المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

حرف الحاء

٥

عناوين حرف الحاء

٢٧٩ ـ الحال

٢٩٨ ـ الحقيقة المتشرعيّة

٢٨٠ ـ الحجر التكليفي والحجر الوضعي

٢٩٩ ـ الحكم الإنشائي

٢٨١ ـ الحجّة

٣٠٠ ـ الحكم الأولي

٢٨٢ ـ الحجيّة الاصوليّة

٣٠١ ـ الحكم التكليفي

٢٨٣ ـ الحجيّة الذاتيّة

٣٠٢ ـ الحكم الثانوي

٢٨٤ ـ حجيّة القطع

٣٠٣ ـ الحكم الشرعي

٢٨٥ ـ الحجيّة المجعولة

٣٠٤ ـ الحكم الظاهري

٢٨٦ ـ الحرمة

٣٠٥ ـ الحكم العدمي

٢٨٧ ـ الحرمة الذاتيّة والحرمة العرضيّة

٣٠٦ ـ الحكم المقابل للفتوى

٢٨٨ ـ الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة

٣٠٧ ـ الحكم الواقعي

٢٨٩ ـ الحسن والقبح

٣٠٨ ـ الحكم الوضعي

٢٩٠ ـ الحسن والقبح الذاتيان

٣٠٩ ـ الحكومة

٢٩١ ـ الحسن والقبح العقلائيّان

٣١٠ ـ الحكومة الانسداديّة

٢٩٢ ـ الحسن والقبح العقليّان

٣١١ ـ الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة

٢٩٣ ـ أصالة الحظر

٣١٢ ـ الحكومة بملاك الرفع

٢٩٤ ـ حقّ الطاعة

٣١٣ ـ الحكومة بملاك النظر

٢٩٥ ـ مسلك حقّ الطاعة

٣١٤ ـ أصالة الحل

٢٩٦ ـ أصالة الحقيقة

٣١٥ ـ الحمل الأولي والحمل الشائع

٢٩٧ ـ الحقيقة الشرعيّة

٣١٦ ـ الحمل البسيط والحمل المركّب

٦

حرف الحاء

٢٧٩ ـ الحال

ذكر صاحب الكفاية في مقام بيان تحرير محلّ النزاع في بحث المشتق « انّه اختلفوا في انّ المشتقّ حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه أو ما انقضى عنه على أقوال ». والذي يهمّنا هو بيان المراد من الحال المأخوذ في عنوان تحرير المسألة ، فنقول : انّ هنا احتمالين للمراد من الحال :

الاحتمال الاول : هو حال النطق ، أي انّه يعتبر في صدق المشتقّ تلبّس الذات بالمبدإ حال الإطلاق والنطق بالإسناد ، فحينما نسند عنوان العالم الى زيد لا بدّ وان يكون زيد متلبسا بالعالميّة حين اطلاق الإسناد وحين حمل العالميّة عليه بقطع النظر عن الحيثيّة المأخوذة في الإسناد وانّ اسناد العالميّة له في الزمان الفعلي أو الزمان الماضي أو الاستقبالي أو انّه لم تؤخذ حيثيّة زمانية حين الإسناد كأن كان الإسناد مطلقا من هذه الجهة.

فحينما يقال زيد عالم فعلا أو غدا أو أمس أو يقال زيد عالم ، ففي تمام هذه الأمثلة يعتبر في صدق عنوان العالم على زيد ـ وان المشتقّ « العالم » حقيقة في زيد ـ يعتبر في الصدق أن يكون زيد عالما حين النطق بهذه الأمثلة ، أي حين النطق باسناد العالميّة لزيد ، فعليه لو لم يكن زيد عالما حين قولنا « زيد عالم أمس » يكون اطلاق

٧

العالميّة على زيد مجازيا وان كان عالما حقيقة أمس.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من الحال هو فعليّة التلبّس بالمبدإ حين الجري والإسناد لا حال النطق به ، فلو كان الجري والإسناد بلحاظ الزمان الماضي فلا بدّ أن تكون الذات متلبّسة بالمبدإ في الزمان الماضي ، وحينما يكون الإسناد والجري بلحاظ الزمان الاستقبالي فلا بدّ وان يكون تلبّس الذات بالمبدإ في الزمان الاستقبالي ، وعليه لو كان الحال معتبرا في صدق المشتق فهذا معناه انّ المشتقّ يكون حقيقة عند ما تكون الذات متلبّسة بالمبدإ في الزمان الماضي وكان الإسناد بلحاظ الزمان الماضي حتى ولو لم تكن الذات متلبّسة بالمبدإ حين النطق بالإسناد والجري.

فعند ما يقال « زيد عالم أمس » فإنّ المشتقّ وهو « عالم » حقيقة في زيد اذا كان متلبّسا بالعالميّة أمس ـ أي حال الجري والإسناد ـ وان كان زيد قد انقضى عنه التبس بالعالميّة حال النطق بالإسناد وهو اليوم مثلا. وهكذا لو كان الجري والإسناد بلحاظ الزمان الاستقبالي فإنّ الصدق وعدمه يدوران مدار فعليّة تلبّسه بالمبدإ حين الجري والإسناد وعدم تلبّسه بها ، فحينما يكون متلبسا بالمبدإ في الزمان الاستقبالي فإنّ المشتقّ حقيقة فيه وان كان حال النطق غير متلبّس بالمبدإ.

والمتحصّل انّ المراد من الحال في الاحتمال الثاني هو فعليّة التلبّس حال الجري والإسناد لا حال النطق بالجري والاسناد.

والمتعيّن من الاحتمالين ـ كما ذهب لذلك صاحب الكفاية رحمه‌الله وغيره من الأعلام ـ هو الاحتمال الثاني ، وذلك لأنّه لا خلاف في انّ اسناد المشتقّ الى الذات يكون حقيقيا لو كان تلبّس الذات بالمبدإ فعليا بلحاظ حال الإسناد والجري ، فلو قال المتكلّم « زيد عالم أمس أو غدا » وكان زيد متلبّسا بالعالميّة في ظرف الإسناد وهو أمس في المثال الاول وغدا في المثال الثاني فإنّه لا ريب في صدق المشتقّ

٨

حقيقة على الذات حتى لو لم تكن الذات متلبّسة بالمبدإ حين النطق بالإسناد ، نعم لو استظهرنا ـ ولو بواسطة الاطلاق ـ انّ اتّصاف الذات بالمبدإ انّما هو حين النطق بالجري والإسناد وكان التلبّس بالمبدإ في الزمان الماضي أو المستقبل كما لو دلّت القرينة على ذلك فإنّ صدق المشتقّ على الذات يكون مجازيا.

فلو قال المتكلّم « زيد ضارب غدا » وعلمنا انّ مراد المتكلّم هو فعليّة اتّصاف الذات بالضاربية رغم انّه انّما سيتلبّس بها غدا فإنّ اطلاق الضاربيّة على زيد يكون مجازيا بلا إشكال ، إلاّ انّ ذلك ناشئ عن انّ التلبّس بالمبدإ استقبالي والإسناد حالي ، وهو خارج عن محلّ الكلام ، إذ انّ الدعوى هو ان الإسناد والتلبّس إذا كانا متّحدين زمانا فإنّ المشتقّ يكون حقيقة في الذات بقطع النظر عن حال النطق ، فقد يكون التلبّس والإسناد متّحدين مع حال النطق ، وقد يكون التلبّس والإسناد متأخّرين أو متقدّمين على حال النطق ، فالمدار في صدق المشتقّ على الذات وعدم صدقه هو اتّحاد التلبّس والإسناد وعدم اتّحادهما ، فمتى ما اتّحدا كان المشتقّ حقيقة في الذات ، ومتى ما اختلفا كان اسناد المشتقّ للذات مجازيا.

* * *

٢٨٠ ـ الحجر التكليفي والحجر الوضعي

الحجر التكليفي تعبير آخر عن الحرمة التكليفيّة ، وهو عادة ما يطلق على الحرمة التي يكون متعلّقها واحدا من المعاملات.

مثلا : الحرمة التكليفيّة الثابتة لبيع الخمر أو الاستئجار على صنعه ، هذه الحرمة يعبّر عنها بالحجر التكليفي أي أنّ المكلّف ممنوع عن فعل ذلك فيكون موزورا وعاصيا لو ارتكب ما ينافي الحجر التكليفي.

وأمّا الحجر الوضعي فهو بمعنى الحكم بعدم ترتّب الأثر المنتظر من المعاملة ، فكلّ معاملة وقعت متعلّقا

٩

للحجر الوضعي فهي غير نافذة ولا يترتّب على إيقاعها الأثر المنتظر منها.

فحينما يكون البيع مثلا متعلّقا للحجر الوضعي فذلك معناه الحكم بفساد البيع وعدم اقتضائه للنقل والانتقال.

وهذا المقدار ليس موردا للخلاف بين الأعلام وإنّما وقع الخلاف من جهة أنّ الحجر التكليفي هل يستلزم الحجر الوضعي أو لا؟ أي أنّ المنع تكليفا عن المعاملة هل يقتضي فساد المعاملة أو لا يقتضي ذلك؟ أو أنّ في المسألة تفصيل بين ما إذا كان متعلّق الحجر التكليفي هو المعاملة بلحاظ السبب والمعاملة بلحاظ المسبّب ففي الأوّل لا يكون الحجر التكليفي مقتضيا للحجر الوضعي ، وفي الثاني يكون الحجر التكليفي مقتضيا للحجر الوضعي خلاف بين الأعلام أجملنا بيانه تحت عنوان ( النهي في المعاملات ).

* * *

٢٨١ ـ الحجّة

الحجّة في اللغة بمعنى الغلبة وبمعنى الدليل والبرهان ، والظاهر انّ اطلاق الحجّة على البرهان والدليل من باب اطلاق السبب وإرادة مسبّبه ، إذ انّ البرهان يكون سببا للغلبة على الخصم ، فالحجّة هي الغلبة ، والدليل والبرهان هما السبب لوقوع الغلبة والظفر ، فيكون اطلاق الحجّة في اللغة على ما يحتجّ به على الخصم وعلى ما يوجب الظفر عند الخصومة اطلاقا مجازيا بنحو المجاز المرسل ، وذلك بعلاقة السببيّة ، بمعنى انّ ما يحتجّ به يكون سببا للغلبة والتي هي المعنى الحقيقي للفظ الحجّة في اللغة.

إلاّ انّه في مقابل هذه الدعوى قد يقال انّ المعنى الحقيقي للفظ الحجّة هو نفس الدليل والبرهان ومطلق ما يحتجّ به عند الخصومة ، وذلك لأنّ الحجّة مشتقّة من الحجّ والذي هو القصد ، وحينئذ تكون الحجّة أقرب للوسيلة منها الى الغاية ، فالغاية هي الغلبة والوسيلة هي البرهان والدليل ، وحينئذ يكون اطلاق لفظ الحجّة على البرهان والدليل اطلاقا حقيقيّا ،

١٠

ويكون اطلاق الحجّة على الغلبة مجازيا بعلاقة المسببيّة ، إذ انّ الغلبة تكون مسبّبة عن الحجّة والتي هي البرهان والدليل.

هذا بحسب المدلول اللغوي للفظ الحجّة ، وأمّا بحسب اصطلاح المناطقة فهي كلّ معلوم تصديقي يصلح لإثبات مجهول تصديقي.

وبقيد الصلاحية لإثبات المجهول التصديقي تخرج المعلومات التصديقيّة التي لا صلاحيّة لها للدلالة على المجهول التصديقي إمّا لأنّها أجنبيّة عن مقام الاحتجاج وامّا انّها لم ترتّب بكيفيّة تصلح معه للاحتجاج ولإثبات المطلوب والذي هو المجهول التصديقي.

ومن هنا لا تكون القضيّة التصديقيّة حجّة ما لم تؤطر في شكل من أشكال القياس مثلا ، فتكون الكبرى في ذلك القياس ، إذ مع عدم ترتيبها بهذه الكيفيّة لا تكون منتجة للمطلوب ، فلا تكون صالحة لأن يطلق عليها عنوان الحجّة.

وهناك تعريف آخر للحجّة ذكره بعض المناطقة ، وهو انّ الحجّة عبارة عن تأليف قضايا ينتج عنها المطلوب.

وبناء عليه تكون الحجّة المنطقيّة هي مجموع القضايا المؤلّفة بشكل خاص وينتج عن مجموعها المطلوب ، فيكون القياس بصغراه وكبراه وكذلك الاستقراء بتمام مقدّماته وهكذا التمثيل وغيرهم مصاديق الحجّة المنطقيّة.

وهناك تعريف ثالث للحجّة المنطقيّة ، وحاصله : انّ الحجّة هو الحدّ الاوسط الذي يكون طريقا للكشف عن ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر في القياس المنطقي ، بقطع النظر عن كون الحدّ الأوسط علّة لوجود الأكبر أو معلولا له أو كان بينهما تلازم ناشئ عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة.

والمراد من الحدّ الاوسط هو الحدّ المشترك والمتكرّر في مقدمتي القياس « الصغرى ـ والكبرى » ويعبّر عنه بالواسطة في الإثبات باعتبار طريقيّته لإثبات الحدّ الأكبر للأصغر ، أي لإثبات الحكم في نتيجة القياس

١١

والذي هو الأكبر لموضوعه وهو الأصغر.

ولغرض توضيح المطلب نشكّل قياسا نتعرّف بواسطته على الحدّ الاوسط والذي هو الحجّة بحسب هذا التعريف.

العالم متغيّر

وكلّ متغيّر حادث

.. العالم حادث

فالحد الأوسط في هذا القياس هو عنوان « متغيّر » فهو الحدّ المشترك والمتكرّر في المقدّمتين « الصغرى والكبرى » وبواسطته ثبت لنا انّ « العالم حادث » فهو واسطة في الكشف عن ثبوت الحدّ الأكبر ـ والذي هو محمول النتيجة ـ للحدّ الأصغر وهو موضوع النتيجة ، فلو لا اشتراك العالم وكلّ حادث في التغير لما أمكن اثبات الحدوث للعالم.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من قول المناطقة انّ الحجّة هي الوسطية في الإثبات ، فمرادهم من ذلك هو الحدّ الأوسط الذي يتوسّل به للتعرّف على ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر.

* * *

٢٨٢ ـ الحجيّة الاصوليّة

المراد من الحجيّة الاصوليّة هو الأدلة الاجتهاديّة المعتبرة شرعا والتي تكون طريقا لإثبات متعلقاتها ولا يكون بينها وبين متعلقاتها أيّ رابطة واقعيّة ، بمعنى انّ دور الأدلة الاجتهاديّة المعتبرة شرعا يتمحّض في الكشف دون أن يكون بينها وبين متعلقاتها علاقة التلازم أو العليّة مثلا ، فدليليّة البيّنة على خمرية هذا السائل لا تعبّر عن علاقة واقعيّة بين البيّنة وبين خمريّة هذا السائل بل انّ خمرية هذا السائل لو كانت ثابتة واقعا فهي ناشئة عن أسبابها التكوينيّة ، وليس للبيّنة سوى دور الكشف عن ثبوت الخمريّة لهذا السائل ، وهكذا الكلام في كاشفيّة الأمارة المعتبرة عن الحكم الشرعي ، فإنّها لا تعبّر عن علاقة واقعيّة بين الأمارة وبين ثبوت الحكم لموضوعه بل انّ ثبوت الحكم لموضوعه ناشئ عن ملاك في متعلّقه اقتضى جعل الحكم واعتباره شرعا.

١٢

وبهذا تمتاز الحجيّة الاصوليّة عن الحجّة في باب الأقيسة ، فهما وان كانا يشتركان من جهة وسطيتهما في الإثبات إلاّ انّ وسطية الحجّة في باب الأقيسة ـ والذي هو الحدّ الأوسط ـ منوطة بثبوت علاقة واقعيّة بن الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر ، فإمّا أن يكون الحدّ الأوسط علة للحدّ الأكبر ، وعندها يكون الحدّ الأوسط برهانا لميّا وواسطة في الثبوت بالإضافة الى كونه واسطة في الإثبات ، وأمّا ان يكون معلولا للحدّ الأكبر أو أن يكون كلاهما معلولين لعلّة ثالثة ، وعندها يكون الحدّ الأوسط برهانا إنيّا ومتمحضا في كونه واسطة في الإثبات ، وقد أشرنا لذلك في بحث « الحجيّة » في التعريف الثالث للحجيّة المنطقيّة.

ثمّ انّ الحجّة عند الاصوليين قد تطلق ويراد منها المنجّزيّة والمعذّرية ، والمنجّزية هي المسئوليّة وثبوت العهدة ، والمعذرية هي انتفاء المسئوليّة وصحّة الاعتذار عن منافاة الواقع.

وقد أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله انّ المنجّزيّة والمعذريّة من اللوازم العقليّة لوصول الواقع ، فهي غير قابلة للجعل ، نعم حينما تجعل الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات للدليل يكون محرزا للواقع ، وعندها يتنجّز الواقع عقلا.

* * *

٢٨٣ ـ الحجيّة الذاتيّة

ويقصدون من الحجيّة الذاتيّة الحجيّة الثابتة للدليل دون جعل شرعي ، بمعنى انّ ذات الدليل بنفسه يقتضي ثبوت الحجيّة له ، وذلك في مقابل الدليل الذي تكون دليليته وكاشفيّته منوطة بالجعل الشرعي ، وليس ثمّة دليل ادعي ثبوت الحجيّة الذاتيّة له سوى الدليل القطعي.

وتحرير المراد من حجيّة القطع هو السبيل للتعرّف على انّ الحجيّة الثابتة له هل هي ذاتيّة أو غير ذاتيّة ، فنقول :

انّ حجيّة القطع تارة يراد منها الحجيّة المنطقيّة واخرى يراد منها

١٣

المنجّزيّة والمعذرية ، ونقصد بالحجيّة المنطقية الوسطية في الإثبات ، أي الطريقيّة والكاشفيّة ، واذا كان المراد من حجيّة القطع هي الحجيّة المنطقيّة فالحجيّة الثابتة له ذاتيّة بلا ريب ، وذلك لأن المراد من القطع هو الانكشاف التام والإراءة التامّة ، فالقطع هو عين الكشف والإراءة والطريقيّة ، وليس شيئا ثبت له الكشف والطريقيّة.

وإذا كان كذلك فالطريقيّة ـ والتي هي الحجّة المنطقيّة ـ ذاتيّة للقطع ، وثبوت الذاتي لذاته لا يفتقر للجعل لا بنحو الجعل التأليفي بل ولا بنحو الجعل البسيط ، وذلك لأنّ الجعل التأليفي يلازم المباينة بين المجعول والمجعول له ، وهو خلف الفرض ، إذ قلنا انّ الطريقيّة هي عين القطع وثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فكما انّ ثبوت الإنسانيّة للإنسان ضروري وقضيّة بشرط المحمول فكذلك ثبوت الطريقيّة للقطع.

وأمّا عدم تعقّل الجعل البسيط للطريقيّة والحجيّة المنطقيّة فلأنّه تحصيل للحاصل بعد وجود القطع ، نعم يكون الجعل البسيط للطريقيّة والحجيّة متعقلا إذا كان بنحو إيجاد القطع ، فإيجاد القطع هو عينه ايجاد الطريقيّة ، وذلك في مقابل رفع الطريقيّة واعدامها بواسطة اعدام القطع.

وأمّا لو أنكرنا انّ القطع هو عين الانشكاف والإراءة التامّة وقلنا بأنّ القطع من الحالات النفسانيّة القائمة بالنفس فإنّ لا بدّ من التسليم بأنّ الطريقيّة ذاتيّة للقطع إلاّ انّ الذاتيّة هنا بمعنى الذاتيّة في باب البرهان لا الذاتيّة في باب الإيساغوجي ـ كما هو مقتضى المبنى الاول ـ فالمقصود من الذاتيّة في المقام هو انّ الطريقيّة لازم ذاتي للقطع بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص والذي يكون معه تصوّر الموضوع كافيا في تصوّر الحكم.

وحينئذ لا تكون الطريقيّة مفتقرة للجعل أيضا ، فمحض وجود القطع كافيا لحمل الطريقيّة عليه ، ولذلك

١٤

يكون جعل الحجيّة والطريقيّة للقطع تحصيلا للحاصل.

وبهذا اتّضح ثبوت دعوى ذاتيّة الحجيّة للقطع بناء على انّ المراد من الحجيّة هي الحجيّة المنطقيّة والتي هي الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ، سواء قلنا بأن الطريقيّة هي عين القطع أو انّها لازم ذاتي له.

أمّا لو كان المراد من حجيّة القطع هو المنجّزيّة والمعذريّة فهل انّ الحجيّة حينئذ ذاتيّة للقطع أو لا؟

وقع الخلاف بين الأعلام في ذلك وذكرت لذلك ثلاثة اتّجاهات ، وسوف نستعرضها تحت عنوان « حجيّة القطع » ان شاء الله تعالى.

* * *

٢٨٤ ـ حجيّة القطع

ذكرنا في بحث « الحجيّة الذاتيّة » انّ الحجيّة الثابتة للقطع إذا كانت بمعنى الحجيّة المنطقيّة فإنّ ثبوتها للقطع يكون ذاتيا ، وأمّا إذا كانت الحجيّة بمعنى المنجزيّة والمعذريّة فقد وقع البحث في نحو ثبوتها للقطع ، وقد ذكرت في ذلك ثلاثة اتّجاهات.

الاتّجاه الأوّل : انّ المنجّزيّة والمعذريّة للقطع نشأ عن التباني العقلائي بملاك انّ عدم ترتيب هذين الأثرين على القطع يفضي الى اختلال النظام. ومن هنا كان عدم ترتيب الأثرين على القطع قبيحا وانّ ترتيبهما حسن ، والحسن والقبح بناء على مبنى أصحاب هذا الاتّجاه من المتبنّيات العقلائيّة المعبّر عنها في المنطق بالقضايا المشهورة أو التأديبات الصلاحيّة. وحينئذ تكون الحجيّة الثابتة للقطع حجيّة جعليّة وليست ذاتيّة.

وأمّا اعتبار حجيّة القطع بهذا المعنى من موارد الحسن والقبح العقلائيين فهو ناشئ ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله ـ عن انّ عدم جعل الحجيّة ـ بهذا المعنى ـ للقطع يفضي الى اختلال النظام ، إذ لو لم يكن القطع منجّزا لما كان القاتل مثلا عن عمد مسئولا عن فعله ، إذ له أن يقول بأني وان كنت

١٥

قاطعا إلاّ انّي لست مسئولا عن ترتيب الأثر على القطع ، كما انّه لو لم يكن القطع معذّرا لكان لكلّ سلطان مثلا أن يعاقب رعيّته على فعل يعتقدون صوابيّته ، وهذا من الظلم القبيح ، وعندها لا يقوم للناس نظام لعدم وجود ضابط يعتمدونه.

وبهذا يتّضح انّ منجزيّة ومعذريّة القطع ناشئة عن التباني العقلائي ، وباعتبار انّ الشارع قد أمضى البناء على حجيّة القطع ، فإنّه حينئذ يكون حجّة شرعا.

الاتّجاه الثاني : انّ الحجيّة الثابتة للقطع انّما هي بحكم العقل وإلزامه ، فهو القاضي بلزوم ترتيب الأثر على القطع أي هو القاضي بمنجزيّته ومعذريّته.

وهذه النظريّة وان كانت ظاهرة من بعض العبائر إلاّ انّ السيد الصدر رحمه‌الله يشكك في إرادة أصحاب هذه العبائر لما هو ظاهر منها ، وذلك لوضوح فساد ما هو مستظهر منها ، إذ انّ العقل ليس من شأنه الحكم والإلزام وتنحصر وظيفته في الإدراك فحسب ، كما هو محرّر في محلّه.

وبناء على هذا الاتّجاه لو صحّت النسبة تكون الحجيّة الثابتة للقطع ذاتيّة ، والمقصود من الذاتيّة هو الذاتيّة في باب البرهان ، والذي يكون فيه وجود الموضوع وتقرّره كافيا في ثبوت الحكم له.

الاتّجاه الثالث : انّ الحجيّة الثابتة للقطع من اللوازم الذاتيّة له ، وذلك بمقتضى ما يدركه العقل من التلازم بين القطع وبين المنجزيّة والمعذريّة.

وهذا الاتّجاه يختلف عن الثاني من جهة انّ المدّعى في الإتجاه الثاني هو حاكميّة العقل بحجيّة القطع وأمّا هذا الاتّجاه فهو يبنى على انّه ليس للعقل سوى دور الإدراك للتلازم الذاتي بين القطع والحجيّة ، فالعقل بناء على هذه النظريّة يدرك انّ العمل بمؤدّى القطع حسن وانّ المؤاخذة على ترك العمل بمقتضى القطع حسن ، كما انّه يدرك قبح التخلّف عمّا يقتضيه القطع وقبح المؤاخذة على العمل بمؤدى القطع حتى

١٦

مع اتفاق منافاة القطع للواقع. وهذا الاتّجاه هو مذهب مشهور الاصوليّين كصاحب الكفاية والسيّد الخوئي رحمهما الله.

وحتى يتجلّى المراد من هذا الاتّجاه لا بدّ من بيان معنى اللازم الذاتي ، فنقول : انّ المراد من اللازم الذاتي ـ وسيأتي ايضاحه تحت عنوانه ـ هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها ، وذلك مثل الزوجيّة بالنسبة للأربعة ، فإنّ الزوجيّة ليست هي عين الأربعة كما انّها ليست جزء مقوما لها إلاّ انّها لازمة للاربعة بحيث يستحيل تخلّفها عن الأربعة. فالزوجيّة محمول خارج عن ذات الأربعة لازمة لها ، وهذه الملازمة ناشئة عن مقام الذات للأربعة ، فهي بمقتضى ذاتها تستلزم حمل الزوجيّة عليها ، وليس للعقل سوى دور الإدراك للملازمة.

وهكذا الكلام في القطع فإنّ الحجيّة نابعة عن مقام ذاته وان كانت مباينة لذات القطع ، فهي محمول خارج عن ذات القطع لازمة له ، ودور العقل متمحض في إدراك هذا التلازم ، فليس هو واسطة في الثبوت كما هو مقتضى الإتجاه الثاني بل هو واسطة في الإثبات.

هذا هو حاصل الاتّجاه الثالث في نحو ثبوت الحجيّة للقطع ، وللسيّد الصدر رحمه‌الله اتّجاه رابع تبنى فيه انّ الحجيّة ـ بمعنى المنجزيّة والمعذريّة ـ ليست لازما ذاتيا للقطع ، وحاصل ما أفاده رحمه‌الله.

انّ إدراك العقل لحسن العمل بمؤدى القطع وحسن المؤاخذة على ترك العمل بمؤداه ، وكذلك إدراكه لقبح المؤاخذة على العمل بمتعلّق القطع لو اتّفق منافاته للواقع هذا الإدراك العقلي ليس إدراكا للملازمة بين القطع بما هو قطع وبين الحجيّة ، إذ لا ريب في انّ القطع الغير المتّصل بأوامر المولى ليس منجزا ولا معذرا ، بمعنى انّه لا يقبح ـ بحسب الإدراك العقلي ـ عدم الجريان على وفق ما يقتضيه هذا النحو من القطع ، فلا يعدّ التخلّف عن الاوامر القطعيّة الصادرة عن غير المولى ظلما ، كما انّ العقل لا يدرك

١٧

حسن الجري على وفق الاوامر القطعيّة الصادرة عن غير المولى ، وما ذلك إلاّ لأنّ الظلم معناه سلب ذي الحقّ حقّه وانّ العدل اعطاء ذي الحقّ حقّه ، وهذا ما يستبطن لزوم ثبوت الحقّ لذي الاوامر في مرحلة سابقة عن إدراك حسن الجري على وفق أوامره القطعيّة وقبح التخلّف عن أوامره.

وبتعبير آخر : انّ العدل والظلم لا يصدقان إلاّ في حالة يكون هناك حقّ متقرّر يراعى فيكون ذلك عدلا أو لا يراعى فيكون ذلك ظلما ، وهذا ما يعبّر عن انّ الحجيّة ليست لازما ذاتيا للقطع بما هو قطع بل هو لازم للأوامر القطعيّة الصادرة عمّن له حقّ الجريان على وفق أوامره.

ومن هنا لا بدّ وان يتّجه البحث الى ما هو الدليل على ثبوت حقّ الطاعة لذي الأوامر القطعيّة فإن كان الدليل مقتضيا لثبوت ذلك الحقّ كانت أوامره القطعيّة حجّة أي منجّزة ومعذرة.

وبتعبير آخر : انّ التنجيز والتعذير ثابتان لاوامر من له حقّ الطاعة ويكون القطع وسيلة لإثبات صدور الاوامر ممّن له حقّ الطاعة ، فالقطع يكون وسطا في الإثبات وحجّة منطقيّة يتوسّل بها للتعرّف على صدور أوامر من له حقّ الطاعة.

وبهذا يتشكّل قياس نتيجته الحجيّة الاصوليّة ـ والتي هي المنجّزيّة والمعذريّة ـ وكبرى هذا القياس هو الاوامر الصادرة ممّن له حقّ الطاعة وصغراه القطع بصدور هذه الاوامر. وعندئذ يمكن اسناد الحجيّة للقطع باعتبار وقوعه صغرى في القياس المنتج للحجيّة أي المنجزيّة والمعذريّة.

والمتحصّل انّ الحجيّة ـ بهذا المعنى ـ ليست لازما ذاتيا للقطع بل انّها لازم ذاتي لأوامر من له حقّ الطاعة.

* * *

٢٨٥ ـ الحجيّة المجعولة

هي الحجيّة الثابتة للدليل بواسطة الجعل والاعتبار بحيث لولاه لما كان الدليل مؤهلا للدليليّة والكاشفيّة والوسطية في الإثبات.

١٨

وهذا النحو من الأدلّة المفتقرة الى الجعل والاعتبار هي الأدلّة الظنيّة والتي تكون درجة كشفها عن الواقع ناقصة. إذ من الواضح عدم صلاحيّة الدليل الظني لأن يقع وسطا في الإثبات أو يكون وسيلة للاحتجاج به على المدعى ، وذلك لعدم إحرازه للواقع.

نعم بواسطة الاعتبار يكون صالحا للدليليّة إلاّ انّ ذلك لا يعني صيرورته كاشفا تاما عن الواقع بالاعتبار ، وذلك لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه بمجرّد الجعل والاعتبار.

ثمّ انّ الأهلية التي يضفيها الجعل والاعتبار على الدليل الظني انّما تنشأ بسبب انّ الاعتبار تبان نفساني يتواطأ عليه العقلاء مثلا ، فيكون ذلك التباني ملزما لهم ، ولذلك يكون الدليل الظني الملزم لهم هو خصوص الدليل الذي وقع التباني على حجيّته دون الدليل الظني الذي لم يقع التباني منهم على حجيّته. وهذا بخلاف الدليل القطعي ، إذ انّ حجيّته ووسطيّته في الإثبات ذاتيّة ، فتكون صلاحيّته للاحتجاج به غير مفتقرة للتباني النفساني من العقلاء.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الحجيّة الثابتة لبعض الأدلّة الظنيّة تابعة للجعل والاعتبار ممّن له حقّ الاعتبار ، والكلام بعد ذلك يقع فيمن له حقّ الاعتبار.

والذي يهمّنا من هذا البحث هو تشخيص من له حقّ اعتبار الحجيّة للأدلّة الظنيّة المتصدّية للكشف عن الحكم الشرعي. فنقول :

انّ الذي عليه جمهور الاصوليّين هو انّ هذا الحقّ مختصّ بالشارع المقدّس ، فكلّ دليل ظني لم يجعل الشارع له الحجيّة فإنّه لا يصح ترتيب الأثر على مؤداه فلا يكون منجّزا لمتعلّقه كما لا يكون معذرا لو اتّفق منافاة مؤداه للواقع ، وذلك لأن مفروض الكلام انّ الذي يراد التعرّف عليه بواسطة الدليل الظني هو الحكم الشرعي فيكون حقّ اختيار الطريق المؤدي لذلك بيد الشارع ، فلا يصحّ

١٩

الاحتجاج على الشارع بما لا يرى له صلاحيّة لذلك كما لا يصحّ الاحتجاج على واحد من العقلاء بشيء لا يرى العقلاء صلاحيّته للاحتجاج به ، وذلك لما ذكرناه من انّ الحجيّة المجعولة تنشأ عن التباني النفساني ، وحينئذ تكون الحجيّة ثابتة على من قبل بذلك التباني أو من كان مسئولا عن قبوله ، فالحجيّة الثابتة بواسطة التباني العقلائي تكون ملزمة لكلّ واحد من العقلاء باعتبار وقوعه طرفا في ذلك التباني إمّا لقبوله به أو لكونه مسئولا عن قبوله. وأمّا ما كان خارجا عن التباني العقلائي فإنّه لا يصح الاحتجاج به على العقلاء ، وذلك لأنه حينئذ يكون إلزاما بما لم يلتزموا به.

وهذا الكلام ينسحب الى الأدلّة الظنيّة المتصدّية للكشف عن الأحكام الشرعيّة ، فإنّه لا يصحّ التعبّد بها والاحتجاج على الشارع بمؤداها ما لم يجعل الشارع لها الحجيّة ، إذ كيف يصحّ إلزامه بدليل لم يلتزم بحجيّته ودليليّته.

وأمّا ثبوت حقّ الاحتجاج للشارع بالأدلّة الظنيّة التي جعل لها الحجيّة فباعتبار حقّ المولويّة للمشرّع جلّ وعلا على عباده ، فكلّ واحد من العباد مسئولا عن ترتيب الأثر على الدليل الظني الذي اعتبر الشارع له الحجيّة ، ففي الوقت الذي لا يصحّ للعباد إلزام الشارع بالطرق الظنيّة التي لم يعتبر الشارع لها الحجيّة وان كانوا قد تبانوا على حجيّتها ، وذلك لعدم وقوعه طرفا في ذلك التباني في الوقت نفسه يكونون ملزمين بالتعبّد بالأدلّة الظنيّة التي جعل الشارع لها الحجيّة ، وذلك بمقتضى حقّ المولويّة للمشرع والتي هي من مدركات العقل العملي.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الطرق الظنيّة المعتبرة بنظر العقلاء لا تكون صالحة للدليليّة على الحكم الشرعي ما لم تكن ممضاة من قبل الشارع ، كما اتّضح انّه لو اتّفق وجود دليل ظني غير معتبر بنظر العقلاء إلاّ انّه معتبر بنظر الشارع فإنّه يلزم التعبّد بمؤداه في موارد الكشف عن الحكم الشرعي.

٢٠