المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

ظهورها في المفهوم ، وعند ما يتمّ استظهار المفهوم من بعض الجمل يتنقح عندنا صغرى لكبرى حجيّة الظهور.

وبذلك يتّضح انّ البحث ليس عن حجيّة المفهوم في هذه الجمل كما ربما توهمه بعض العبائر وانّما هو بحث عن ظهورها في المفهوم ، وبعد أن يثبت لها ظهور في المفهوم تصبح من صغريات حجيّة الظهور.

* * *

٥٥٤ ـ مفهوم الموافقة

المراد من مفهوم الموافقة هو المدلول الالتزامي المقتضي لثبوت نفس الحكم في المدلول المطابقي لموضوع آخر غير مذكور في الدليل.

وبتعبير آخر : هو دلالة مدلول الدليل التزاما على ثبوت حكم الموضوع المذكور في الدليل لموضوع آخر غير مذكور أو قل هو تعدية الحكم من موضوعه المذكور في الدليل لموضوع آخر على أن تكون تلك التعدية خاضعة لمبرّرات يقتضيها الفهم العرفي للدليل.

والتعبير عن هذا المفهوم بالموافقة ناشئ عن انّ الحكم المستفاد ثبوته لموضوعه في المفهوم مسانخ للحكم الثابت لموضوعه في المنطوق. وسيتّضح فيما بعد انّ مفهوم الموافقة ليس مدلولا التزاميا للدليل المطابقي وانّما هو مدلول التزامي لمدلول الدليل المطابقي.

وقد ذكر لمفهوم الموافقة قسمين :

القسم الأوّل : هو المفهوم المستفاد بواسطة الأولويّة ، بمعنى انّ ثبوت الحكم لموضوعه في الدليل المطابقي يكشف بالأولويّة القطعيّة عن ثبوت نفس ذلك الحكم لموضوع آخر ، وهذا القسم له صورتان :

الصورة الاولى : ان لا تكون الأولويّة محتاجة لأكثر من ثبوت الدليل المطابقي بمعنى انّه بمجرّد إلقاء الدليل المطابقي يفهم العرف وبنحو القطع ودون الحاجة الى التوسّل بمقدّمة خارجيّة يفهم انّ نفس الحكم

٥٠١

ثابت لموضوع آخر بالأولويّة.

ومثاله قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (٢) فإنّه مع استظهار حرمة التأفّف والتضجر من الوالدين يفهم العرف ثبوت الحرمة لموضوع آخر ـ أو قل لمتعلّق آخر ـ وهو الشتم والضرب ، وذلك بالأولويّة القطعيّة ، وواضح انّه لا نحتاج لإثبات ذلك الى مقدّمة خارجيّة بل انّه بمجرّد استظهار الحكم من الآية الشريفة يفهم العرف انّ هذا الحكم ثابت لموضوع آخر هو شتم وضرب الأبوين.

وبالتأمل في ذلك يتّضح انّ هذه الملازمة ليست بين دلالة الآية الشريفة وبين ثبوت الحكم للموضوع الآخر وانّما هي ملازمة بين مدلول الآية وبين ثبوت الحكم للموضوع الآخر.

وبتعبير آخر : انّ الملازمة انّما هي بين ثبوت الحكم للموضوع الأوّل وثبوته للموضوع الثاني ، ولا علاقة لثبوت الحكم للموضوع الثاني بدلالة الدليل ، ومن هنا لو جيء بصياغات اخرى للدليل لما كان ذلك مؤثرا في انتفاء الملازمة بل لو ثبت الحكم بواسطة دليل غير لفظي لكانت الملازمة أيضا ثابتة ممّا يعبّر عن انّ الملازمة انّما هي مستفادة من المدلول ، أي من نفس ثبوت الحرمة للتأفف من الوالدين ، وهذا بخلاف مفهوم المخالفة فإنّه انّما يستفاد من دلالة الدليل ، ومن هنا يكون تبديل صياغة الدليل مؤثرا في انتفاء المفهوم.

الصورة الثانية : أن يكون ثبوت الأولويّة القطعيّة مفتقرا لمقدّمة خارجة عن اطار مدلول الدليل ، فمع تقرّر هذه المقدمة تثبت الملازمة المنتجة لتعدية الحكم من موضوعه المذكور الى موضوع آخر.

ومثاله : ما لو سأل رجل الإمام عليه‌السلام عن جواز احراق كتاب زيد المشتمل على اسماء المعصومين عليهم‌السلام فأجابه الإمام عليه‌السلام بالحرمة ، فهنا يحتمل أن يكون منشأ الجواب بالحرمة هو انّه اتلاف لمال الغير كما يحتمل انّ المنشأ لذلك هو حرمة اهانة المعصومين عليهم‌السلام ،

٥٠٢

فلو احرزنا من خارج الدليل انّ منشأ ذلك هو حرمة اهانة المعصومين عليهم‌السلام فإنّه يمكن التعدّي من ذلك ـ بالأولويّة القطعيّة ـ الى مورد آخر وهو احراق القرآن الكريم.

فثبوت الملازمة بين الحكم الثابت لموضوعه المذكور في الدليل وبين ثبوت الحكم لموضوع آخر بنحو الأولويّة القطعيّة منوط بمقدّمة يتمّ تنقيحها من خارج الدليل ، ولا بدّ بنظر الإماميّة من أن تكون هذه المقدّمة قطعيّة وإلاّ لم تثبت الملازمة ولم يصحّ التعدّي ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « قياس مستنبط العلّة » و « قياس منصوص العلّة ».

القسم الثاني : المفهوم المستفاد بواسطة القطع باتّحاد الموضوعين في علّة الحكم ، أي اتّحاد الموضوع الثابت له الحكم بالدليل مع الموضوع الذي يراد تعدية الحكم له ، فمع القطع باتّحادهما في علّة الحكم أو مناطه يكون ثبوت الحكم للموضوع المذكور ملازما لثبوته للموضوع الثاني ، وهذا هو المعبّر عنه بمفهوم الموافقة بملاك المساواة ، وهو أيضا ينقسم إلى قسمين ،

فتارة تكون العلّة المعبّرة عن المساواة منصوصة واخرى تكون مستنبطة ، والقطع في الحالة الثانية بالعلّة نادر إن لم يكن منعدما ، وقد أوضحنا كلّ ذلك تحت عنوان « القياس » و « قياس منصوص العلّة » و « قياس مستنبط العلّة » و « العلّة والحكمة ».

* * *

٥٥٥ ـ مفهوم الوصف

والبحث هنا أيضا عن انّ انتفاء الوصف عن الموضوع المجعول له الحكم في المنطوق هل يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المنتفي عنه الوصف أو لا؟ فإن كان يقتضي ذلك كان للجملة الوصفيّة مفهوم وإلاّ لم يكن لها مفهوم.

ثمّ انّ الجملة الوصفيّة المبحوث عن ظهورها في المفهوم هي الجملة التي يكون الوصف فيها معتمدا على

٥٠٣

موصوف مذكور في الخطاب وإلاّ كانت جملة لقبيّة ، كما أوضحنا ذلك في مفهوم اللقب.

فالجملة الوصفيّة بحسب اصطلاحهم هي الجملة التي جعل فيها الحكم على موضوع ذي وصف ، كما لو قيل : « أكرم رجلا عالما » ، أما لو قيل : « أكرم عالما » فإنّ هذه الجملة لا تكون وصفيّة بل هي لقبيّة.

ثمّ انّ الجملة الوصفيّة تنقسم إلى أقسام أربعة ، اثنان منها خارج عن محلّ البحث :

القسم الأوّل : أن يكون الوصف مساويا للموصوف ، كما لو قيل : « أكرم إنسانا ضاحكا » ، فإنّ الإنسان والضاحك متساويان في الوجود ، ومن هنا لا يكون لهذه الجملة الوصفيّة مفهوم ، وذلك لأنّ المفهوم ـ كما قلنا ـ معناه انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع عند انتفاء قيده ، وهنا يكون القيد مساوقا لانتفاء الموضوع ، فمع عدم القيد لا موضوع حتى نبحث عن انّ الحكم هل ينتفي عن الموضوع عند انتفاء قيده أو لا.

القسم الثاني : أن يكون الوصف أعمّ مطلقا من الموصوف كما لو قيل : « أكرم إنسانا متحركا بالإرادة » فإنّ وصف التحرك بالإرادة لا يختصّ بالإنسان بل يشمله ويشمل مطلق الحيوان ، ومن هنا كان الوصف أعمّ مطلقا من الموصوف.

وهذا القسم خارج أيضا عن محلّ النزاع ، وذلك لأنّ انتفاء الوصف يساوق دائما انتفاء الموضوع « الموصوف » ، ومعه لا معنى للبحث عن انّ انتفاء الوصف هل يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع ، إذ لا موضوع مع افتراض انتفاء الوصف الأعمّ.

القسم الثالث : أن يكون الوصف أخصّ مطلقا من الموصوف ، كما لو قيل : « أكرم الإنسان الفقير » فإنّ وصف الفقير أخصّ مطلقا من الإنسان.

ولا ريب في دخول هذا القسم في محلّ النزاع ، وذلك لأنّ انتفاء القيد لا يساوق انتفاء الموضوع ، وهنا يكون للبحث ـ عن انّ انتفاء القيد عن

٥٠٤

الموصوف هل يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عنه ـ مجال.

القسم الرابع : أن يكون بين الوصف والموصوف عموم من وجه كما لو قيل : « في الغنم السائمة زكاة » ، فإنّ النسبة بين السائمة وبين الغنم عموم من وجه ، ومورد افتراق الوصف عن الموصوف في السائمة من غير الغنم ، كما انّ مورد افتراق الموصوف عن الوصف هو الغنم المعلوفة.

وهذا القسم داخل أيضا في محلّ النزاع ولكن من جهة العموم في الموصوف ، فإنّ الغنم سائمة ومعلوفة والحكم انّما هو مجعول على خصوص الغنم السائمة ، وعليه لو انتفى السوم عن الغنم بأن كانت معلوفة فإنّه يأتي البحث عن انّ انتفاء السوم عن الغنم هل يقتضي انتفاء وجوب الزكاة عنها أو لا ، فلو كان للجملة الوصفيّة مفهوم لكان انتفاء السوم عن الغنم مقتضيا لانتفاء طبيعي وجوب الزكاة عنها.

نعم انتفاء السوم عن غير الغنم كالإبل والبقر لا يكون مقتضيا لانتفاء وجوب الزكاة عنها ، وذلك لأنّ ثبوت المفهوم للجملة الوصفيّة انّما يعني انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المذكور في الجملة عند انتفاء الوصف عنه لا انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المذكور في الجملة عند انتفاء الوصف عنه لا انتفاء طبيعى الحكم عن موضوع آخر غير مذكور فى الجملة.

ثمّ انّ الجمل الوصفيّة المبحوث عن ظهورها في المفهوم هي مطلق الجمل التي قيد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود بحيث يكون ذلك القيد موجبا لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم ، ولهذا لا يختصّ القيد المصحّح لاعتبار الجملة وصفيّة بالنعت في مصطلح النحاة بل يشمل الحال والتمييز والإضافة وكلّ ما يوجب التضييق من دائرة موضوع الحكم أو متعلّقه.

وبتحرُّر محلّ النزاع نقول : انّ المشهور ذهبوا الى انّ الجملة غير ظاهرة في المفهوم ، وقد قرّب ذلك بتقريبات ، منها ما ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله وحاصله :

٥٠٥

انّ القيد في الجمل الوصفيّة راجع لموضوع الحكم أو لمتعلّقه وليس راجعا للحكم ، وهذا هو مبرّر عدم ظهوره في المفهوم ، إذ انّ ثبوت الحكم لموضوع لا يعني انتفاء مثل الحكم عن موضوع آخر ، إذ ما المانع من أن يثبت حكمان متسانخان لموضوعين مختلفين بعد أن كان ثبوت الحكم لموضوع مقيّد معناه ثبوت الحكم لموضوع خاصّ ، وهذا لا يمنع عن ثبوت الحكم لنفس الموضوع بقيد آخر أو ثبوته له مجردا عن كلّ قيد ، وذلك لما ذكرناه من انّ مرجع ذلك الى ثبوت حكمين متسانخين لموضوعين مختلفين ، نعم لو كان القيد راجعا للحكم كما هو الحال في الجملة الشرطيّة لكان ذلك مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم بانتفاء قيده ، لأنّ تقييد الحكم بقيد معناه انّ هذا الحكم لا يثبت إلاّ مع هذا القيد فثبوت الحكم مع عدم القيد مناف لإطلاق تقييده بذلك القيد ، ومن هنا يكون المنتفي بانتفاء القيد هو طبيعي الحكم.

* * *

٥٥٦ ـ قاعدة المقتضي والمانع

والمراد منها هو ترتيب آثار وجود المعلول عند اليقين بوجود المقتضي مع عدم احراز انتفاء المانع والذي هو الجزء الآخر لعلّيّة العلّة.

وبيان ذلك : انّه تارة نحرز تحقّق المقتضي للمعلول ونحرز عدم وجود ما يمنع عن تأثير المقتضي أثره ، فهنا لا ريب في تحقق المعلول ، وذلك لتماميّة علته. وتارة نحرز وجود المقتضي إلاّ اننا نشك في انتفاء المانع ، فلعلّه منتف ولعله موجود ، وهنا يكون مجرى القاعدة والمقتضية للبناء على عدم المانع ، وهذا يعني انّ المقتضي قد أثّر أثره وأوجد معلوله المعبّر عنه بالمقتضى بصيغة المفعول.

ومثاله أن نحرز وجود النار في الخشب إلاّ اننا لا نعلم بما اذا كان هناك مانع عن تأثير النار أثرها وهو احراق الخشب ، فهنا يكون مقتضى القاعدة هو البناء على عدم وجود المانع وانّ المقتضي وهي النار قد أحرقت الخشب.

٥٠٦

وهذه القاعدة رغم اشتراكها مع قاعدة الاستصحاب من جهة تقومها باليقين والشك إلاّ انّها تختلف عن الاستصحاب من جهة انّ مورد الشك فيها مباين لمورد اليقين ، إذ انّ مورد اليقين في هذه القاعدة هو وجود المقتضي وأما مورد الشك فهو وجود المانع ، ولهذا تكون أدلة الاستصحاب قاصرة عن الشمول لمورد القاعدة.

وقد استدلّ على حجيّة هذه القاعدة بالسيرة العقلائيّة القاضية بالبناء على وجود المعلول بمجرّد احراز وجود المقتضي ، إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله لم يقبل بهذه الدعوى وأفاد بأنّ السيرة جارية على خلاف ما تقتضيه القاعدة.

فلو صوّب شخص سهما نحو رجل بحيث لو أصابه لقتله إلاّ انّه وقع الشك في وجود المانع عن الوصول اليه ، فإنّ العقلاء حينئذ لا يبنون على موت من صوّب السهم نحوه ، ولا يرتّبون على ذلك إدانة المصوب للسهم بالقتل ، وهذا ما يعبّر عن انّ احراز المقتضي وحده لا يبرّر البناء عقلائيا على تحقّق المعلول.

* * *

٥٥٧ ـ مقدمات الحكمة

وقد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « قرينة الحكمة ».

* * *

٥٥٨ ـ المقدّمة التوليديّة

وهي المقدّمة التي لا يتوسط بينها وبين ذي المقدّمة اختيار للمكلّف بل انّه متى ما تحقّقت هذه المقدّمة يكون وجود ذي المقدّمة حتميا.

ومثالها : العلل التكوينيّة الاختياريّة لو كانت تامّة أو الجزء الأخير للعلّة التامّة فإنّها مقدّمات توليديّة لمعلولاتها ويستحيل معها تخلّف المعلول. كما في اسقاط شخص من شاهق فإنّه مقدّمة توليدية لسقوطه ، إذ لا يتوسّط بين الإسقاط والسقوط اختيار للفاعل.

والتعبير عنها بالتوليديّة منشؤه انّ

٥٠٧

ذا المقدّمة يتولّد عنها بمجرّد ايجادها. ثمّ انّ افتراض حتميّة ذي المقدّمة بعد ايجاد مقدّمته التوليديّة لا ينفي صحّة التكليف بذي المقدّمة باعتبارها قهريّة وباعتبار عجز المكلّف عن التخلّف عنها ، وذلك لأنّ القدرة المصحّحة للتكليف هي القدرة على الفعل أو الترك ولو بواسطة القدرة على المقدّمة ايجادا وتركا.

* * *

٥٥٩ ـ مقدّمة الحرام

المراد من مقدّمة الحرام لا يختلف عن المراد من مقدّمة الواجب من حيث انّ المراد منها هو ما يتمكّن المكلّف بواسطتها من ارتكاب الحرام بحيث لو لم يوسط تلك المقدّمة لما كان من الممكن ارتكاب الحرام.

ومثاله : ما لو كان ارتكاب الحرام متوقفا على السفر بحيث لو لم يسافر لما أمكنه ارتكاب الحرمة المعيّنة ، فحينئذ يكون السفر من مقدّمات الحرام.

وقد قسم المحقّق النائيني رحمه‌الله مقدّمة الحرام الى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل ، أن تكون مقدّمة الحرام من المقدّمات التوليديّة والتي لا يتوسّط بينها وبين ذي المقدّمة اختيار للمكلّف ، بمعنى انّه متى ما جاء بالمقدّمة ترتب على ذلك فعل الحرام حتما ، وهذا الفرض يتّفق فيما لو كانت المقدّمة علّة تامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة لفعل الحرام.

وقد بنى المحقّق النائيني رحمه‌الله على انّ حرمة هذه المقدّمة حرمة نفسيّة وليست حرمة غيريّة ، إذ انّ الحرمة المجعولة على ذي المقدّمة مجعولة واقعا على المقدّمة ، وذلك لأنّ المقدور منهما انّما هو المقدّمة دون ذيها ، فيكون مصبّ الحرمة واقعا انّما هو المقدّمة.

وقد أورد عليه السيّد الخوئي رحمه‌الله بأنّ ذلك خلاف ما يبني عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله نفسه من كفاية القدرة على المقدّمة في تصحيح التكليف بذي المقدّمة ، فذو المقدّمة وان لم يكن مقدورا ابتداء إلاّ انّ القدرة على مقدّمته معناه القدرة عليه ، وهذا هو

٥٠٨

المصحّح لجعل الحرمة على ذي المقدّمة ابتداء.

ثمّ أفاد رحمه‌الله انّ الصحيح هو انّ حرمة مقدّمة الحرام التوليديّة منوط بما هو المبنى في مقدّمة الواجب ، فإن كان البناء هناك هو وجوب المقدّمة شرعا فالبناء هنا هو حرمة المقدّمة شرعا وإلاّ فلا. والنتيجة انّ الحرمة لو كانت ثابتة فهي حرمة غيريّة لا نفسيّة كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله.

القسم الثاني : أن تكون مقدّمة الحرام موجبة للقدرة على ارتكاب الحرام إلاّ انّه يتوسّط بين فعلها وبين ارتكاب الحرام اختيار المكلّف ، فلو قصد المكلّف من فعل المقدّمة التوصل بها لارتكاب الحرام فهذا هو القسم الثاني لمقدّمة الحرام.

وفي هذا القسم لو بنينا على حرمة التجرّي فالمقدّمة حرام بالحرمة النفسيّة وإلاّ فبناء على ثبوت الملازمة فالمقدّمة حرام بالحرمة الغيريّة.

وأجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن ذلك بأنّ الحرمة الغيريّة لا تثبت لمقدّمة الحرام من هذا القسم وان كنّا نبني على ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، وذلك لأنّ الواجب لا يمكن أداءه إلاّ عند وجود مقدّماته ، وأمّا مقدّمة الحرام فالإتيان بمقدّماته غير التوليديّة لا ينتج فعل الحرام بل يكون ذلك منوطا باختيار المكلّف ، فحتى لو جاء المكلّف بمقدّمة الحرام فإنّه يتوسّط بينها وبين فعل الحرام اختيار المكلّف وإرادته ، وهذا ما ينفي نكتة الملازمة الثابتة في مقدّمة الواجب.

القسم الثالث : هو نفس القسم الثاني إلاّ انّ المكلّف لا يقصد من الإتيان بالمقدّمة التوصل بها الى ارتكاب الحرام ، وهنا بنى المحقّق النائيني رحمه‌الله على عدم الحرمة بعد أن كان المكلّف قادرا على ترك الحرام حتى بعد فعل المقدّمة وبعد ان لم يكن قاصدا بها التوصّل الى فعل الحرام وأحدهما هو المناط لثبوت الحرمة لمقدّمة الحرام.

وقد وافقه السيّد الخوئي رحمه‌الله في

٥٠٩

النتيجة ، وعلّق على ذلك بأنّ ملاك الحرمة للمقدّمة انّما هو توقف امتثال الحرمة على تركها والمفروض انّ امتثال الحرمة لا يتوقّف على ترك المقدّمة.

* * *

٥٦٠ ـ المقدّمة الخارجيّة

وهي المقدّمة الخارجة عن ماهيّة المأمور به ذاتا وتقيّدا إلاّ انّها دخيلة في تحصيل المأمور به ، بمعنى انّ ايجاد المأمور به منوطا بتحقّقها مثل السفر للحج.

والمراد من خروجها عن ذات المأمور به هو انّها ليست جزء من أجزاء المأمور به كما هو الحال في المقدّمات الداخليّة ، وأمّا المراد من خروجها عن المأمور به تقيّدا فهو انّه لا يكون المأمور به متحصّصا بها كما هو الحال في الشرائط والموانع ، فإنّ اشتراط المأمور به بشرط معناه انّ المأمور به هو الحصّة الخاصّة المتحصّصة بالشرط ، فالشرط وان كان خارجا عن المأمور به إلاّ انّ المطلوب معه هو حصّة خاصّة من طبيعة المأمور به ، وهي الحصّة المتقيّدة بذلك الشرط ، فالشرط ـ وهو القيد ـ خارج والتقيّد داخل ، ومن هنا لا يكون هذا الشرط مقدّمة خارجيّة.

ومثاله : اشتراط الصلاة بالطهارة ، فإنّ الطهارة وان لم تكن من أجزاء الصلاة إلاّ انّه باشتراطها في الصلاة يكون التقيّد بها مطلوبا ، بمعنى انّ المطلوب هو الحصّة الخاصّة من طبيعة الصلاة ، وهي الحصّة المتقيّدة بالطهارة ، وهذا ما برّر عدم اعتبار الطهارة من المقدّمات الخارجيّة.

وهكذا الكلام في المانعيّة ، فعند ما تكون أجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعا فهذا معناه تحصّص المطلوب بالحصّة الفاقدة للتلبس بأجزاء ما لا يؤكل لحمه.

ثمّ انّه قد تطلق المقدّمة الخارجيّة على كلّ مقدّمة خارجة عن ذات المأمور به مع كون المأمور به متقيّدا بها ، وهذا معناه انّ الشروط والموانع

٥١٠

من المقدّمات الخارجيّة ، إذ انّها وان كانت داخلة تقيّدا إلاّ انّها لمّا لم تكن من أجزاء المأمور به فهي مقدّمة خارجيّة إلاّ انّه يعبّر عنها بالمقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعم. فالمقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعمّ هي ما تكون خارجة عن المأمور به ذاتا لا تقيّدا.

* * *

٥٦١ ـ المقدّمة الداخليّة

المراد من المقدّمة الداخليّة هي أجزاء المأمور به الدخيلة في ماهيّته ذاتا وتقيّدا ، أمّا دخولها في ماهيّته ذاتا فلأنّ افتراضها من أجزاء المأمور به يساوق افتراضها مقوما لحقيقته ، إذ انّ المركّب انّما يقوم بأجزائه.

وأمّا تقيّده بها فلأنّ اعتباره في المأمور به ليس بأيّ نحو اتّفق بل المطلوب والمعتبر هو تقيّد المأمور به بحصّة يكون معها الجزء على نحو خاص ، فالقراءة والتي هي أحد أجزاء الصلاة اعتبرت بنحو تكون مسبوقة مثلا بتكبيرة الإحرام وملحوقة بالركوع ، وهذا معناه انّ المطلوب ليس هو مطلق طبيعة الصلاة المشتملة على القراءة بل المطلوب هو الحصّة الخاصّة التي تكون معها القراءة واقعة بين تكبيرة الإحرام والركوع.

ثمّ انّ المقدّمة الداخليّة قد تطلق على القيود التي لا تكون دخيلة في المأمور به ذاتا إلاّ انّها دخيلة تقيّدا ، وعلى هذا تكون الطهارة مثلا والتي هي خارجة عن المأمور به ذاتا إلاّ انّها داخلة تقيّدا من المقدّمات الداخليّة ، فالقيود والموانع يعبّر عنها بالمقدّمات الخارجيّة بالمعنى الأعم ، كما يعبّر عنها بالمقدّمات الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، وقد أوضحنا المراد من التقيّد بها في المقدّمة الخارجيّة.

ثمّ انّه وقع البحث عن المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأوّل من جهة صحّة اطلاق عنوان المقدّمة عليها بعد إن لم تكن أجزاء المأمور به مغايرة للمأمور به خارجا فهي عين المأمور به ، ولو صحّ اطلاق عنوان المقدّمة عليها فهل هي داخلة في محلّ النزاع؟ بمعنى انّ

٥١١

البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته هل يشمل المقدّمة الداخليّة بالمعنى الاول أو لا؟

أمّا الجهة الاولى : فيقال انّ عنوان المقدميّة يحتمل أحد معنيين :

المعنى الأول : انّ المقدّمة هي ما يكون وجودها مغايرا خارجا لوجود ذي المقدّمة ، غايته انّ وجود ذي المقدّمة منوط بوجودها.

المعنى الثاني : انّ المراد من المقدّمة هو ما يكون وجود ذي المقدّمة منوطا بوجودها بقطع النظر عن تغاير وجود المقدّمة عن وجود ذيها أو انّه ليس مغايرا ، فالمغايرة وعدمها ليس دخيلا في صدق المقدّميّة.

وبناء على انّ المراد من المقدّمة هو المعنى الاوّل لا تكون أجزاء المأمور به من المقدّمات أصلا ، فلا تصل النوبة للبحث عن مشموليتها لمحلّ النزاع في مقدّمة الواجب وعدم مشموليتها ، وأمّا بناء على المعنى الثاني فلا مانع من اطلاق عنوان المقدّمة على أجزاء المأمور به لتوقف وجود المركّب المأمور به على وجود أجزائه ، وباعتبار انّ التوقّف هو مناط صدق المقدميّة فالأجزاء تكون من مقدّمات الواجب ، ومن هنا يكون للبحث عن الجهة الثانية موقع.

وأمّا الجهة الثانية : وهي البحث عن شمول محلّ النزاع في مقدّمة الواجب للمقدّمات الداخليّة ، فقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله وكذلك الأعلام بأنّه لا معنى لشمول البحث للمقدّمات الداخليّة ، وذلك لأنّ البحث في مقدّمات الواجب انّما هو بحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، والبحث عن الملازمة انّما هو بعد افتراض انّ الملزوم غير لازمه ، وعندئذ نبحث عن انّ العقل هل يدرك الملازمة بينهما أو لا ، وهذا الفرض ليس واردا في المقدّمات الداخليّة والتي هي أجزاء المأمور به ، وذلك لأنّ أجزاء المأمور به هي عينها المأمور به ، فالوجوب المجعول على المركّب المأمور به مجعول عليها ، وحينئذ لا معنى للبحث عن

٥١٢

اشتمالها على ملاك الوجوب الغيري الثابت للمقدّمات لو تمّت الملازمة ، إذ انّه لا ريب في توفرها على ملاك الوجوب النفسي الثابت للمركّب.

* * *

٥٦٢ ـ مقدّمة الصحّة

وهي ما يتوقّف صحّة المأمور به عليها ، فكلّ شيء يفضي عدم الالتزام به الى عدم صحّة الواجب المأتي به فهو من مقدّمات الصحّة ، وهذه هي المعبّر عنها بالمقدّمات الخارجيّة بالمعنى الأعم أو المقدّمات الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، وهي عبارة عن الشرائط والموانع الموجبة لتحصّص المأمور به بالحصّة الواجدة لهذه الشرائط والفاقدة لهذه الموانع ، فالمطلوب معها ليس هو طبيعي المأمور به بل المطلوب معها هو الحصّة الخاصّة وهي المتقيّدة بهذه الشروط والمنتفي عنها هذه الموانع.

وعليه تكون مثل الطهارة من شرائط الصحّة وكذلك يكون عدم النجاسة الخبثيّة وعدم التلبس بأجزاء ما لا يؤكل لحمه من قيود ومقدمات الصحّة ، وذلك لأنّ صحّة الواجب المأتي به منوط بتوفّره على هذه القيود ، فيكون الواجب متحصّصا بها.

وبتعبير آخر : انّ الصحّة لمّا كانت بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به فذلك يقتضي أن يكون المأتي به هو الحصّة الخاصّة الواجدة للقيود والمنتفي عنها الموانع وإلاّ لم تتحقّق مطابقة المأتي به للمأمور به والتي هي مناط الصحّة ، وهذا ما يعبّر عن انّ هذه القيود والموانع الموجبة لتحصيص المأمور به هي قيود الصحّة ، وهذا هو منشأ التعبير عنها بمقدّمات الصحّة.

* * *

٥٦٣ ـ المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة

وهذا التقسيم تقسيم للمقدّمة الخارجيّة ، وهو تقسيم لها بلحاظ منشأ المقدميّة ، فقد يكون المنشأ

٥١٣

لمقدميّة المقدّمة هو الامور التكوينيّة والمدرك لذلك هو العقل ، ومن هنا عبّر عنها بالمقدّمة العقليّة ، كما قد يكون المنشأ لمقدميّة المقدّمة هو اعتبار الشارع ، فتكون المقدّمة بذلك شرعيّة ، وقد يكون منشأ مقدميّتها هو مقتضيات العادة ، وهذا ما يبرّر التعبير عن المقدّمة المقتضاة عن العادة بالمقدّمة العاديّة.

أمّا المراد من المقدّمة العقليّة : هو ما كان وجود ذي المقدّمة مستحيلا واقعا بدون وجودها ، وبعبارة اخرى انّ المقدّمة العقليّة هي التي يتوقّف واقعا وجود ذي المقدّمة عليها ، ومعه يستحيل عقلا تحصيل ذي المقدّمة دون تحصيلها أو قل دون وجودها.

ويمكن التمثيل لها بالعلل التكوينيّة بالنسبة لمعلولاتها ، فلو كان المعلول واجب التحصيل فهذا يتوقف على ايجاد علّته التكوينيّة التي يستحيل وجود المعلول بدونها ، فلو وجب على المكلّف احراق شيء فإنّ ذلك يستحيل تكوينا إلاّ بايجاد النار ، وذلك لأنّ الإحراق معلول تكوينا للنار.

وأمّا المراد من المقدّمة الشرعيّة : فهي عبارة عن المقدّمات التي علّق الشارع صحّة المأمور به عليها بحيث لا يكون المأمور به واجدا للصحّة ما لم يكن متوفرا على هذه المقدّمات ، وهذه هي المقدّمات المعبّر عنها بمقدّمات الصحّة وبالمقدّمات الخارجيّة أو الداخليّة بالمعنى الأعمّ والتي هي القيود المعتبر وجودها أو عدمها في المأمور به كما اتّضح ممّا تقدّم ، ومنشأ التعبير عنها بالشرعيّة هو انّ الشارع نفسه اعتبر المأمور به متقيّدا بها.

وقد حاول صاحب الكفاية رحمه‌الله إرجاع هذا النحو من المقدّمات الى المقدّمات العقليّة بتقريب هو انّ اعتبارها شرطا في المأمور به معناه استحالة تحقّق المأمور به بدونها ، إذ انّ المشروط مستحيل وجوده عند عدم وجود شرطه ، فاعتبارها من قبل الشارع شرطا في المأمور به يفضي الى

٥١٤

إدراك العقل لاستحالة تحقّق المشروط وهو المأمور به دون تحقّقها ، إذ لا يمكن تحقّق الواجب المتحصّص بها ما لم يكن واجدا لها.

وأمّا المقدّمة العاديّة : فهي المقدّمة التي اقتضت العادة الإتيان بها لغرض تحصيل ذيها دون أن يكون ذو المقدّمة متوقفا عليها ، بمعنى انّه يمكن تحصيل ذي المقدّمة حتى مع عدم وجودها.

والمقدّمة بهذا المعنى خارجة عن محلّ البحث ، إذ لا ريب في عدم ترشّح وجوب من ذي المقدّمة الى المقدّمات التي لا يتوقّف وجود ذي المقدّمة عليها.

إلاّ انّه قد تطلق المقدّمة العاديّة ويراد منها المقدّمات التي يستحيل خارجا وجود ذي المقدّمة عند عدم وجودها باعتبار انّ المقدّمات الاخرى الممكنة ذاتا غير متحقّقة فعلا.

وبتعبير آخر : انّ بعض المقدّمات لا يكون عدم وجودها مفضيا الى عدم وجود ذيها ، وذلك باعتبار امكان تحقّق ذي المقدّمة بواسطة مقدّمات اخرى ممكنة وقوعا إلاّ انّه وباعتبار عدم وجود تلك المقدّمات الممكنة وقوعا ينحصر وجود ذي المقدّمة بها فيستحيل بذلك تحقّق ذي المقدّمة بدونها. والتعبير عنها بالعاديّة بلحاظ امكان تحقّق ذيها بوسائط اخرى ممكنة وقوعا إلاّ انّ المتوفّر عادة هو مقدّمة معيّنة.

ومثال ذلك السفر الى الحجّ ، فإنّ الكون في مكّة المكرّمة للآفاقي دون طي المسافة مستحيل وقوعا ، بمعنى انّه يلزم من فرض وقوعه محال وهو الطفرة إلاّ انّ الكون قد يحصل بوسائط اخرى غير السفر مثل المعجزة والتي هي ممكنة وقوعا إلاّ انّه وباعتبار انّ المعجزة غير متحقّقة ينحصر الكون في مكّة الشريفة بتحصيل السفر ، فيستحيل عقلا تحقّق الكون فيها دون تحصيل السفر ، وبهذا تؤول المقدّمة العاديّة إلى المقدّمة العقليّة ، فتكون داخلة في محلّ النزاع.

* * *

٥١٥

٥٦٤ ـ المقدّمة العلميّة

وهي المقدّمة الموجب تحصيلها لحصول العلم بالامتثال القطعي ، بمعنى انّ تحصيل المكلّف لها يؤدي للقطع بالخروج عن عهدة التكليف.

ويمكن التمثيل لذلك بموارد العلم الإجمالي فإنّه لا يحصل القطع بالامتثال إلاّ بواسطة العمل بتمام أطراف العلم الإجمالي ، ومن الواضح انّه لا يجب من مجموع الأطراف إلاّ طرف واحد وهو منطبق الجامع وعليه تكون بقيّة الأطراف مقدّمة لحصول العلم بامتثال التكليف المعلوم اجمالا.

ومثال ذلك ما لو اشتبهت القبلة على المكلّف ، فإنّ الصلاة الى الجهات الأربع يوجب القطع بوقوع الصلاة المأمور بها الى القبلة ، فتكون الصلاة الى الجهات الثلاث مقدّمة علميّة لتحصيل القطع بالامتثال ، إذ انّ الواجب من الصلوات الأربع ليس إلاّ صلاة واحدة والصلوات الثلاث الاخرى انّما هي مقدّمة لتحصيل العلم بأداء الصلاة الواجبة ، وبدون الصلاة الى الجهات الأربع لا يحصل العلم بالامتثال القطعي ، إذن كلّ فعل يتوقّف عليه حصول العلم بالامتثال فهو مقدّمة علميّة.

وبما ذكرناه يتّضح انّ المقدّمات العلميّة خارجة عن بحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، إذ انّ المفترض انّ الواجب واقعا لا يتوقّف تحصيله عليها فقد تكون الصلاة الاولى هي الصلاة المطلوبة واقعا مما يعبّر عن انّ الواجب لا يتوقّف على المقدّمة العلميّة ، نعم العلم بامتثال الواجب يتوقّف على المقدّمة العلميّة ، والبحث انّما هو عن المقدّمات التي يتوقف وجود الواجب عليها.

فملاك الوجوب للمقدّمة العلميّة لو كانت واجبة ليس هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، إذ المقدّمة العلميّة ليست من مقدّمات وجود الواجب بل الملاك ، هو ما يدركه العقل من لزوم تحصيل الأمن من العقاب ، ولا يحصل الأمن منه مع

٥١٦

الشك في فراغ الذمّة عن التكليف المتعلّق بالعهدة فلا سبيل لتحصيل الأمن إلاّ المقدّمة العلميّة وهذا هو ملاك وجوبها ، لا انّ ملاك وجوبها هو الملازمة.

* * *

٥٦٥ ـ مقدّمة المستحبّ والمكروه

أمّا مقدّمة المستحبّ فتتّضح بملاحظة مقدّمة الواجب ، وأمّا مقدّمة المكروه فتتّضح من ملاحظة مقدّمة الحرام.

* * *

٥٦٦ ـ المقدّمة المفوتة

المراد من المقدّمة المفوّتة هي المقدّمة التي يفضي عدم تحصيلها الى فوات القدرة على تحصيل الواجب في حينه ، فلو اتّفق ان كان المكلّف قادرا على تحصيل الواجب في وقته متى ما التزم بفعل ومتى ما لم يلتزم به أدى ذلك الى العجز عن امتثال التكليف حين مخاطبته به أو قل حين تحقّق فعليّته فهذا الفعل الذي يتحفّظ بواسطته على القدرة من الامتثال حين تحقّق الفعليّة للحكم يعبّر عنه بالمقدّمة المفوتة.

فإذن تعنون الفعل بالمقدّمة المفوّتة منوط بأمرين :

الأمر الأوّل : هو افتراض انّ الفعل مؤد للقدرة على امتثال التكليف وانّ عدمه مؤدٍّ لانسلاب القدرة عن امتثال التكليف.

الأمر الثاني : هو افتراض تأهيل الفعل لجعل المكلّف قادرا على امتثال التكليف قبل الخطاب بالتكليف ، أمّا لو كان الفعل صالحا لتأهيل المكلّف للقدرة على امتثال التكليف بعد الخطاب به وتحقّق فعليّته فإنّه لا يكون مقدّمة مفوتة بل يكون من مقدّمات الواجب.

ومثال ذلك : ما لو كان المكلّف محدثا وكان عنده ماء يكفي لرفع الحدث وكان ذلك قبل دخول الوقت ، فلو لم يتحفّظ على هذا الماء لكان عاجزا عن الصلاة عن طهارة مائيّة حين دخول الوقت ، فالتحفّظ على

٥١٧

الماء الى حين دخول الوقت يعبّر عنه بالمقدّمة المفوّتة ، وذلك لأنّ عدم التحفّظ عليه يؤدي الى عجز المكلّف عن امتثال التكليف في حينه ، أي عجزه عن الصلاة عن طهارة مائيّة حين دخول الوقت.

وباتّضاح ذلك نقول : انّ البحث عن وجوب المقدّمة المفوّتة ليس بحثا عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، وذلك لافتراض عدم وجوب ذي المقدّمة وانّ الوجوب لذي المقدّمة لم تتحقّق فعليته بعد ، وحينئذ لا يتعقّل البحث عن ترشّح وجوب من ذي المقدّمة الى المقدمات المفوتة بعد إن لم يكن ذو المقدّمة واجبا فعلا ، وبعد الخطاب بذي المقدّمة وتحقّق فعليّته لا يكون المكلّف قادرا على الامتثال لو لم يأت بالمقدّمة المفوتة كما هو المفترض.

فحينما يكون المكلّف قادرا على الامتثال لا يكون مخاطبا بالتكليف وحينما يخاطب بالتكليف يصبح عاجزا عن الامتثال لافتراض عدم تحفّظه على المقدّمة المفوّتة ، ولذلك لا بدّ وأن يكون البحث عن وجوب المقدّمة المفوّتة من جهة اخرى.

وقد استدلّ لوجوبها بما حاصله : انّ عدم الالتزام بالمقدّمات المفوّتة يؤدى الى تفويت الملاك اللزومي والذي تصدّى المولى لإبرازه ولو بواسطة جعل التكليف بمتعلّقه في حينه باعتبار استحالة الواجب المعلّق والمشروط ، وواضح انّ هذا التفويت للملاك اختياري للمكلّف بلحاظ قدرته على التحفّظ عليه قبل الخطاب بالتكليف ، والامتناع والعجز بعد الخطاب بالتكليف لا ينافي الاختيار ، وذلك لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا كما أوضحنا ذلك في محلّه.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله الى وجوب المقدّمات المفوّتة عقلا ، وهل هي واجبة شرعا أيضا أو لا؟

ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله الى الوجوب الشرعي الغيري إمّا

٥١٨

للملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإمّا لانّ وجود الملاك المولوي يكشف عن الوجوب الفعلي ، وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله فلم يقبل بالتوجيه الأوّل لو كان هو مراد المحقّق النائيني رحمه‌الله وذلك للغويّة حكم الشرع بعد حكم العقل بالوجوب ، كما هو الحال في كلّ مورد يكون فيها حكم العقل واقعا في طول الحكم الشرعي ، كما في حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية الواقعين في طول الأوامر المولويّة ، وأمّا الاحتمال الثاني فهو الذي وجّه به السيّد الصدر رحمه‌الله كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله.

* * *

٥٦٧ ـ المقدّمة الموصلة

المراد من المقدّمة الموصلة هو المقدّمة التي يترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، وفي مقابلها المقدّمة غير الموصّلة والتي تنتج القدرة على ايجاد ذي المقدّمة إلاّ انّه يتّفق معها عدم إيجاد ذي المقدّمة.

فمثلا : السفر لأداء فريضة الحجّ قد يكون مقدّمة موصلة وقد لا يكون كذلك رغم انّ السفر في الحالتين ينتج القدرة على أداء الحجّ إلاّ انّه قد يترتّب على السفر أداء الحجّ وهنا يكون السفر مقدّمة موصلة ، وقد لا يترتّب على السفر أداء الحجّ ، وذلك لطرو عارض أو إعراض المكلّف عن أداء الحجّ بعد الوصول الى مكّة المكرّمة ، وحينئذ يكون السفر مقدّمة غير موصلة.

هذا وقد ذهب صاحب الفصول رحمه‌الله وتبعه السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ الملازمة لو تمّت بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته فإنّ هذه الملازمة لا تنتج أكثر من وجوب المقدّمة الموصلة ، أي انّ وجوب مطلق المقدّمة ليس لازما لوجوب ذي المقدّمة وانّما اللازم لوجوب ذي المقدّمة هو حصّة خاصّة من المقدّمة وهي المقدّمة التي يترتّب على ايجادها تحقّق ذي المقدّمة وهذه هي المعبّر عنها بالمقدّمة الموصلة ، ولهذا لو جاء المكلّف بالمقدّمة واتّفق

٥١٩

عدم تحقّق ذي المقدّمة خارجا فهذا يكشف عن عدم وجوب المقدّمة من أوّل الأمر ، لأنّ عدم ترتّب ذي المقدّمة معناه انّ المقدّمة التي جاء بها المكلّف ليست موصلة.

* * *

٥٦٨ ـ المقدّمة الوجوبيّة

وهي القيود والشرائط التي اخذت بنحو يكون الوجوب مترتبا عليها ، ويعبّر عنها بقيود الحكم وبشرائط المجعول.

وبتعبير آخر : كلّ قيد اخذ مفروض الوجود على نهج القضيّة الحقيقيّة والتي تقتضي انّه لو اتّفق تحقّق القيد والشرط خارجا لترتّب على ذلك تحقّق الفعليّة للحكم ، هذه القيود يعبّر عنها بالمقدّمات الوجوبيّة.

ومثاله : البلوغ والعقل والقدرة بالنسبة للتكاليف والاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ.

واعتبار هذه القيود من شرائط الحكم ومن المقدّمات الوجوبيّة باعتبار انّها اخذت في الحكم بنحو لو اتّفق وجودها خارجا لترتّب على ذلك تحقّق الفعليّة للحكم ، فالتعبير عنها بالمقدّمات ناشئ عن انّ فعليّة الحكم منوط بتحقّقها ، فقبل تحقّق الاستطاعة لا فعليّة لوجوب الحجّ ، وأمّا التعبير عنها بالمقدّمات الوجوبيّة فباعتبار انّ المتوقّف تحقّقها عليها هو الوجوب بمرتبة الفعليّة.

وتشخيص انّها مقدّمات وجوبيّة يتمّ بواسطة ملاحظة كيفيّة اعتبارها ، فإن اعتبرت مفروضة الوجود ، بمعنى انّه متى ما اتّفق تحققها ترتّب على ذلك الحكم المناط بها فهي مقدّمات وجوبيّة ، وان لم تفترض كذلك فهي مقدّمات وجوديّة.

وباتّضاح المراد من المقدّمات الوجوبيّة يتّضح خروجها عن بحث مقدّمات الواجب ، وهو البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، إذ انّ البحث عن الملازمة انّما هو فرع افتراض تحقّق الفعليّة للوجوب ، وعندئذ نبحث عن انّ هذا

٥٢٠