المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

٥٣٣ ـ المخالفة القطعيّة والاحتماليّة

يطلق عنوان المخالفة القطعيّة عادة على ترك جميع أطراف التكليف المعلوم بالإجمال والذي ينتج القطع بعدم الامتثال وبوقوع المعصية للتكليف ، وأمّا المخالفة الاحتماليّة فهو ترك بعض أطراف التكليف المعلوم بالإجمال ، والذي ينتج عن احتمال عدم الامتثال.

فحينما يعلم المكلّف بحرمة هذا السائل أو ذاك فيشربهما معا فإنّه يكون قد خالف التكليف الواقعي جزما ، وهكذا عند ما يعلم إجمالا بوجوب أحد الفعلين فيتركهما معا.

وأمّا لو شرب أحد السائلين دون الآخر في المثال الأوّل وترك أحد الفعلين دون الثاني في المثال الآخر فإنّه قد يكون قد خالف التكليف المعلوم بالإجمال احتمالا ، وذلك لاحتمال أنّ الذي شربه في المثال الأوّل هو الحرام ، وأنّ الذي تركه في المثال الثاني هو الواجب.

٥٣٤ ـ المخصّص والمقيّد

المخصّص هو المخرج لبعض الأفراد عن عموم الحكم المفاد بواسطة اللفظ.

فحينما يكون الخطاب مشتملا على لفظ دالّ على عموم الحكم لأفراد موضوعه أو متعلّقه ثمّ يأتي ما يكشف عن خروج بعض هذه الأفراد عن عموم الحكم فإنّ ذلك الكاشف عن خروج بعض الأفراد هو المعبّر عنه بالمخصّص.

وأمّا المقيّد فهو لا يختلف عن معنى المخصّص إلاّ من جهة منشأ دلالة الخطاب على العموم ، فالمخرج لبعض الأفراد عن عموم الحكم يكون مخصّصا عند ما تكون دلالة الخطاب على العموم مفادة بواسطة اللفظ ، أمّا حينما تكون دلالة الخطاب على العموم مفادة بواسطة قرينة الحكمة فالمخرج لبعض الأفراد عن عموم الحكم يكون مقيّدا.

فعند ما يكون الخطاب مثلا ( أكرم كلّ عالم إلاّ أن يكون فاسقا ) فإنّ أداة

٤٦١

الاستثناء تكون مخصّصا ، وذلك لأنّ استفادة العموم للحكم بوجوب الإكرام قد تمّ بواسطة اللفظ ( كلّ ).

أمّا حينما يكون الخطاب ( أكرم العالم إلاّ أن يكون فاسقا ) فإنّ أداة الاستثناء تكون مقيّدا ، وذلك لأنّ استفادة العموم للحكم قد تمّت بقرينة الحكمة.

ثمّ إنّ المخصّص وكذلك المقيّد قد يكون متّصلا وقد يكون منفصلا ، وكلّ منهما قد يكون بمخصّص أو مقيّد لفظي أو يكون بمخصّص أو مقيّد لبّي.

وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان القرينة المتّصلة والمنفصلة واللبّيّة وتحت عنوان التخصيص بالمخصّص المتّصل والمنفصل اللبّي.

* * *

٥٣٥ ـ المسألة الاصوليّة

المراد من المسألة من كلّ علم هي ما يبحث عن ثبوت محمولها لموضوعها في ذلك العلم.

ومن هنا يتّضح خروج المبادئ التصديقيّة عن مسائل العلم ، فالمبادئ التصديقيّة وان كانت مسألة من المسائل وقضيّة من القضايا إلاّ انّها مسألة من مسائل علم آخر أي يتمّ إثباتها في علم آخر ، غايتها انّ هذا العلم يستعملها كمقدّمات في أقيسته المنتجة للنتائج المتّصلة به أو قل يستعملها كبريات أو صغريات في أقيسته المنتجة لمسائله وإلاّ فهي مسائل لعلوم اخرى.

فالفرق بين المبدا التصديقي والمسألة هو انّ المبدا التصديقي عبارة عن قضايا يتمّ بحثها في علوم اخرى ويأخذها علم آخر كاصول موضوعيّة يستفيد منها لإثبات مطالبه ومسائله.

وأمّا المسألة فهي القضيّة التي يتمّ بحثها في هذا العلم ، نعم لا يكون بحث قضيّة في علم وحده معبّرا عن كون هذه القضيّة من مسائل هذا العلم ، إذ قد تبحث قضيّة من غير مسائل العلم ـ وانّما هي من مبادئه التصديقيّة ـ باعتبار انّ هذه القضيّة لم يتمّ تنقيحها

٤٦٢

بصورة تامة في العلم الذي ينبغي له التصدي لبحثها ، فهذا العلم المعيّن انّما يبحثها استطرادا لتصبح بعد ذلك مبدأ تصديقيّا يعتمده كمقدّمة للوصول الى مطالبه ومسائله.

ولمزيد من التوضيح نذكر هذا المثال وهو قضيّة انّ الدور مستحيل فإنّ هذه القضيّة مسألة من مسائل الفلسفة ، وذلك لأنّ البحث عن ثبوتها والبرهنة عليه انّما يتمّ في ذلك العلم ، فلو استفاد منها علم آخر كمقدّمة لأقيسته المنتجة لمطالبة ومسائله فإنّها تكون مبدأ تصديقيا لهذا العلم ، ولو اتّفق انّ هذه القضيّة لم تنقح بالمقدار الذي تستحقّه في علم الفلسفة وتصدّى هذا العلم الآخر كعلم الكلام أو علم الاصول للبرهنة عليها فإنّ ذلك لا يصيّر هذه القضيّة من مسائل علم الكلام أو الاصول.

ومن هنا نحتاج إلى إضافة شيء الى ضابطة المسألة وهو انّ القضيّة لا تكون من مسائل علم إلاّ أن يكون موضوعها هو موضوع ذلك العلم أو يكون متحدا معه وجودا وان كان مغايرا لموضوع العلم مفهوما ، فيكون الاتحاد بينهما كاتّحاد الكلّي مع مصاديقه خارجا ويكون محمولها أحد العوارض الذاتيّة لموضوع العلم ، فإذا كانت القضيّة متوفّرة على أحد هذين القيدين فهي من مسائل ذلك العلم.

إلاّ انّه في مقابل هذا المبنى هناك من ذهب الى انّ ضابطة المسألة هي أن تكون داخلة في الغرض الذي اسّس من أجله ذلك العلم ، وهذا المبنى ناشئ عن دعوى عدم لزوم انّ لكلّ علم موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، وعليه يكون ضابطة اعتبار قضيّة من القضايا من مسائل علم هو دخولها في الغرض الذي من أجله اسّس ذلك العلم ، وهذا لا يعني دخول المبادئ التصديقيّة في العلم ، إذ انّها خارجة عن غرض العلم وتستعمل في العلم كوسائل يتوسّل بها للوصول الى مطالب العلم ومسائله الدخيلة في الغرض ، فلا فرق بين المبنيين من هذه الجهة.

٤٦٣

وبما ذكرناه يتّضح المراد من المسألة الاصوليّة ، وانّها عبارة عن القضايا التي يتمّ اثباتها والبرهنة عليها في علم الاصول ، على أن يكون موضوعها هو موضوع علم الاصول أو ما يتّحد معه خارجا ويكون محمولها أحد العوارض الذاتيّة لموضوع علم الاصول ، أو تكون هي القضايا الداخلة في الغرض الذي من أجله اسّس علم الاصول.

وأمّا ضابطة المسألة الاصوليّة فهي تختلف باختلاف المباني في تعريف علم الاصول وما هو موضوعه ، فهنا مجموعة من الاتّجاهات نذكر بعضها :

الاتّجاه الأوّل : انّ المسألة الاصوليّة هي كلّ قاعدة تمهّد لاستنباط الحكم الشرعي ، لاحظ عنوان « علم الاصول » فقد شرحنا المراد من هذه الضابطة هناك.

الاتّجاه الثاني : هي المسألة التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بنفسها دون الحاجة لأن تنضمّ إليها كبرى اصوليّة اخرى ، وبهذا تخرج مسائل علم النحو مثلا ومسائل علم الرجال ، فإنّها وان كانت تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي إلاّ انّها لا تنتج الحكم الشرعي إلاّ أن تنضم إليها كبرى اصوليّة ، وهذا بخلاف المسألة الاصوليّة فإنّها لا تحتاج الى ان تنضم اليها كبرى اصوليّة ، نعم هي تحتاج إلى ان تنضم اليها صغريات من علوم اخرى لغرض الوصول الى النتيجة الفقهيّة.

فكلّ مسألة تساهم في استنباط حكم شرعي إلاّ انّها تحتاج الى ان تنضم اليها كبرى اصوليّة فهي ليست مسألة اصوليّة ، أمّا لو كانت تساهم في استنباط الحكم الشرعي وكانت كبرى في القياس المنتج للحكم الشرعي فهي مسألة اصوليّة ، وقد شرحنا ذلك ومثلنا له في التعريف الثاني لعلم الاصول.

الاتّجاه الثالث : انّ المسألة الاصوليّة عبارة عن القواعد المشتركة في الاستدلال الفقهي على الجعل الشرعي ، وهو ما تبناه السيّد

٤٦٤

الصدر رحمه‌الله ، وقد أوضحنا المراد من ذلك في تعريف علم الاصول.

* * *

٥٣٦ ـ مسألة مقدّمة الواجب

المراد من مقدّمة الواجب هي المقدّمة التي يتوقّف ايجاد الواجب عليها دون أن تكون دخيلة في ايجاب الواجب ، وهذا هو الذي يميّزها عن مقدّمات الوجوب ، إذ انّ المقدّمات الوجوبيّة دخيلة في ايجاب الواجب.

ومنشأ ذلك هو انّ مقدّمات الوجوب هي المصحّحة لاشتمال الفعل ـ الذي يراد جعل الوجوب عليه ـ على الملاك بحيث لو لم يتوفّر الفعل على هذه المقدّمات والشروط لما كان واجدا للملاك الموجب لجعل الوجوب عليه ، وهذا بخلاف مقدّمات الواجب ، فإنّها لا تكون دخيلة في اشتمال الواجب والذي هو متعلّق الوجوب ـ على الملاك المصحّح لجعل الوجوب عليه ، ومن هنا يكون الوجوب ثابتا للواجب بقطع النظر عن مقدّمات ايجاده وتحصيله.

ثمّ انّ البحث عن مقدّمات الواجب ليس بحثا عن عليّتها الواقعيّة التكوينيّة لتحصيل الواجب ، إذ انّ افتراض مقدميتها يلغي هذا البحث ، كما انّه ليس بحثا عما يدركه العقل من عدم معذوريّة المكلّف عند ترك ذي المقدّمة بسبب ترك مقدّماتها ، إذ انّ ذلك ليس محلا للنزاع بينهم ، على انّهم متفقون على انّ الوجوب لو كان ثابتا لمقدّمات الواجب لما وكان وجوبا نفسيا استقلاليا ، لأنّ الوجوب النفسي الاستقلالي منوط بملاحظة المقدّمات إمّا بنحو تفصيلي أو لا أقلّ اجمالي وجعل الوجوب المولوي عليها ، بمعنى انّ جعل الوجوب على ذي المقدّمة لا يلازم الالتفات الى المقدّمات واعتبارها واجبة ، بل قد لا تكون مقدّمات الواجب معروفة بالنسبة لجاعل الوجوب على ذي المقدّمة.

فمحلّ البحث إذن هو انّه هل يثبت لمقدّمات الواجب وجوب مولوي

٤٦٥

ارتكازي ، بمعنى انّه لو التفت الى هذه المقدّمات لكان قد جعل الوجوب عليها أو لا؟

ثمّ انّ بحث مقدّمات الواجب ليس بحثا لفظيا كما هو المستظهر من عبائر صاحب المعالم رحمه‌الله ، إذ ليس البحث عنها مقتصرا على البحث عن وجود دلالة التزاميّة بين ايجاب الشيء وايجاب مقدّماته بل البحث في المقام عن وجود ملازمة بين ايجاب شيء وايجاب مقدّماته ، وهل العقل يدرك هذه الملازمة ، أي الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته شرعا.

وبهذا يتّضح انّ مسألة مقدّمة الواجب من المباحث الاصوليّة العقليّة والتي هي من قسم غير المستقلاّت العقليّة.

* * *

٥٣٧ ـ المستقلات العقليّة

المراد من المستقلاّت العقليّة في مصطلح الاصوليّين هو القضايا العقليّة المدركة بواسطة العقل العملي. ومنشأ التعبير عنها بالمستقلاّت العقليّة هو انّها من القضايا العقليّة التي تقع في طرق استنباط الحكم الشرعي دون الحاجة الى ان تنضم إليها مقدّمة شرعيّة ، فالاستقلاليّة بلحاظ المقدّمات الشرعيّة ، وذلك في مقابل غير المستقلاّت العقليّة ، كالاستلزامات العقليّة التي يكون الاستفادة منها في الاستنباط للحكم الشرعي منوطا بانضمامها الى مقدّمة شرعيّة.

فالاستقلاليّة إذن من جهة الاستغناء عن المقدّمة الشرعيّة في مقام التوسّل بها للوصول الى النتيجة الفقهيّة لا من جهة استغنائها عن كلّ مقدّمة ولو لم تكن شرعيّة.

ومثال المستقلاّت العقليّة هو ما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّ هذه القضيّة يمكن التوسّل بها للوصول الى الحكم الشرعي دون الحاجة الى مقدّمة شرعيّة ، نعم المستقلاّت العقليّة بهذا المعنى لا

٤٦٦

يتوصّل بها للحكم الشرعي إلاّ أن تنضم اليها قضيّة عقليّة من قسم المدركات العقليّة النظريّة سواء كان البناء هو تطبيق هذه القضايا المستقلّة على فعل المكلّف أو كان البناء تطبيقها على أفعال المولى جلّ وعلا.

فمثلا قضيّة « قبح الظلم » والتي هي من المستقلاّت العقليّة المدركة بالعقل العملي يمكن التوسل بها للوصول الى حكم شرعي وهو حرمة ضرب اليتيم تشفيا إلاّ انّ هذه الحرمة الشرعيّة لا تثبت بمجرّد إدراك العقل بكون ضرب اليتيم تشفيا ظلما بل لا بدّ من انضمام مقدّمة عقليّة نظريّة ، وهي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فمع تماميّة هذه القضيّة تثبت الحرمة الشرعيّة لضرب اليتيم تشفيا وإلاّ لم يكن من الممكن اثبات الحرمة الشرعيّة بالقضيّة الاولى وحدها.

وأمّا ما يتّصل بتطبيق القضيّة العقليّة العمليّة المستقلّة على أفعال المولى جلّ وعلا فكما لو أدرك العقل قبح ترخيص المولى للظلم ، فإنّ ذلك وحده لا ينتج القطع بعدم صدور الترخيص من المولى للظلم ، فلا بدّ للوصول لهذه النتيجة ـ وهي عدم صدور الترخيص للظلم من المولى ـ من انضمام مقدّمة عقليّة نظريّة وهي استحالة صدور القبيح من الحكيم جلّ وعلا ، فمع تماميّة هذه المقدّمة تثبت النتيجة المذكورة.

والمتحصّل انّ مدركات العقل العملي المعبّر عنها بالمستقلاّت العقليّة لا تنتج الحكم الشرعي إلاّ مع انضمامها مع مقدّمة عقليّة من قسم المدركات العقليّة النظريّة ، هذا ما ذهب إليه المشهور في مقام تعريف المستقلاّت العقليّة ، وقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله انّ المناسب الحاق موردين بالمستقلاّت العقليّة :

المورد الأوّل : هو ما لو أدرك العقل نوع العلل التي يترتّب عليها الحكم الشرعي ثم أدرك انّ هذا الشيء من نوع تلك العلل ، فإنّه وبواسطة البرهان اللمي يصل إلى الحكم الشرعي.

٤٦٧

ومثاله : ما لو أدرك العقل انّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والمفاسد ، ثمّ أدرك اشتمال فعل على مصلحة تامّة غير مزاحمة ، فهنا لا محالة يستكشف العقل وبواسطة البرهان اللمي ثبوت الحكم الشرعي.

وتلاحظون انّ إدراك العقل للمصلحة لا يتّصل بالعقل العملي ، كما انّ إدراكه لعلّيّة المصلحة للحكم الشرعي لا يتّصل كذلك بالعقل العملي ومع ذلك أمكن الوصول الى الحكم الشرعي ودون الحاجة الى انضمام مقدّمة شرعيّة ، ومن هنا ناسب أن يكون هذا المورد من المستقلاّت العقليّة.

المورد الثاني : وهو إدراك العقل لعلّية الحكم الشرعي لشيء ، فلو أدراك العقل بعد ذلك وجود معلول الحكم الشرعي لكان ذلك موجبا لاستكشاف الحكم الشرعي بواسطة البرهان الإنّي.

ومثاله : إدراك العقل لعلّيّة الحكم الشرعي لانعقاد السيرة المتشرعيّة ، أي انّ السيرة المتشرعيّة لا تنعقد على حكم لو لا تلقي ذلك عن الشارع ، فلو أحرزنا وجود سيرة متشرعيّة فإنّ ذلك معناه احراز معلول الحكم الشرعي ، ومع احراز معلول الحكم الشرعي نستكشف بواسطة الإن الحكم الشرعي.

وبيان آخر : لو أدرك العقل انّ صدور الحكم الشرعي هو علّة انعقاد السير المتشرعيّة ، وذلك بواسطة قانون حساب الاحتمالات ، فهذا معناه انّ السيرة المتشرعيّة معلولة للحكم الشرعي المتلقى عن المعصوم ، وحينئذ لو اتّفق إحراز سيرة متشرعيّة على شيء فإنّه يمكن بضمّ كبرى علّيّة الحكم الشرعي لانعقاد السيرة المتشرعيّة الى السيرة المحرزة فعلا يمكن استنتاج الحكم الشرعي ، وهذا هو البرهان الإنّي والذي هو عبارة عن استكشاف وجود العلّة بواسطة وجود المعلول ، فنحن حينما أحرزنا وجود المعلول والذي هو السيرة المتشرعيّة أحرزنا بذلك

٤٦٨

وجود الحكم الشرعي والذي هو العلّة.

وتلاحظون انّ هذا المورد أيضا لا يفتقر المدرك العقلي فيه للوصول الى الحكم الشرعي الى أن تنضمّ اليه مقدّمة شرعيّة رغم انّه ليس من المدركات العقليّة العمليّة.

* * *

٥٣٨ ـ مسقطات التكليف

المراد من سقوط التكليف هو أحد معنيين :

الأوّل : هو سقوط أصل الجعل ، أي ارتفاعه بعد أن كان ثابتا وهذا ما يساوق معنى النسخ ، وينشأ ذلك عادة عن انتفاء الملاك عن متعلّق الحكم بعد أن كان واجدا له ، وواقع الأمر أنّ أمد الملاك كان محدّدا بزمان إلاّ أنّ الحكم جاء مطلقا من حيث الزمان لأسباب اقتضتها الإرادة الإلهيّة.

الثاني : هو سقوط فاعليّة التكليف ومحرّكيّته فلا يكون التكليف بعد سقوطه بهذا المعنى قابلا للبعث نحو متعلّقه أو الزجر عنه.

وعليه يكون المراد من التكليف بهذا المعنى هو الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة.

وباتّضاح معنى السقوط نقول : إنّه بالمعنى الأوّل لا يكون للتكليف إلاّ مسقط واحد وهو النسخ ، وأمّا بالمعنى الثاني فمسقطات التكليف ثلاثة :

المسقط الأوّل : استيفاء ملاك التكليف بواحد من وسائله منها : الاتيان بمتعلّق التكليف لو كان التكليف بنحو الوجوب أو الاستحباب وترك متعلّق التكليف لو كان التكليف بنحو الحرمة أو الكراهة. فحينما يكون متعلّق الوجوب هو الصلاة فإنّ الإتيان بها يكون موجبا لاستيفاء الملاك الكامن في متعلّق التكليف وبذلك يستوفى الغرض من التكليف وحينئذ يكون ذلك منتجا لسقوط التكليف بمعنى سقوط فاعليّته ، إذ لا معنى لفاعليّته ومحرّكيّته بعد استيفاء الملاك.

وهكذا لو كان الحكم هو الاستحباب فإنّ الإتيان بمتعلّقه ينتج

٤٦٩

استيفاء الملاك فيسقط بذلك الحكم بالاستحباب أي تسقط فاعليّته.

وأمّا حينما يكون الحكم هو الحرمة ويكون متعلّقه مثلا هو السفر يوم الجمعة فترك السفر في يوم الجمعة ينتج استيفاء الملاك فيسقط بذلك التكليف.

ومنها : الإتيان بما يعادل متعلّق التكليف في الوفاء بالملاك ، وذلك كما لو ثبت أنّ الإطعام يقوم مقام العتق في الوفاء بالملاك ، فإنّ الإتيان بالإطعام عندئذ يكون موجبا لسقوط التكليف بالعتق ، وذلك لاستيفاء الغرض من جعله بواسطة الإتيان بما يعادله.

وهذا المقدار لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال فيما به يمكن التعرّف على ما يعادل التكليف في الوفاء بالملاك ، والصحيح أن لا طريق لذلك سوى الشارع المقدّس ، فهو الوحيد العارف بملاكات أحكامه وبالمتعلّقات الواجدة لها.

فحينما يأمر مثلا بفعل ثمّ يأذن بتركه عند الإتيان بفعل معيّن ، فإنّ ذلك يعبّر عن أنّ الفعل الآخر واجد لملاك التكليف في الفعل الأوّل وأنّ الإتيان به منتج لاستيفاء الملاك الكامن في الفعل الأوّل.

ومنها : الإتيان بما يفي بالجزء الأكبر من ملاك الحكم ويكون الجزء الباقي غير ممكن التحصيل ، فحينئذ يكون الاستيفاء لمعظم الملاك منتجا لسقوط التكليف إلاّ أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ باستظهار الإجزاء من دليل الأمر الاضطراري ، وقد أوضحنا ذلك في بحث الإجزاء.

المسقط الثاني : هو انتفاء موضوع التكليف ، فإنّه لا معنى لبقاء فاعليّة التكليف بعد افتراض سقوط موضوعه.

مثلا : لو كان موضوع وجوب صلاة الصبح هو ما بين الطلوعين ، فإنّ انتهاء هذا الوقت قبل أداء الصلاة نتيجة الغفلة مثلا ينتج سقوط الوجوب ، وهكذا لو انتهى شهر رمضان وقد ترك المكلّف صيامه جهلا فإنّ التكليف بصيامه بعدئذ يسقط

٤٧٠

لسقوط موضوعه ، وأمّا الأمر بقضائه فهو تكليف جديد ، وكذلك يمكن التمثيل بطروّ العجز عن الامتثال فإنّه مسقط لفعليّة التكليف ، وذلك لأنّ القدرة من قيود التكليف فحين تنتفي يسقط معها التكليف.

المسقط الثالث : هو المعصية ، وذلك بأن يترك المكلّف امتثال التكليف اختيارا إلى أن ينتفي موضوعه.

فحينما يترك المكلّف المستطيع أداء مناسك الحجّ في الموسم اختيارا فإنّ التكليف بعد انتهاء وقت الحجّ يكون ساقطا فلا محرّكيّة له بعد الموسم نظرا لانتفاء الموضوع. وهكذا لو قتل المكلّف شخصا فإنّه لا معنى لبقاء فاعليّة التكليف بحرمة قتله لأنّ موضوع حرمة القتل هو ذلك الشخص وقد انتفى.

* * *

٥٣٩ ـ المشتقّ

المراد من المشتقّ في اصطلاح الأصوليّين هو كلّ عنوان يصحّ حمله على الذات بشرط أن لا يكون ذاتيّا لتلك الذات.

ومثاله : عنوان العالم فإنّه عنوان يصحّ حمله على الذات مثل زيد فيقال زيد عالم ، ومن الواضح أنّ عنوان العالم ليس ذاتيّا لزيد بل هو وصف يمكن اتّصاف زيد به ويمكن أن لا يتّصف به ، وإذا اتّصف به يمكن لهذا الوصف أن يزول عنه بعد حين.

ولكي يتّضح المراد من مصطلح المشتقّ الأصولي أكثر نقول : إنّه يشترط في صدقه على شيء أمران :

الأوّل : أن يصحّ حمله على الذات فيكون عنوانا لتلك الذات ، وبذلك تخرج المصادر لأنّه لا يصحّ حملها على الذات فلا يقال زيد علم وبكر قدرة ، وتخرج الأفعال أيضا لأنّها وإن كان يصحّ إسنادها إلى الذات فيقال زيد يضرب إلاّ أنّها ليست عنوانا للذات بمعنى أنّه لا يمكن إطلاقها على الذات ، فلا يطلق على زيد لفظ يضرب ولكن يمكن أن يقال له ضارب فيعنون زيد بعنوان ضارب.

٤٧١

وبذلك يتبيّن أنّ اسم الفاعل واسم المفعول واسم الآلة كلّها مشمولة لعنوان المشتقّ لصحّة حملها على الذات ولأنّها تصلح أن تكون عنوانا للذات ، ويتبيّن أيضا أنّ مثل الزوج والذكر والأنثى يدخل تحت عنوان المشتقّ وإن كانوا من الجوامد في اصطلاح النحاة ، وذلك لصحّة حملها على الذات وصيرورتها عنوانا لها ، فيقال زيد زوج ، وهذه زوجة ، وبكر ذكر ، ودعد أنثى.

الثاني : أن لا يكون زواله عن الذات مساوقا لزوال الذات ، وهذا هو معنى أن لا يكون ذاتيّا للذات ، لأنّه لو كان ذاتيّا لها فإنّ معنى ذلك أنّ زوال ذلك العنوان عن الذات مساوق لزوال الذات.

والمراد من الذاتي هو الذاتي في باب الكليّات ( الإيساغوجي ) وهو الجنس والنوع والفصل. فلا بدّ في صدق المشتقّ على العنوان المحمول على الذات أن لا يكون جنسا أو فصلا أو نوعا.

فحينما يقال زيد حيوان أو زيد إنسان أو زيد ناطق ، فإنّ الحيوان هو جنس زيد والإنسان نوعه والناطق فصله ، ولذلك لا تكون هذه العناوين من المشتقّ بسبب أنّ كلّ واحد منها ذاتي لذات زيد ، بمعنى أنّ ذات زيد تتقوّم بتلك العناوين ، ولذلك فإنّ زوال الحيوانيّة عن زيد يساوق زوال زيد نفسه ، وهكذا لو زالت الإنسانيّة أو الناطقيّة عن زيد.

وأمّا لما ذا اعتبر هذان الشرطان في صدق عنوان المشتقّ فذلك يتّضح من تحرير محلّ النزاع ، وبيان ذلك :

لو قال المولى : ( أكرم الرجل الفقير ) فإنّ الرجل بالإضافة إلى عنوان الفقير يمكن أن نتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن يكون متّصفا بالفقر فعلا.

الحالة الثانية : أن يكون قد اتّصف بالفقر ثمّ زال عنه الاتّصاف به.

الحالة الثالثة : أن لا يكون متّصفا بالفقر فعلا ولم يكن متّصفا به سابقا إلاّ أنّه سيتّصف بعنوان الفقر فيما بعد.

٤٧٢

أمّا حكم الرجل في الحالة الأولى فهو وجوب إكرامه بلا ريب ، وذلك لصدق عنوان الفقير عليه بلا إشكال.

وأمّا حكم الرجل في الحالة الثالثة فهو عدم وجوب إكرامه بلا ريب أيضا ، لعدم صدق إطلاق عنوان الفقير عليه إلا بنحو من التجوّز.

وأمّا حكم الرجل في الحالة الثانية فهو محلّ النزاع ، وذلك للاختلاف في صحّة إطلاق عنوان الفقير على من كان فقيرا ثمّ انقضى عنه التلبّس بالفقر.

إذن موضع النزاع هو في صحّة إطلاق المشتقّ على الذات التي انقضى عنها التلبّس بالمبدإ ( الوصف ) ، أو بتعبير أدقّ هل إنّ حمل المشتقّ على الذات التي انقضى عنها التلبّس بالمبدإ حمل حقيقي أو مجازي؟

وباتّضاح محلّ النزاع يتّضح منشأ اعتبار الشرطين في صدق المشتقّ.

أمّا الشرط الأوّل فنّه لو لم يصحّ حمل العنوان عن الذات فلا معنى للبحث عن أنّ الحمل حقيقي أو مجازي.

وأمّا الشرط الثاني فنّ البحث هو عن حكم الذات بعد انقضاء التلبّس بالمبدإ عنه ، وهذا يقتضي إمكانيّة بقاء الذات مع افتراض انقضاء تلبّسها بالمبدإ ، فلو كان العنوان المحمول على الذات ذاتيّا لها فلا معنى للبحث عن حكمها بعد انتفاء العنوان عنها ، لأنّ انتفاء العنوان الذاتي عنها يساوق انتفاءها.

* * *

٥٤٠ ـ المصالح المرسلة

اختلف علماء السنّة في تعريف الاستصلاح والمصالح المرسلة كما اختلفوا في حجّيّته وأنّه من مصادر التشريع أو لا ، والظاهر أنّ منشأ الاختلاف في التعريف هو الاختلاف في مقدار ما تثبت له الحجّيّة عند من يقول بحجّيّة المصالح المرسلة في الجملة ونحن هنا سنوضّح المهمّ من هذه التعريفات مبتدءين بأوسعها نطاقا :

الأوّل : هو الإفتاء والتشريع وفق ما يقتضيه جلب المنفعة أو دفع

٤٧٣

المفسدة إذا لم يكن ثمّة نصّ خاصّ أو إجماع ينفيه أو يثبته.

الثاني : هو الإفتاء والتشريع وفق ما يقتضيه النفع العامّ أو دفع المفسدة العامّة إذا لم يكن ثمّة نصّ خاصّ أو عامّ أو إجماع ينفيه أو يثبته على أن يكون جلب النفع أو دفع المفسدة من سنخ ما تقتضيه الضرورة الحياتيّة للناس.

الثالث : هو الإفتاء والتشريع وفق ما تقتضيه مقاصد الشريعة والتي تنتهي إلى أصول خمسة ، هي حفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان ، فكلّ ما ينتج التحفّظ على واحد من هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة يلزم التحفّظ عليها ، وكلّ ما ينتج فوات واحد من هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة يلزم اجتنابها.

ورغم أنّ هذا التعريف هو أضيق دائرة من التعريفين الأوّليين إلا أنّ العلماء ممّن تبنّى هذا التعريف اختلفوا من جهة اعتبار وجود قاعدة أو عموم يمكن إرجاع الفتوى إليه وعدم اعتبار ذلك ، فبعضهم أفاد بأنّه لا يصحّ الإفتاء بما تقتضيه الأصول الخمسة إلا مع وجود قاعدة أو عموم يمكن الاستناد إليه في ذلك ، والبعض الآخر لم يجد لذلك ضرورة وأفاد بأنّه يكفي لصحّة الإفتاء إدراك العقل لاقتضاء الفعل أو الترك للتحفّظ على الأصول الخمسة ، وبما بيّنّاه تتّضح مجموعة من الأمور :

الأمر الأول : إنّ المقصود من المصلحة المقتضية للإفتاء هو الأعمّ من جلب المنفعة أو دفع المفسدة ، فعنوان الاستصلاح أو المصلحة المرسلة أطلق وأريد منه الأعمّ منهما.

الأمر الثاني : إنّ المصلحة المقصودة من العنوان تختلف سعة وضيقا بحسب اختلاف التعريفات المذكورة وأنّ منشأ الاختلاف من هذه الجهة هو الاختلاف في مقدار يصحّح الإفتاء والتشريع.

فالمصلحة في التعريف الأوّل من السعة بحيث لا تختصّ بالمصالح العامّة

٤٧٤

بل تشمل المصالح الشخصيّة ، ولو لم يكن ذلك مقصودا فإنّ المصلحة في التعريف الأوّل تبقى أوسع دائرة من التعريفين الآخرين ، وذلك لأنّها لم تقيّد بما تقتضيه الضرورة الحياتيّة للناس كما هو كذلك في التعريف الثاني.

وأمّا المصلحة في التعريف الثاني فهي وإن كانت أضيق دائرة من التعريف الأوّل إلاّ أنّها تشمل مطلق المصالح العامّة الضروريّة حتّى وإن لم تكن متّصلة بالأصول الخمسة ولم يكن تفويتها مقتضيا لفوات التحفّظ عليها أو على واحد منها.

وأمّا المصلحة في التعريف الثالث فتتّحد بما يؤول إلى التحفّظ على مقاصد الشريعة ، والمصحّح لإطلاق عنوان المصلحة على ذلك هو أنّ مقاصد الشريعة تنتهي جميعا إلى ما يعود بالنفع على الإنسان.

الأمر الثالث : إنّ المقصود من عنوان الإرسال هو عدم وجود النصّ أو الإجماع المقتضي للزوم اعتماده في مقام الإفتاء ، فوجود النصّ بمثابة القيد المانع للمجتهد عن أن يفتي بخلاف ما يقتضيه النصّ ، فإذا لم يكن ثمّة نصّ فهو ( المجتهد ) مرسل ومطلق العنان من جهته.

فله أن يسترسل ويجيل ذهنه ليقف على مقتضيات المدرك العقلي أو الاعتبارات الأخرى.

والتعريفات الثلاثة تتّفق جميعا من جهة أنّ منشأ التعبير بالإرسال هو عدم وجود النصّ أو الإجماع ، نعم هي تختلف من جهة أنّ النصّ المعتبر عدمه في تحقّق الإرسال هل هو النصّ الخاصّ كما هو مقتضى التعريف الأوّل والثالث على أحد القولين أو الأعمّ منه ومن العام كما هو مقتضى التعريف الثاني.

ويحتمل أنّ المراد من عنوان ( المرسلة ) هو العامّة ، فالمصلحة المرسلة هي المصلحة العامّة في مقابل المصلحة الشخصيّة ، فالمصحّح للإفتاء هو المصلحة العامّة دون المصلحة الشخصيّة.

٤٧٥

الأمر الرابع : إنّ التعريفين الأوّل والثاني لم يتمّ التصدّي فيهما لبيان الوسيلة المعتمدة لتحديد المصلحة فهل هو العقل أو الذوق أو اعتبارات أخرى ، وإذا كان هو العقل فهل هو القطعي أو هو الأعمّ منه ومن الظنّيّ.

وأمّا التعريف الثالث فهو بناء على القول الأوّل يعتمد النصوص والقواعد العامّة وسيلة لتحديد المصلحة وإن كان قد أهمل بيان وسيلة الوصول إلى تلك القواعد والنصوص العامّة ، نعم لا يبعد أنّها عين الوسائل الاجتهاديّة المعتمدة عندهم والتي هي من قبيل قياس التمثيل والسبر والتقسيم وتنقيح المناط القطعيّ والظنّيّ وتحقيق المناط وتخريج المناط وسدّ الذرائع وفتحها.

وأمّا القول الثاني من التعريف الثالث فاعتمد العقل وسيلة لاكتشاف المصلحة المقتضية للإفتاء والظاهر أنّه الأعم من القطعي والظنّيّ.

وخلاصة ما يمكن أن يلاحظ على اعتماد الاستصلاح وسيلة للإفتاء هي ما يلي :

أوّلا : إنّ الاستصلاح بناء على التعريف الأوّل ينتهي في بعض الحالات إلى الاجتهاد في مقابل النصّ ، وذلك لأنّه يصحّح الإفتاء وفق المصلحة المرسلة بمجرّد عدم وجود النصّ الخاصّ ، وهذا يعني أنّ المجتهد لو اعتمد هذا التعريف ساغ له إهمال النصوص العامّة والإفتاء وفق المصلحة المنظورة عنده. وهو من الاجتهاد في مقابل النصّ ، لأنّ المقصود من النصّ المانع عن الإفتاء في مقابله هو الأعمّ من النصّ الخاصّ والعامّ.

ثانيا : إنّ الاستصلاح بناء على التعريف الأوّل أهمل بيان الوسيلة المعتمدة للوصول لتحديد المصلحة وليس من وسيلة يمكن اعتمادها بعد عدم وجود النصّ الخاصّ وإهمال النصّ العامّ سوى الاستحسان والذوق أو العقل.

أمّا الاستحسان والعقل الظنّيّ فهما ساقطان عن الحجيّة كما ثبت ذلك في محلّه.

٤٧٦

وأمّا العقل القطعيّ فهو وإن كان حجّة لحجّيّة القطع إلاّ أنّه غير متاح غالبا إذ أنّ العقل بمجرّد أن يلتفت إلى احتمال وجود خصوصيّة في الشيء يمكن أن تكون قد خفيت عليه فإنّه لا يحصل له القطع.

فإدراك جميع أوجه المصالح والمفاسد في الأشياء أمر لا يكاد يحصل للإنسان ، فمنتهى ما يتحصّل عليه الإنسان هو إدراك بعض المصالح وهو ما ينتج عنده الترجيح للفعل أو الترك ، أمّا الجزم بأنّ ذلك هو المطابق للرؤية الشرعيّة فهذا لا يتّفق إلاّ للقطّاع خصوصا مع الالتفات إلى احتمال أن تكون عند المولى بعض الخصوصيّات المانعة من الحكم بالوجوب أو الحرمة.

وبذلك يكون الإفتاء بوجوب ما فيه جلب للمصلحة أو الإفتاء بحرمة ما ينتج المفسدة المنظورة من التشريع القبيح والذي يعني نسبة شيء للدين مع عدم إحراز أنّه منه. وهذا الإشكال يمكن إيراده على التعريف الثاني للاستصلاح كما يمكن إيراده على القول الثاني من التعريف الثالث للاستصلاح.

نعم يمكن معالجة عدم وجود النصّ الخاصّ والعامّ لو اتّفق ـ وهي نادرة ـ بتصدّي الحاكم الشرعي وذلك من خلال جعل الأحكام الولائيّة وهي ليست أحكاما شرعيّة أوليّة أو ثانويّة حتّى تكون من قبيل التشريع المحرّم بل هي مساحة أعطيت للحاكم الشرعي لغرض معالجة بعض الأمور على أساس الظروف والمقتضيات.

ثالثا : إنّ الاستصلاح بناء على القول الأوّل من التعريف الثالث إمّا أن يكون من قبيل تطبيق القاعدة والعمومات على مواردها ، وهو أمر مقبول إلا أنّ ذلك ليس من الاستصلاح بل هو من الاستظهار والذي قام الدليل القطعي على حجّيّته ، إذ هو يعني اعتماد الوسائل العرفيّة عند أهل المحاورة لغرض فهم النصّ ، ونتيجة ذلك هي اعتماد الكتاب والسنّة في مقام الإفتاء.

وإمّا أن يكون الاستصلاح بمعنى

٤٧٧

الاجتهاد بواسطة القياس والتمثيل أو تنقيح المناط أو تحقيق المناط أو تخريجه ، وحينئذ لا معنى لاستحداث مصطلح جديد ، وبذلك لا بدّ وأن يتركّز النظر في حجّيّة هذه الوسائل وقد ثبت عندنا عدم حجيّة القياس وتنقيح المناط الظنّي وكذلك تحقيق المناط أو تخريجه.

وإمّا أن يكون الاستصلاح بناء على هذا التعريف مصحّحا لاعتماد المجتهد الوسائل غير العرفيّة لفهم العمومات ، وذلك من الاجتهاد بالرأي ، والذي ينتج تدخّل العناصر الذاتيّة في فهم النصّ ، وقد أثبت الإماميّة عدم حجيّة التفسير بالرأي.

هذا ما يمكن بيانه في المقام ولعلّنا نستوفي البحث في مقامات أخرى.

* * *

٥٤١ ـ المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة

الحرف في مصطلح الأصوليّين لا يختصّ بالحروف النحويّة بل يتّسع ليشمل مطلق الهيئات التركيبيّة التامّة والناقصة وهيئات الأفعال وأسماء الفاعلين ومطلق الاشتقاقات الصرفيّة.

وعليه فكلّ مدلول ينقدح بواسطة ذلك يكون معنى حرفيّا ، فكما أنّ مدلول ( في ) و ( حتّى ) ولام التعليل معنى حرفي فكذلك يكون مدلول هيئة الفعل الماضي واسم الفاعل وهيئة الربط بين المبتدأ والخبر والمضاف والمضاف إليه.

وأمّا الاسم فهو كلّ مادّة وضعت بترتيب خاصّ لتكون دالّة على معنى مستقلّ يمكن فهمه منها دون الحاجة إلى أن تكون في إطار جملة تامّة أو ناقصة ، وذلك مثل أسماء الأجناس وموادّ الأفعال والأعلام الشخصيّة.

فاسم الجنس مثل أسد والخبز وموادّ الأفعال مثل الضرب من ( يضرب ) وضعت لمعان استقلاليّة تفهم ابتداء بواسطة موادّها ولا يفتقر فهمها إلى وقوعها في سياق هيئة أو جملة تامّة أو ناقصة.

٤٧٨

وعليه يكون المراد من المعاني الاسميّة هو المدلولات المستفادة من الموادّ الموضوعة للمعاني الاستقلاليّة.

وهذا المقدار الذي ذكرناه لم يقع موردا للخلاف بين الأصوليّين كما لم يختلفوا في عدم استقلاليّة المعنى الحرفي وإنّما وقع الخلاف بينهم فيما يتّصل بتحديد المراد من عدم استقلاليّة المعنى الحرفي ، وتوجد لذلك مجموعة من الاتّجاهات نذكر بعضها :

الاتّجاه الأوّل : إنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بخلاف المعاني الاسميّة فإنّها إخطاريّة ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنواني إخطاريّة المعاني الاسميّة وإيجاديّة المعاني الحرفيّة.

الاتّجاه الثاني : إنّ عدم استقلاليّة المعاني الحرفيّة إنّما هو من جهة الاستعمال ، بمعنى أنّ الواضع اعتبر في صحّة استعمال الحرف أن يكون المعنى ـ الذي يراد استعمال الحرف لإفادته ـ ملحوظا باللحاظ الآلي ، وذلك بخلاف المعنى الاسمي فإنّ الواضع اعتبر في استعماله أن يكون لحاظ المعنى استقلاليّا.

فالحرف والاسم المماثل له كلاهما وضعا لمعنى واحد ومتطابق ليس بينهما أدنى اختلاف ، فكما أنّ لفظ ( ابتداء ) وضع لإفادة مفهوم الابتداء فكذلك لفظ ( من ) وضعت لإفادة هذا المفهوم ، غايته أنّ الواضع اشترط في صحّة استعمال لفظ ( الابتداء ) أن يكون المستعمل قد لاحظ الابتداء مستقلاّ ، فإذا كان كذلك فله أن يستعمل لفظ ( الابتداء ) لإفادة معناه ، أمّا إذا استعمل لفظ ( من ) فإنّ هذا الاستعمال لا يصحّ منه إلاّ أن يكون قد لاحظ معنى الابتداء لحاظا آليّا.

ففي المقام الأوّل له أن يقول : « ابتداء المسير كان من البصرة » ، لأنّ تصوّر معنى الابتداء مستقلّ فساغ له استعمال لفظ ( الابتداء ).

وفي المقام الثاني له أن يقول : « سرت من البصرة » وذلك لأنّه تصوّر معنى الابتداء آلة ورابطا بين السير والبصرة ، لذلك ساغ له استعمال لفظ ( من ).

٤٧٩

وبذلك يتّضح أنّ الاستقلاليّة والآليّة ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له الاسم والحرف ، نعم لحاظ الاستقلاليّة والآليّة شرط في صحّة الاستعمال.

الاتّجاه الثالث : إنّ عدم استقلاليّة المعاني الحرفيّة نشأ عن أنّ الواضع وضعها لتكون علامة على بعض الخصوصيّات المرتبطة بمدخولها فهي أشبه شيء بالحركات الإعرابيّة الموضوعة علامة على موقع الكلمة من الحدث والمبدأ المنتسب إليها ، فكما أنّ الضمّة المرسومة على الاسم موضوعة لتكون علامة على انتساب الحدث للاسم نسبة صدور أو نسبة قيام ( فاعليّة ) فكذلك حرف ( من ) ـ في قولنا سرت من البصرة ـ موضوع علامة على إرادة خصوصيّة تعلّقت بمدخول من ( البصرة ) هذه الخصوصيّة هي أنّها كانت مبتدأ بها.

فحرف ( من ) ليست موضوعا لإفادة مفهوم الابتداء وإنّما هو موضع ليكون علامة على خصوصيّة في ( البصرة ) وهي أنّها مبتدأ بها.

الاتّجاه الرابع : إنّ عدم استقلاليّة المعاني الحرفيّة نشأ عن أنّها موضوعة للنسب الربطيّة ، أي أنّها موضوعة لواقع النسبة بالحمل الشائع.

فلفظ ( في ) مثلا وضعت لتحقيق نحو من الربط بين طرفيها فيكون الطرفان بواسطة هذا الربط أحدهما مظروفا والآخر ظرفا.

وقد أوضحنا هذا الاتّجاه مفصّلا تحت عنوان النسبة ويمكن الاستعانة على فهمه من ملاحظة عنوان الوجود الرابط والوجود الرابطي.

* * *

٥٤٢ ـ المعقولات الأوليّة

المراد من المعقولات هي المعاني أو قل المفاهيم الكليّة والتي يكون وعاؤها الذهن ، وهي تنقسم الى قسمين ، المعقولات الاوليّة والمعقولات الثانية ، والقسم الثاني ينقسم الى قسمين ، الأوّل معقولات ثانية منطقيّة ، والثانية معقولات ثانية فلسفيّة.

٤٨٠