المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

على الجزء الآخر انّما هو المادّة والصورة فلا يقال النطفة علقة ، وذلك في مقابل الجزء التحليلي وهو الجنس والفصل فإنّه لا يأبى الحمل على الجزء التحليلي الآخر ، كما انّه يقبل الحمل على المركّب منه ومن الجزء التحليلي الآخر ، فالحيوانيّة والناطقيّة يمكن حمل كلّ منهما على الآخر ، فيقال : الحيوان ناطق والناطق حيوان كما انّه يمكن حمل كلّ منهما على المركّب منهما فيقال : الإنسان حيوان والإنسان ناطق ، وهذا هو معنى انّ الجزء التحليلي ملحوظ بنحو اللابشرط.

* * *

٦٠٢ ـ مسلك الهوهويّة

وهو واحد من النظريّات المتصدّية لتفسير حقيقة الوضع وما هو سرّ العلاقة اللغويّة الواقعة بين اللفظ والمعنى ، وهو من النظريّات القائمة على أساس انّ العلقة الوضعيّة نشأت عن الاعتبار.

وحاصل المراد من مسلك الهوهويّة كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا ، فاللفظ هو المعنى تنزيلا في وعاء الاعتبار.

وبتعبير آخر : انّ منشأ العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى هو انّ الواضع افترض وجود اللفظ وجودا للمعنى فكأنّه لا يوجد في عالم الاعتبار إلاّ وجود واحد هو وجود المعنى ، إذ انّ اللفظ هو المعنى تنزيلا ، ولهذا يكون لحاظ المستعمل للفظ لحاظا آليا وأمّا ما يلحظه ابتداء واستقلالا حين استعمال اللفظ فهو المعنى وهذا هو مقتضى التنزيل ، إذ هو يقتضي اندكاك المنزّل في المنزّل عليه واعتباره وجودا للمنزّل عليه ، فلا شيء في عالم الاعتبار سوى المنزل عليه والذي هو المعنى.

ولهذا يكون إيجاد اللفظ ايجادا للمعنى لأنّه هو هو ، وهذا هو معنى انّ لحاظ اللفظ دائما يكون لحاظا آليا ومقدّمة لإيجاد المعنى وانّ نظر المستعمل انّما هو المعنى أولا وبالذات.

٥٨١
٥٨٢

حرف الواو

٥٨٣

عناوين حرف الواو

٦٠٣ ـ الواجب الأصلي والتبعي

٦٢١ ـ الوضع التعييني والتعيّني

٦٠٤ ـ الواجب التخييري

٦٢٢ ـ الوضع الشخصي

٦٠٥ ـ الواجب الكفائي

٦٢٣ ـ وضع المركّبات

٦٠٦ ـ الواجب المضيّق والموسّع

٦٢٤ ـ الوضع النوعي

٦٠٧ ـ الواجب المطلق والمشروط

٦٠٨ ـ الواجب المعلّق والمنجّز

٦٠٩ ـ الواجب الموقّت

٦١٠ ـ الواجب النفسي والغيري

٦١١ ـ الواسطة في الإثبات

٦١٢ ـ الواسطة في الثبوت

٦١٣ ـ الواسطة في العروض

٦١٤ ـ الوجوب الاضطراري

٦١٥ ـ الوجوب والواجب

٦١٦ ـ الوجود الرابط والوجود الرابطي

٦١٧ ـ الوجود المحمولي

٦١٨ ـ الوجود النعتي

٦١٩ ـ الورود

٦٢٠ ـ الوضع

٥٨٤

حرف الواو

٦٠٣ ـ الواجب الأصلي والتبعي

الفرق بين الواجب الأصلي والواجب التبعي تارة يلاحظ من جهة مقام الثبوت والواقع واخرى يلاحظ من جهة مقام الإثبات والدلالة.

فالفرق بينهما من الجهة الاولى هو انّ الواجب الأصلي هو متعلّق الحكم الواقع موردا ومصبا للإرادة التفصيليّة ، بمعنى استحضار الآمر لمعناه وحدوده وتعلّق إرادته به ، ومثاله استحضار مفهوم الصلاة في النفس بما لها من أجزاء وشرائط ثمّ تعلّق الإرادة بهذه الطبيعة.

وأمّا الواجب التبعي فهو ما يكون مرتكزا في النفس وموردا للإرادة التبعيّة ، أي غير المستقلّة ، أو قل هو متعلّق الواجب الذي يكون مغفولا عنه وتكون إرادته ناشئة عن إرادة غيره.

وبناء على هذا الفرق لا يكون التقسيم تقسيما للواجب النفسي كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ، لأنّ الواجب النفسي لا يكون مرادا إلاّ بالإرادة التفصيليّة ، نعم هذا التقسيم يصلح أن يكون تقسيما للواجب الغيري ، إذ قد يكون ملتفتا اليه ومرادا بالإرادة التفصيليّة وقد يكون مغفولا عنه وتكون إرادته لازمة لإرادة غيره.

وأمّا الفرق بينهما من الجهة الثانية فهو انّ الواجب الأصلي هو ما يتصدّى المولى لابرازه وتفهيمه أو قل هو ما يكون مدلولا للكلام بنحو الدلالة المطابقيّة.

وأمّا الواجب التبعي فهو ما كان

٥٨٥

مستفادا بواسطة الدلالة الالتزاميّة للكلام ، بمعنى انّ المولى لم يكن متصدّيا لابرازه وبيانه بالاستقلال.

وهذا التقسيم يصلح أن يكون تقسيما للواجب النفسي كما يصلح أن يكون تقسيما للواجب الغيري ، فالواجب النفسي قد تتمّ استفادته بواسطة الدلالة المطابقيّة للكلام ، وهذا ما يعني انّ المتكلّم كان متصدّيا لإفادته ، كما قد تتمّ استفادته من لوازم الكلام ، وهذا ما يعبّر عن عدم تصدّي المتكلّم لإفادته ، وهكذا الكلام في الواجب الغيري.

إلاّ انّ هذا ليس حاصرا ، بمعنى انّ ثمّة قسما آخر للواجب النفسي والغيري لا يكون أصليّا ولا تبعيّا كما لو كان الواجب مستفادا بواسطة دليل غير لفظي.

ثمّ انّ الأصالة والتبعيّة كما تتصوّر في الواجبات النفسيّة والغيريّة كذلك تتصوّر في الوجوبات بل الظاهر من كلماتهم انّ التقسيم كان بلحاظها.

* * *

٦٠٤ ـ الواجب التخييري

ذكروا انّ الواجب التخييري هو الذي يجوز تركه ولكن الى بدل ، وذلك في مقابل الواجب التعييني والذي لا يجوز تركه حتى الى بدل.

وهذا التعريف للواجب التخييري لم يقع موقع القبول عند أكثر الاصوليين ، ولذلك اختلفت الاتّجاهات في تحديده ، منها :

الاتّجاه الأوّل : هو انّ الواجب التخييري يرجع روحا الى الواجب التعييني ، وذلك لأنّه عبارة عمّا يختاره المكلّف من البدائل في مقام الامتثال ، بمعنى انّ ما يجب عليه واقعا وتعيينا انّما هو الفرد الذي يختاره ، فباختياره يتحدّد ما هو الواجب من غير الواجب ، فما اختاره هو الواجب ، وأمّا الذي لم يقع موردا لاختياره فهو ليس واجبا واقعا.

فلو اختار المكلّف من خصال الكفارة الإطعام فهذا معناه انّ الواجب على ذلك المكلّف واقعا وتعيينا هو الإطعام دون سائر الخصال ، كما انّه لو

٥٨٦

اختار الصيام لكان هو الواجب تعيينا عليه دون سائر الخصال.

وقد ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله انّ هذا الاتّجاه لوهنه تبرّأ منه كلّ من نسب اليه ، ولهذا نسبه الأشاعرة الى المعتزلة ، كما المعتزلة انّ نسبوه الى الأشاعرة كما ذكر ذلك صاحب المعالم.

الاتّجاه الثاني : هو انّ تمام البدائل واجبة بنحو التعيين ويكون كلّ واحد منها متعلقا للإرادة التامّة ، غايته انّ المكلّف إذا جاء بواحد من هذه البدائل تسقط الوجوبات المتعلّقة بالبدائل الاخرى عنه ، وعليه يكون مرجع هذا الاتّجاه الى انّ كلّ واحد من الواجبات مشروط وجوبه بعدم امتثال الوجوبات الاخرى.

وقد قرّب هذا الاتّجاه بتقريبين :

التقريب الأوّل : هو انّ كلّ واحد من البدائل مشتمل على المصلحة التامّة والملزمة والتي لا يفي بتحصيلها غير متعلّقها ، ومن هنا كان كلّ واحد من هذه البدائل موردا للإرادة المستقلّة والإيجاب المستقلّ إلاّ انّه وبملاك الإرفاق بالعباد أجاز الشارع في ترك البدائل عند امتثال واحد من الوجوبات.

التقريب الثاني : ان يفترض انّ الغرض يتحقّق بأحد هذه البدائل ، بمعنى انّها متساوية من جهة وفائها بالغرض المولوي ، وهذا ما يقتضي كون كلّ واحد منها وافيا عند الإتيان به بغرض المولى إلاّ انّه وباعتبار انّ جعل الوجوب على المردّد منها مستحيل وانّ جعله على واحد معيّن بلا مرجّح فيتعيّن جعل الوجوب عليها جميعا ولكن حينما يبادر المكلّف ويأتي بأحد البدائل يكون الغرض تحقّق بذلك ، ومن هنا يجوز ترك الباقي.

الاتّجاه الثالث : انّ الواجب في موارد الوجوب التخييري هو أحد البدائل لا بعينه ، فمتعلّق الوجوب هو الجامع الانتزاعي من هذه البدائل فشأنه شأن الوجوب التعييني حيث انّ متعلّقه هو أحد أفراد الطبيعة لا بعينه ، غايته انّ متعلّق الوجوب التعييني يكون جامعا حقيقيا والذي هو الطبيعة.

٥٨٧

وأمّا متعلّق الوجوب التخييري فهو جامع انتزاعي كعنوان أحدهما أو أحدهم حيث لا جامع حقيقيّا بين البدائل وانّما ينتزع من مجموع البدائل عنوان يكون هو متعلّق الوجوب التخييري ، ولا مانع من أن يكون متعلّق الحكم الشرعي عنوانا انتزاعيّا بعد أن كان الحكم الشرعي من الامور الاعتباريّة بل انّ العنوان الانتزاعي قد يكون متعلّقا للامور الحقيقيّة الواقعيّة كالعلم الإجمالي حيث انّ متعلّقه أحد الإنائين مثلا.

وهذا الاتّجاه هو الذي ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه‌الله وادّعى انّه الأوفق بظهور العطف بأو في موارد الوجوب التخييري ، فحينما يقال « أعتق رقبة أو أطعم ستّين مسكينا » فإنّ المستظهر منه هو وجوب أحدهما.

* * *

٦٠٥ ـ الواجب الكفائي

يمتاز الواجب الكفائي عن الواجب العيني انّ المطلوب في الواجب العيني ينحلّ الى مطلوبات بعدد أفراد المكلّفين بنحو لا يكون امتثال أحد المكلّفين موجبا لخروج سائر المكلّفين عن عهدة التكليف بقطع النظر عن كون الواجب ملحوظا بنحو الإطلاق أو العموم الاستغراقي أو البدلي أو المجموعي ، فمتى ما كان الواجب عينيا فإنّه ينحلّ الى واجبات بعدد أفراد المكلّفين ، غايته انّ التكليف في العموم الاستغراقي ينحلّ أيضا الى تكاليف بعدد أفراد متعلّقه ، وأمّا العموم البدلي والمجموعي فإنّ التكليف في موردهما لا ينحلّ من جهة المتعلّق بل انّ متعلّق الاول هو صرف الوجود ، ومتعلّق الثاني هو المجموع بما هو مجموع إلاّ انّ التكليف في مورد العموم والإطلاق بأقسامهما الثلاثة ينحلّ الى تكاليف بعدد أفراد المكلّفين ، أي انحلاله من جهة الموضوع وهو المكلّف.

والمتحصّل انّ الواجب العيني لا ينحلّ من جهة المتعلّق إلاّ في مورد الإطلاق والعموم والاستغراقي ، وأمّا من جهة الموضوع وهو المكلّف فإنّه

٥٨٨

دائما ينحلّ الى تكاليف بعدد أفراد المكلّفين ، وهذه الخصوصيّة هي التي يمتاز بها الواجب العيني عن الواجب الكفائي فالواجب الكفائي لا ينحلّ من جهة الموضوع « المكلّف » بل انّ المطلوب من هذه الجهة واحد ولا يتعدّد بتعدّد المكلّفين ، ولهذا لو جاء واحد من المكلّفين بالواجب الكفائي فإنّ ذلك يصحّح ترك سائر المكلّفين له.

ومن هنا ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ موضوع التكليف بالواجب الكفائي هو طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود ، بمعنى انّ خصوصيّة كلّ فرد من أفراد المكلّفين ليست ملحوظة في موارد التكليف بالواجب الكفائي بل انّ المطلوب في مورده هو صدور الفعل من أحد المكلّفين لا بعينه.

وبيان ذلك : انّ غرض المولى كما يمكن ان يتعلّق بطبيعي الفعل بنحو صرف الوجود يمكن أن يتعلّق بطبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود ، مثلا حينما يقول المولى للمكلّف « صلّ » فإنّ غرضه قد تعلّق بطبيعي الصلاة دون الاعتناء بمشخّصات وخصوصيّات أفراد طبيعة الصلاة ، فكلّ فرد من أفراد الطبيعة مهما كانت هويّته فإنّه محقّق لغرض المولى ، وهذا ما يقتضي اعتبار متعلّق التكليف صرف الوجود للطبيعة المنتج للسعة من جهة اختيار أيّ فرد من أفراد طبيعة المتعلّق ، إذ انّ كلّ واحد من أفراد الطبيعة واف بالغرض.

وهكذا الكلام فيما لو قال المولى : « انّ مكلفا مسئول عن دفن الميّت » فإنّ غرضه قد تعلّق بصدور الفعل من طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود ، بمعنى انّه أراد من واحد من طبيعي المكلّف ـ دون ملاحظة من هو ذلك المكلّف ـ أن يقوم بذلك الفعل ، فأيّ مكلّف مهما كانت هويّته إذا جاء بالفعل المطلوب فإنّ غرض المولى يكون قد تحقّق بفعله ، وبذلك يسقط التكليف عن سائر المكلّفين لاستيفاء الغرض بواسطة فعل ذلك المكلّف.

٥٨٩

وفي مقابل هذا الاتّجاه هناك اتّجاهات اخرى في تصوير ما هو واقع الواجب الكفائي :

منها : انّ موضوع التكليف بالواجب الكفائي هو المكلّف بنحو مطلق الوجود ، بمعنى انّ التكليف بالواجب الكفائي متوجّه الى كلّ فرد من أفراد المكلّفين أو قل انّ التكليف ينحلّ الى تكاليف متعدّدة بعدد أفراد المكلّفين كما هو الحال في الواجب العيني ، غايته انّ التكليف بالواجب الكفائي على كلّ فرد مشروط بترك سائر المكلّفين.

وهذا معناه انّ الوجوب الكفائي ينحلّ الى وجوبات مشروط كلّ واحد منها بترك سائر المكلّفين للامتثال ، فحينما يقال : « يجب ردّ التحيّة » فإنّ هذا الوجوب ينحلّ الى وجوبات متعدّدة بعدد المكلّفين الحاضرين مجلس السلام إلاّ انّ هذه الوجوبات مشروط كلّ واحد منها بترك سائر الحاضرين للردّ.

ومنها : انّ الواجب الكفائي ليس له موضوع ، بمعنى انّ المولى لم يلحظ في التكليف بالواجب الكفائي سوى المتعلّق « المأمور به » فلا تصل النوبة للبحث عمّا هو موضوع الواجب الكفائي وهل هو طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود أو بنحو مطلق الوجود والعموم الاستغراقي ، إذ ليس ثمّة طرف للواجب الكفائي سوى المتعلّق ، فالمولى حينما يوجب دفن الميّت لم يلحظ مع هذا التكليف أكثر من الدفن والذي هو متعلّق التكليف.

فما يقال من أنّ التكليف متقوّم بطرفين هما المتعلّق والموضوع « المكلّف » لا يشمل حالات التكليف بالواجب الكفائي ، إذ انّ التكليف بالواجب الكفائي لا يتقوّم بأكثر من المتعلّق وأمّا المكلّف فهو غير ملحوظ أصلا لا بنحو صرف الوجود ولا بنحو مطلق الوجود ولا انّ هناك مكلّفا معيّنا عند الله تعالى هو موضوع التكليف واقعا ، فالتكليف بالواجب الكفائي تكليف بلا موضوع.

إلاّ انّ هذا المبنى واضح الفساد ، إذ

٥٩٠

ليس من المعقول أن يكون ثمّة تكليف من غير أن يكون هناك مكلّف بذلك التكليف ، وذلك لأنّ واقع التكليف هو البعث والتحريك وذلك لا يتعقّل دون وجود مكلّف يكون موردا للانبعاث عن البعث وموردا لتحرّك عن تحريك المولى.

كما انّ التكليف معناه جعل المولى ذمّة المكلّف مشغولة بالتكليف ، فافتراض انّ التكليف بلا موضوع معناه عدم وجود تكليف ، فلا يمكن الجمع بين افتراض وجود تكليف وافتراض انّه بلا موضوع ، فالافتراض الثاني يساوق عدم وجود التكليف وهو خلف الافتراض الأوّل.

* * *

٦٠٦ ـ الواجب المضيّق والموسّع

ينقسم الواجب الموقّت إلى قسمين :

القسم الأوّل : الواجب المضيّق ، وهو ما كان زمان أدائه مساويا للزمن المعتبر في صحّته بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، فلا يكون ثمّة جزء من أجزاء الواجب واقعا في خارج الإطار الزمني المعتبر أداء الواجب في ظرفه كما لا يكون ثمّة جزء من أجزاء الزمن خاليا عن وقوع جزء من أجزاء الواجب في ظرفه.

ومثاله صيام نهار شهر رمضان حيث انّ زمان الواجب فيه مساو لمقدار الواجب من الإمساك.

القسم الثاني : الواجب الموسّع ، وهو الواجب الذي يكون الزمان المعتبر في أدائه أوسع من مقدار أدائه ، بمعنى انّ الزمان المعتبر في صحّة الواجب وقوعه في ظرفه أوسع من المقدار الذي يفيء بأداء الواجب.

ومثاله : الصلاة اليوميّة ، فإنّ الزمان المعتبر في صحّة صلاة الظهر أن تقع في ظرفه يمتدّ من زوال الشمس الى حين الغروب الشرعي في حين انّ المقدار الزمني الذي يفيء بأداء صلاة الظهر أقلّ بكثير من ذلك الزمان ، ومن هنا يكون المكلّف في سعة من

٥٩١

جهة اختيار أيّ جزء من الأجزاء الزمنيّة الطوليّة لجعلها ظرفا للمأمور به.

* * *

٦٠٧ ـ الواجب المطلق والمشروط

الإطلاق والاشتراط قد يعرضان الواجب والذي هو متعلّق الوجوب مثل الصلاة ، وقد يعرضان الوجوب والذي هو الحكم ، فالأوّل يعبّر عنه بالواجب المطلق أو الواجب المشروط ، والثاني يعبّر عنه بالوجوب المطلق أو الوجوب المشروط.

والمراد من الواجب المطلق هو الواجب الذي لم يقيّد بقيد كالصلاة بالنسبة للتحنّك فإنّها مطلقة من جهته ، أي انّها لم تقيّد به ، ولهذا لا يتحصّص الواجب به بحيث تكون الحصّة المأمور بها من الصلاة هي خصوص الحصّة الواجدة لقيد التحنّك.

وأمّا المراد من الواجب المشروط فهو الواجب المقيّد بقيد يوجب كون المطلوب هو الحصّة الواجدة له أو قلّ المتقيّدة به كالصلاة بالنسبة للساتر فإنّها مقيّدة به ، فالساتر وان لم يكن جزء في المأمور به إلاّ انّ التقيّد به مأمور به ، فالمطلوب هو الصلاة المتقيّد بالساتر.

وأمّا المراد من الوجوب المطلق فهو التكليف الذي لم تناط. فعليّته بشرط من الشروط ، كوجوب الحجّ على الزوجة بالنسبة لإذن زوجها ، فإنّه مطلق من هذه الجهة ، أي انّ وجوب الحجّ ليس مترتّبا على إذن الزوج بل هو ثابت على الزوجة بقطع النظر عن إذن زوجها وعدم إذنه.

وأمّا الوجوب المشروط فهو التكليف الذي انيطت فعليّته بشرط من الشروط بحيث لا تثبت الفعليّة للوجوب ما لم يتحقّق ذلك الشرط المناط به ، ومثاله وجوب الحجّ بالنسبة للاستطاعة.

وبما ذكرناه يتّضح انّ شروط الواجب تقتضي تضييق دائرة المأمور

٥٩٢

به وتحصيصه بالحصّة الواجدة للشرط ، وأمّا شروط الوجوب فإنّها تقتضي تعليق الوجوب على تحقّقها ، إذ انّ هذا هو معنى اناطة الفعليّة بالشرط.

إذن فثمّة معنيان للإطلاق والاشتراط.

المعنى الأوّل : انّ الإطلاق يعني التوسعة وفي مقابله التضييق والذي هو الاشتراط.

المعنى الثاني : انّ الإطلاق بمعنى التنجيز وفي مقابله التعليق والذي هو معنى الاشتراط.

وكلا المعنيين يرجعان الى معنى واحد ، إذ انّ التوسعة والتنجيز ينشئان عن الإرسال والذي هو المعنى اللغوي للإطلاق ، والتضييق والتعليق ينشئان عن التقييد والربط والذي هو معنى الاشتراط وهذا واضح بالتأمّل.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الإطلاق والاشتراط بالنسبة للوجوب والواجب من الامور الإضافيّة ، فالواجب قد يكون مطلقا بالإضافة لشرط من الشروط ويكون في نفس الوقت مشروطا بالإضافة لشرط آخر ، وهكذا الكلام في الوجوب.

ثمّ انّ البحث في المقام عن امكان الوجوب المشروط ثبوتا ، وهل من المعقول اناطة الوجوب أو مطلق الحكم بشرط أو لا؟ والبحث الآخر عن انّ القيود والشروط المأخوذة في الخطاب هل يمكن رجوعها للهيئة وبهذا تكون من قيود الحكم أو انّه لا يمكن رجوعها للهيئة بل هي راجعة إلى المادّة فتكون من قيود الواجب « المتعلّق » لا من قيود الحكم ، وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٦٠٨ ـ الواجب المعلّق والمنجّز

قسّم صاحب الفصول رحمه‌الله الواجب المطلق الى قسمين معلّق ومنجّز ، وأراد من الواجب المعلّق هو ما كان الوجوب معه فعليا إلاّ انّ الواجب أي متعلّق الوجوب استقبالي ، وأراد من الواجب المنجّز هو ما كان الوجوب

٥٩٣

معه فعليا والواجب أيضا فعلي ، بمعنى انّ الوجوب والواجب متّحدين زمانا.

وبتعبير آخر : انّ الوجوب إذا بلغ مرحلة الفعليّة فتارة يكون متعلّقه مقيّدا بزمان متأخّر عن زمان فعليّة الوجوب أو مقيّدا بقيد زماني هذا القيد متأخّر عن تحقّق الفعليّة للوجوب ، وفي كلا الصورتين يعبّر عن متعلّق الوجوب بالواجب المعلّق.

ومثال الصورة الاولى : وجوب الصوم والذي تتحقّق فعليّته عند رؤية الهلال إلاّ انّ متعلّقه وهو الصوم مقيّد بطلوع الفجر فهو مقيّد بزمان متأخّر عن زمان الفعليّة.

ومثال الصورة الثانية : هو وجوب الحجّ فإنّ فعليّته تتحقّق بمجرّد الاستطاعة إلاّ انّ متعلّقه وهو الحجّ مقيّد بخروج الرفقة والذي لا يتّفق إلاّ في زمن متأخّر عن زمان تحقّق الفعليّة للوجوب ، فالحجّ بذلك واجب معلّق ، وذلك لأنّه مقيّد بقيد زماني وهو خروج الرفقة الواقع في الزمان المتأخّر عن زمان تحقّق الفعليّة لوجوب الحجّ.

وأمّا الواجب المنجّز الذي لا يكون مقيّدا بزمان متأخّر عن زمان الواجب كما انّه ليس مقيّدا بقيد زماني متأخّر عن زمان الواجب وان كان قد يكون مقيّدا بقيود اخرى.

ومثاله : الصلاة والتي يكون أداؤها من حين تحقّق الفعليّة للوجوب فبمجرّد زوال الشمس تتحقّق الفعليّة لوجوب الصلاة ويتحقّق معها زمان أداء الصلاة.

وقد أورد السيّد الخوئي رحمه‌الله على صاحب الفصول رحمه‌الله بأنّ الواجب المعلّق ليس من أقسام الواجب المطلق بل هو قسم للواجب المشروط وقرّب ذلك بما حاصله :

انّ الوجوب إمّا أن يكون مشروطا بزمان أو بقيد زماني مقارن أو متأخّر وامّا أن لا يكون مشروطا بأحدهما ، وليس ثمّة فرض آخر لاستحالة ارتفاع النقيضين ، والفرض الأوّل هو المعبّر عنه بالمشروط ، والثاني يعبّر عنه بالمطلق.

وحينئذ نقول : انّ متعلّق الوجوب

٥٩٤

إن لم يكن مقيّدا بقيد خارج عن القدرة والاختيار فلا محذور في التكليف به ، أمّا لو كان مقيّدا بقيد خارج عن القدرة والاختيار فلا محالة يكون هذا القيد من قيود التكليف لا من قيود المتعلّق « الواجب » ، وذلك لأنّ قيود الواجب يجب تحصيلها ، فإذا كانت خارجة عن القدرة فلا يمكن التكليف بها لخروجها عن القدرة ، نعم يمكن اعتبارها من قيود التكليف والتي لا يجب تحصيلها وانّما هي معتبرة بنحو لو اتفق حصولها ترتّب على ذلك الخطاب بالتكليف وتحقّق الفعليّة له.

وباتّضاح ذلك يتّضح استحالة اعتبار الزمان أو القيد الزماني من قيود المتعلّق لكونهما خارجين عن القدرة ، وعليه لا بدّ وان تكون القيود التي من هذا القبيل من قيود وشرائط التكليف ، وهذا ما يعبّر عن انّ الواجب المعلّق من أقسام الواجب المشروط أي الوجوب المشروط ، وذلك لأنّ افتراض تقيّد الواجب بقيد زماني معناه انّ المتقيّد بذلك هو الوجوب ، لأنّه من غير المعقول تقييد الواجب بقيد غير مقدور والحال انّ قيود الواجب واجبة التحصيل ، وعليه يكون تعليق أداء الواجب على زمان متأخّر يعبّر عن انّ للزمان المتأخّر دخلا في ملاك التكليف ، وهذا معناه انّ المشروط بالزمان هو الوجوب ، نعم يلزم من ذلك البناء على امكان اشتراط الحكم بالشرط المتأخّر ولا مانع من ذلك ، بمعنى انّه يمكن الالتزام بتحقّق فعليّة الحكم إلاّ انّ هذه الفعليّة منوطة بزمان أو بقيد زماني متأخّر بحيث لو لم يتّفق تحقّق ذلك الزمان أو القيد الزماني لكان ذلك كاشفا عن عدم تحقّق الفعليّة للحكم من أوّل الأمر.

واشتراط الحكم بشرط متأخّر على قسمين :

القسم الأوّل : أن يكون الشرط متأخرا وتكون الفعليّة للحكم متّحدة مع زمان أداء المتعلّق.

ويمكن التمثيل لذلك لغرض التوضيح بما لو نذر شخص صيام يوم معيّن فإنّه بطلوع فجر ذلك اليوم

٥٩٥

تتحقّق الفعليّة لوجوب الصوم كما انّ أداء الواجب يثبت من حين تحقّق الفعليّة إلاّ انّ وجوب الصوم مشروط بشرط متأخّر وهو عدم طرو الجنون أو الموت قبل الغروب.

القسم الثاني : هو أن يكون الشرط متأخرا عن زمان الوجوب ويكون زمان الواجب أيضا متأخرا عن زمان الوجوب ، وهذا هو الواجب المعلّق وهو عينه الوجوب المشروط بشرط متأخّر بعد أن ثبت استحالة تقييد الواجب بقيد غير اختياري ، فاشتراط أداء الواجب بزمان متأخر عن زمان الوجوب معناه اشتراط الوجوب بشرط متأخّر.

* * *

٦٠٩ ـ الواجب الموقّت

المراد من الواجب الموقّت هو ما كان لسان دليله معبّرا عن كون الزمان دخيلا في توفّره على الملاك بحيث لو جيء به في غير زمانه لم يكن المأتي به واجدا لملاك جعله واعتباره على المكلّف.

وبيان ذلك : انّ الواجبات كسائر أفعال الإنسان يستحيل وقوعها عقلا دون أن تكون مظروفة لزمان إلاّ انّ الزمان قد يكون دخيلا في واجديتها للملاك وقد لا يكون دخيلا ، والواجب الموقّت هو الأوّل ، والواجب غير الموقّت هو الثاني.

ومثال الواجب الموقّت هو الصلوات اليوميّة وصيام شهر رمضان وحجّ بيت الله الحرام ، فإنّ الزمان في كلّ هذه الواجبات ممّا له دخل في صحّتها وترتب الأثر على الإتيان بها.

ومثال الواجب غير الموقّت هو زكاة المال والخمس وما إلى ذلك ممّا لا يعتبر زمن معيّن في أدائها.

ثمّ انّ الواجب الموقّت ينقسم الى واجب مضيق وواجب موسّع وهذا ما أوضحناه تحت عنوان « الواجب المضيّق والموسّع ».

* * *

٦١٠ ـ الواجب النفسي والغيري

ذكروا انّ تعريف الواجب النفسي

٥٩٦

« هو ما وجب لنفسه لا لواجب آخر » ، وهذا بخلاف الواجب الغيري ، إذ انّه « الواجب الذي وجب لأجل التوصّل به الى واجب آخر ».

وقد واجه تعريف الواجب النفسي اشكالا مشهورا حاصله : انّه بناء عليه لا يكون ثمّة واجب إلاّ وهو غيري ، نعم قد يتّفق في موارد قليلة جدا بل نادرة أن يكون الواجب نفسيا وإلاّ فالحالة الغالبة هي اتّصاف الواجب بالغيريّة ، وذلك لأنّه ما من واجب إلاّ وكان منشأ وجوبه ملاكا ومصلحة هي غير ذات الفعل الذي وقع متعلّقا للوجوب ويكون الفعل الواقع متعلّقا للوجوب وسيلة لترتّب ذلك الملاك وتحقّق تلك المصلحة ، وهذا معناه انّ الواجب انّما وجب لأجل التوصّل به الى تلك المصلحة الملزمة وهذا هو الواجب الغيري.

فالصلاة مثلا انّما وجبت لأجل التوصّل بها لمصلحة ملزمة وهي المعراجيّة كما ورد في الرواية ، وعليه لا تكون الصلاة واجبة بالوجوب النفسي بل هي واجبة بالوجوب الغيري ، ودعوى انّ المعراجيّة والتي هي ملاك الوجوب لا يمكن أن تكون واجبة لعدم القدرة على تحصيلها بنفسها.

هذه الدعوى غير تامّة ، وذلك لأنّها وان لم تكن مقدورة بنفسها إلاّ انّها مقدورة بواسطة القدرة على مقدّمتها التوليديّة ، وواضح انّ القدرة على المقدّمة التوليديّة يساوق القدرة على ذي المقدّمة ، فالمعلول وان لم يكن مقدورا على تحصيله ابتداء إلاّ انّ القدرة على علّته التامّة قدرة عليه.

وعليه لا مانع من ايجاب الملاك ابتداء وان لم يكن مقدورا إلاّ بواسطة مقدّمته وهي الصلاة مثلا ، وبهذا تكون الصلاة واجبة لواجب آخر هو الملاك.

وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن هذا الإشكال بأنّه من غير الممكن أن تكون الغايات والملاكات متعلّقا للتكليف ، وذلك لأنّ التكليف بشيء لا يشترط فيه القدرة على متعلّقه فحسب حتى يقال : انّ الملاك مقدور بالقدرة على مقدمته بل هو مشروط

٥٩٧

مع ذلك بشرط آخر عرضي ، وهو انّ متعلّق التكليف لا بدّ وأن يكون قابلا عرفا لأن يتعلّق به تكليف ، وواضح انّ الملاكات والغايات لا تصلح أن تكون موردا ومتعلّقا للتكليف بنظر العرف ، وذلك لأنّ جعل التكليف عليها جعل له على شيء مجهول لدى العرف ، ومن هنا لا يكون وجوب الشيء لغاية وملاك ملزم معناه انّه واجب لأجل التوصّل به لواجب آخر ، فلا يرد ما يقال من انّ جلّ الواجبات بناء على التعريف المذكور واجبة بالوجوب الغيري بل هي واجبات وجبت لنفسها وان كان منشأ وجوبها هو ما يترتّب على متعلقاتها من مصالح وغايات.

ثمّ انّه قد ذكر للشرط الثاني مجموعة من المبرّرات :

منها : انّ الغايات والملاكات الملزمة غالبا ما يكون تشخيصها متعسّرا على المكلّف على اذ لا سبيل للتعرّف عليها إلاّ بواسطة المولى جلّ وعلا ، وذلك عن طريق الأوامر الصادرة عنه تعالى والتي تكشف عن اشتمال متعلّقاتها على الغايات والملاكات ، وإذا كان كذلك فكيف يسوغ جعل الأوامر عليها ابتداء والحال انّ الأمر بالشيء فرع تشخّصه ووضوحه عند المكلّف.

ومنها : انّه لو كان متعلّق التكليف هو الغايات والملاكات ابتداء لما كان من الممكن على المكلّف تشخيص الطرق والوسائل الموصلة لهذه الملاكات والغايات ، فيكون جعل التكليف عليها ابتداء دون بيان الطرق الموصلة لها معناه تعريض غاياته وملاكاته للضياع لجهل المكلّف غالبا بالطرق الموصلة لها أو لا أقل بالطرق المحرزة لتمام الملاك المطلوب.

وهذا ما يبرّر جعل التكاليف على الأفعال الموصلة للغايات لا على الغايات والملاكات ابتداء ، فتكون الأفعال واجبة لا لواجب آخر ، نعم هي واجبة لغايات اخرى : إلاّ انّ ذلك لا يخرجها عن كونها واجبات نفسيّة كما هو مقتضى التعريف.

٥٩٨

٦١١ ـ الواسطة في الإثبات

المراد من الواسطة في الإثبات هو الحدّ الأوسط الموجب لإذعان النفس بثبوت الأكبر للأصغر.

وبتعبير آخر : انّ الواسطة في الإثبات هو ما يكشف عن ثبوت شيء لشيء أو قل هو ما يكشف عن ثبوت المحمول للموضوع ، فعند ما يكون لنا مجهول تصديقي وهو فناء زيد إذ لا ندري انّه يفنى أو لا ، فيمكن تشكيل هذا القياس للخروج منه بمعلوم تصديقي :

انّ زيدا انسان.

وكلّ انسان فان.

إذن : زيد فان.

تلاحظون انّ هذه النتيجة والتي هي ثبوت الحدّ الأكبر « الفناء » للحدّ الأصغر « زيد » تمّ بواسطة الحدّ الأوسط وهو الإنسان فهو الذي كشف لنا عن فناء زيد ، ولهذا كان الحدّ الأوسط هو الواسطة في الإثبات أي هو السبب الذي انكشف عنه ثبوت المحمول للموضوع.

ثمّ انّ الواسطة في الإثبات قد تكون علّة حقيقيّة لثبوت المحمول الموضوع والتي هي الواسطة في الثبوت ، وحينئذ تكون الواسطة في الثبوت هي الواسطة في الإثبات ، فهي واسطة في الثبوت من جهة انّها العلّة الموجبة لثبوت المحمول للموضوع ، وهي واسطة في الإثبات من جهة انّها الكاشفة عن ثبوت المحمول للموضوع ، وهذه الحالة التي تجتمع فيها الحيثيّتان يعبّر عنها بالبرهان اللمّي.

إلاّ انّه ـ كما ذكرنا ذلك تحت عنوان الواسطة في الثبوت ـ لا تكون الواسطة في الثبوت واسطة في الإثبات إلاّ فى الحالة التي يدرك فيها العقل العليّة بالإضافة الى احراز وجود العلّة ، وحينئذ تكون الواسطة في الثبوت واسطة في الإثبات ، أي انّه يمكن الانتقال من العلّة الى المعلول المعبّر عنه بالبرهان اللمّي.

وقد لا تكون الواسطة في الإثبات علّة بل تكون معلولا ينكشف باحرازه وجود العلّة أو ينكشف باحرازه

٥٩٩

معلول آخر لعلّة ثالثة ، وهذه الحالة بقسميها يعبّر عنها بالبرهان الإنّي.

ومثال القسم الأوّل : احراز وجود الحرارة فإنّه يكشف عن وجود النار ، وهنا صار المعلول طريقا لإحراز العلّة.

ومثال القسم الثاني : إحراز الاحتراق فإنّه يوجب إحراز وجود الحرارة وكلّ من الاحتراق والحرارة معلولان لعلّة ثالثة هي النار راجع عنوان « البرهان اللمّي والبرهان الإنّي ».

* * *

٦١٢ ـ الواسطة في الثبوت

المراد من الواسطة في الثبوت هو العلّة الموجبة لثبوت شيء لشيء خارجا أو قل هي العلّة لعروض المحمول لموضوعه ، والمقصود من العلّة هو الأعمّ من العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة.

ومثاله : ثبوت الحرارة للماء فإنّ الواسطة في ذلك هي النار ولهذا تكون النار واسطة في الثبوت ، لأنّها هي علّة عروض الحرارة للماء.

ثمّ انّه قد تكون العليّة بين الشيئين مدركة وقد لا تكون مدركة ، وإدراكها وعدم إدراكها لا دخل له في كون العلّة الواقعيّة واسطة في الثبوت ، نعم العليّة إذا أدركت وأحرزنا بعد ذلك وجود العلّة أمكن الانتقال منها إلى احراز المعلول وهذا ما يعبّر عنه ببرهان اللم.

فبرهان اللم وان كان مورده الواسطة في الثبوت والتي هي العلّة الواقعيّة إلاّ انّ ذلك وحده لا يصحّح البرهان اللمّي بل لا بدّ من أن ينضمّ إلى احراز العلّة الواقعيّة إدراك عليّتها وإلاّ لما أمكن الانتقال منها الى احراز المعلول ، فاحراز المعلول بواسطة احراز العلّة المعبّر عنه بالبرهان اللمّي منوط بإدراك العليّة بينهما.

ومن هنا كان البرهان اللمّي كالبرهان الإنّي من جهة انّه عبارة عن اثبات الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة الحدّ الأوسط إلاّ انّهما يختلفان من جهة انّ الحدّ الأوسط في البرهان اللمّي هو العلّة الواقعيّة المدركة ، ولمزيد من التوضيح راجع البرهان اللمّي.

٦٠٠