المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الوجوب هل يلزم منه وجوب مقدّماته أو لا؟ ومقدّمات الوجوب كما اتّضح ليست من هذا القبيل ، إذ انّه قبل تحقّقها لا وجوب حتى نبحث عن استلزامه لوجوب مقدّماته ، حيث قلنا انّ الوجوب انّما هو مترتّب عليها فلا يتعقّل أن يترشّح عنه وجوب لمقدّماته بعد افتراض عدمه قبل تحقّق مقدّماته.

فقبل الاستطاعة لا وجوب للحجّ حتى نبحث عن انّه هل يترشّح عن وجوب الحجّ وجوب تحصيل الاستطاعة ، وبعد تحقّق الفعليّة لوجوب الحجّ بسبب تحقّق الاستطاعة يكون ترشح الوجوب من وجوب الحجّ الى الاستطاعة بلا معنى ، لأنّه تحصيل للحاصل ، إذ المفترض انّ الاستطاعة قد تحقّقت وإلاّ لم يتحقّق الوجوب.

* * *

٥٦٩ ـ المقدّمة الوجوديّة

وهي المقدّمة التي يتوقّف إيجاد الواجب عليها ، بمعنى انّه لا يمكن تحصيل الواجب إلاّ بعد تحصيلها ، مثل السفر للحجّ بالنسبة للآفاقي ، فإنّ ايجاد الحجّ بالنسبة للآفاقي لا يتأتى إلاّ بواسطة تحصيل السفر الى مكّة المكرّمة والمشاعر.

وهذه هي المقدّمات المعبّر عنها بالمقدّمات الخارجيّة بالمعنى الأخصّ والتي هي خارجة عن المأمور به ذاتا وتقيدا كما أوضحنا ذلك.

ولا إشكال في دخول هذه المقدّمات في محلّ البحث ، وهو البحث عن الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، بمعنى انّه هل يترشّح عن ايجاب الشيء وجوب لمقدّماته التي يتوقّف ايجاد الواجب عليها أو لا.

وهذا انّما هو بعد الفراغ عن تحقّق الفعليّة للوجوب ، أي بعد وجوب الواجب ومسئوليّة المكلّف عن امتثاله يقع البحث عن انّه هل يترشّح عن فعليّة الوجوب للواجب « المتعلّق » وجوب لمقدّماته المنوط تحصيل الواجب بوجودها أو لا؟

٥٢١

٥٧٠ ـ الملاك الاقتضائي

كلّ فعل فهو إمّا أن يكون واجدا للمصلحة واقعا أو واجدا للمفسدة ، وإمّا أن أن لا يكون واجدا لهما.

ففي الفرض الأوّل يعبّر عن المصلحة الواقعيّة بالملاك الاقتضائي ، وكذلك يعبّر عن المفسدة الواقعيّة. وأمّا الفرض الثاني فيعبّر عن حالة خلوّ الفعل عن المصلحة والمفسدة بالملاك غير الاقتضائي ، وفي كلا الفرضين كان التقسيم بلحاظ علاقة الفعل بالحكم ، فحينما يكون الفعل واجدا للمصلحة والمحبوبيّة فإنّه يقتضي البعث نحو الفعل بالمستوى المناسب للمصلحة الكامنة في الفعل ، وحينما يكون الفعل واجدا للمفسدة والمبغوضيّة فإنّه يقتضي الزجر عن الفعل بالمستوى المناسب للمفسدة.

وبذلك يتّضح منشأ التعبير عن الملاك بالاقتضائي حيث أنّ المصلحة الكامنة في الفعل تدعو وتسبّب البعث والتحريك ، فالملاك الاقتضائي هو ما ينتج الحكم بنحو البعث أو الزجر.

وأمّا حينما يكون الفعل غير واجد لأي مصلحة أو مفسدة فحينئذ لن يكون مقتضيا للبعث أو الزجر وسوف يكون المناسب من الأحكام لهذا الفعل هو جعل السعة وهو معنى آخر للحكم بالإباحة.

وبذلك يتّضح منشأ التعبير عنه بغير الاقتضائي حيث أنّه ليس ثمّة ما يقتضي البعث أو الزجر.

ثمّ إنّه قد تصادف الفعل حالة تقتضي جعل الإباحة في مورده ، فقد يكون واجدا للمصلحة في نفسه أو واجدا للمفسدة إلاّ أنّ مصلحة التسهيل مثلا تفوق الملاك الواقعي في الفعل فيجعل المولى الإباحة نظرا لمصلحة التسهيل ، فمصلحة التسهيل يعبّر عنها أيضا بالملاك الاقتضائي ، وذلك لأنّها اقتضت وتسبّبت في جعل الإباحة.

فهذا الفرض والفرض السابق وإن كانا يتّحدان في النتيجة وهو جعل الإباحة إلاّ أنّ الإباحة في الفرض

٥٢٢

السابق نشأت عن خلوّ الواقع عن المصلحة والمفسدة ، وأمّا الإباحة في هذا الفرض فنشأت عن مصلحة صادفت الفعل وهي مصلحة التسهيل ، وهذا ما صحّح تصنيفها في الأحكام ذات الملاك الاقتضائي.

* * *

٥٧١ ـ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

الظاهر من كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله وغيره من الأعلام انّ مورد القاعدة هو الملازمة بين المدركات العقليّة العمليّة وبين حكم الشرع أو قل الملازمة بين المستقلاّت العقليّة بالمعنى المشهور وبين حكم الشرع ، فحكم العقل بحسن شيء أو بقبح شيء هل يلزم منه عقلا حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل أو لا؟

إلاّ انّ المستظهر من بعض كلمات صاحب الفصول رحمه‌الله المنكر للملازمة انّ محلّ النزاع أوسع من ذلك وانّه يشمل حالات إدراك العقل للمصالح والمفاسد ، بمعنى انّ إدراك العقل لاشتمال شيء على مصلحة أو مفسدة هل يلزم منه عقلا ثبوت الحكم الشرعي على طبق ما أدركه العقل.

إذ انّ العقل حين يدرك المصلحة يدرك معه الوجوب العقلي ، وحينئذ نبحث عن ثبوت الملازمة بين هذا المدرك العقلي وبين الحكم الشرعي إلاّ أن يكون مراد صاحب الفصول هو انكار الصغرى ، أي انكار أهليّة العقل لإدراك المصالح والمفاسد التامّة ، وهو ليس ببعيد عن كلماته رحمه‌الله.

كما انّه يمكن أن يقال انّ هذا المورد خارج عن محلّ البحث باعتبار انّ إدراك المصالح والمفاسد التامّة يكون منتجا لإدراك الحكم الشرعي ابتداء ودون الحاجة لتوسيط الملازمة ، فعند ما يدرك العقل اشتمال فعل على مصلحة تامّة يكون ذلك موجبا لإدراك تعلّق الحكم الشرعي بذلك الفعل ، فالمدرك هو كبرى عليّة المصالح والمفاسد للأحكام الشرعيّة

٥٢٣

وكذلك ثبوت علّة الحكم الشرعي والتي هي المصلحة أو المفسدة التامّة وهذه هي صغرى الكبرى المذكورة وعندئذ يستحيل تخلّف المعلول « الحكم الشرعي » عن علته التامّة المدرك وجودها بواسطة العقل ، وعليه يكون هذا المورد خارج عن محلّ البحث.

كما انّه يمكن توجيه ما هو مستظهر من عبائر صاحب الفصول رحمه‌الله بما يتناسب مع دعوى المحقّق النائيني رحمه‌الله بأن يقال : انّ مراد صاحب الفصول رحمه‌الله من المصلحة والمفسدة هو الحسن والقبح ، وذلك بدعوى انّ اتّصاف الفعل بالحسن ينشأ عن اشتماله على المصلحة التامّة ، كما انّ اتّصاف الفعل بالقبح ينشأ عن اشتماله على المفسدة ، وبهذا يكون إدراك المصلحة والمفسدة مساوقا لإدراك الحسن والقبح فيكونان من مدركات العقل العملي ، فلا يكون مورد القاعدة بنظر صاحب الفصول رحمه‌الله أوسع ممّا أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ، ومبرّرا هذا التوجيه يتّضح بملاحظة ما ذكرناه في مباحث الحسن والقبح.

وكيف كان فقد ذهب مشهور الاصوليين الى ثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع ، وفي مقابل هذه الدعوى أنكر جمع من الأعلام ثبوت الملازمة ، وهناك اتّجاه ثالث وهو استحالة ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، ويمكن اعتبار مبنى صاحب الفصول رحمه‌الله اتّجاه رابعا ، وذلك لأنّه وإن أنكر الملازمة الواقعيّة إلاّ انّه ادعى ثبوت الملازمة الظاهرية ، بمعنى انّ المكلّف يكون ملزما بالبناء على انّ ما أدركه بعقله هو ما يحكم به الشرع وانّ احتمال وجود المزاحم واقعا لا يعذر المكلّف عقلا عن عدم البناء على الملازمة ، ومن هنا لو لم يلتزم تقتضيه الملازمة واتّفق عدم وجود المزاحم واقعا فانّه يعدّ عاصيا ، وهذا هو معنى الملازمة الظاهريّة بحسب ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله.

ثمّ انّ مبنى الملازمة الواقعيّة يعتمد

٥٢٤

مجموعة من المقدّمات :

المقدّمة الاولى : هي تبعيّة الأحكام لملاكات في متعلقاتها.

المقدّمة الثانية : انّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة الذاتيّة لبعض الأفعال.

المقدّمة الثالثة : انّ العقل يدرك ولو بنحو الموجبة الجزئيّة حسن بعض الأفعال وقبح بعضها ، وهذا معناه حكمه أو إدراكه لمدح فاعل الحسن وذمّ فاعل القبيح ، ولا بدّ حينئذ من مطابقة الحكم الشرعي للحكم العقلي وعدم تعقّل تخلّف الحكم الشرعي عن ذلك.

وهنا يتصدّى المنكرون للملازمة للمناقشة في المقدّمة الثالثة ، وهو انّ إدراك العقل لحسن بعض الأفعال وقبح بعضها إذا كان المراد منه هو إدراك العقل انّ واقع هذا الفعل هو اتّصافه بالحسن وانّ واقع ذلك الفعل هو الاتّصاف بالقبح وانّ إدراك العقل لذلك يلازم إدراك الشارع لذلك الواقع إن كان هذا هو المراد من المقدّمة الثالثة فهو مسلّم إلاّ انّ هذا لا يعني جعل الشارع حكما على طبق ما أدركه ، إذ انّ ذلك أوسع من الدعوى حيث انّ الدعوى بحسب الفرض هو إدراك العقل لحسن هذا الفعل واقعا وانّ ما يدركه العقل يدركه الشرع ونحن لا نضايق في ذلك ، أي انّه لا محذور في البناء على إدراك الشرع لحسن هذا الفعل واقعا عينا كما هو مقتضى المدرك العقلي.

وان كان المراد من إدراك العقل للحسن واقعا هو استكشاف العقل للحكم الشرعي فهذا خروج عن الفرض ، وذلك لما ذكرناه في صدر البحث من انّ إدراك العقل للعلّة وهي الحسن أو القبح أو المصلحة أو المفسدة التامّة إدراك للحكم الشرعي ابتداء دون الحاجة لتوسيط الملازمة ، وذلك لأنّ إدراك العلّة إدراك للمعلول ببرهان اللم ، على انّ إدراك العقل للمصلحة والمفسدة أو الحسن والقبح بهذا النحو من مدركات العقل النظري لا العملي والذي هو مورد البحث.

نعم يبقى احتمال ثالث وهو انّ ادراك

٥٢٥

العقل لحسن بعض الأفعال وقبح بعضها معناه ادراكه لجعل العقلاء حكما على طبق ما يقتضيه إدراك العقل من حسن الفعل أو قبحه وعندها نبحث عن الملازمة بين الجعل العقلي والجعل الشرعي ، وهذا الاحتمال هو الذي يصلح أن يكون مورد القاعدة.

إلاّ انّ الذي يرد على هذه الدعوى هو عدم وجود برهان على الملازمة ، وذلك لاحتمال اكتفاء الشارع بما أدركه العقل وعدم الحاجة لأن يجعل حكما شرعيا على طبقه.

وبتعبير آخر : انّ الجعل العقلي يتفاوت من جهة اهتمام المولى ، فقد يكون الاهتمام بمستوى لا يقتضي الإبراز وهذا ما ينتج الاكتفاء في ذلك المورد بما أدركه العقل ، وقد يكون اهتمامه بذلك المدرك الواقعي شديدا بحيث يدعوه لإبراز ذلك الاهتمام ، فلا ملازمة إذن بين الجعل العقلي وبين الجعلى الشرعي لاحتمال انّ الاهتمام بذلك المدرك الواقعي لا يرقى لمستوى ابراز المولى لذلك الاهتمام إلاّ انّه مع ذلك تكون أثار الحكم الشرعي وهو ترتب العقاب على المخالفة ثابتة في مورد الجعل العقلي وان لم نقل بالملازمة.

إلاّ انّ الإنصاف انّ هذا الجواب غير تام لانّنا لا نحتاج لإثبات الملازمة لأكثر من مطابقة الجعل العقلي لاهتمام المولى ، وكون هذا الاهتمام لا يرقى لمستوى الإبراز لا ينفي التطابق وانّما ينفي الاهتمام الشديد الموجب لتصدي الشارع للإبراز ، فاستغناء الشارع بالجعل العقلي معناه قبوله له ، ولا نطلب من الملازمة أكثر من ذلك.

وأمّا الذي ادعى استحالة ثبوت الملازمة فقد استدلّ بلغوية الجعل الشرعي بعد الجعل العقلي. واجيب عن ذلك بأنّ اللغويّة غير مسلّمة ، إذ انّ الجعل الشرعي على طبق الجعل العقلي يعبّر عن التأييد والتأكيد.

كما يمكن أن يجاب عن هذه الدعوى بأنّ ادعاء الملازمة معناه ثبوت ملازمة واقعيّة ذاتيّة ، وهذا غير

٥٢٦

خاضع للاعتبار.

وبتعبير آخر : انّ مدعي الملازمة يدعي انّ ثبوت الجعل العقلي يلازم ذاتا الجعل الشرعي ، واللازم الذاتي لا يتخلّف عن ملزومه واقعا ، ولا معنى لدعوى اللغويّة بعد أن كانت الملازمة ذاتيّة ، وبعد ان لم تكن تعني أكثر من قبول الشارع للجعل العقلي والذي يفترض انّه المطابق للواقع.

ثمّ انّه يبقى الكلام في مورد آخر وهو المدركات العقليّة النظريّة الواقعة في سلسلة علل الأحكام والتي هي من قبيل الاستلزامات العقليّة كإدراك العقل للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

ولا ريب في خروج هذا المورد عن محلّ النزاع ، وذلك لأنّ مدعي الملازمة يدعي إدراك العقل لاستلزام وجوب الشيء ووجوب مقدّمته شرعا لا عقلا ، نعم لو كان المدعى هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته عقلا لكان ذلك موجبا للبحث عن الملازمة بين الحكم العقلي بوجوب المقدّمة والحكم الشرعي بوجوبها إلاّ انّ ذلك ليس هو مورد النزاع في مباحث الاستلزامات.

* * *

٥٧٢ ـ ملاك الحمل

المصحّح لحمل شيء على شيء أمران يكون انتفاء أحدهما مانعا عن صحّة الحمل ، فلا بدّ من التوفّر على كلا الأمرين وإلاّ لم يصحّ الحمل ، وهذان الأمران هما المعبّر عنهما بملاك الحمل :

الأمر الأوّل : أن يكون بين المحمول والمحمول عليه نحو اتّحاد ، فلو كان بينهما تمام المباينة لم يصحّ الحمل ، لأنّ الحمل يعني انّ هذا ذاك ، أي انّ الموضوع هو المحمول ، وافتراض تباينهما ينافي افتراض اتحادهما والذي هو معنى الحمل ، ومن هنا لا يقال : « الإنسان حجر ».

الأمر الثاني : أن يكون بين المحمول والمحمول عليه تغاير بوجه ما حتى لا يلزم من ذلك حمل الشيء على نفسه ،

٥٢٧

ومن هنا لا يصحّ أن يقال : « الإنسان انسان » لعدم وجود تغاير بين المحمول والمحمول عليه.

ثمّ انّ التغاير المصحّح للحمل قد يكون اعتباريا كما قد يكون ذاتيا :

أمّا التغاير الاعتباري : فهو الذي يكون معه المحمول والموضوع متّحدين ذاتا ، كما في حمل الجنس والفصل على النوع ، فإنّ النوع ليس شيئا آخر غير الجنس والفصل ، ومن هنا لا يكون ثمّة مصحّح للحمل سوى الاعتبار مثل الإجمال والتفصيل ، كما لو قيل : « الإنسان حيوان ناطق » ، فإنّ التغاير بين الموضوع والمحمول من جهة الإجمال والتفصيل.

وأمّا التغاير الذاتي : فهو ما يكون معه مفهوم الموضوع مباينا لمفهوم المحمول ، أي انّ المفهوم الماهوي لأحدهما مباينا للمفهوم الماهوي للآخر ، وهنا لا يصحّ الحمل إلاّ أن يكون بينهما اتّحاد في الوجود ، وهذا الفرض هو المعبّر عنه عندهم بالحمل الشائع الصناعي بخلاف الحمل في الفرض الأوّل فإنّه حمل أولي كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الحمل الأولي والحمل الشائع ».

ومثال ما كان بين المحمول والمحمول عليه تغاير ذاتي هو « الإنسان ضاحك » ، فإنّ المفهوم الماهوي للإنسان مباين للمفهوم الماهوي للضاحك إلاّ انّ أحدهما متّحد مع الآخر في الوجود ، وبهذا يتوفّر هذا الحمل على شرطيه ، إذ انّ التغاير الماهوي لا يمنع من صحّة الحمل بعد أن كان بينهما اتّحاد في الوجود ، نعم لو لم يكن بينهما اتّحاد في الوجود أيضا فإنّه لا يصحّ الحمل حينئذ ، فقولنا « الإنسان حجر » فاقد لكلا الشرطين ، إذ لا اتّحاد ذاتي بينهما كما انّه ليس بينهما اتّحاد في الوجود ، ومن هنا يكون الحمل ممتنعا.

* * *

٥٧٣ ـ مناسبات الحكم والموضوع

إنّ الأحكام المجعولة على موضوعاتها أو متعلّقاتها تكون عادة

٥٢٨

مجعولة على حالة من حالات ذلك الموضوع أو المتعلّق أو على حيثيّة من حيثيّاتهما ، وهذه الحيثيّة الملحوظة تارة تستوجب تعميم الحكم وتارة تستوجب التضييق من دائرته ، غاية ما في الأمر أنّه قد يصرّح في الخطاب بالحيثيّة التي انصبّ الحكم على الموضوع أو المتعلّق بلحاظها وقد لا يصرّح بذلك اتّكالا على ما هو مرتكز في ذهن أهل المحاورة من تناسب بين الموضوع وبين الحكم المجعول عليه ، فنلاحظ العرف ـ ونتيجة لملابسات خارجيّة أو مستفادة من أجواء الخطاب أو من مناشئ أخرى ـ يلغي في بعض الأحيان بعض خصوصيّات الموضوع ، وفي أحيان أخرى يجزم بالخصوصيّة ، وفي حالات يعدّي الحكم من موضوعه المذكور في الخطاب إلى موضوعات أخرى ، وهكذا.

كلّ ذلك ناشئ عن مناسبات بين الحكم والموضوع نشأت ـ كما قلنا ـ عن ملابسات خارجيّة من قبيل عدم إمكان ثبوت الحكم للموضوع من جهة معيّنة ، ويمكن التمثيل لذلك بما روي عن أبي الحسن عليه‌السلام أنّ كلثم بنت مسلم ذكرت الطين عند أبي الحسن عليه‌السلام فقال : « أترين أنّه ليس من مصائد الشيطان ، ألا إنّه لمن مصائده الكبار وأبوابه العظام » ، فإنّ المستظهر من هذه الرواية هو حرمة الطين إلاّ أنّ الحيثيّة التي جعلت عليها الحرمة غير مصرّح بها في الرواية إلاّ أنّه من غير الممكن عرفا أن تكون الجهة الملحوظة في الموضوع هي وطئ الطين مثلا.

أو تكون مستفادة من أجواء الخطاب كما في قوله عليه‌السلام : « حرّمت الخمرة لإسكارها » ، فإنّ الموضوع وهو الخمرة لها حيثيّات كثيرة من قبيل المعاوضة عليها ومن قبيل الاحتفاظ بها وهكذا ، إلاّ أنّ التعليل المذكور في الخطاب يناسب أن يكون الحكم مجعول على الشرب إذ هو الذي يوجب الاسكار دون بقيّة حيثيّات الموضوع.

٥٢٩

أو تكون مستفادة عن معرفة المناطات والملاكات التي يعوّل عليها المولى في جعل الأحكام لموضوعاتها ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) ، فإنّ موضوع الحرمة له حيثيّات كثيرة ، كالنظر واللمس والتكلّم وهكذا ، إلاّ أنّ العرف لمّا كان مطّلعا على محبوبيّة الشارع للنظر إلى الأمّ برحمة ، ومحبوبيّة خدمتها المستلزمة للمسها والتحدّث معها وهكذا سائر الحيثيّات ، فإنّ العرف إمّا أن يكون مطّلعا على مطلوبيّتها أو عدم مبغوضيّتها ، أو يكون مطّلعا على مبغوضيّتها إلاّ أنّها ليست خاصّة بعنوان الأمّ ، كلّ ذلك أوجب استظهار أنّ الحيثيّة التي انصبّ عليها الحكم بالحرمة هي حيثيّة النكاح.

وبهذا يتّضح أنّ مناسبات الحكم والموضوع تنشأ عن قرائن خاصّة إلاّ أنّها ليست من قبيل القرائن اللفظيّة بل هي من قبيل القرائن الحاليّة أو المقاميّة.

ولمزيد من التوضيح نذكر بعض التطبيقات :

التطبيق الأوّل : لو قال المولى : « اغسل ثوبك من دم ذي النفس السائلة » ، فإنّ العرف يلغي خصوصيّة الثوب ويرى أنّ الحكم بالنجاسة ثابت لمطلق الملاقي للدم ، وإنّما ذكرت الثوب لغرض التمثيل لمطلق الملاقي للدم.

وهذا التعميم المستظهر عرفا من المثال نشأ عن مناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المثال وإن لم يصرّح فيه بالحيثيّة الملحوظة في الموضوع حين جعل الحكم عليه إلاّ أنّ استبعاد العرف وجود خصوصيّة للموضوع المذكور في الخطاب أوجب استظهار كون الحيثيّة المذكورة في الموضوع المذكور هي التمثيل.

ومنشأ استظهار المثاليّة واستبعاد الخصوصيّة هو ظهور الخطاب في أنّ الأثر الشرعي للدم هو التنجيس ، وإذا كان كذلك فأيّ فرق بين الثوب وبين سائر ما يلاقيه الدم.

التطبيق الثاني : قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) فإنّ العرف

٥٣٠

يفهم من الحرمة الثابتة للميتة هي حرمة أكلها.

ومنشأ فهم العرف اختصاص الحرمة بالأكل هي مناسبات الحكم والموضوع وذلك لأنّ الأكل هو الفائدة الغالبة المتصوّرة من لحم الميتة.

التطبيق الثالث : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي ... ما اضطرّوا إليه » ، فكلّ فعل صدر عن المكلّف وكان منشؤه الاضطرار فإنّ ذلك الفعل قد رفعت آثاره الشرعيّة التي لو لم يكن المكلّف مضطرّا لترتّبت تلك الآثار على فعله ، فلو شرب المكلّف الخمر فإنّ الأثر الشرعي لهذا الفعل هو إقامة الحدّ عليه وعدم قبول شهادته ، لكنّ هذه الرواية الشريفة قد رفعت هذه الآثار في حالة صدور هذا الفعل من المكلّف اضطرارا ، إلاّ أنّه وبمناسبات الحكم والموضوع يستظهر العرف عدم ارتفاع الأثر الشرعي عن البيع الذي أجراه المكلّف اضطرارا ، فإنّ الأثر الشرعي للبيع وهو تملّك البائع للثمن يكون ملغيا لو كنّا نحن والسعة اللفظيّة للرواية ، إلاّ أنّه وباعتبار أنّ إلغاء الأثر الشرعي للبيع يكون منافيا للامتنان على الأمّة ، فإنّ هذا يشكّل قرينة على عدم شمول الرفع لهذا المورد باعتبار أنّ مقتضى الظهور في الرواية هو أنّها في مقام الامتنان على الأمّة ، وإلغاء الأثر الشرعي لبيع المضطرّ لا يتناسب مع الامتنان ، فإنّ المضطر حينما يبيع ما عنده يقصد رفع الاضطرار عن نفسه ، فلو كانت آثار هذا البيع ملغية فإنّ هذا نقيض الغرض من الرفع الوارد في الرواية.

وببيان أوضح : لو أنّ المكلّف بلغ به الجوع حدّ الاضطرار ، فباع ما عنده واشترى بثمنه طعاما ، فلو كان البيع في هذه الحالة مشمولا لحديث الرفع ، فمعناه أنّ هذا البيع لاغ ولم يترتّب عليه تملّك المضطر للثمن ، فيكون عاجزا شرعا عن تملّك الطعام ، وهذا مناف للامتنان الذي أرادته الشريعة وكشفت عنه بواسطة هذه الرواية الشريفة ، وإذا كان كذلك فالرفع غير شامل لمثل هذه الموارد.

٥٣١

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه أنّ العرف حينما يتلقّى خطابا فإنّه يلاحظ نوعيّة الحكم المجعول في الخطاب ويلاحظ موضوع ذلك الحكم ثمّ يناسب بينهما اعتمادا على ما هو مركوز في ذهنه نتيجة ملابسات اقتضتها معرفته بملاكات الأحكام أو طبيعة الحكم المجعول أو اقتضتها أجواء الخطاب أو ما إلى ذلك.

* * *

٥٧٤ ـ المنطوق

نسب الى الحاجبي بأنّه عرّف المنطوق بأنّه « ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق » ، وبناء عليه يكون المنطوق شاملا للمدلولات اللفظيّة الافراديّة والمدلولات اللفظيّة التركيبيّة ، بمعنى انّ المنطوق بناء على هذا التعريف هو مطلق ما دلّ عليه اللفظ بقطع النظر عن كون المدلول من المفاهيم الافراديّة كذات زيد المدلول عليها بلفظ زيد أو كان المدلول من المفاهيم التركيبيّة كانتساب القيام لزيد المدلول عليه بلفظ « زيد قائم ».

ولو كان هذا هو مراد الحاجبي لكان خلاف ما هو معهود في اصطلاح الاصوليين من انّ المنطوق هو مدلول الجملة التركيبيّة بالدلالة المطابقيّة كما هو المستفاد من كلمات المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمه‌الله.

وكيف كان فتوضيح المراد من المنطوق يتمّ ببيان امور :

الأمر الأوّل : انّ المنطوق بحسب مدلوله اللغوي من صفات اللفظ كما انّ الناطق من صفات اللافظ ، فالمنطوق اسم مفعول يتّصف به اللفظ عند ما ينطق به متكلّم ، فعند ما ينطق المتكلّم بلفظ زيد يكون لفظ زيد منطوقا ويكون المتكلّم ناطقا.

إلاّ انّ هذا المعنى غير مراد من استعمالات الاصوليين ، وما هو مراد في اصطلاحهم هو انّ المنطوق من صفات المدلول كما هو المعروف أو من صفات الدلالة.

فالمستظهر من عبائر المحقّق النائيني رحمه‌الله وتعريف الحاجبي وكلمات

٥٣٢

السيّد الخوئي رحمه‌الله في المحاضرات وهكذا بعض الأعلام انّ المنطوق من صفات المدلول وانّه عبارة عن المعنى المدلول عليه بالدلالة المطابقيّة للفظ ، فالمعنى المستفاد من قولنا مثلا « زيد قائم » هو المتّصف بالمنطوق لا نفس الألفاظ القائمة بالنطق ، كما انّ المنطوق ليس صفة لعمليّة الانتقال من الدال للمدلول المعبّر عنها بالدلالة.

إلاّ انّ المنسوب للسيّد الخوئي رحمه‌الله في كتاب الدراسات انّ المتّصف بالمنطوق انّما هو الدلالة ، فالمنطوق هو عبارة عن الدلالة المطابقيّة وليس هو المعنى المدلول عليه بالدلالة المطابقيّة ، فالدلالة المطابقيّة والتي هي الانتقال من اللفظ إلى مدلوله الوضعي هي المتّصفة بالمنطوق.

ومن هنا لا يكون المعنى المتحصّل من قولنا « زيد قائم » منطوقا وانّما الانتقال من قولنا زيد قائم الى المعنى ، هو المتّصف بالمنطوق ، واطلاق المنطوق على المعنى لا يكون إلاّ بنحو المسامحة.

وقد جمع السيّد الإمام رحمه‌الله بين المبنيين بدعوى انّ ذلك يختلف باختلاف اللحاظ والإضافة ، فعند ما نلاحظ المعنى وانّه مستفاد من حاق اللفظ فإنّ هذا اللحاظ يصحّح اتّصاف المعنى بالمنطوق فيكون المنطوق هو المدلول المطابقي ، وعند ما نلاحظ الدلالة اللفظيّة وانّها عبارة عن دلالة نفس اللفظ على المعنى المطابقي يكون ذلك مصحّحا لاتّصاف الدلالة بالمنطوق فيقال دلالة منطوقيّة.

الأمر الثاني : انّ المنطوق باعتبار انّه في مقابل المفهوم فإنّ ذلك يقتضي اختصاصه بالمدلول التركيبي أو الدلالة التركيبيّة ، إذ انّ المفهوم ـ كما سيتّضح ـ مختصّ بذلك ، وعليه لا يكون المفهوم الافرادي المتحصّل عن حاق اللفظ منطوقا وان كان يعبّر عنه بالمدلول المطابقي.

وبهذا يتّضح انّ المدلول المطابقي أو الدلالة المطابقيّة ليس هو المنطوق على اطلاقه بل انّ المنطوق يختصّ بالمدلول المطابقي للجمل التركيبيّة كالجملة

٥٣٣

الشرطيّة أو الوصفيّة أو الغائيّة ومطلق الجمل الخبريّة والإنشائيّة.

ثمّ انّ الجمل الناقصة لا يكون مدلولها أو دلالتها منطوقا بحسب الاصطلاح ، فإنّ المقصود من كون المنطوق هو المدلول المطابقي للجمل التركيبيّة هي الجمل التركيبيّة التامّة ، وأمّا الناقصة فهي خارجة عن محلّ الكلام ، إذ انّها لا تنتج كما اتّضح في محلّه إلاّ مفهوما افراديا.

الأمر الثالث : انّ المنطوق وان كان هو المعنى المدلول عليه باللفظ إلاّ انّ ذلك لا يمنع عن الاستعانة على تحصيلة بالإضافة الى اللفظ بالقرينة العامة أو الخاصة ، ومن هنا كان الإطلاق المستفاد من قرينة الحكمة والمعنى المجازي المستفاد بواسطة القرينة الخاصّة منطوقا.

والمتحصّل انّ المنطوق هو ما يستفاد من اللفظ بالمطابقة بمعنى انّه لا يحتاج في تحصيله وانفهامه لأكثر من الوضع أو هو بالإضافة الى القرينة العامّة أو الخاصّة ، فحينما يقال « أكرم العالم » فإنّ استفادة لزوم الإكرام للعالم تمت بواسطة الاوضاع اللغويّة بناء على انّ صيغة الأمر موضوعة للوجوب ، وأمّا استفادة الإطلاق وانّ الوجوب ينحلّ الى وجوبات بعدد أفراد العالم فإنّه تمّ بواسطة قرينة الحكمة ، وهكذا حينما يقال : « رأيت حاتما » ، فإنّ العلم بموت حاتم قرينة على انّ المرئي انّما هو رجل كريم ، فهذا المدلول المستفاد بواسطة اللفظ بالإضافة الى القرينة الخاصّة يكون منطوقا ، هذا حاصل ما أفاده السيّد الخوئي رحمه‌الله.

الأمر الرابع : انّ المنطوق هل يشمل المدلول التضمني أو الدلالة التضمنيّة أو هو مختصّ بالمدلول أو الدلالة المطابقيّة؟

المنسوب للسيّد الخوئي رحمه‌الله في كتاب الدراسات انّ الدلالة التضمنيّة من قسم الدلالات الالتزاميّة ، وذلك لأنّ دلالة اللفظ على جزء معناه لا تكون مستفادة من حاق اللفظ وانّما هي لازم للدلالة المطابقيّة على تمام

٥٣٤

المعنى ، إذ انّه حينما تكون للفظ دلالة على تمام المعنى فإنّ لازم دلالته على تمام المعنى ، هو الدلالة على جزء المعنى فتكون الدلالة التضمنيّة مستفادة عن الدلالة المطابقيّة لا أنّها مستفادة من حاق اللفظ ، وبهذا لا تكون الدلالة التضمنيّة منطوقا ، وذلك لما ذكرناه من انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله يبني على انّ المتّصف بالمنطوق انّما هو الدلالة المطابقيّة ، وبناء عليه لا يمكن عدّ الدلالة التضمنيّة منطوقا وذلك لما هو المتسالم من انّ الدلالة الالتزاميّة والتي منها التضمنيّة ليست من المنطوق.

نعم بناء على انّ المتّصف بالمنطوق هو المعنى والمدلول فإنّ بالإمكان عدّ المدلول التضمني من المنطوق ، وذلك لأنّ المدلول التضمني ليس من أقسام المدلول الالتزامي. ومن هنا لم يستبعد بعض الأعلام شمول المنطوق للمدلول التضمني ، وذلك لأنّ المدلول التضمني وان كانت استفادته في طول استفادة المدلول المطابقي من اللفظ إلاّ انّه مع ذلك يكون مستفادا من اللفظ أولا وبالذات ، بمعنى انّ تحصيله وانفهامه لا يحتاج لأكثر من وضع اللفظ للدلالة على تمام المعنى.

* * *

٥٧٥ ـ الموافقة الاحتماليّة

المراد من الموافقة الاحتماليّة هو الامتثال الاحتمالي ، وهو تعبير آخر عن التبعيض في الاحتياط.

ومثاله أن يأتي المكلّف ببعض أطراف العلم الإجمالي دون البعض الآخر ، وحيث أنّ من المحتمل كون المأتي به هو منطبق الجامع المعلوم بالإجمال فحينئذ يكون المكلّف محتملا لموافقة ما أتى به للمأمور به.

راجع عنوان التبعيض في الاحتياط وعنوان الامتثال الاحتمالي.

* * *

٥٧٦ ـ الموافقة الالتزاميّة

إذا قطع المكلّف بتوجّه تكليف مولوي أو أحرز ذلك بواسطة الإحراز التعبّدي فإنّه لا إشكال في لزوم امتثال

٥٣٥

التكليف ، وذلك بواسطة الإتيان بمتعلّقه ، إنّما الإشكال في وجوب موافقته الالتزاميّة بالإضافة إلى ذلك.

وهنا احتمالات ثبوتيّة ثلاثة لمعنى الموافقة الالتزاميّة :

الاحتمال الأوّل : هو وجوب التصديق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به من أحكام إلزاميّة ، وهذا الاحتمال ليس مرادا من العنوان بلا إشكال ، إذ لا ريب في وجوب تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ ما أخبر به من أحكام وتشريعات أو غيبيّات أو ما يكون متّصلا بالشئون التكوينيّة أو التاريخيّة أو غير ذلك.

فإنّ وجوب تصديقه في كلّ ذلك من الأصول العقائديّة ، لأنّ مآلها إلى التصديق بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي إذن ليست موردا للنزاع فيكون هذا الاحتمال غير مقصود قطعا.

الاحتمال الثاني : هو أنّ المراد من الموافقة الالتزاميّة هو قصد الامتثال لله تعالى فيكون القطع بالتكليف مقتضيا لأمرين ؛ الأوّل هو امتثال التكليف والإتيان بمتعلّقه ، والثاني هو صدور الامتثال مضافا لله عزّ وجلّ ، أي صدوره مع قصد القربة والامتثال للأمر المولوي.

وهذا الاحتمال غير مراد أيضا ، إذ لا ريب عندهم في أنّ اعتبار قصد القربة مختصّ بالتكاليف العباديّة دون التكاليف التوصّليّة والحال أنّ مورد البحث هو الأعمّ من التكاليف العباديّة والتوصّليّة.

الاحتمال الثالث : هو أنّ المراد من الموافقة الالتزاميّة هو الالتزام القلبي بالتكليف. وهذا معناه أنّ المكلّف إذا أحرز التكليف وجب عليه أمران ؛ الأوّل هو امتثال التكليف ، والثاني هو الالتزام القلبي أي البناء على أنّ هذا التكليف من الشارع المقدّس.

وهذا الاحتمال هو المتعيّن من بين هذه الاحتمالات. وقد اختلفوا في اعتباره ولزومه ، فمن قال باعتباره أفاد بأنّ هذا النحو من الالتزام قهري لكلّ من قطع بالتكليف أو أحرزه تعبّدا ، ومن قال بعدم اعتباره أفاد بأنّ من الممكن التفكيك بين القطع بالحكم

٥٣٦

والالتزام به قلبا.

ولأنّ ذلك خارج عن المقصود أعرضنا عن ذكره.

* * *

٥٧٧ ـ الموافقة القطعيّة

المراد من الموافقة القطعيّة هو الامتثال الإجمالي القطعي ، فهو تعبير آخر عن الاحتياط التامّ الموجب للقطع بامتثال التكليف المعلوم بالإجمال.

فحينما يعلم المكلّف إجمالا إمّا بوجوب قضاء صلاة الظهر وإمّا بوجوب قضاء صلاة المغرب فهذا علم إجمالي بوجوب إحدى الصلاتين ، فحينما يأتي بكلا الصلاتين فإنّه يكون قد وافق الواقع جزما ، فإنّ التكليف المعلوم بالإجمال إن كان في طرف صلاة الظهر فقد جاء بها ، وإن كان في طرف صلاة المغرب فإنّه قد جاء بها ، وهذا معناه أنّه قد امتثل التكليف يقينا ، غايته أنّه يجهل الطرف الذي تحقّق به امتثال التكليف ، لذلك كان الامتثال إجماليّا والخروج عن عهدة التكليف قطعيّا.

وقد يطلق عنوان الموافقة القطعيّة على مطلق الاحتياط الموجب للقطع بالخروج عن عهدة التكليف حتّى ولو كانت الشبهة غير مقرونة بالعلم الإجمالي.

كما لو شكّ المكلّف في وجوب شيء أو عدم وجوبه فجاء به رجاء للمطلوبيّة ، أو شكّ في جزئيّة شيء للواجب فجاء به برجاء أن يكون جزءا في الواجب ، فإنّه بذلك يقطع بموافقة الواقع ، لأنّ التكليف المشكوك إن كان ثابتا واقعا فقد امتثله يقينا.

وقد يطلق عنوان الموافقة القطعيّة على الامتثال التفصيلي للتكليف المعلوم تفصيلا ، فحينما يقطع المكلّف بوجوب صلاة الظهر فصلاة الظهر معلومة تفصيلا فإذا جاء بها امتثالا للأمر بها فقد امتثل تفصيلا.

والتعبير عن ذلك بالموافقة القطعيّة ناشئ عن إحراز مطابقة امتثاله للتكليف المعلوم.

* * *

٥٣٧

٥٧٨ ـ موضوع الحكم

هو كلّ شيء أنيطت فعليّة الحكم به ، وهذا يقتضي الفراغ عن وجوده أو افتراضه في مرحلة سابقة عن جعل الحكم.

فوجوب الصلاة مثلا حكم أنيط بوجود مكلّف قد زالت عليه الشمس ، فوجود المكلّف والزوال كلاهما يمثّلان موضوع الوجوب للصلاة ذلك لأنّ فعليّة الوجوب قد أنيطت بهما.

وبذلك يتّضح أنّ كلّ شيء اعتبر سببا في ترتّب الفعليّة للحكم على فرض وجوده فهو موضوع الحكم في المصطلح الأصولي.

وببيان آخر :

إنّ الأحكام غالبا ما تكون مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، بمعنى أنّ الجاعل يفترض موضوعا للحكم ثمّ يجعل الحكم عليه ، ويكون ذلك منتجا لاشتراط الفعليّة والمسئوليّة عن امتثال الحكم بوجود الموضوع المفترض خارجا.

فعند ما يقول المولى « لا تشرب الخمر » فهذا معناه افتراضه لوجود مكلّف وصله هذا الخطاب ووجود خمر بين يديه. فلو اتّفق تحقّق هذين الأمرين فإنّ حرمة الشرب تكون حينئذ فعليّة. أمّا لو اتّفق عدم وجودهما أو عدم وجود أحدهما فإنّ الحرمة حينئذ لا تكون فعليّة.

وهذا يعني أنّ وجودهما شرط أو قل سبب في تحقّق الفعليّة للحكم بالحرمة ومن هنا قالوا أنّ الحكم متأخّر عن موضوعه ومتوقّف عليه فهو في عالم الجعل لا بدّ من تصوّره قبل جعل الحكم ، وفي عالم المجعول والفعليّة لا بدّ من وجوده أوّلا لكي يكون الحكم عندئذ فعليّا.

وبذلك يتّضح أنّ قيود الوجوب وقيود الحرمة تعدّ موضوعا للحكم سواء سيقت بصيغة الموضوع أو الشرط أو الغاية أو الوصف أو غير ذلك ، والضابطة في كلّ ذلك هو كلّ شيء تتوقّف فعليّة الحكم على وجوده

٥٣٨

فهو موضوع ، ولذلك لا يكون المكلّف مسئولا عن تحصيله ، نعم لو اتّفق حصوله يكون المكلّف مسئولا عن امتثال الحكم.

* * *

٥٧٩ ـ الموضوعات المركّبة

قد أوضحنا المراد منها مفصّلا تحت عنوان الاستصحاب في الموضوعات المركّبة.

* * *

٥٨٠ ـ الموضوعات المستنبطة

المراد من الموضوعات المستنبطة هي موضوعات الأحكام التي يكون تشخيص مفهومها عرفا أو شرعا والتعرّف على حدودها سعة وضيقا بحاجة الى نظر وبرهنة بحيث لا يتيسّر لكل أحد التعرّف على مفاهيم هذه الموضوعات من تمام الحيثيّات المقتضية لتشخيصها تشخيصا تاما ، وذلك في مقابل الموضوعات الصرفة والتي لا يحتاج تشخيصها الى برهنة بل هي من الوضوح بحيث يفهمها كلّ أحد ، وهي عادة ما تطلق على الموضوعات المنقّحة في مرتبة سابقة والتي يكون تشخيصها معتمدا على المدارك الحسيّة ليس أكثر.

مثل تشخيص انّ هذا خمر وانّ ذاك دم حيض أو استحاضة وانّ هذا من موارد الحرج ، وكلّ ذلك انّما يكون بعد الفراغ عن تنقيح مفهوم الحيض والخمر والحرج وما هي حدودها سعة وضيقا.

ثمّ انّ الموضوعات المستنبطة على قسمين :

القسم الأوّل : الموضوعات الشرعيّة المستنبطة ، وهي أيضا على قسمين :

الأوّل : المخترعات الشرعيّة مثل الصلاة والصوم والوضوء والغسل والتيمّم ، وكلّ موضوع كان تأسيسه من الشارع.

الثاني : الموضوعات العرفيّة التي تصدّى الشارع لتهذيبها أو اضافة قيود وشروط أو أجزاء لها ، مثل السفر والإقامة والوطن الشرعي بناء

٥٣٩

على ثبوته والحيض والبلوغ والاستطاعة بناء على ما هو معروف وغيرها من الموضوعات التي لها مفهوم عرفي أو لغوي فجاء الشارع فأضاف عليها قيود وأجزاء أو الغى عنها قيود أو أجزاء.

وقد ذكرنا في بحث « العرف » انّه ليس للفقيه الاستقلال في تشخيص هذين القسمين من الموضوعات دون مراجعة الشارع. وهنا نشير الى جهة اخرى وهي انّ هذين القسمين من الموضوعات هل للمكلّف الاستقلال في تشخيصهما دون مراجعة المجتهد الجامع للشرائط؟

الظاهر انّه لم يختلف أحد من الفقهاء في عدم جواز استقلال المكلّف العامي في تشخيصهما وانّ هذين القسمين كالأحكام الشرعيّة من جهة لزوم مراجعة الفقيه لغرض التعرّف عليها وانّ ذلك من شئون ومناصب الفقيه ، وذلك لأنّ الشك فيهما شك في الحكم الشرعي ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ فحينما يشك المكلّف انّ الصلاة والتي هي متعلّق الوجوب هل هي المشتملة على جلسة الاستراحة أو لا فهذا معناه الشك في وجوب جلسة الاستراحة والذي يكون تحديد الوظيفة الشرعيّة تجاهه من شئون الفقيه ومناصبه ، وهكذا الكلام في سائر الأمثلة المذكورة.

القسم الثاني : الموضوعات العرفيّة أو اللغويّة المستنبطة ، وهي موضوعات الأحكام الشرعيّة التي لم يتصد الشارع لأكثر من بيان حكمها ، ومن هنا تكون للعرف المرجعيّة في تشخيص مفهومها ومعرفة حدودها سعة وضيقا ، على أن يكون ذلك محتاجا الى نظر ومتابعة.

فهي إذن الموضوعات التي لها مفهوم محدّد عند العرف أو في اللغة إلاّ انّه لا يتيسر لكلّ أحد تشخيصها والتعرّف على حدودها ، وذلك لافتقار الإحاطة بها الى مجموعة من المقدّمات كالقواعد اللغويّة والضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة والتي يتوسّلون بها لغرض التعرّف على مرادات المتكلّمين

٥٤٠