٢٧٠

فيها نور معرفة الله ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من سنخ الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى الخمسة النباتية والحيوانية وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم فالمفسرون ذكروا أشياء.

أحدها : روى ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ » قال كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه. عن الرشيد أنه أحضرت الأطعمة عنده فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له جاء في تفسير (١) قوله تعالى « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ » وجعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردها وأكل بأصابعه.

وثانيها قال الضحاك بالنطق والتميز (٢) وتحقيق الكلام أن من عرف شيئا فإما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفا بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف أما القسم الأول فهو جملة حال الحيوان سوى الإنسان فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفا تاما وافيا وأما القسم الثاني فهو الإنسان فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادرا على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقا وبهذا البيان يظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريق الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام.

وثالثها قال عطاء بامتداد القامة واعلم أن هذا الكلام غير تمام لأن

__________________

(١) في المصدر : جاء في التفسير عن جدك في قوله ...

(٢) فيه : التمييز.

٢٧١

الأشجار أطول قامة من الإنسان بل ينبغي أن يشرط فيه شرط وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية والقوة الحسية والحركية.

ورابعها قال يمان بحسن الصورة والدليل عليه قوله تعالى « وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ » ولما ذكر الله تعالى خلقه الإنسان قال « فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ » وقال « صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً » وإن شئت فتأمل عضوا واحدا من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق الجبهة سواد الشعر وليكن هذا المثال الواحد أنموذجا لك في هذا الباب.

وخامسها قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان الواحد على استنباطه يكون قليلا أما إذا استنبط الإنسان علما وأودعه في الكتاب وجاء الإنسان الثاني واستعان بهذا الكتاب وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون وضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علوم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية أقصى الغايات وأكمل النهايات ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتب ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى « اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».

وسادسها أن أجسام هذا العالم إما البسائط وإما المركبات أما البسائط فهي الأرض والماء والهواء والنار والإنسان ينتفع بكل هذه الأربعة أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة قال تعالى « مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى » وقد سماه الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا وهي الفراش والمهاد والمهد وأما الماء فانتفاعنا في الشرب والزراعة والحراسة ظاهر وأيضا سخر البحر لنأكل لحما طريا ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر وأما الهواء فهو مادة حياتنا ولو لا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة وأما النار فبها طبخ

٢٧٢

الأغذية والأشربة ونضجها وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة وهي الدافعة لضرر البرد وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية (١) وإما المعادن وإما النبات وإما الحيوان والإنسان كالمستولي على كل هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسرها جرى مجرى قرية معمورة وخان مغلة (٢) وجميع منافعها ومصالحها مصروفة إلى الإنسان والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد وكل ذلك يدل على كونه مخصوصا من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل.

وسابعها أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له هذه القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية وهم الملائكة وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية والقوة الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية يكون أفضل من البهيمة والسبع ولا شك أيضا أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات بقي هاهنا بحث في أن الملك أفضل من (٣) البشر والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل (٤) من البشر المستجمع لهاتين القوتين وذلك بحث آخر.

وثامنها الموجود إما أن يكون أزليا وأبديا معا وهو الله سبحانه وإما أن لا يكون أزليا ولا أبديا وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أخس الأقسام وإما أن يكون أزليا ولا يكون أبديا وهذا ممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وإما أن لا يكون أزليا ولكنه يكون أبديا وهو

__________________

(١) كذا في المصدر وفي بعض النسخ « الآباء » وفي بعضها « الآيات ».

(٢) في المصدر : معد.

(٣) في المصدر « أم » فى الموضعين.

(٤) في المصدر « أم » فى الموضعين.

٢٧٣

الإنسان والملك ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات.

وتاسعها العالم العلوي أشرف من العالم السفلى وروح الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية وليس في موجودات العالم السفلى شيء حصل من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي.

وعاشرها أشرف الموجودات هو الله تعالى وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله أتم وجب أن يكون أشرف لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله تعالى هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كلما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ » ومن تمام كرامته على الله أنه لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ » ووصف نفسه بالتكريم عند تربية الإنسان فقال « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ » ووصف نفسه بالكرم في آخر الأحوال الإنسان فقال « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ » وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى وتفضله وإحسانه مع الإنسان.

الحادي عشر قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون ومن كان مخلوقا بيدي الله كانت العناية به أتم فكان (١) أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل.

« وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن وهذا أيضا من مؤكدات التكريم المذكور

__________________

(١) في بعض النسخ « أتم واكمل » وفي المصدر : كانت العناية به أتم وأكمل وكان أكرم وأكمل.

٢٧٤

أولا لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرهما ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها بما (١) يختص به ابن آدم كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع.

« وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ » وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما إنسانية وكلا القسمين فإن الإنسان إنما يغتذي بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يصلح إلا للإنسان « وَفَضَّلْناهُمْ » الفرق بين التفضيل والتكريم أنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.

« عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » لم يقل وفضلناهم على الكل فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلا عليه وكل من أثبت هذا القسم قال إنه هو الملائكة فلزم القول بأن الملك أفضل من الإنسان وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط.

واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين :

أحدهما أن الأنبياء أفضل أم الملائكة وقد سبق القول فيه في سورة البقرة.

والثاني أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم دنيا (٢) يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك في الآخرة فقال تعالى وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان فقال أبو هريرة المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. هكذا

__________________

(١) في المصدر : مما.

(٢) في المصدر : الدنيا.

٢٧٥

أورده الواحدي في البسيط وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب (١) انتهى.

وقال الطبرسي قدس‌سره استدل بعضهم بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قال لأن قوله « عَلى كَثِيرٍ » يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه وليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق وهذا باطل من وجوه :

أحدها أن التفضيل هاهنا لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي عددنا بعضها.

وثانيها أن المراد بالكثير الجميع فوضع الكثير موضع الجميع والمعنى أنا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير كما يقال بذلت له العريض من جاهي وأبحته المنيع من حريمي ولا يراد بذلك أني بذلت له عريض جاهي ومنعته ما ليس بعريض وأبحته منيع حريمي ولم أبحه ما ليس منيعا بل المقصود أني بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض وفي القرآن ومحاورات العرب من ذلك ما لا يحصى ولا يخفى ذلك على من عرف كلامهم.

وثالثها أنه إذا سلم أن المراد بالتفضيل زيادة الثواب وأن لفظة من في قوله « مِمَّنْ خَلَقْنا » تفيد التبعيض فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم لأن الفضل في الملائكة عام لجميعهم أو أكثرهم والفضل من (٢) بني آدم يختص بقليل من كثير وعلى هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم (٣) انتهى.

وأقول كلامه ره في هذه الآية مأخوذ مما سننقله عن السيد المرتضى رضي الله عنه.

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢١ ، ص ١٢ ـ ١٦.

(٢) في المصدر : فى.

(٣) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ٤٢٩.

٢٧٦

« خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » قال البيضاوي كأنه خلقه منه لفرط استعجاله وقلة تأنيه كقولك خلق زيد من الكرم وجعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله الوعيد (١) انتهى وفي تفسير علي بن إبراهيم قال لما أجرى الله في آدم الروح (٢) من قدميه فبلغت إلى ركبتيه أراد أن يقوم فلم يقدر فقال الله « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » (٣).

« خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً » قيل يعني الذي خمر به طينة آدم ثم جعله جزءا من مادة البشر ليجتمع ويسلس ويقبل الإشكال بسهولة أو النطفة « فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً » أي فقسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن « وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً » حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين.

وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من الماء العذب وخلق زوجته من سنخه فبرأها من أسفل أعضائه فجرى بذلك الضلع بينهما سبب ونسب ثم زوجها إياه فجرى بينهما بسبب ذلك صهر فذلك قوله « نَسَباً وَصِهْراً » فالنسب ما كان بسبب الرجال والصهر ما كان بسبب النساء. وقد أوردنا أخبارا كثيرة في أبواب فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام أنها نزلت في النبي وأمير المؤمنين وتزويج فاطمة صلوات الله عليهم.

« اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ » قيل أي ابتدأكم ضعفاء أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة « ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً » وهو بلوغكم الأشد « ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً » إذا أخذ منكم السن « يَخْلُقُ ما يَشاءُ » من ضعف وقوة وشيبة (٤).

__________________

(١) أنوار التنزيل : ج ٢ ، ص ٨٢.

(٢) في المصدر : روحه.

(٣) تفسير القمي : ٤٢٩.

(٤) في بعض النسخ المخطوطة : شبيبة وشيبة.

٢٧٧

« إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ » هذه الآية من المتشابهات وقد اختلف في تأويله المفسرون والروايات على وجوه.

الأول أن المراد بالأمانة التكليف بالأوامر والنواهي والمراد بعرضها على السماوات والأرض والجبال العرض على أهلها وعرضها عليهم هو تعريفه إياهم أن في تضييع الأمانة الإثم العظيم وكذلك في ترك أوامر الله تعالى وأحكامه فبين سبحانه جرأة الإنسان على المعاصي وإشفاق الملائكة من ذلك فيكون المعنى عرضنا الأمانة على أهل السماوات والأرض والجبال من الملائكة والإنس والجن « فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها » أي فأبى أهلهن أن يحملوا تركها وعقابها والمأثم فيها « وَأَشْفَقْنَ مِنْها » أي أشفق أهلهن عن (١) حملها « وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً » لنفسه بارتكاب المعاصي « جَهُولاً » بموضع الأمانة في استحقاق العقاب على الخيانة فيها فالمراد بحمل الأمانة تضييعها قال الزجاج كل من خان الأمانة فقد حملها ومن لم يحمل الأمانة فقد أداها.

والثاني أن معنى « عَرَضْنَا » عارضنا وقابلنا فإن عرض الشيء على الشيء ومعارضته به سواء والمعنى أن هذه الأمانة في جلالة موقعها وعظم شأنها لو قيست السماوات والأرض والجبال وعورضت بها لكانت هذه الأمانة أرجح وأثقل وزنا ومعنى قوله « فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها » ضعفن عن حملها كذلك « وَأَشْفَقْنَ مِنْها » لأن الشفقة ضعف القلب ولذلك صار كناية عن الخوف الذي يضعف عنده القلب ثم قال إن هذه الأمانة التي من صفتها أنها أعظم من هذه الأشياء العظيمة تقلدها الإنسان فلم يحفظها بل حملها وضيعها لظلمه على نفسه ولجهله بمبلغ الثواب والعقاب.

والثالث ما ذكره البيضاوي حيث قال تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين « إِنَّهُ

__________________

(١) من ( خ ).

٢٧٨

كانَ ظَلُوماً » حيث لم يف بها ولم يراع حقها « جَهُولاً » بكنه عاقبتها وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب (١) انتهى.

وقال الطبرسي قدس‌سره إنه على وجه التقدير أجرى (٢) عليه لفظ الواقع لأن الواقع أبلغ من المقدر معناه لو كانت السماوات والأرض والجبال عاقلة ثم عرضت عليها الأمانة وهي وظائف الدين أصولا وفروعا عرض تخيير لاستثقلت ذلك مع كبر أجسامها وشدتها وقوتها ولامتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقها ثم حملها الإنسان مع ضعف جسمه ولم يخف الوعيد لظلمه وجهله وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس أنها عرضت على نفس السماوات والأرض فامتنعت من حملها.

والرابع أن معنى العرض والإباء ليس هو على ما يفهم بظاهر الكلام بل المراد تعظيم شأن الأمانة لا مخاطبة الجماد والعرب تقول سألت الربع وخاطبت الدار فامتنعت عن الجواب وإنما هو إخبار عن الحال عبر عنه بذكر الجواب والسؤال وتقول أتى فلان بكذب لا تحمله الجبال وقال سبحانه « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » وخطاب من لا يفهم لا يصح فالأمانة على هذا ما أودع الله سبحانه السماوات والأرض والجبال من الدلائل على وحدانيته وربوبيته فأظهرتها والإنسان الكافر كتمها وجحدها لظلمه (٣) ويرجع إليه ما قيل المراد بالأمانة الطاعة التي تعم الطبيعية والاختيارية وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته فيكون الإباء عنه إتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة للخيانة والتقصير.

والخامس ما قيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام فيها فهما (٤) وقال لها

__________________

(١) أنوار التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٢) في المصدر : الا انه اجرى.

(٣) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٣٧٤.

(٤) كذا في جميع النسخ التي بأيدينا والظاهر « جعل فيها فهما ».

٢٧٩

إني قد فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ونارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولا عقابا ولما خلق آدم عليه‌السلام عرض عليه مثل ذلك فتحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته.

والسادس ما قيل إن المراد بالأمانة العقل والتكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد (١) ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما.

والسابع أن المراد بالأمانة أداء الأمانة ضد الخيانة أو قبولها وتصحيح تتمة الآية على أحد الوجوه المتقدمة.

الثامن أن المراد بالأمانة الإمامة (٢) والخلافة الكبرى وحملها ادعاؤها بغير حق والمراد بالإنسان أبو بكر وقد وردت الأخبار الكثيرة في ذلك أوردتها في كتاب الإمامة وغيرها فقد روي بأسانيد عن الرضا عليه‌السلام قال : الأمانة الولاية من ادعاها بغير حق كفر. وقال علي بن إبراهيم الأمانة هي الإمامة والأمر والنهي عرضت على السماوات والأرض والجبال « فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها » قال أبين أن يدعوها أو يغصبوها أهلها « وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ » الأول « إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً » (٣). وعن الصادق عليه‌السلام الأمانة الولاية والإنسان أبو الشرور المنافق. وعن الباقر عليه‌السلام هي الولاية أبين « أَنْ يَحْمِلْنَها » كفرا « وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ » والإنسان أبو فلان.

ومما يدل على أن المراد بها التكليف ما روي أن عليا عليه‌السلام كان إذا حضر وقت

__________________

(١) الحدود ( خ ).

(٢) الامارة ( خ ).

(٣) تفسير علي بن إبراهيم : ٥٣٥ ( مقطعا ).

٢٨٠