فقه الحضارة في ضوء فتاوى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

فقه الحضارة في ضوء فتاوى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : الفقه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥

لم يكن هتكاً. ومن ذلك يظهر حال الأراضي الباقية منها ، فإنها على الغرض الأول لا يجوز التصرف فيها وشراؤها إلا بإذن مالكها.

وعلى الغرض الثاني لا يجوز ذلك إلا بإذن المتولي ومن بحكمه ، فيصرف ثمنها في مقابر أخرى للمسلمين مع مراعاة الأقرب فالأقرب على الأحوط.

وعلى الغرض الثالث ، يجوز ذلك من دون حاجة إلى إذن أحد ، ما لم يستلزم التصرّف في ملك الغير كآثار القبور المهدّمة (١).

__________________

(١) السيستاني | منهاج الصالحين ١|٤٦٢ وما بعدها.

١٢١

(٤)

المياه والأنهار والآبار والعيون

وهي الأصل في استصلاح الأراضي ، واستنزال البركات ، ففيها تزدهر البلاد وتعمر الديار ، وفيها حياة الناس والحيوان والمزارع ، وعليها يقوم سلّم الحضارة فيبلغ ذروته في الإعمار والاستثمار والخيرات ، وعليها مدار الحياة البشرية في بلوغ النعم وسدّ متطلبات العيش الرغيد ، فلا حياة بلا ماء ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )وهو أحد المباحات لكل أحد ، وفي ضوء مصادره وتملكه وإباحته ومسلتزماته وتبعاته تنطلق عدة مسائل تحدد الأحكام الشرعية المناطة به.

١ ـ مياه الشطوط والأنهار الكبار كدجلة والفرات وما شاكلهما ، وهكذا الصغار التي جرت بنفسها من العيون أو السيول ، أو ذوبان الثلوج ، وكذا العيون المتفجرة من الجبال أو في أراضي الموات ونحوها ، كلها من الأنفال ـ أي أنها مملوكة للإمام عليه‌السلام ـ ولكن من حاز منها شيئاً بآنية أو حوض أو غيرهما ، وقصد تملكه ملكه من غير فرق في ذلك بين المسلم والكافر.

١٢٢

٢ ـ كل ماء من مطر أو غيره لو أجتمع بنفسه في مكان بلا يد خارجية عليه ؛ فهو من المباحات الأصلية ، فمنحازه بإناء أو غيره وقصد تملكه ملكه من دون فرق بين المسلم والكافر في ذلك.

٣ ـ مياه الآبار والعيون والقنوات التي جرت بالحفر لا بنفسها ملك الحافر ، فلا يجوز لأحد التصرف فيها بدون إذن مالكها.

٤ ـ إذا شقّ نهراً من بعض الأنهار الكبار سواء أكان بشقه في أرض مملوكة له ، أو بشقه في الموات بقصد إحيائه نهراً ، ملك ما يدخل فيه من الماء إذا قصد تملكه.

٥ ـ إذا كان النهر لأشخاص متعددين ، ملك كل منهم مقدار حصته من النهر ، فإن كانت حصة كل منهم من النهر بالسوية اشتركوا في الماء بالسوية ، وإن كانت بالتفاوت ملكوا الماء بتلك النسبة ، ولا تتبع نسبة استحقاق الماء نسبة استحقاق الأراضي التي تُسقى منه.

٦ ـ الماء الجاري في النهر المشترك حكمه حكم سائر الأموال المشتركة فلا يجوز لكل واحد من الشركاء التصرف فيه بدون إذن الباقين. وعليه فإن أباح كل منهم لسائر شركائه أن يقضي حاجته منه في كل وقت وزمان ، وبأي مقدار شاء جاز له ذلك.

٧ ـ إذا وقع بين الشركاء تعاسر وتشاجر ؛ فإن تراضوا بالتناوب والمهاباة بالأيام أو الساعات فهو ، وإلاّ فلا محيص من

١٢٣

تقسيمه بينهم بالأجزاء ، بأن توضع في فم النهر حديدة مثلاً ذات ثقوب متعددة متساوية ، ويجعل لكل منهم من الثقوب بمقدار حصته ، ويوصل كل منهم ما يجري في الثقبة المختصة به إلى ساقيته ، فإن كانت حصة أحدهم سدساً ، والآخر ثلثاً والثالث نصفاً ، فلصاحب السدس ثقب واحد ، ولصاحب الثالث ثقيان ، ولصاحب النصف ثلاثة ثقوب ، فلامجموع ستة.

٨ ـ القسمة بحسب الأجزاء لازمة ليس لأحدهم الرجوع عنها بعد وقوعها ، والظاهر أنها قسمة إجبار ، فإذا طلبها أحد الشركاء أجبر الممتنع منهم عليها.

وأما القسمة بالمهاباة والتناوب فهي ليست بلازمة ، فيجوز لكل منهم الرجوع عنها حتى فيما إذا استوفى تمام نوبته ، ولم يستوف ألآخر نوبته ، وإن ضمن المستوفي حينئذٍ مقدار ما استوفاه بالمثل.

٩ ـ إذا اجتمعت أملاك على ماء عينٍ ، أو وادٍ ، أو نهر ، أو نحو ذلك من المشتركات كان للجميع حقّ السقي منه ، وليس لأحد منهم إحداث سدّ فوقها ليقبض الماء كله أو ينقصه عن مقدار احتياج الباقين.

وعندئذٍ فإن كفى الماء للجميع من دون مراجعة فهو ، وإلاّ قدّم الأسبق فالأسبق في الأحياء إن كان عُلم السابق ، وإلا قدّم الأعلى فالأعلى والأقرب فالأقرب إلى فوهة العين أو أصل النهر ، وكذا الحال في الأنهار المملوكة المنشقة من الشطوط ، فإن كفى الماء للجميع وإلا قدّم الأسبق فالأسبق ـ أي : من كان

١٢٤

شق نهره أسبق من شق نهر الآخر ـ إن كان هناك سابق ولاحق وعُلِم ، وإلا فيقبض الأعلى بمقدار ما يحتاج إليه ثم ما يليه وهكذا.

١٠ ـ تنقية النهر المشترك وإصلاحه ونحوهما على الجميع بنسبة ملكهم إذا كانوا مقدمين على ذلك باختيارهم ، وإما إذا لم يقدم على ذلك إلا البعض لم يجبر الممتنع ، كما أنه لا يجوز التصرف فيه لغيره إلا بإذنه ، وإذا أذن لهم بالتصرف فليس لهم مطالبته بحصته من المؤنة إلا إذا كان إقدامهم بطلبه وتعهده ببذل حصته.

١١ ـ إذا كان النهر مشتركاً بين القاصر وغيره ، وكان إقدام غير القاصر متوقفاً على مشاركة القاصر ، إمّا لعدم اقتداره بدونه أو لغير ذلك ، وجب على ولي القاصر ـ مراعاة لمصلحته ـ إشراكه في التنقية والتعمير ونحوهما ، وبذل المؤنة من مال القاصر بمقدار حصته.

١٢ ـ ليس لصاحب النهر تحويل مجراه إلا بإذن صاحب الرحى المنصوبة عليه بإذنه ، وكذا غير الرحى أيضاً من الأشجار المغروسة على حافتيه وغيرها.

١٣ ـ ليس لأحد أن يحمي المرعى ويمنع غيره عن رعي مواشيه إلاّ أن يكون المرعى ملكاً له ، فيجوز له أن يحميه حينئذٍ ، نعم لولي المسلمين أن يحمي المراعي العامة ، ويمنع من الرعي فيها حسب ما تقتضيه المصلحة (١).

__________________

(١) السيستاني | منهاج الصالحين ٢|٢٧٣ ـ ٢٧٥.

١٢٥

إن هذا الاستيعاب الشامل لمسائل المياه والأنهار والآبار والعيون وما استلحق بها من التنقية والإصلاح والإعمار وحماية المراعي لهو بحق تسخيرٌ للموارد البشرية في استثمارها على الوجه الأكمل الذي أراده الله لعباده من أجل إعمار الأرض واستصلاحها بما فيه خير المجتمع الإنساني ، لينهض بحضارته إلى القمة في الحضارات.

١٢٦

(٥)

إحياء الأرض الموات

المراد بالموات : الأرض المتروكة التي لا ينتفع بها انتفاعاً معتدّاً به ، ولو بسبب انقطاع الماء عنها ، أو استيلاء المياه أو الأحجار أو الرمال عليها. وكالأرض التي ينبت فيها الحشيش فتكون مرعى للدواب والأنعام ، وأما الغابات التي تكثر فيها الأشجار فليست من الموات بل هي من الأراضي العامرة بالذات.

والموات على نوعين :

١ ـ الموات بالأصل ، وهو ما لم تعرض عليه الحياة من قبل ، وما هو في حكمه كأكثر البراري والمفاوز والبوادي وسفوح الجبال.

٢ ـ الموات بالعارض : وهو ما عرض عليه الخراب والمَوَتان بعد الحياة والعمران.

والموات بالأصل ملك للإمام ٧ لأنه من الأنفال ، ولكن يجوز إحياؤه لكل أحد ، فلو أحياه كان أحقّ به من غيره.

١٢٧

هذا إذا لم يطرأ عنوان ثانوي يقتضي المنع من إحيائه ، كأن يكون حريماً لملك الغير ، أو كون إحيائه خلاف المصلحة العامة. والذي يجري فيه حكم الأنفال ويجوز إحياؤه من الأراضي الموات بالعارض قسمان :

١ ـ ما باد أهله ، أو هاجروا عنه ، وعدّ بسبب تقادم السنين ومرور الأزمنة مالاً بلا مالك كالأراضي المندرسة المتروكة ، والقرى الداثرة ، والبلاد الخربة ، والقنوات الطامسة ، والتي كانت للأمم الماضية الذين لم يبق منهم أحد.

٢ ـ ما كان عامراً حين الفتح ، ولكن طرأ عليه الخراب بعد ذلك. وهذه الأراضي كما يجوز إحياؤها ، وإعمار خرابها ، كذلك يجوز حيازة موادها وأجزائها الباقية من الأخشاب والأحجار والآجر ، وما شاكل ذلك ، ويملكها الحائز إذا أخذها بقصد التملك.

ومن أحيا أرضاً مواتاً تبعها حريمها بعد الإحياء ، وحريم كل شيء مقدار ما يتوقف عليه الانتفاع به (١).

وهذا الإحياء هو الأصلاح الزراعي بعينه ، فقد أبيح للناس إحياء الأرض ، وفي هذا الضوء تجري القاعدة : الأرض لمن أحياها ، بل ويضاف إليها حريمها في كل الصور والأحوال ، ليكون بها التصرف حراً طليقاً ، وتكون السيطرة عليها متمكنة ، والطريف أن لا يكون هذا الحريم مطلقاً ملكاً لمالك ماله

__________________

(١) ظ : السيستاني | منهاج الصالحين ٢|٢٥٢ ـ ٢٥٤.

١٢٨

الحريم ، سواء أكان حريم قناة أو بئر أو قرية أو بستان أو دار أو نهر أو غيره ذلك ، وإنما لا يجوز لغيره مزاحمته فيه ، باعتبار أنه من متعلقات حقه (١).

فإذا عرف هذا ، وبغية توضيح الأمر ، نحدد فيما يأتي مساحة حريم كلّ ما له علاقة بالبحث أصلاً ومتفرعاً في ضوء رأي سماحة السيد مدّ ظله الوارف.

١ ـ حريم الدار ، عبارة عن مسلك الدخول إليها والخروج منها في الجهة التي يفتح إيها باب الدار ، ومطرح ترابها ، ورمادها ، وثلوجها ، ومصبّ مائها ، وما شاكل ذلك.

٢ ـ حريم حائط البستان ونحوه ، مقدار طرح ترابه ، والآلات ، والطين والجص إذا احتاج إلى الترميم والبناء.

٣ ـ حريم النهر ، مقدار طرح ترابه وطينه إذا احتاج إلى الإصلاح والتنقية والمجاز على حافتيه للمواظبة عليه.

٤ ـ حريم البئر ؛ موضع وقوف النازح إذا كان الإستقاء منها باليد ، موضع البهيمة والدولاب والمضخة ، والموضع الذي يجتمع فيه الماء للزرع أو نحوه ، ومصبّه ، ومطرح ما يخرج منها من الطين عند الحاجة ونحو ذلك.

٥ ـ حريم القرية ؛ ما تحتاج إليه في حفظ مصلحها ومصالح أهلها من مجمع ترابها وكناستها ، ومطرح سمادها ورمادها ، ومجمع أهاليها لمصالحهم ، ومسيل مائها ، والطرق

__________________

(١) السيستاني | منهاج الصالحين ٢|٢٥٩.

١٢٩

المسلوكة منها وإليها ، ومدفن موتاهم ، ومرعى ماشيتهم ، ومحتطبهم ، وما شاكل ذلك.

كل ذلك بمقدار حاجة أهل القرية بحيث لو زاحم مزاحم لوقعوا في ضيق وحرج ، وهي تختلف باختلاف سعة القرية وضيقها ، وكثرة أهلِها وقلتهم ، وكثرة مواشيها ودوابها وقلتها ، وهكذا ، وليس لها ضابط غير ذلك ، وليس لأحد أن يزاحم أهاليها في هذه المواضع.

٧ ـ حريم المزرعة ؛ ما يتوقف عليه الانتفاع منها ، ويكون من مرافقها كمسالك الدخول إليها والخروج منها ، ومحل بيادرها ، وحظائرها ، ومجتمع سمادها ، ومرعى مواشيها ، ونحو ذلك (١).

وههنا مسألتان مهمتان :

١ ـ لا بد في صدق إحياء الموات من العمل فيها إلى حد يصدق عليه أحد العناوين العامرة كالدار والبستان والمزرعة والحظيرة والبئر والقناة والنهر وما شاكل ذلك ، ولذلك يختلف ما اعتبر في الإحياء باختلاف العمارة ، فما اعتبر في إحياء البستان والمزرعة ونحوهما غير ما هو معتبر في إحياء الدار وما شاكلها ، وعليه فحصول الأولوية تابعٍ لصدق أحد هذه العناوين ونحوها ، ويدور مداره وجوداً وعدماً ، وعند الشك في حصولها يحكم بعدمها (٢).

__________________

(١) السيستاني | منهاج الصالحين ٢|٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٢) السيستاني | منهاج الصالحين ٢|٢٦٥.

١٣٠

٢ ـ الأراضي المنسوبة إلى طوائف العرب والعجم وغيرهم لمجاورتها لبيوتهم ومساكنهم من دون أحقيتهم بها بالإحياء ؛ باقيةٌ على إباحتها الأصلية ، فلا يجوز منع غيرهم من الانتفاع بها ، ولا يجوز لهم أخذ الأجرة ممن ينتفع بها ، وإذا قسّموها فيما بينهم لرفع التشاجر والنزاع لا تكون القسمة صحيحة فيجوز لكل من المتقاسمين التصرف فيما يختص بالآخر بحسب القسمة.

نعم إذا كانوا يحتاجون إليها لرعي الحيوان أو نحو ذلك كانت من حريم أملاكهم ، ولا يجوز لغيرهم مزاحمتهم وتعطيل حوائجهم (١).

__________________

(١) السيستاني | منهاج الصالحين ٢|٢٥٧.

١٣١

الفصل الرابع

السفر إلى أوروبا والخطوط الجوية والقبلة في نيويورك

١ ـ السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية

٢ ـ حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري

٣ ـ القبلة في نيويورك

٤ ـ متفرقات في أحكام السفر

١٣٢
١٣٣

(١)

السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية

تقتضي حياة الإنسان الاقتصادية أو السياسية أو المَرضية أن يهجر بلده الإسلامي هجرة موقتة أو دائمة ، وهذا مما لا مانع فيه بشروطه وأحكامه كما سيأتي ، بل قد يستحسن إذا كان الهدف منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة شرائع الدين ، ولكنه قد يحرم إذا استلزم التعرب بعد الهجرة ، ونقص الدين ، والاستهتار بشريعة سيد المرسلين ، نعم إذا حكمت الضرورة على المسلم أن يهاجر إلى البلاد غير الإسلامية مع علمه بأن تلك الهجرة تستوجب نقصاناً في دينه ، كما لو سافر لإنقاذ نفسه من الموت المحتّم أو غير ذلك من الأمور المهمة ، جاز له السفر حينئذٍ بالقدر الذي يرفع الضرورة دون ما يزيد عليها (١). ولكن لا مانع أن يقيم في البلدان الأوروبية والاجنبية وهو ملتزم بدينه ، غير مخلًّ بواجباته الشرعية ، وغير معرض نفسه وأهله وأبناءه لمخاطر الانحراف عن الجادة السليمة. أما إذا لم يأمن مع بقاءه بتلك

__________________

(١) فتوى خطية مصورة لسماحة السيد في حوزة المؤلف.

١٣٤

البلدان على دينه ولم يأمن أن يؤدي إلى تقصير شرعي في أداء واجباته ، أو يؤدي إلى عدم حفاظ أبنائه وعائلته على المستلزمات الشرعية ، فيجب عليه العودة إلى بلاده حيث لا يحتمل تفريطه بالدين (١).

ومن هنا فقد أفتى سماحة السيد دام ظله ، وقال :

يحرم السفر إلى البلدان غير الإسلامية أينما كانت في شرق الأرض وغربها ، إذا استوجب ذلك السفر نقصاناً في دين المسلم ، سواء أكان الغرض من ذلك السفر : السياحة أم التجارة أم الدراسة أم الإقامة الموقتة أم السكنى الدائمة ، أم غير ذلك من الأسباب (٢).

هذا المناخ المتقلب في ظروفه ودواعيه ومشكلاته أولاه سماحة السيد دام ظله العالي أولويات اهتماماته العلمية من أجل إيضاح الأمر بين يدي السالكين ، وليكون كل عند موقعه المناسب معرفة بأحكامه الشرعية ، ومتدبراً لأمره فلا ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس ، ولا يتجاوز حدود ما سمحت به الشريعة الغراء ، ليكون على سلامة من دينه ، وبصيرة من أمره ، وقد أجاب سماحة السيد دام ظله الوريف على عدة مسائل في هذا الشأن ، نختار أعلقها بالموضوع صلة :

١ ـ ما معنى التعرب بعد الهجرة الذي هو من الذنوب الكبيرة؟

__________________

(١) مضمون فتاوى خطية لسماحة السيد في حوزة المؤلف.

(٢) فقه المغتربين |٥٤.

١٣٥

* قيل إنه ينطبق في هذا الزمان على الإقامة في البلاد التي ينقص فيها الدين ؛ والمقصود هو أن ينتقل المكلّف من بلد يتمكن فيه من تعلم ما يلزمه من المعارف الدينية والأحكام الشرعية ، ويستطيع فيه أداء ما وجب عليه في الشريعة المقدسة ، وترك ما حُرّمَ عليه فيها إلى بلد لا يستطيع فيه على ذلك كلاً أو بعضاً.

٢ ـ يشعر الساكن في أوروبا وأمريكا وأضرابهما بغربته عن أجوائه الدينية التي نشأ عليها وتربى فيها ، فلا صوت للقرآن يسمع ، ولا صوت الأذان يعلو ، ولا الزيارة للمشاهد المقدسة وأجوائها الروحية موجودة. فهل يعدّ تركه لأجوائه الإسلامية في بلده وما يصاحبها من أعمال خيرية ، ثم معيشته هنا بعيداً عنها ، نقصاناً في الدين؟

* ليس ذلك نقصاناً يحرم بسبب السكن في تلك البلدان نعم الابتعاد عن الأجواء الدينية ربما يؤدي بمرور الزمن إلى ضعف الجانب الإيماني في الشخص إلى الحد الذي يستصغر معه ترك بعض الواجبات ، أو ارتكاب بعض المحرمات.

فإذا كان المكلّف يخاف أن ينقص دينه بالحد المذكور جرّاء الإقامة في تلك البلدان ، لم يجز له الإقامة فيها.

٣ ـ ربما لا يقع الساكن في أوروبا وأمريكا وأضرابهما بمحرمات لا يقع بها لو بقي في بلده الإسلامي ، فمظاهر الحياة العادية بما فيها من إثارة ، تجرّ المكلّف إلى الحرام عادةً ، حتى لو لم يكن راغباً بذلك.

فهل يعدّ هذا نقصاناً في الدين يوجب حرمة السكن تبعاً؟

١٣٦

* نعم ، إلا إذا كانت من الصغائر التي تقع أحياناً ومن غير إصرار.

٤ ـ لو ازدادت حالات الوقوع في الحرام عما كانت عليه سابقاً من مبلّغ إسلامي حريص على دينه ، وذلك لخصوصيات البيئة والمجتمع ، كانتشار حالات التبرج وأمثالها.

فهل يحرم عليه البقاء في بلدان كهذه ، فيتحتم عليه ترك التبليغ والعودة لوطنه؟

* إذا كان يبتلى ببعض الصغائر اتفاقاً ، لم يحرم عليه البقاء فيها ، إذا كان واثقاً من عدم انجراره إلى ما هو أعظم من ذلك.

٥ ـ لو خاف المهاجر من نقصان دين أولاده ، فهل يحرم عليه البقاء في بلدانٍ كهذه؟

* نعم كما في الحال بالنسبة إلى نفسه.

٦ ـ لو استطاع المكلّف أن يدعو غير المسلمين للإسلام ، أو أن يزيد في تثبيت دين المسلمين في البلدان غير الإسلامية من دون خوف من النقصان في دينه ، فهل يجب عليه التبليغ؟

* نعم يجب كفايةً عليه ، وعلى سائر من يستطيع ذلك.

٧ ـ هل يجوز البقاء في دول غير إسلامية على ما فيها من منكرات تعرض للإنسان في الشارع أو المدرسة أو التلفزيون أو ما شاكل ذلك ، مع إمكانه الانتقال إلى دول إسلامية ، ولكن الانتقال يسبب له مشاكل في الإقامة وخسارة مادية ، وضيقاً في الأمور الدنيوية ، ونقصاً في الرفاهية ، وإذا كان لا يجوز له البقاء ، فهل

١٣٧

يجوزه له كونه مهتماً بأمور التبليغ بين المسلمين هنا ، مذكراً لهم ببعض واجباتهم ، ومنبهاً إلى ما يجب عليهم تركه من محرمات؟

* لا تحرم الإقامة في تلك البلاد إذا لم تكن عائقاً عن قيامه بالتزاماته الشرعية بالنسبة إلى نفسه وعائلته فعلاً ومستقبلاً ، وإلاّ فلا تجوز وإن كان قائماً ببعض الأمور التبليغية ، والله العالم (١).

__________________

(١) فقه المغتربين | ٥٧ ـ ٦١.

١٣٨

(٢)

حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري

تطورت حركة السفر بين الأقطار والأقاليم ، فانتقلت من الوسائل البدائية إلى السيارات والقاطرات والطائرات ، واستقر التنقل في المسافات البعيدة بل وحتى القريبة على الخطوط الجوية بمختلف وسائلها العاديّة المحركات والنفاثة التصميم ، وما يدرينا فلعل هذا النوع من التنقل الذي أصبح اعتيادياً ، أن يتطور في قفزة أخرى إلى ما هو أكثر سرعة قد لا تحد بحدود ، وكان هذا التقدم الحضاري في المواصلات قد فرض كيانه في استحصال طائفة من الأحكام المتعلقة به ، فكان الفقه الحضاري مواكباً لهذا الازدهار الحضاري . وقد حدب سماحة السيد دام ظله الشريف أن يتعقب ما يجري على الساحة التكنولوجية والصناعية متابعاً تطورها وتسابقها في مجال التأهيل الصناعي واقعاً وافتراضاً باحتمال تطوره أكثر فأكثر ، وكان هذا الالتفات يشكل انعطافاً فقهياً جديداً يحقق آمال المعنيين في الشؤون الدينية طلباً لأحكامهم الشرعية في ضوء هذه المستجدات المعاصرة ، لأنها تفرض بطبيعتها مرونة جديدة تسايرها فيها

١٣٩

الأحكام مسايرة الظل للشاخص ، وهي تؤثر في ديناميكية الحكم الشرعي في ضوء ظروفه الجديدة ، لا سيما في الأركان التي يقوم عليها الدين في أصوله الأولى كالصلاة والصيام وجزئيات أحكامهما التي يعنى بها المسلمون تعبداً وتكليفاً ، فكان لا بد للشرع الشريف أن يعطي رأيه في ذلك لأنه محل ابتلاء العاملين بمسائل الدين ، ولقد استقصى سماحة السيد دام ظله الوارف احتمالات هذا التطور ، وقلّب الأمر على وجوهه كافة ، فخرج بطائفة يعتد بها من المسائل والأحكام التي قد تعرض للمسلم المعاصر ، فوضع في نصابها ، وترجمها بأبوابها ، فكان منها :

١ ـ لو سافر الصائم في شهر رمضان جواً بعد الغروب ـ ولم يفطر في بلده ـ إلى جهة الغرب ، فوصل إلى مكان لم تغرب الشمس فيه بعد ، فهل يجب عليه الإمساك إلى الغروب؟

الظاهر عدم الوجوب وإن كان ذلك أحوط.

٢ ـ لو صلى المكلّف صلاة الصبح في بلده ، ثم سافر إلى جهة الغرب فوصل إلى بلد لم يطلع فيه الفجر بعد ، ثم طلع. أو صلى صلاة الظهر في بلده ، ثم سافر جواً فوصل إلى بلد لم تزل الشمس فيه بعد ، ثم زالت. أو صلى صلاة المغرب فيه ، ثم سافر فوصل إلى بلد لم تغرب الشمس فيه ، ثم غربت. فهل تجب عليه إعادة الصلاة في جميع هذه الفروض؟

وجهان : الأحوط الوجوب ، والأظهر عدمه.

٣ ـ لو خرج وقت الصلاة في بلده ـ كأن طلعت الشمس أو غربت ولم يصل الصبح أو الظهرين ـ ثم سافر جواً فوصل إلى بلد

١٤٠