فقه الحضارة في ضوء فتاوى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

فقه الحضارة في ضوء فتاوى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : الفقه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥

١

٢

٣

٤
٥

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

في تراثنا الحضاري صفحات مشرقة تواكب مسيرة التطور الإنساني ، وتنطلق مع التقدم البشري في مجالاته كافةً.

وكان لفتح باب الاجتهاد عند الإمامية أثره الفاعل في تحرير قضايا الإنسان المعاصر من ربقة الجمود والتقوقع الفكري ، فسيّر بين يديه جملة ما يحتاج إليه من التشريع الذي يلبيّ حاجاته الآنية والمستقبلية ، وقد سجل بذلك سبقاً علميّا متحضراً ، وأحرز نصراً أكاديمياً متطوراً.

وكان للنداءات الملحّة التي أطلقها جيل من المثقفين ، وطائفة من الطبقة المتنورة الواعية ، وهي تدعو إلى إغناء المكتبة العربية بجمهرة من « الفقه الحضاري » وإثراء الحياة المعاصرة بكوكبة من « فقه الحضارة » ما اتسعت له هذه الصفحات من الإثراء والإغناء استجابةً لتلك الدعوات الخيّرة التي انطلقت بداعي الغيرة على الدين باعتباره نظاماً وهدايةً وتشريعاً يتحقق من مجموعها سعادة البشر ، لا سيما والشباب يتعايشون في ظل المتغيرات الحديثة روحاً ومضموناً ، ولابد لهم من شعاع هادٍ يلتمسون في

٦

ضوئه معالم الحق والسداد بعيدةً عن المناخ المتطرف ، وقريبة من الروح الموضوعي ، وهم ما بين مغترب عن موطنه ، أو مهاجر عن بلده ، أو متطلع إلى مفاهيم دينه وهو يخوض غمار الحياة في أوروبا والبلدان الأجنبية.

لكل ما تقدم يسرني أن أتقدم لشبابنا المتحفز الرائد « فقه الحضارة » في ضوء فتاوى سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوريف.

وكانت طبيعة هذا الموضوع أن انتظم في ستة فصول مختارة : الفصل الاول : وكان بعنوان : الطب الحديث وظواهر الاكتشاف المختبري ، وقد اشتمل على تسعة مباحث هي :

١ ـ أحكام التشريح في منظور عصري.

٢ ـ الترقيع بالأعضاء والواقع الطبي.

٣ ـ التلقيح الصناعي والتخصيب.

٤ ـ أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ.

٥ ـ تحديد النسل وموانع الحمل.

٦ ـ مرض الإيدز أو فقدان المناعة المكتسبة.

٧ ـ أخطار التدخين .. ونوادر علمائنا الأعلام.

٨ ـ وباء المخدّرات وأضرار الخمور.

٩ ـ فتاوى فقهية ذات أبعاد طبيّة.

وكان الفصل الثاني بعنوان : الاقتصاد الوطني والشؤون

٧

المالية ، وقد اشتمل على خمسة بحوث رئيسية ، كان مبحثها الأول ، وهو بعنوان أعمال المصارف والبنوك ثرياً بخمسة عشر موضوعاً :

١ ـ الاقتراض ـ الإيداع.

٢ ـ الاعتمادات.

٣ ـ خزن البضائع.

٤ ـ بيع البضائع عند تخلّف أصحابها عن تسلّمها.

٥ ـ الكفالة عند البنوك.

٦ ـ بيع السهام.

٧ ـ بيع السندات.

٨ ـ الحوالات الداخلية والخارجية.

٩ ـ جوائز البنك.

١٠ ـ بيع العملات الأجنبية وشراؤها.

١١ ـ السحب على المكشوف.

١٢ ـ خصم الكمبيالات.

١٣ ـ العمل لدى البنوك.

١٤ ـ فتاوى مصرفية.

ثانياً : أوراق اليانصيب.

ثالثاً : عقد التأمين.

٨

رابعاً : إخلاء المحلاّت التجارية.

خامساً : فتاوى حضارية بأموال الأوروبيين.

وكان الفصل الثالث بعنوان : تخطيط المدن واستصلاح الأراضي ، وقد اشتمل على خمسة مباحث مهمة :

١ ـ الشوارع العامة في مظاهرها المتعددة.

٢ ـ الطرق المشتركة ، في الإعمار والاستثمار.

٣ ـ الشوارع المفتوحة من قبل الدولة.

٤ ـ المياه والأنهار والآبار والعيون.

٥ ـ إحياء الأرض الموات.

وكان الفصل الرابع بعنوان : السفر إلى أوروبا والخطوط الجوية والقبلة في نيويورك ، وقد انتظم في أربعة مباحث متأصلة:

١ ـ السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية.

٢ ـ حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري.

٣ ـ القبلة في نيويورك.

٤ ـ متفرقات في أحكام السفر.

وكان الفصل الخامس بعنوان : شؤون الأطعمة واللحوم والأغذية والمعلّبات في الدول الأجنبية ، وقد انتظم في أربعة بحوث رئيسية :

١ ـ التذكية واللحوم وطعام غير المسلمين.

٩

٢ ـ ريادة المطاعم المشبوهة والعمل فيها.

٣ ـ المعلّبات والمنتجات في الدول الأوروبية.

٤ ـ فتاوى حضارية في الإغذية والأشربة.

وكان الفصل السادس بعنوان : مظاهر الحياة العامة والعلاقات المحرّمة والجائزة ، وقد اشتمل على خمسة مباحث غنية بمسائل الابتلاء لدى الشباب والنساء في مناخ اوروبا :

١ ـ علاقة المسلم بسواه من غير المسلمين.

٢ ـ الاختلاط المزدوج في المدارس والمسابح والحفلات.

٣ ـ الإحساس الجنسي ودرجات التلذذ الشهوي.

٤ ـ ما لا يجوز للمرأة وما يجوز.

٥ ـ مشاهد المجون والرقص والموسيقى والغناء والقمار.

وكانت مصادر هذا البحث تعتمد مؤلفات السيد دام ظله : منهاج الصالحين بأجزائه الثلاثة ، والمسائل المنتخبة ، وفقه المغتربين ، والمستحدثات من المسائل الشرعية ، يضاف إليها آراء سماحة السيد التي تلقاها المؤلف ، وجملة من الفتاوى الخطية المصورة في حوزة المؤلف.

ولا أدعي لهذا الكتاب الشمول والكمال ، فالشمولية قد لا تستطاع ، والكمال لله وحده ، ولكنه إسهامٌ في تأصيل الفكر الحضاري للفقه الإمامي ، واستجابة لدعوات الطبقة المثقفة في الاستزادة من المعارف الإنسانية والتشريعية بوقت واحد.

١٠

أرجو من الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون لنا ذخراً يوم الدين ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

النجف الأشرف

الدكتور محمد حسين علي الصغير

١١

الفصل الأول

« الطبُّ الحديث وظواهر الاكتشاف المختبري »

١ ـ أحكام التشريح في منظور عصري

٢ ـ الترقيع بالأعضاء والواقع الطبيّ

٣ ـ التلقيح الصناعي والتخصيب

٤ ـ أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ

٥ ـ تحديد النسل وموانع الحمل

٦ ـ مرض الإيدز أو فقدان المناعة المكتسبة

٧ ـ أخطار التدخين .. ونوادر علمائنا الأعلام

٨ ـ وباء المخدّرات وأضرار الخمور

٩ ـ فتاوى فقهية ذات أبعاد طبّية

١٢
١٣

(١)

أحكام التشريح في منظور عصري

التشريح عملية يفرضها الواقع الطبي كشفاً عن الجرائم حيناً ، وتعليماً لطلاب الدراسات الطبية حيناً آخر ، وتوصلاً إلى حقائق الأشياء المجهولة بعض الأحايين ، وهو بعد مادة تدريسية على منتسبي كلية الطب اجتيازها بنجاح.

والمشكلة المعاصرة التي يعاني منها الطب في البلدان الإسلامية والعربية هي حرمة الإنسان حياً وميتاً عند المسلمين في ضوء تعليمات الدين الحنيف ، فالمسلمون لا يسلمون موتاهم للتشريح لهذا الملحظ من وجه ، وللعاطفة المتأصلة في النفوس من الشفقة والعطف بهذا الميت أو ذاك لقربه منهم ، ولحبهم له ، ولحرمته عندهم ، فكيف يسلمونه استسلاماً ، وهم يستطيعون الحفاظ عليه من كل غائلة وهو واجبهم الشرعي الذي لا محيص عنه.

والطب العدلي ، والغرض العلمي يتطلبان معاً توفير الجثث للتشريح ، وقد اضطرت جملة من المؤسسات الطبية إلى استيراد

١٤

الجثث من الخارج ، أو شرائها من الذين يبيعون جثثهم في حياتهم ، وذلك لتحقيق الجانب العلمي والتعليمي والعدلي الذي توفره نتائج التشريح في هذه المستويات بخاصة.

ولمّا كانت ضرورة التشريح قائمة بذاتها ، ولا خلاص منها ، ولا مناص عنها ، فقد استفرغ الفقه الحضاري جهده التشريعي ، وأعطى الحلول الكفيلة بتقليص حجم المشكلة إلى أدنى مستوى ممكن . فلا يجوز تشريح بدن الميّت المسلم ، ويجوز تشريح بدن الميّت الكافر ما عدا محقون الدم ، ومع هذا فيجوز تشريح بدن الميت الكافر محقون الدم في حالتين هما : إذنه في حال الحياة بذلك ، أو إذن وليّه بعد وفاته . وعند الضرورة القصوى يجوز تشريح بدن المسلم في حالة توقف حياة أحد المسلمين عليه ضمن تدرج سيأتي فيما بعد. وإليك في هذا الضوء معالجة سماحة السيد السيستاني دام ظله الوارف للموضوع من خلال ما توافر لدينا من فتاواه الشرعية :

١ ـ لا يجوز تشريح بدن الميّت المسلم ، فلو فعل ذلك لزمته الديّة على تفصيل مذكور في كتاب الديّات.

٢ ـ يجوز تشريح بدن الميّت الكافر بأقسامه إذا لم يكن محقون الدم في حال حياته ، وإلا ـ كما لو كان ذميّاً ـ فالأحوط لزوماً الاجتناب عن تشريح بدنه ، نعم إذا كان ذلك جائزاً في شريعته ـ مطلقاً أو مع إذنه في حال الحياة ، أو إذن وليّه بعد الوفاة ـ فلا يبعد جوازه حينئذٍ. وأما المشكوك كونه محقون الدم في حال الحياة ، فيجوز تشريح بدنه إذا لم تكن أمارة على كونه كذلك.

١٥

٣ ـ لو توقف حفظ حياة مسلم على التشريح ، ولم يكن تشريح الكافر غير محقون الدم ، أو مشكوك الحال ، جاز تشريح غيره من الكفار ، وإن لم يكن ذلك أيضاً ، جاز تشريح المسلم ، ولا يجوز تشريح المسلم لغرض التعلم ونحوه ما لم تتوقف عليه حياة مسلم (١).

بالإضافة إلى ما تقدم فقد تطلب بعض الدوائر في بعض الحالات تشريح جثة المتوفى لمعرفة سبب الوفاة . فمتى يجوز السماح لها بذلك؟ ومتى لا يجوز.

وقد أفتى سماحة السيد دام ظله بقوله :

* لا يجوز لولي الميّت المسلم أن يسمح بتشريح جسد الميّت للغرض المذكور ونحوه ، ويلزمه الممانعة منه مع الإمكان (٢).

__________________

(١) السيد السيستاني | منهاج الصالحين ١| ٤٥٧ ـ ٤٥٨ + المستحدثات من المسائل الشرعية | ٧٣ ـ ٧٤ طبعة لندن.

(٢) فتوى خطية مصورة في حوزة المؤلف + فقه المغتربين ٢٤٢ وما بعدها.

١٦

(٢)

الترقيع بالأعضاء والواقع الطبِّي

الترقيع بالأعضاء بنقلها من إنسان إلى إنسان حياً أو ميتاً ظاهرة متطورة من ظواهر الطب الحديث ، وقد أحرزت الجراحة المتخصصة نصراً هائلاً في زراعة الكلى والقلب والعيون وحتى الأطراف ، وبذلك تمت عمليات الإنقاذ للإنسان من أخطار مرضيّة كانت تعتبر مستحيلة إلى عهد قريب ، وبذلك يكون الطب قد تقدم خطوة جريئة في ميدان الجراحة المبرمجة والنموذجية ، وهذه الظاهرة إحدى أطاريح الطب التي فرضتها الحضارة المعاصرة ضمن واقع طبيّ له أبعاده المستقبلية في قادم الأيام ، وكان لزاماً على الفقه الإمامي وهو يخوض معركته العلمية في ظل التحضر المتنامي أن يطرح على الساحة الطبية ، أحكام هذه الظاهرة الفريدة.

وكان لسماحة السيد مد ظله العالي الميدان الرحب في هذا الانبثاق الجديد ، فقد أعطى الحلول المناسبة ضمن الفتاوى الآتية :

١٧

١ ـ لا يجوز قطع عضو من أعضاء الميّت المسلم كعينه أو نحوها لإلحاقه ببدن الحي ، فلو قطع فعلى القاطع الدية.

وهل يجوز الإلحاق بعد القطع أو يجب دفن الجزء المبان؟

لا يبعد الثاني. نعم ، لا يجب قطعه بعد الإلحاق وحلول الحياة فيه.

٢ ـ إذا توقف حفظ حياة المسلم على قطع عضو من أعضاء الميّت المسلم لإلحاقه ببدنه جاز القطع ، ولكن تثبت الدية على القاطع على الأحوط ، وإذا أُلحق ببدن الحي ترتبت عليه بعد الإلحاق أحكام بدن الحيّ ، نظراً لأنه أصبح جزءاً منه.

٣ ـ هل يجوز قطع جزء من الميت المسلم لإلحاقه ببدن الحي إذا كانت عضوه متوقفة عليه؟.

* الظاهر عدم الجواز.

٤ ـ إذا أوصى بقطع بعض أعضائه بعد وفاته ليلحق ببدن الحيّ من غير أن تتوقف حياة الحي على ذلك ، ففي نفاذ وصيته وجواز القطع حينئذٍ إشكال ، ولكن الأظهر عدم وجوب الدية على القاطع.

٥ ـ هل يجوز قطع جزء من إنسان حيّ للترقيع إذا رضي به؟

* في هذا الشأن تفصيل :

إذا كان قطعه يلحق ضرراً بليغاً به ـ كما في قطع العين واليد والرجل وما شاكلها ـ لم يجز ، وإلا جاز ـ كما في قطع قطعة جلد أو لحم أو جز من النخاع ونحوه ـ.

١٨

وهل يجوز أخذ المال إزاء ذلك؟

* الظاهر جوازه.

٦ ـ يجوز قطع عضو من بدن ميّت كافر غير محقون الدم ، أو مشكوك الحال لترقيع بدن المسلم ، وتترتب عليه بعده أحكام بدنه ، لأنه صار جزءاً له ، كما أنه لا بأس بالترقيع بعضو من أعضاء بدن نجس العين من الحيوان ـ كالكلب ونحوه ـ وتترتب عليه أحكام بدنه ، وتجوز الصلاة فيه باعتبار طهارته بصيرورته جزءاً من بدن الحيّ بحلول الحياة فيه (١).

٧ ـ هل التبرع بالعضو الحي لحي كما في الكلية ، ومن الميت للحي بالوصية ، سواء من المسلم للكافر ، أم العكس جائز؟ وهل تختلف الأعضاء في هذا المسألة عن بعضها البعض؟

* أما تبرع الحي ببعض أجزاء جسمه لإلحاقه ببدن غيره فلا بأس به ، إذا لم يكن يلحق به ضرراً بليغاً ، كما في التبرع بالكلية لمن لديه كلية أخرى سليمة. وأما قطع عضو من الميت بوصية منه لإلحاقه ببدن الحي فلا بأس به إذا لم يكن الميت مسلماً أو من بحكمه أو كان مما يتوقف عليه إنقاذ حياة مسلم ، وأما في غير هاتين الصورتين ، ففي نفوذ الوصية وجواز القطع إشكال. ولكن لا تثبت الديّة على المباشر للقطع مع الوصية على كل تقدير (٢).

__________________

(١) السيد السيستاني | منهاج الصالحين ١| ٤٥٨ ـ ٤٥٩ + المستحدثات من المسائل الشرعية ٧٤ وما بعدها.

(٢) فقه المغتربين | ٢٤٣.

١٩

(٣)

التلقيح الصناعي والتخصيب

تطورت وسائل الإخصاب والإنجاب في معطيات الطب الحديث وهي تواجه عنت العقم ، وعدم استقرار الرحم ، والإنزال المبكر ، وعدم تلاقح الحويمن ببيضة المرأة ، وردود الفعل المعاكس ، وسوى هذا ، مما حدا بكبار الأطباء في العالم إلى إيجاد البديل المناسب ، فكان البديل هو التلقيح الصناعي من وجه. والعمل على إنجاح مشروع أطفال الأنابيب من وجه آخر.

وسواء أحقق الطب مشروعه ، أم لم يكتب له النجاح فيه ، إلا أن متغيرات الزمن ، وقطع المسافات الهائلة في شتى الأبعاد بحكمة ورويّة ، قد تضافرا لإسماع الصوت الحديث في التلقيح وطلب الأبناء مما جعل الفقه الإسلامي أمام توجهاته الإفتائية وجهاً لوجه ، وقد نهد سماحة السيد دام ظله الوريف لهذا العبء ، ملخصاً أبرز معالمه وفق منظور الشريعة الغراء في البرنامج الآتي :

١ ـ « لا يجوز تلقيح المرأة بماء غير الزوج ، سواءً أكانت

٢٠