بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٥
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

لله كأنك تراه فإن لم يكن تراه فإنه يراك (١).

٣٦ ـ وعن أنس وغيره بأسانيد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه واله جالسا مع أصحابه إذ جاءه رجل عليه ثياب السفر يتخلل الناس حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه واله فوضع يده على ركبة رسول الله صلى الله عليه واله فقال يا محمد ما الإسلام وساقوا الحديث مثل ما مر إلى قولهم (٢) يا رسول الله متى الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل وأدبر الرجل فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه واله علي بالرجل فاتبعوه يطلبونه فلم يروا شيئا فقال رسول الله ذلك جبرئيل جاءكم ليعلمكم دينكم.

٣٧ ـ وعن وهب بن منبه قال : خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال للعرش خذ الصور فتعلق به ثم قال كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة لا تخرج روحان من ثقب واحد وفي وسط الصور كوة (٣) كاستدارة السماء والأرض وإسرافيل واضع فمه على ذلك الكوة (٤) ثم قال له الرب تعالى قد وكلتك بالصور فأنت للنفخة وللصيحة فدخل إسرافيل في مقدم العرش فأدخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يطرف منذ خلقه الله ينظر متى يؤمر به (٥).

٣٨ ـ وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه واله في قوله تعالى « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ » قال الروح الأمين جبرئيل رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرهما فيهما (٦) مثل ريش الطواويس (٧).

٣٩ ـ وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه واله كيف أنعم وقد

__________________

(١) الدر المنثور : ج ١ ، ص ٩٣.

(٢) في المخطوطة : قوله.

(٣) كرة ( خ ).

(٤) الكرة ( خ ).

(٥) الدر المنثور : ج ٥ ص ٣٣٨.

(٦) في المصدر : قد نشرها فهم مثل ...

(٧) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٩٤.

٢٦١

التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ قال المسلمون فكيف نقول يا رسول الله قال قولوا « حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا » (١).

توضيح : قال الجوهري فيه كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه أي كيف أتنعم من النعمة بالفتح وهي المسرة والفرح والترفه.

٤٠ ـ الدر المنثور : عن ابن مسعود قال : الصور كهيئة القرن ينفخ فيه (٢).

٤١ ـ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله ما طرف صاحب الصور مذ وكل به مستعدا ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينه كوكبان دريان (٣).

٤٢ ـ وعن أبي سعيد قال : إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران (٤).

٤٣ ـ وعنه عن النبي صلى الله عليه واله قال : وما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران أن ينفخا (٥) في الصور فينفخا (٦).

٤٤ ـ وعن كعب قال : إسرافيل له أربعة أجنحة جناحان في الهواء وجناح قد تسرول به وجناح على كاهله والقلم على أذنه فإذا نزل الوحي كتب القلم ودرست الملائكة وملك الصور أسفل منه جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى فالتقم الصور فحنى ظهره وطرفه إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحه أن ينفخ في الصور (٧).

__________________

(١) المصدر : ج ٥ ، ص ٣٣٧.

(٢) المصدر : ج ٥ ، ص ٣٣٨.

(٣) المصدر : ج ٥ ، ص ٣٣٨.

(٤) المصدر : ج ٥ ، ص ٣٣٨.

(٥) في المصدر : متى يؤمر ان فينفخان.

(٦) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٣٣٨.

(٧) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٣٣٨.

٢٦٢

وعن عائشة مثله.

٤٥ ـ وعن ابن عباس قال : لما نزلت « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ » قال رسول الله صلى الله عليه واله كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر قالوا كيف نقول يا رسول الله قال قولوا « حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » و « عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا » (١).

٤٦ ـ عن قتادة « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ » قال « فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ » (٢).

٤٧ ـ وعن ابن مسعود « لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ » قال جبرئيل في رفرف أخضر قد سد الأفق (٣).

٤٨ ـ وعنه أيضا قال رأى جبرئيل له ستمائة جناح قد سد الأفق (٤).

٤٩ ـ وعن ابن عباس في الآية قال إنما عنى جبرئيل أن محمدا رآه في صورته عند سدرة المنتهى (٥).

٥٠ ـ وعن معاوية بن قرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله لجبرئيل ما أحسن ما أثنى عليك ربك « ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » ما كانت قوتك وما كانت أمانتك قال أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن قوم لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري حملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب وهويت بهن فقتلتهن (٦) وأما أمانتي فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره (٧).

٥١ ـ وعن أبي صالح في قوله « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ » قال جبرئيل « مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » قال على سبعين حجابا يدخلها بغير إذن (٨).

__________________

(١) المصدر : ج ٦ ، ص ٢٨٢.

(٢) المصدر : ج ٦ ، ص ٢٨٢.

(٣) المصدر : ج ٦ ، ص ٣٢١.

(٤) الدر المنثور : ج ٦ ، ص ٣٢١.

(٥) الدر المنثور : ج ٦ ، ص ٣٢١.

(٦) في المصدر : ثم هويت بهم فقتلتهم.

(٧) المصدر : ج ٦ ، ص ٣٢١.

(٨) المصدر : ج ٦ ، ص ٣٢١.

٢٦٣

٥٢ ـ وعن الخزرج قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول ونظر إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال ملك الموت طب نفسا وقر عينا واعلم بأني بكل مؤمن رفيق واعلم إني يا محمد لأقبض روح ابن آدم فإذا صرخ صارخ قمت في الدار ومعي روحه فقلت ما هذا الصارخ والله ما ظلمنا ولا سبقنا أجله ولا استعجلنا قدره وما لنا في قبضه من ذنب فإن ترضوا بما صنع الله تؤجروا وإن تسخطوا تأثموا وتوزروا وإن لنا عندكم عودة بعد عودة فالحذر الحذر وما من أهل بيت شعر ولا مدر بر ولا فاجر سهل ولا جبل إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم وليلة حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو يأذن بقبضها (١).

٥٣ ـ وعن ابن عباس قال : وكل ملك الموت بقبض أرواح الآدميين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وإن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في البحر فإن الله يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت لكرامتهم عليه (٢).

٥٤ ـ وعن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام (٣) قال : دخل النبي صلى الله عليه واله على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عند رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه واله يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول والله ما لي ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله من أهل بيت مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم فيه في كل

__________________

(١) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ١٧٣.

(٢) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ١٧٣.

(٣) في المصدر : رضى الله عنهما.

٢٦٤

يوم وليلة خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يا محمد إني لا أقدر أن أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه (١).

٥٥ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن يونس عن الهيثم بن واقد عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام مثله بأدنى تغيير (٢).

٥٦ ـ وعن علي عن أبيه عن ابن محبوب عن المفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام مثله أيضا لكن فيهما خمس مرات عند مواقيت الصلوات (٣).

بيان : لا يخفى عدم دلالة هذه الأخبار على كون قابض أرواح الحيوانات ملك الموت فإن الغرض منها المبالغة في عدم قدرته على فعل صغير أو كبير بدون إذنه سبحانه فلا ينافي خبر ابن عباس لكن ليس في أخبارنا تصريح بأحد الطرفين والتوقف في مثله أحوط وقد مضت الأخبار المناسبة لهذا الباب والذي قبله في كتاب المعاد وغيره.

(٢٥)

(باب)

(عصمة الملائكة وقصة هاروت وماروت وفيه ذكر)

(حقيقة السحر وأنواعه)

الآيات :

البقرة : « وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ

__________________

(١) المصدر : ج ٥ ، ص ١٧٤.

(٢) الكافي : ج ٣ ، ص ١٣٦.

(٣) الكافي : ج ٣ ، ص ١٣٦.

٢٦٥

ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » (١).

النساء : « لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ » (٢)

الأعراف : « إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ »(٣)

النحل : « وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » (٤)

مريم : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » (٥).

الأنبياء : « وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ » (٦).

وقال تعالى : « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ » (٧).

التحريم : « عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » (٨)

تفسير : « وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ » أقول هذه الآية مما يوهم نفي عصمة الملائكة وللعلماء في تأويلها مسالك نشير إلى بعضها وإن أفضى إلى الإطناب.

__________________

(١) البقرة : ١٠٢.

(٢) النساء : ١٧٢.

(٣) الأعراف : ٢٠٦.

(٤) النحل : ٤٩ ـ ٥٠.

(٥) مريم : ٦٤.

(٦) الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠.

(٧) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٩.

(٨) التحريم : ٦.

٢٦٦

قال السيد المرتضى رحمه‌الله في كتاب الغرر والدرر إن سأل سائل عن قوله عز وعلا « وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ » إلى قوله تعالى « وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » فقال كيف ينزل الله سبحانه السحر على الملائكة أم كيف تعلم الملائكة الناس السحر والتفريق بين المرء وزوجه وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنه بإذنه وهو تعالى قد نهى عنه وحذر من فعله وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم بقوله « وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » ثم بقوله « لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »؟

الجواب : قلنا في الآية وجوه كل منها يزيل الشبهة الداخلة على من لم يمعن النظر فيها :

أولها : أن يكون ما في قوله تعالى « وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ » بمعنى الذي فكأنه تعالى خبر (١) عن طائفة من أهل الكتاب بأنهم اتبعوا ما تكذب فيه الشياطين على ملك سليمان وتضيفه إليه من السحر فبرأه الله عز وجل من قرفهم وأكذبهم في قولهم فقال تعالى « وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا » باستعمال السحر والتمويه على الناس ثم قال « يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ » وأراد أنهم يعلمونهم السحر وما الذي أنزل على الملكين وإنما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه الناس فيجتنبوه ويحذروا منه كما أنه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ووصف لنا أحوال القبائح لنجتنبها لا لنواقعها إلا أن الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه وأقدموا على فعله وإن كان غيرهم من المؤمنين لما عرفه اجتنبه وحارزه (٢) وانتفع باطلاعه على كيفيته ثم قال « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ » يعني الملكين ومعنى يعلمان يعلمان والعرب تستعمل لفظة علمه بمعنى أعلمه. قال القطامي :

__________________

(١) كذا ، والظاهر « اخبر ».

(٢) حاذره ( خ ).

٢٦٧

تعلم أن بعد الغي رشدا

وأن لتانك الغمر انقشاعا

وقال كعب بن زهير :

تعلم رسول الله أنك مدركي

وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

ومعنى تعلم في البيتين معنى اعلم والذي يدل على أنه هاهنا الإعلام لا التعليم قوله « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ » أي أنهما لا يعرفان صفات السحر وكيفيته إلا بعد أن يقولا إنما نحن محنة لأن الفتنة بمعنى المحنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه وليتمتعوا من مواقعته وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك لا تكفر باستعماله ولا تعدل عن الغرض في إلقاء هذا إليك فإنه إنما ألقي إليك واطلعت عليه لتجتنبه لا لتفعله ثم قال « فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ » أي فيعرفون من جهتهما ما يستعملونه في هذا الباب وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك ولهذا قال « وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ » لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك بسوء اختيارهم ضررا عليهم.

وثانيها : أن يكون « ما أُنْزِلَ » موضعه موضع جر ويكون معطوفا بالواو على « مُلْكِ سُلَيْمانَ » أي واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين ومعنى « ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ » (١) أي معهما وعلى ألسنتهما كما قال تعالى « رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ » أي على ألسنتهم ومعهم وليس بمنكر أن يكون « ما أُنْزِلَ » معطوفا على ملك سليمان وإن اعترض بينهما من الكلام ما اعترض لأن رد الشيء إلى نظيره وعطفه على ما هو أولى هو الواجب وإن اعترض بينهما ما ليس منهما ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب كثيرة قال الله تعالى « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً » (٢)

__________________

(١) آل عمران : ١٩٤.

(٢) الكهف : ٣.

٢٦٨

وقيم من صفات الكتاب حال منه لا من صفة عوج وإن تباعد ما بينهما ومثله « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ » (١) فالمسجد الحرام هاهنا معطوف على الشهر الحرام أي يسألونك عن الشهر وعن المسجد الحرام وحكي عن بعض علماء أهل اللغة أنه قال العرب تلف الخبرين المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يرد إلى كل خبره كقوله عز وجل « وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » (٢) وهذا واضح في مذهب العرب كثير النظائر ثم قال تعالى « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ » والمعنى أنهما لا يعلمان أحدا بل ينهيان عنه ويبلغ من نهيهما عنه وصدهما عن فعله واستعماله أن يقولا إنما نحن فتنة « فَلا تَكْفُرْ » باستعمال السحر والإقدام على فعله وهذا كما يقول الرجل ما أمرت فلانا بكذا ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له إنك إن فعلته أصابك كذا وكذا وهذا هو نهاية البلاغة في الكلام والاختصار الدال مع اللفظ القليل على المعاني الكثيرة لأنه أشعر بقوله تعالى « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ » عن بسط الكلام الذي ذكرناه ولهذا نظائر في القرآن قال الله تعالى « مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ » (٣) ومثل قوله تعالى « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » (٤) أي فيقال للذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم وأمثاله أكثر من أن نورد ثم قال تعالى « فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ » وليس يجوز أن يرجع الضمير على هذا الجواب إلى الملكين وكيف يرجع إليهما وقد نفى تعالى عنهما التعليم بل يرجع إلى

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) العنكبوت : ٧٣.

(٣) المؤمنون : ٩١.

(٤) آل عمران : ١٠٦.

٢٦٩

الكفر والسحر وقد تقدم ذكر السحر وتقدم أيضا ذكر ما يدل على الكفر ويقتضيه في قوله تعالى « وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا » فدل كفروا على الكفر والعطف عليه مع السحر جائز وإن كان التصريح وقع بذكر السحر دونه ومثل ذلك قوله تعالى « سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى » (١) أي يتجنب الذكرى الأشقى ولم يتقدم تصريح بالذكرى لكن دل عليها قوله « سَيَذَّكَّرُ » ويجوز أيضا أن يكون معنى « فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما » أي بدلا مما علمهم الملكان ويكون المعنى أنهم يعدلون عما علمهم ووقفهم عليه الملكان من النهي عن السحر إلى تعلمه واستعماله. كما يقول القائل ليت لنا من كذا وكذا كذا أي بدلا منه كما قال الشاعر :

جمعت من الخيرات وطبا وعلبة

وصرا لأخلاف المزممة البزل

ومن كل أخلاق الكرام تميمة

وسعيا على الجار المجاور بالبخل

يريد جمعت مكان الخيرات ومكان أخلاق الكرام هذه الخصال الذميمة. وقوله « ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ » فيه وجهان أحدهما أن يكونوا يغوون أحد الزوجين ويحملونه على الشرك بالله تعالى فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه ليفرق بينهما اختلاف النحلة والملة والوجه الآخر أن يسعوا بين الزوجين بالنميمة والوشاية والإغراء والتمويه بالباطل حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة.

وثالث الوجوه في الآية أن تحمل ما في قوله تعالى « وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ » على الجحد والنفي فكأنه تعالى قال واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ويكون قوله تعالى « بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ » من المؤخر الذي معناه التقديم فيكون على هذا التأويل هاروت وماروت رجلين من جملة الناس هذان اسماهما وإنما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا

__________________

(١) الأعلى : ١٠ ـ ١٢.

٢٧٠

وتبيينا ويكون الملكان المذكوران اللذان نفى تعالى عنهما السحر جبرئيل وميكائيل لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبرئيل وميكائيل إلى سليمان فأكذبهما الله تعالى بذلك ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه تعالى قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله « وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ » يعني تعالى حكم داود وسليمان ويكون قوله تعالى على هذا التأويل : « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ » راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين أو من الإنس المتعلمين للسحر من الشياطين والعاملين به ومعنى قولهما « إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ » يكون على طريق الاستهزاء أو التماجن والتخالع كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا هذا فعل من لا يفلح وقول من لا ينجو والله لا حصلت إلا على الخسران وليس ذلك منه على سبيل النصيحة للناس وتحذيرهم من مثل فعل فعله بل على جهة المجون والتهالك ويجوز أيضا على هذا التأويل الذي تضمن الجحد والنفي أن يكون هاروت وماروت اسمين للملكين ونفى عنهما إنزال السحر بقوله تعالى « وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ » ويكون قوله تعالى « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ » يرجع إلى قبيلتين من الجن أو إلى شياطين الجن والإنس فتحسن التثنية لهذا وقد روي هذا التأويل في حمل ما على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسرين وحكي عنه أيضا أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام ويقول متى كان العلجان ملكين إنما كانا ملكين وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله تعالى « وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ » إليهما ويمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر وهو أن لا يحمل قوله تعالى « وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ » على الجحد والنفي وهو أن لا يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتدعيه على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على هذين الملكين من السحر ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى وإن أطلق لأنه عز وجل لا ينزل السحر بل يكون منزله إليهما بعض الضلال والعصاة وأن يكون معنى أنزل وإن كان من الأرض حمل إليهما لا من

٢٧١

السماء أنه أتى به عن نجود الأرض والبلاد وأعاليهما فإن من هبط من نجد من البلاد إلى غورها يقال نزل وهبط وما جرى هذا المجرى.

فأما قوله تعالى « وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » فيحتمل وجوها منها أن يريد تعالى بالإذن العلم من قولهم أذنت فلانا بكذا وكذا إذا أعلمته وأذنت بكذا وكذا إذا أسمعته وعلمته وقال الشاعر :

في سماع يأذن الشيخ له

وحديث مثل ماذي مشار.

ومنها : أن يكون إلا زائدة ويكون المعنى وما هم بضارين به من أحد إلا بأن يخلي الله تعالى بينهم وبينه ولو شاء لمنعهم بالقهر والقسر زائدا على منعهم بالنهي والزجر.

ومنها : أن يكون الضرر الذي عنى به أنه لا يكون إلا بإذنه وأضافه إليه ما هو يلحق المسحور عن الأدوية والأغذية التي أطعمه إياه السحرة ويدعون أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور ومعلوم أن الضرر الحاصل عن ذلك من فعل الله تعالى بالعادة لأن الأغذية لا توجب ضررا ولا نفعا وإن كان المعرض للضرر من حيث كان كالفاعل له هو المستحق للذم وعليه يجب العوض.

ومنها : أن يكون الضرر المذكور إنما هو ما يحصل من التفريق بين الأزواج لأنه أقرب إليه في ترتيب الكلام والمعنى أنهم إذا أغروا أحد الزوجين فكفر فبانت منه زوجته فاستضر بذلك كانوا ضارين له بما حسنوا له من الكفر إلا أن الفرقة لم تكن إلا بإذن الله وحكمه لأنه تعالى هو الذي حكم وأمر بالتفريق بين المختلفتين الأديان فلهذا قوله تعالى « وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » والمعنى أنه لو لا حكم الله تعالى وإذنه في الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف الملة لم يكونوا بضارين له هذا الضرر من الضرر الحاصل عند الفرقة ويقوى هذا الوجه ما روي أنه كان من دين سليمان أنه من سحر بانت منه امرأته.

وأما قوله تعالى « وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » ثم قوله تعالى « لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » ففيه وجوه أولها أن يكون الذين علموا غير الذين

٢٧٢

لم يعلموا ويكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبر عنهم بأنهم نبذوا « كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ » والذين لم يعلموا هم الذين عملوا السحر وشروا به أنفسهم. وثانيها أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا لأنهم علموا شيئا ولم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة ولم يعلموا كنه ما يصير إليه من العقاب الذي لا نفاد له ولا انقطاع. وثالثها أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموه فكأنهم لم يعلموا وهذا كما يقول أحدنا لغيره ما أدعوك إليه خير لك وأعود عليك لو كنت تعقل وتنظر في العواقب وهو يعقل وينظر إلا أنه لم يعمل بموجب علمه فحسن أن يقال له مثل هذا القول وقال كعب بن زهير يصف ذئبا وغراباه تبعاه ليصيبا من زاده :

إذا حضراني قلت لو يعلمانه

ألم تعلما أني من الزاد مرمل.

فنفى عنهما العلم ثم أثبته بقوله ألم تعلما أني من الزاد مرمل وإنما المعنى في نفيه العلم عنهما أنهما لم يعملا بما علما فكأنهما لم يعلما ورابعها أن يكون المعنى أن هؤلاء القوم الذين قد علموا أن الآخرة لا حظ لهم فيها مع عملهم القبيح إلا أنهم ارتكبوه طمعا في طعام الدنيا وزخرفها فقال تعالى « وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » أي الذي آثروه وجعلوه عوضا عن الآخرة لا يتم لهم ولا يبقى عليهم وإنه منقطع زائل ومضمحل باطل وأن المآل إلى المستحق في الآخرة وكل ذلك واضح بحمد الله انتهى.

وأقول : قال في الصحاح والغمرة الشدة والجمع غمر قال القطامي يصف سفينة نوح وحان لتالك الغمر انحسار وقال الانحسار الانكشاف وقال قشعت الريح السحاب أي كشفته فانقشع وتقشع وقال الوطب سقاء اللبن خاصة وقال العلبة محلب من جلد وقال صررت الناقة شددت عليها الصرار وهو خيط يشد فوق الخلف والتودية لئلا يرضعها ولدها وقال الخلف بالكسر حلمة ضرع الناقة والمزممة من الزمام والبزل جمع البازل وهو جمل أو ناقة كمل

٢٧٣

لها تسع سنين والماذي العسل الأبيض ويقال شرت العسل أي اجتنيتها وأشرت لغة ذكره الجوهري واستشهد بالبيت.

وقال الرازي في تفسير هذه الآية : أما قوله « وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ » ففيه مسائل : المسألة الأولى قوله « وَاتَّبَعُوا » حكاية عما تقدم ذكره وهم اليهود ثم فيه أقوال أحدها أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه واله وثانيها أنهم الذين تقدموا من اليهود وثالثها أنهم الذين كانوا في زمن سليمان من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا فالذين منهم كانوا في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر ورابعها أنه يتناول الكل وهذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره إذ لا دليل على التخصيص وخامسها أنه عائد إلى من تقدم ذكره في قوله « نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » قال السدي لما جاءهم محمد صلى الله عليه واله عارضوا بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فهذا هو قوله « وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ » ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحرة.

المسألة الثانية : ذكروا في تفسير « تَتْلُوا » وجهين أحدهما أن المراد منه التلاوة والإخبار وثانيهما قال أبو مسلم « تَتْلُوا » أي تكذب على ملك سليمان يقال تلا عليه إذا كذب وتلا عنه إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران والأقرب هو الأول لأن التلاوة حقيقة في الخبر إلا أن المخبر لا يقال في خبره إذا كان كذبا أنه يقول (١) على فلان وإنه قد تلا على فلان ليميز بينه وبين الصدق الذي لا يقال (٢) على فلان بل يقال روي عن فلان وأخبر عن فلان وتلا عن

__________________

(١) في المصدر : انه تلا فلان.

(٢) في المصدر : الذي لا يقال فيه روى على فلان.

٢٧٤

فلان وذلك لا يليق إلا بالإخبار والتلاوة ولا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان ما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف.

المسألة الثالثة : اختلفوا في الشياطين فقيل المراد شياطين الجن وهو قول الأكثرين وقيل شياطين الإنس وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقيل شياطين الإنس والجن معا أما الذين حملوه على شياطين الجن فقالوا إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب فكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الجن والإنس والريح التي تجري بأمره وأما الذين حملوه على شياطين الإنس فقالوا روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه إن هلك الظاهر منها بقي ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء فهذا معنى « ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ » واحتج القائلون بهذا الوجه على فساد القول الأول بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخفيا (١) فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع وذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان فإن قيل إذا جوزتم ذلك على شياطين الإنس فلم لا يجوز مثله من شياطين الجن قلنا الفرق أن الذي يفتعله الإنسان لا بد وأن يظهر من بعض الوجوه أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن وهو أن يزيد في كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك ويبقى مخفيا فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان.

المسألة الرابعة : أما قوله « عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ » فقيل في ملك سليمان عن

__________________

(١) في المصدر : محققا.

٢٧٥

ابن جريح وقيل على عهد ملك سليمان والأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر فيقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان والله أعلم.

المسألة الخامسة : اختلفوا في المراد بملك سليمان فقال القاضي إن ملك سليمان هو النبوة أو يدخل فيها النبوة وتحت النبوة الكتاب المنزل عليه والشريعة فإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر وقد دفنوها تحت سرير ملكه ثم أخرجوها بعد موته وأوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولا على ملكه في الحقيقة والأصح عندي أن يقال القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان والله أعلم.

المسألة السادسة : السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان وجوه أحدها أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره وترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم. وثانيها أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر. وثالثها أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسرارا عجيبة. فغلب على الظنون أنه عليه‌السلام استفاد السحر منهم. أما قوله تعالى « وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ » فهذا تنزيه له عليه‌السلام عن الكفر وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر وقيل فيه أشياء أحدها ما روي عن بعض أحبار اليهود أنهم قالوا ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا وما كان إلا ساحرا فأنزل الله هذه الآية. وثانيها أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله منه. وثالثها أن قوما زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاحق بغيره فقال « وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا » يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى

٢٧٦

سليمان ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال تعالى « يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ »

واعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه الأول في البحث عنه بحسب اللغة فنقول ذكر أهل اللغة إنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالفتح هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه قال لبيد :

ونسحر بالطعام وبالشراب.

قيل فيه وجهان أحدهما أنا نعلل ونخدع كالمسحور والمخدوع والآخر نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال :

فإن تسألينا مم (١) نحن فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحر.

وهذا الوجه يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ويحتمل أيضا أن يريد بالمسحر أنه ذو السحر والسحر هو الرئة وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضا يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة توفي رسول الله بين سحري ونحري وقوله تعالى « إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ » (٢) يعني من المجوف الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم « ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا » (٣) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة « ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ » (٤) وقال « فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ » (٥) فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة.

الوجه الثاني : اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر مخفي (٦) سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع و

__________________

(١) في المصدر : فيم.

(٢) الشعراء : ١٥٣ و ١٨٥.

(٣) الشعراء : ١٥٤.

(٤) يونس : ٨١.

(٥) الأعراف : ١١٦.

(٦) في المصدر : يخفى.

٢٧٧

متى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى « سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ » يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى « يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » (١) وقد يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد روي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه واله الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقال لعمرو خبرني عن الزبرقان فقال مطاع في ناديه شديد العارض مانع لما وراء ظهره قال الزبرقان هو والله يعلم أني أفضل منه فقال عمرو إنه زمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما أرضاني فقلت أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله صلى الله عليه واله إن من البيان لسحرا. فسمى النبي صلى الله عليه واله بعض البيان سحرا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته.

فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبئ عنه سحرا وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يكون عند إخفاء الظاهر؟

قلنا : إنما سماه سحرا لوجهين الأول أن ذلك العذر (٢) للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب فمن هذا الوجه سمي سحرا لا من الوجه الذي ظننت. الثاني أن المقتدر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا وتقبيح ما يكون حسنا فذلك يشبه السحر من هذا الوجه في أقسام السحر.

واعلم أن السحر على أقسام : القسم الأول سحر الكلدانيين والكذابين (٣) الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة وهم الذين

__________________

(١) طه : ٦٦.

(٢) في المصدر : القدر.

(٣) في المصدر : الكلدانيين والسكدانيين.

٢٧٨

بعث الله تعالى إبراهيم مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم في مذاهبهم.

وهؤلاء فرق ثلاث : الفريق الأول هم الذين زعموا أن هذه الأفلاك والكواكب واجبة الوجود في ذواتها وأنه لا حاجة بهذية ذواتها وصفاتها إلى موجب ومدبر وخالق وعلة البتة ثم إنها هي المدبرة لعالم الكون والفساد وهؤلاء هم الصابئة الدهرية والفريق الثاني الذين قالوا الجسم يستحيل أن يكون واجبا لذاته لأن كل جسم مركب وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل جسم فهو مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مؤثر فله مؤثر وهذه الأجرام الفلكية والكوكبية لا بد لها من مؤثر ثم قالوا ذلك المؤثر إما أن يكون حادثا أو قديما فإن كان حادثا افتقر إلى مؤثر آخر ولزم التسلسل وهو محال وإن كان قديما فإما أن يكون كل ما لا بد منه في مؤثريته حاصلا في الأزل أو ليس كذلك ويدخل في هذا التقسيم قول من يقول إنه إنما خلق العالم في الحيز الذي خلقه فيه لأن خلقه في ذلك الحيز أصلح من خلقه في حيز آخر أو لأن خلقه كان موقوفا على انقضاء الأزل أو لأن خلقه كان موقوفا على حضور وقت معين إما مقدر أو محقق فإن قلنا إن كل ما لا بد منه في مؤثريته كان حاصلا في الأزل لزم أن يكون الأثر واجب الترتب عليه في أزل لأن الأزل لو لم يكن واجب الترتب عليه فهو إما ممتنع الترتب عليه فهو ليس بمؤثر البتة وقد فرضناه مؤثرا هذا خلف وإن كان ممكن الترتب عليه وممكن اللاترتب عليه أيضا فلنفرض تارة مصدرا للأثر بالفعل وأخرى غير مصدر له بالفعل فامتياز الحيز الذي صار المؤثر فيه مصدرا للأثر بالفعل عن الحيز الذي لم يصر فيه كذلك إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أو لم يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل انضمام هذا القيد إليه كل ما لا بد منه في المؤثرية وقد فرضناه كذلك وهذا خلف وإن لم يتوقف فقد ترجح الممكن من غير مرجح البتة وتجويزه يسد باب الاستدلال بالممكن على وجود الصانع وأما إن قلنا بأن كل ما لا بد

٢٧٩

منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل فإن استمر ذلك السلب وجب أن لا يصير البتة مؤثرا لكنا قد فرضناه مؤثرا في الأزل هذا خلف وإن تغير فقد حدث بعض ما لا بد منه في المؤثرية فإن كان حدوثه لا لأمر فقد وقع الممكن لا عن مؤثر وهو محال وإن كان حدوثه لأمر لم يكن الشيء الذي فرضناه حادثا أولا كذلك لأنه حصل قبله حادث آخر وكنا فرضناه حادثا أولا وهذا خلف وأيضا فإنا ننقل الكلام إليه ويلزم التسلسل وهو محال.

قالوا : وهذا يقتضي استناد الممكنات إلى مؤثر تام المؤثرية في الأزل ومتى كان كذلك وجب كون الآثار أزلية دائمة فهذا يقتضي أن لا يحصل في العالم شيء من التغيرات البتة لكن التغيرات مشاهدة قطعا فلا بد من حيلة فنقول ذلك المؤثر القديم الواجب لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر حتى يكون انقضاء المتقدم شرطا لحصول المتأخر عن ذلك المبدإ القديم وعلى هذا الطريق يصير المبدأ القديم مبدأ للحوادث المتغيرة فإذن لا بد من توسط حركة دائمة يكون كل جزء منها مسبوقا بالآخر لا إلى أول وهذه الحركة يمتنع أن تكون مستقيمة وإلا لزم القول بأبعاد غير متناهية وهو محال فلا بد من جرم متحرك بالاستدارة وهو الفلك فثبت أن حركات الأفلاك كالمبادئ القريبة للحوادث الحادثة في هذا العالم والمدبرات الملاصقة بها فلا جرم قالوا بإلهيتها واشتغلوا بعبادتها وتعظيمها واتخذوا لكل واحد منها هيكلا مخصوصا وصمنا معينا فاشتغلوا بخدمتها فهذا هو دين عبدة الأصنام والأوثان ثم إن هؤلاء قالوا إن المبدأ الفاعلي لا يكفي وجوده في حصول الفعل بل لا بد من حضور المبدإ القابلي المنفعلي ولا يكفي حضوره أيضا ما لم تكن الشرائط حاصلة والموانع زائلة وربما حدث أمر مشكل غريب في العالم الأعلى يصلح لإفادة هيئة غريبة في مادة العالم الأسفل فإذا لم تكن المادة السفلية متهيئة لقبول تلك الهيئة من الأشكال العلوية لم تحدث تلك الهيئة ثم إن فوات تلك التهيؤ تارة تكون لأجل كون المادة ممنوة بالمعوقات المانعة عن قبول ذلك الأثر وتارة لأجل فوات

٢٨٠