المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

المعنى المجازي والذي لو يوضع اللفظ لإفادته وإنّما يستعمل اللفظ فيه باعتبار تناسبه مع المعنى الحقيقي الذي وضع اللفظ من قبل الواضع لغرض افادته والدلالة عليه.

واضافة المعنى الحقيقي لجهة من الجهات ناشئ عن انّ هذه الجهة هي التي تصدّت لوضع اللفظ بإزاء المعنى ، فحينما يتصدى أهل اللغة لوضع لفظ بإزاء معنى معيّن يكون ذلك المعنى بالإضافة لذلك اللفظ حقيقة لغويّة ، وهذا هو منشأ اضافة الحقيقة الى الشارع ، حيث انّ مدعي ثبوت الحقيقة الشرعيّة يزعم انّ الشارع قد تصدى لوضع بعض الألفاظ لمعان خاصة ، وحينئذ تكون لتلك المعاني بالإضافة لتلك الألفاظ حقائق شرعيّة.

فمثلا : حينما يضع الشارع لفظ الصلاة للحركات المخصوصة فإنّ هذه الحركات المخصوصة بالإضافة للفظ الصلاة حقيقة شرعيّة.

والمتحصّل انّ المراد من ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو دعوى انّ الشارع قد تصدى لوضع بعض الألفاظ بإزاء معان مخصوصة ، وبهذا تكون هذه المعاني بالنسبة لهذه الألفاظ حقائق شرعيّة تتفاوت سعة وضيقا وتباينا مع الحقائق اللغوية.

ومن هنا تظهر الثمرة من هذا البحث ، وهي انّ المستظهر من هذه الألفاظ حينما يكون المستعمل لها هو الشارع المستظهر هو المعاني الخاصّة التي وضع الشارع هذه الألفاظ لغرض إفادتها ، وهذا بخلاف ما لو كنّا نبني على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فإنّ المستظهر حينئذ من الألفاظ المستعملة من قبل الشارع هو المعاني اللغويّة إلاّ أن تشتمل هذه الألفاظ على قرائن توجب انصرافها الى معان تتناسب مع تلك القرائن.

إلاّ انّ المحقّق النائيني رحمه‌الله أورد على ثبوت هذه الثمرة بما حاصله : انّ هذه الثمرة وان كانت مسلّمة كبرويا إلاّ انّ ملاحظة الواقع الخارجي يعطي عدم جدوى هذه الثمرة ـ بمعنى عدم وجود

٤١

صغرى لهذه الكبرى ـ وذلك لإحراز المراد من الالفاظ المستعملة إمّا بواسطة القرائن الخاصة ، وامّا بواسطة انّ استعمال عرف المتشرعة لهذه الألفاظ ظاهر في المعاني الشرعيّة ، ومن هنا لا تكون ثمّة فائدة من هذا البحث.

وبيان ذلك : انّ معظم الألفاظ التي هي محلّ النزاع والتي صدرت عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وصلت الينا بواسطة الأئمة عليهم‌السلام ، ولا ريب في تعيّن المعاني الشرعية ـ من الألفاظ التي هي محلّ النزاع ـ في زمن الأئمة عليهم‌السلام ، إذ انّه مع عدم التسليم بثبوت الحقيقة الشرعيّة فلا ريب في ثبوت الحقيقة المتشرعيّة في زمن الأئمّة عليهم‌السلام ، وذلك لكثرة تداول استعمال هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة دون المعاني اللغويّة.

وكيف كان فقد استدلّ صاحب الكفاية رحمه‌الله على ثبوت الحقيقة الشرعيّة بتبادر المعاني الشرعيّة من الفاظها ، وهو علامة الحقيقة ، إذ انّنا نجد انّ المنسبق عند اطلاق الشارع لهذه الألفاظ هو المعاني الشرعيّة ، وهذا ما يعبّر عن انّ استعمالها في المعاني الشرعيّة استعمال فيما وضعت له.

ويمكن تأييد هذه الدعوى بملاحظة اتّفاق عدم وجود علاقة وتناسب بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ، فلو كان هناك تناسب لأمكن أن يقال انّ المبرّر لانسباق وتبادر المعاني الشرعيّة من ألفاظها هو التناسب بين المعاني اللغويّة والمعاني الشرعيّة.

هذا ولم يستبعد السيد الخوئي رحمه‌الله ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل ادّعى الاطمئنان بثبوتها وانّ ذلك تمّ بواسطة الوضع التعيّني والذي ينشأ عن كثرة الاستعمال.

* * *

٢٩٨ ـ الحقيقة المتشرعيّة

والمقصود من الحقيقة المتشرعيّة هو انّ الألفاظ الخاصة المستعملة في المعاني المخترعة من قبل الشارع ألفاظ مستعملة في عصر الأئمة عليهم‌السلام في المعاني

٤٢

الشرعيّة بنحو الاستعمال الحقيقي.

فالفرق بين الحقيقة الشرعيّة والحقيقيّة المتشرعيّة هو ان دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة تعني انّ هذه الألفاظ وضعت بإزاء المعاني الشرعيّة في عصر النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا الحقيقة المتشرعيّة فهي عبارة عن ثبوت هذه الأوضاع في عصر الأئمّة عليهم‌السلام.

والظاهر انّه لم يقع اشكال في ثبوت الحقيقية المتشرعيّة ، فالمستشكل في ثبوت الحقائق الشرعيّة لا يستشكل في ثبوت الحقائق المتشرعيّة ، وذلك لأنّ كثرة تداول هذه الألفاظ واستعمالها في المعاني الشرعيّة في عصر المتشرعة صيّر منها حقائق في تلك المعاني.

* * *

٢٩٩ ـ الحكم الإنشائي

يطلق الحكم الإنشائي على معنيين :

المعنى الأوّل : هو الحكم الصادر بداعي الامتحان أو التخويف أو التعجيز ، أو قل هو الحكم الصادر لغير داعي البعث والزجر.

والحكم الإنشائي بهذا المعنى ليس حكما شرعيا حقيقة ، إذ انّ الحكم الشرعي هو ما يترتّب عليه الأثر الشرعي لو اتّفق بلوغه مرتبة الفعليّة.

المعنى الثاني : هو الحكم المجعول على موضوعه المقدّر الوجود ، وهو المعبّر عنه بالحكم بمرتبة الجعل ، وذلك في مقابل الحكم بمرتبة المجعول المعبّر عنه بالحكم الفعلي.

والحكم الإنشائي بهذا المعنى يكون بداعي ابراز الاعتبار الشرعي الموجب لترتّب أو ترتيب الأثر المناسب لنحو المعتبر ، إذ قد يكون المعتبر الشرعي حكما تكليفيّا وقد يكون حكما وضعيا ، واقتضاؤه لترتّب الأثر ليس تاما بل انّ ترتّب الأثر منوط بالإضافة الى أصل الجعل ببلوغ الحكم مرتبة الفعليّة ، وذلك بتحقّق الموضوع المقدّر الوجود خارجا.

٤٣

والحكم الإنشائي بهذا المعنى هو الذي ينشأ عن ملاك في متعلقه ، فحينما يقال : انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المقصود من الأحكام هو الأحكام الإنشائيّة ، وقد أوضحنا كلّ ذلك تحت عنواني « الجعل الشرعي » و « شرائط الجعل والمجعول ».

* * *

٣٠٠ ـ الحكم الأولي

المراد من الحكم الأولي هو ما يثبت لموضوعه ابتداء وبقطع النظر عمّا يطرأ على الموضوع من عوارض تقتضي تبدّل الحكم الأولي بنحو يتناسب مع العنوان الطارئ على الموضوع ، فأكل الميتة ـ وبقطع النظر عن الاضطرار الى أكلها ـ حرام ، كما انّ الطهارة المائيّة ـ وبقطع النظر عن الحرج والضرر ـ شرط في صحّة الصلاة ، كما انّ الزواج ـ وبقطع النظر عن خوف الوقوع في المعصية ـ مستحبّ ، وهكذا.

ولعلّ منشأ التعبير عن هذا النحو من الأحكام الواقعيّة بالحكم الاولي هو انّه يثبت لموضوعه أوّلا وبالذات ، ويكون ثبوت حكم آخر لذات الموضوع منوطا بعروض عنوان اضافي عليه. وبهذا يقع التمييز بين تبدل الحكم الاولي الى حكم ثانوي وبين تفاوت الاحكام بتفاوت موضوعاتها.

فإنّ الاول معناه ثبوت الحكم لموضوعه ابتداء وبقطع النظر عمّا يطرؤه من عناوين ومع طرو العنوان يتبدل الحكم الاولي الى حكم يتناسب مع العنوان الطارئ ، وهذا ما يعني انّ العلاقة بين الحكمين طوليّة.

وأمّا الثاني فليس كذلك ، إذ ليس بينهما طوليّة وانّما هي أحكام تتفاوت بتفاوت القيود والحيثيّات المقرّرة من قبل الشارع ، فهي أحكام واقعيّة أوليّة ثابتة لموضوعاتها ابتداء وفي عرض واحد ، وتباينها ناشئ عن تباين الحيثيّات والقيود الملحوظة حين جعل الحكم لموضوعه المقدّر الوجود.

فالعصير العنبي غير المغلي حلال

٤٤

والمغلي منه اذا لم يذهب ثلثاه حرام ، والميت المسلم يجب تجهيزه والصلاة عليه ، وأمّا الميت الكافر فلا يجب تجهيزه والصلاة عليه ، وهكذا.

* * *

٣٠١ ـ الحكم التكليفي

وهو الاعتبار الشرعي المتّصل بفعل المكلّف ابتداء ، كاعتبار الوجوب والحرمة على عهدة المكلّف ، فالوجوب يحرّك المكلّف ابتداء نحو متعلّقه ، كما انّ الحرمة تمنع المكلّف ـ وتحرمه من ارتكاب الفعل الواقع متعلقا لها ـ ابتداء.

والمتحصّل انّ كلّ اعتبار شرعي له توجيه مباشر للمكلّف فهو حكم تكليفي سواء كان ذلك الحكم إلزاميا كالوجوب والحرمة أو لم يكن إلزاميا كالاستحباب والكراهة والإباحة ، إذ انّها جميعا تشترك في انّها تتّصل بفعل المكلّف بخلاف الحكم الوضعي كما سيتّضح ذلك إن شاء الله تعالى.

نعم اطلاق عنوان التكليف على مثل « الإباحة » مجرّد اصطلاح ، لأنّ عنوان التكليف يستبطن معنى الكلفة والمشقّة ، وليس في الإباحة ما يقتضي ذلك ، إذ انّ المكلف في موردها مخير بين الفعل والترك ، بل قد يدعى ذلك في الاستحباب والكراهة أيضا إلاّ انّه قد ذكرنا تحت عنوان « التكليف » وجه المناسبة في اطلاق عنوان التكليف على المستحبّ والمكروه. والأمر سهل بعد ان كان ذلك مجرّد اصطلاح ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

هذا وقد ذكر للحكم التكليفي تعريفات اخرى أقربها لما ذكرناه هو ما ذكره بعض الأعلام من انّ الحكم التكليفي عبارة عن « الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء أو التخيير ».

والمقصود من الاقتضاء هو الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، إذ هي التي تقتضي الانبعاث أو الانزجار عن الفعل. والمقصود من التخيير هو الاباحة بالمعنى الأخصّ.

٤٥

على انّه يمكن أن يراد من التخيير ما يشمل الاستحباب والكراهة ، لأنّ المكلّف في سعة من جهة فعل أو ترك متعلّقهما.

* * *

٣٠٢ ـ الحكم الثانوي

وهو الحكم الواقعي الذي يثبت لموضوعه بسبب طروء بعض العوارض المقتضية لحمل هذا النحو من الحكم عليه ولو لا طروء هذه العوارض لكان الموضوع مقتضيا لحكم آخر هو المعبّر عنه بالحكم الاولي.

فأكل لحم الميتة بقطع النظر عن الطوارئ والعوارض يقتضي بنفسه ثبوت الحرمة له إلاّ انّه وبسبب طروء حالة الاضطرار لأكلها يتبدل الحكم الثابت لأكل الميتة الى حكم آخر يتناسب مع الحالة الطارئة ، هذا الحكم الذي ثبت للموضوع بسبب ما طرأ عليه من عنوان هو الذي يعبّر عنه بالحكم الثانوي.

وحتى يتميّز الحكم الثانوي عن الحكم الذي يثبت لموضوعه بشرط اكتنافه ببعض القيود نقول : انّ طبع القيود المعتبر تواجدها في ترتب الحكم الاولي على موضوعه تكون من سنخ الحيثيّات التقييديّة ، بمعنى انّ الحكم من أوّل الأمر ثابت لموضوعه المركّب منه ومن قيوده ، وهذا بخلاف ما يعتبر في ترتّب الحكم الثانوي على موضوعه فإنّ طبع القيود معه تكون من سنخ الحيثيّات التعليليّة ، بمعنى انّ الموضوع بنفسه يقتضي حكما خاصا إلاّ انّ العوارض تكون بمثابة المانع عن ان يؤثر مقتضي الحكم ـ وهو الموضوع ـ أثره ، كما انّها تكون بمثابة العلّة لعروض حكم آخر للموضوع لا يقتضيه نفس الموضوع.

ثمّ انّ في المقام أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ الحكم الثانوي لا يلزم أن يكون بنحو الرخصة والإباحة فقد يكون كذلك وقد لا يكون ، وذلك تابع لما يقتضيه العنوان الطارئ ، فقد يقتضي الإباحة وقد يقتضي الوجوب

٤٦

كما قد يقتضي الحرمة ، فالحكم الثانوي لا يساوق الحكم الاضطراري.

وبهذا التقسيم للحكم الواقعي تتجلّى المرونة في الشريعة الإسلاميّة وان عوامل الزمان والمكان والطوارئ غير المنتظرة لم تخلّ عن معالجة الشريعة لها إلاّ انّ ذلك لا يبرّر تحكّم الأهواء والرؤى الضيّقة بل لا بدّ من الجري على وفق الاطر والضوابط المقرّرة من قبل الشريعة والمستفادة من منابعها المعتبرة والتي هي القرآن الكريم والسنّة الشريفة وهدي أهل البيت عليهم‌السلام ، وأيّ فهم للإسلام لا يتّصل بهذه المنابع لا يصحّ اعتماده والتعويل عليه في مقام التعرّف على الحكم الشرعي.

على انّ الوصول للنتائج الشرعيّة من منابعها لا يتيسّر لكلّ أحد إلاّ أن يتوفّر على آليّة الدخول لمصادر التشريع بنحو تام ، وهذا ما يقتضي التمحض لهذه المهمّة كما هو شأن كلّ فن من فنون العلم ، وتشتد الحاجة لذلك في علم الشريعة ، وذلك لتشعّب مباحثة ودقّتها وافتقاره لعنصر لا يكون معتبرا في سائر العلوم وهو الإخلاص لله جلّ وعلا ومراقبته والتجافي عن الدنيا والرغبة في رضوان الله تعالى والخشية الدائمة من سخطه بل ومن معاتبته.

* * *

٣٠٣ ـ الحكم الشرعي

هو الاعتبار الشرعي المجعول من قبل المولى جلّ وعلى وهو يتناسب دائما مع ما يقتضيه الملاك في نفس الأمر والواقع.

فهو إذن نحو من الافعال الاختياريّة ، غايته انّه لا ينشأ جزافا بل ينشأ عن ملاكات ومبادئ تقتضي هذا النحو من الاعتبار.

وبهذا يتّضح انّ الحكم الشرعي ليس هو الإنشاء والخطاب كما انّه ليس من قبيل الإرادة والكراهة ولا هو من قبيل المصلحة والمفسدة ، إذ انّ الاول ليس أكثر من ابراز الاعتبار

٤٧

النفساني ، وواضح انّ الاعتبار قد يكون متقرّرا في نفس الأمر دون أن يكون مبرزا ، فالإنشاء ليس هو الحكم كما انّه ليس جزءه المقوم.

وأمّا الثاني فهو يمثّل مبادئ الحكم وعليه يكون الحكم متأخرا عنها ولو رتبة ، ودعوى انّ التعرّف على الملاك ـ لو اتّفق ـ يقتضي ثبوت العهدة على المكلّف ممّا يعبّر عن انّ الحكم ليس أكثر من الملاك التام ، غايته انّ معرفة الملاكات يتمّ غالبا بواسطة الشارع المقدّس.

هذه الدعوى لو تمّت فإنّها لا تعبّر عن انّ الملاك التامّ هو عينه الحكم الشرعي وانّما تعبّر عن انّ الملاك التام يكشف بطريق الإن عن وجود الاعتبار الشرعي وكيف كان فالحكم الشرعي ينقسم الى قسمين ، الأوّل يعبّر عنه بالحكم التكليفي ، والآخر يعبّر عنه بالحكم الوضعي ، وسيأتي ايضاح المراد منهما تحت عنوانيهما إن شاء الله تعالى.

* * *

٣٠٤ ـ الحكم الظاهري

وقد ذكر له اصطلاحان :

الأوّل : هو الحكم الذي اخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، وبهذا يتمحّض الحكم الظاهري في الاصول العمليّة ، إذ هي التي اعتبر في جريانها الشك في الحكم الواقعي ، فموضوع البراءة الشرعيّة مثلا هو الشك في التكليف المتوجّه للمكلّف واقعا تجاه هذه الواقعة أو تلك ، وهكذا سائر الاصول العمليّة فإنّها جميعا قد أخذ في موضوعاتها الشك في الحكم الواقعي.

الثاني : هو الحكم المجعول في ظرف الجهل بالحكم الواقعي بقطع النظر عن أخذ الجهل والشك في الحكم الواقعي موضوعا في الحكم أو عدم أخذه في موضوعه.

وبهذا تكون تمام الأحكام المستفادة بواسطة الأدلّة الاجتهاديّة والمستفادة بواسطة الأدلّة الفقاهتيّة أحكاما ظاهريّة ، وذلك لأنّ الاحكام

٤٨

المدلول عليها بالأدلّة الاجتهاديّة ، وان لم يؤخذ في موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي إلاّ انّها مجعولة في ظرف الشك في الحكم الواقعي ، بمعنى انّ مدلول الدليل الاجتهادي لا يصحّ اللجوء اليه والتعبّد به إلاّ في ظرف الجهل بالحكم الواقعي ، أمّا في ظرف العلم بالحكم الواقعي فإنّ الحكم المفاد بواسطة الدليل الاجتهادي ليس بحجّة.

والمتحصّل انّ الحكم الظاهري ـ بناء على هذا المعنى ـ هو كلّ حكم اخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي أو كان مورده الشك والجهل بالحكم الواقعي.

* * *

٣٠٥ ـ الحكم العدمي

قد يطلق الحكم العدمي ويراد منه الحكم الذي يكون متعلّقه أمرا عدميّا ، وذلك في مقابل الحكم الوجودي والذي يكون متعلّقه أمرا وجوديّا.

ومثال الأوّل الحكم بعدم الضمان والحكم بعدم اعتصام الماء القليل.

ومثال الثاني الحكم بحرمة شرب الخمر والحكم باعتصام الماء الكثير والحكم بوجوب الصلاة.

ولا إشكال في صحّة الجعل في القسم الثاني كما لا إشكال في صحّته في القسم الأوّل لأنّ مفاد الحكم العدمي بهذا المعنى هو اعتبار سلب الأثر المنتظر عن وجود الشيء ، فمعنى الحكم بعدم الضمان لما أتلفه المكلّف عن غير قصد مثلا هو اعتبار الاتلاف غير موجب للأثر المنتظر ( الضمان ) وهو أمر ممكن ، فكما أنّ لمن له حقّ الاعتبار أن يعتبر شيئا موجبا لأثر معيّن فإنّ له أن يعتبر شيئا غير موجب لأثر معيّن ، إذ أنّه إذا صحّ له اعتبار شيء أثرا لشيء صحّ له أن يعتبر عدم ترتّب الأثر المعيّن عن وجود شيء.

وقد يطلق الحكم العدمي ويراد منه عدم الحكم بمفاد ليس التامّة ، وذلك في مقابل إيجاد الحكم بمفاد كان التامّة ، فالفرق بين الحكم العدمي بالمعنى الأوّل والحكم العدمي بهذا

٤٩

المعنى أنّه في المعنى الأوّل مفاده الحكم بالعدم وأمّا في المعنى الثاني فمفاده عدم الحكم أي عدم جعل الحكم.

ويمكن أن نمثّل له بعدم جعل القصاص على المخطئ ، وبعدم جعل الزكاة على الفقير ، وبعدم جعل الخمس في الميراث ، وهكذا.

هذا وقد وقع الخلاف بين الأعلام في الأحكام العدميّة من جهة أنّها أحكام مجعولة أو لا ، فقد ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى أنّها ليست من الأحكام المجعولة ، وذلك لأنّ عدم الحكم ليس حكما مجعولا.

إلاّ أنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله يرى بأنّ الأحكام العدميّة بالمعنى الثاني يمكن أن تطالها يد الجعل وذلك لأنّ عدم الجعل في موضع قابل للجعل يساوق جعل العدم أي يساوق الحكم بجعل العدم ، فالأحكام العدميّة بالمعنى الثاني مآلها للأحكام العدميّة بالمعنى الأوّل.

فحينما لا يجعل المولى القصاص على المخطئ ـ رغم قابليّة ذلك للجعل ـ فإنّ ذلك معناه جعل عدم القصاص وهكذا حينما لا يجعل الخمس في الميراث فإنّ معنى ذلك هو جعل عدم الخمس في الميراث.

* * *

٣٠٦ ـ الحكم المقابل للفتوى

المراد من الفتوى هي بيان الفقيه للحكم الكلّي بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بحيث يكون الفقيه معها متصدّيا لتعيين الحكم المجعول من قبل الشريعة على موضوعه ومتعلّقه دون أن يكون له نظر الى موارد تطبيقه ، فيكون تحديد موارد التطبيق من شئون المقلّد لا من شئون المفتي.

وعليه لو اختلف في مورد وانّه من موارد تطبيق الفتوى أولا فإنّ المتعيّن هو نظر المقلّد لا نظر المفتي.

وأمّا الحكم المقابل للفتوى فهو بمعنى تصدّي الفقيه لإنشاء حكم جزئي في واقعة شخصيّة ، على أن تكون تلك الواقعة من سنخ أحد امور ثلاثة :

٥٠

الاول : أن تكون من قبيل الخصومات والمنازعات الشخصيّة.

الثاني : أن لا تكون موردا للخصومات الشخصيّة إلاّ انّها عادة ما تكون موردا لاشتباه الناس وحيرتهم ، وذلك لصعوبة تشخيص تلك الواقعة من حيث الثبوت وعدمه وان كان الحكم الكلّي المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة مشخصا وواضحا.

ومثال هذا النحو من الوقائع الشخصيّة هو ثبوت الهلال أو انّ الخطر المحدق بالمسلمين من سنخ الاخطار المهدّدة لبيضة الإسلام.

الثالث : أن تكون من الوقائع التي جعل الشارع صلاحيّة البتّ فيها بيد الحاكم الشرعي ، كتحديد نوع التعزير وكمّيّته في بعض الموارد.

ففي هذا النحو من الوقائع اذا تصدّى الفقيه لتشخيص الموضوع وجعل الحكم ـ المناسب بنظره ـ عليه يكون هذا الحكم جزئيا أي مختصا بالواقعة التي تمّ تشخيصها من قبله ، فيكون أشبه بالحكم في القضايا الخارجيّة لا يمكن التعدّي منها الى ما يماثلها.

ويعبّر عن الحكم الجزئي إذا كان موضوعه من قبيل الخصومات والمنازعات الشخصيّة بالقضاء وفصل الخصومة. كما يعبّر عن الحكم إذا كان موضوعه من قبيل الوقائع التي جعل الشارع صلاحيّة البتّ فيها بيد الحاكم الشرعي يعبّر عنه بالحكم الابتدائي.

وأمّا إذا كان الموضوع من قبيل القسم الثاني من الوقائع فإنّ الفقيه في موردها لا يكون له عادة سوى دور البتّ في ثبوت الموضوع أو انتفائه ، ومعه يترتّب الحكم الكلّي الثابت ، فالحكم بثبوت الهلال ليس حكما شرعيّا جزئيا أو كليّا وإنّما هو حكم بثبوت موضوع خارجي يترتّب على ثبوته مجموعة من الأحكام الكليّة.

وهذا بخلاف الحكم في القسم الأوّل والثالث ، فإنّ القاضي في القسم الاول يحكم بأن حق الميراث شرعا لزيد دون عمرو وانّ هذه الزوجة والتي هي ذات ولد ترث من العقار ،

٥١

وهكذا في القسم الثالث فإن الحاكم الشرعي يحكم بأنّ هذا العاصي يستحقّ هذا النوع من التعزير.

ثمّ انّه لا ريب في نفوذ حكم القاضي على المتخاصمين حتى وان كان حكمه يتنافى مع فتوى من حكم عليه ، كما انّ المشهور هو نفوذ حكم الحاكم في القسم الثاني حتى على غير مقلديه ، إذا لم يعلم خطأ مدركه الذي اعتمد عليه ، وأمّا القسم الثالث فهو منوط بتحرير سعة الولاية المجعولة من قبل الشارع للفقيه.

* * *

٣٠٧ ـ الحكم الواقعي

وقد ذكر للحكم الواقعي معنيان :

المعنى الأوّل : هو انّه عبارة عن الحكم الشرعي المجعول على موضوعه ابتداء ، بمعنى عدم افتراض الشك في حكم آخر للموضوع ، كما انّ الشك لم يؤخذ جزء لموضوع الحكم.

فبالقيد الأوّل تخرج الأحكام المستفادة بواسطة الأمارات ، إذ انّ الحكم المستفاد منها قد افترض في مورده الشك في الحكم الواقعي ، وبالقيد الثاني تخرج الاصول العمليّة ، لأنّه قد اخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي.

وبهذا يتّضح انّ الحكم الواقعي هو عبارة عن الحكم الثابت لموضوعه في نفس الأمر والواقع دون أن يكون للشك في حكم آخر للموضوع أي نحو من أنحاء الدخل في ثبوت الحكم لموضوعه بل انّ الموضوع بنفسه لما كان واجدا للملاك التام المتناسب مع الحكم اقتضى ذلك ان يعتبر الشارع الحكم على الموضوع.

فالمولى مثلا حينما يلحظ فعلا من أفعال المكلّفين مشتملا على مصلحة تامّة فإنّه يجعل له الوجوب باعتبار انّ ذلك الفعل مشتمل على تلك المصلحة التامّة ، وليس هناك واسطة لثبوت الحكم لموضوعه غير أهلية ذلك الموضوع لأن يجعل عليه الوجوب.

المعنى الثاني : هو عبارة عن الحكم الشرعي الذي لم يؤخذ في

٥٢

موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، فكلّ حكم ثبت لموضوعه دون أن يكون الشك في الحكم الواقعي جزء لذلك الموضوع فهو حكم واقعي ، سواء افترض في مورده الشك كما في الاحكام المستفادة بواسطة الأمارات أو لم يفترض كما في الاحكام المستفادة بواسطة الأدلّة القطعيّة.

وبهذا تخرج الاصول العمليّة ، لأنّها جميعا قد اخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي ، فالبراءة مثلا موضوعها الجهل بالحكم الواقعي.

وقد ذكر بيان آخر للمعنى الثاني وهو انّه كلّما كان الحكم ثابتا بواسطة الدليل القطعي أو الدليل الاجتهادي فهو حكم واقعي إلاّ انّ ما ذكرناه أدقّ من هذا البيان.

* * *

٣٠٨ ـ الحكم الوضعي

قلنا انّ الحكم الشرعي اعتبار مولوي يتناسب مع ما يقتضيه الملاك في نفس الأمر والواقع ، وانّه ينقسم الى حكم تكليفي وحكم وضعي ، أمّا الحكم التكليفي فهو ما يتّصل بأفعال المكلّفين مباشرة وابتداء على وجه الاقتضاء أو التخيير.

ومنه يتّضح المراد من الحكم الوضعي ، فكلّ حكم لا يتّصل بأفعال المكلّفين ابتداء فهو حكم وضعي ، إذن فالحكم الوضعي لا يختلف عن الحكم التكليفي من جهة انّه اعتبار شرعي يتناسب مع ما يقتضيه الملاك في نفس الأمر والواقع وانّما يختلف عنه من جهة عدم اتّصاله بأفعال المكلّفين ابتداء على وجه الاقتضاء أو التخيير.

فكلّ اعتبار شرعي ليس من سنخ الأحكام التكليفيّة فهو حكم وضعي ، وذلك من قبيل الصّحة والفساد والجزئيّة والشرطيّة والزوجيّة والملكيّة والطهارة.

وهذا المقدار لا إشكال فيه وإنّما الإشكال من جهة انّ الحكم الوضعي مجعول بنحو الاستقلال كما هو الحال في جعل الوجوب والحرمة أو انّه منتزع من الحكم التكليفي أو انّ

٥٣

الصحيح هو التفصيل ، أي انّ بعض الأحكام الوضعيّة مجعول استقلالا وبعضها منتزع عن الأحكام التكليفيّة. وهناك مبنى آخر تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله.

ونكتفي في المقام بتصوير المباني الأربعة :

المبنى الاوّل : ولعلّه المبنى المشهور كما يظهر من عبائر الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، وحاصله : انّ المشرع لاحظ حكما لا يتّصل بفعل المكلّف بنحو الاقتضاء أو التخيير وقدّر لهذا الحكم موضوعا ثمّ جعل ذلك الحكم وبنحو الاستقلال على موضوعه المقدّر ، فلم يكن ذلك الحكم منتزعا عن حكم تكليفي.

فلو كانت جميع الأحكام الوضعيّة مجعولة بهذا النحو من الجعل لكان ذلك مصحّحا لدعوى انّ الأحكام الوضعيّة كالأحكام التكليفيّة من جهة انّ جعلها تم بواسطة الشارع ابتداء واستقلالا ، بمعنى انّ الشارع لاحظ الحكم الوضعي وما يترتّب عليه من آثار ثمّ جعله ابتداء على موضوعه المقدّر الوجود كما هو الشأن في جعل الأحكام التكليفيّة على موضوعاتها المقدّرة الوجود.

فالزوجيّة مثلا من المعتبرات الشرعيّة الوضعيّة التي تمّ جعلها بواسطة الشارع استقلالا ، بمعنى انّ الشارع جعل الزوجيّة عند اتّفاق تحقّق موضوعها خارجا ، فهي وان كانت مستلزمة شرعا لمجموعة من الآثار والأحكام التكليفيّة إلاّ انّ الملحوظ أولا وبالذات هو الزوجيّة ، والاعتبار انّما انصبّ عليها ابتداء ، وترتب الآثار والأحكام التكليفيّة عليها انّما هو من باب ترتب الأحكام على موضوعاتها ، فالزوجيّة بعد جعلها واعتبارها تصبح موضوعا لمجموعة من الآثار والأحكام ، فالزوجيّة إذن ليست بمعنى وجوب التمكين على الزوجة ووجوب النفقة على الزوج بل انّ الزوجيّة تعني جعل العلقة الخاصة من قبل الشارع استقلالا عند ما يتّفق تحقّق موضوعها

٥٤

خارجا. ووجوب التمكين مثلا انّما هو من آثار الزوجيّة المجعولة ابتداء.

وهكذا الكلام في الملكيّة مثلا فإنّها ليست بمعنى جواز التصرّف في المال وحرمة تصرّف الغير دون إذن المالك ، بل انّ الملكيّة تعني جعل العلقة الخاصّة بين المالك والمملوك والمعبّر عنها بالسلطنة. فهذه السلطنة مجعولة ابتداء من قبل الشارع متى ما اتّفق تحقّق موضوعها خارجا ، وجواز تصرّف المالك في ملكه وحرمة تصرّف غير المالك بغير إذنه انّما هي من آثار السلطنة المجعولة شرعا بنحو الاستقلال. وبهذا تتّضح الدعوى في سائر الاحكام الوضعيّة.

المبنى الثاني : وهو انّ الأحكام الوضعيّة منتزعة عن الأحكام التكليفيّة ، وحاصل المراد منه هو انّ الأحكام الوضعيّة مجعولة تبعا لجعل الأحكام التكليفيّة فاعتبارها من الأحكام الشرعيّة انّما هو لأجل انّ منشأ انتزاعها هو الأحكام التكليفيّة والتي هي أحكام شرعيّة.

وقد تنقح في محلّه انّ الامور الانتزاعيّة قد يكون منشأ انتزاعها امورا خارجيّة ، وقد يكون المنشأ لانتزاعها امورا اعتباريّة ـ وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الاعتبار » ـ والدعوى انّ الأحكام الوضعيّة من الامور الانتزاعيّة وانّ منشأ انتزاعها امور اعتباريّة والتي هي الجعولات الشرعية أي الأحكام التكليفيّة ، فليس ثمّة شيء مجعول من قبل الشارع بنحو الاستقلال سوى الأحكام التكليفيّة ، أمّا الأحكام الوضعيّة فهي مجعولة تبعا لجعل منشأ انتزاعها وهو الأحكام التكليفيّة.

ومعنى انّها منتزعة هو انّه ليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار والذي هو وعاء المعتبرات ، فوجودها الاعتباري متمحّض في منشأ انتزاعها والتي هي الاحكام التكليفيّة. فالزوجيّة مثلا ليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار وانّما هي حكم وضعي منتزع عن مجموعة من الأحكام التكليفيّة ، مثل جواز الاستمتاع ووجوب

٥٥

النفقة ، فالمعتبر أولا وبالذات هو جواز الاستمتاع ووجوب النفقة ، وأمّا الزوجيّة فهي عنوان منتزع عن هذين الحكمين ، وليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار ، فهي كعنوان الأكبر المنتزع من ملاحظة الشمس بالإضافة للقمر واللذين هما من الوجودات الخارجيّة المتأصّلة ، فالأكبريّة ليس لها ما بإزاء في الخارج ـ والذي هو وعاء الوجودات المتأصّلة ـ وكذلك الزوجيّة ليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار والذي هو وعاء المعتبرات الشرعيّة.

المبنى الثالث : والذي هو التفصيل بين الأحكام الوضعيّة ، فبعضها من قبيل الامور الانتزاعيّة والبعض الآخر مجعول بنحو الاستقلال ، فالزوجيّة والملكيّة مثلا من سنخ الأحكام الوضعيّة المجعولة بنحو الاستقلال بالتقريب المذكور في المبنى الاول. وأمّا الشرطيّة والمانعيّة مثلا فهما من سنخ الأحكام الوضعيّة المنتزعة عن الأحكام التكليفيّة.

وتقريب ذلك : انّ الشارع إذا اعتبر شيئا في موضوع التكليف أو اعتبر عدم شيء في موضوع التكليف فإنّ العقل ينتزع عن الاعتبار الاوّل الشرطيّة ، أي انّ فعليّة التكليف منوطة بتوفّر الموضوع على ذلك الشيء ، كما ينتزع العقل عن الثاني المانعيّة أي انّ فعليّة التكليف منتفية إذا كان موضوعه مشتملا على ما اعتبر عدمه في موضوعه ، فلو قال المولى « إذا بلغ الإنسان وجبت عليه الصلاة » فإنّ العقل ينتزع عن ذلك شرطيّة البلوغ ، ولو قال : « ليس على الحائض صلاة » فإنّ العقل ينتزع عن ذلك مانعيّة حدث الحيث لفعليّة التكليف بالصلاة.

كما انّ الشرطيّة والمانعيّة قد تنتزعان عن المكلّف به والذي هو متعلّق التكليف ، فحينما يعتبر الشارع وجود شيء في متعلّق التكليف فإنّ العقل ينتزع عن ذلك شرطيّة وجود ذلك الشيء في متعلّق التكليف كما انّه لو اعتبر عدم شيء في متعلّق التكليف

٥٦

فإنّه ينتزع عن ذلك مانعيّة وجود ذلك الشيء في متعلّق التكليف.

فحينما يقول المولى : « صلّ عن طهارة » انتزع عن ذلك شرطيّة الطهارة في الصلاة والتي هي متعلّق الأمر بالصلاة ، ولو قال : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » انتزع عن ذلك مانعيّة اللباس ـ المتّخذ من غير مأكول اللحم ـ لمتعلّق التكليف.

المبنى الرابع : وهو التفصيل الذي ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وحاصله : انّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما لا تنالها يد الجعل لا استقلالا ولا تبعا.

القسم الثاني : ما لا يمكن جعلها إلاّ بواسطة جعل منشأ انتزاعها.

القسم الثالث : ما يمكن جعلها استقلالا كما يمكن جعلها بواسطة جعل منشأ انتزاعها.

أمّا القسم الثاني والقسم الثالث فقد اتّضح المراد منهما ممّا تقدّم ، وأمّا القسم الاوّل وهو الحكم الوضعي الذي يستحيل جعله واعتباره مطلقا ـ أي سواء كان بنحو الجعل الاستقلالي أو التبعي ـ فهو كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة ، فإنّ مثل هذه الأحكام منتزعة عن الخصوصيّة التكوينيّة الذاتيّة الناشئة عن مقام ذات السبب أو الشرط أو المانع.

فهذه الخصوصيّة هي الموجبة واقعا للربط بين السبب مثلا ومسبّبه ، ولو لا هذه الخصوصيّة لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء ، وهو ما لا يمكن الالتزام به لوضوح فساده ، فكما انّ تأثير النار للحرارة ناشئ عن الخصوصيّة الذاتيّة القائمة بذات النار وانّه يستحيل جعل هذه الخصوصيّة واعتبارها ، إذ انّ اعتبار نفس الخصوصيّة الواقعيّة يكون من تحصيل الحاصل ، واعتبار غيرها لا يوجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه وإلاّ لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء بواسطة الاعتبار.

وهذا ما يعبّر عن انّ سببيّة دلوك الشمس مثلا لوجوب الصلاة ومانعيّة الحيض عن وجوب الصلاة ممّا لا يمكن جعله واعتباره ، بل انّ سببيّة

٥٧

دلوك الشمس لوجوب الصلاة ناشئ عن الخصوصيّة التكوينيّة القائمة بذات الدلوك ، فالربط بينهما واقعي ناشئ عن مقام ذات السبب وإلاّ لزم تحصيل الحاصل أو انقلاب الشيء عمّا هو عليه واقعا وهذا ما يقتضي امكان ان يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء.

وهكذا الكلام في مانعيّة الحيض لوجوب الصلاة ، فإنّ هذه المانعيّة منتزعة عن مقام الذات للحيض ، فكما انّ ذات الرطوبة مانع عن تأثير النار للإحراق فكذلك يكون الحيض مانعا عن تأثير الدلوك مثلا لوجوب الصلاة.

وبهذا البيان تتّضح استحالة الجعل الاستقلالي لمثل السببيّة والمانعيّة ، وأمّا استحالة الجعل التبعي فلأنّ الجعل التبعي ـ كما أفاد الشيخ الأنصاري رحمه‌الله عبارة عن انتزاع السببيّة ـ مثلا ـ من التكليف الذي اخذ في موضوعه أمر من الامور ، وهذا ما يقتضي تأخّر السببيّة عن التكليف تأخر الامر الانتزاعي عن منشأ انتزاعه ، فلو كان التكليف هو منشأ انتزاع السببيّة فإنّ هذا معناه تأخر سبب التكليف عن التكليف وهو مستحيل لاستحالة تأخّر السبب عن مسبّبه ، وهذا بخلاف ما لو قلنا انّ السببيّة منتزعة عن سبب التكليف والذي هو السبب الواقعي المقتضي بذاته التأثير للتكليف فإنّ محذور تأخّر ما هو متقدّم واقعا لا يأتي ، إذ انّ السببيّة ـ بناء على هذه الدعوى ـ يكون منشأ انتزاعها هو السبب الذي هو متقدّم واقعا.

وبهذا البيان تتّضح استحالة جعل مثل السببيّة سواء بنحو الجعل الاستقلالي أو بنحو الجعل التبعي.

وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله بأنّه خلط بين الجعل والمجعول ، وانّ مثل سببيّة الدلوك لوجوب الصلاة انّما هي سببيّة في مرحلة المجعول ، أي انّ الدلوك سبب لفعليّة التكليف لا أنّه سبب لأصل جعله والذي يرتبط بالمصالح والمفاسد الواقعيّة. وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٥٨

٣٠٩ ـ الحكومة

قسم السيّد الخوئي رحمه‌الله الحكومة الى قسمين ، وجعل لكلّ واحد منهما ضابطا مستقلا ، فجعل ضابط الحكومة في القسم الأوّل هو نظر الدليل الحاكم للدليل المحكوم لغرض شرحه وتفسيره ، وضابط القسم الثاني : هو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر حتّى لو لم يكن في الدليل الرافع ما يدلّ على انّه في مقام الشرح والتفسير للدليل الآخر.

وكأنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله بهذا التقسيم للحكومة يرى أنّه لا ضابط مشترك لقسمي الحكومة. وأمّا السيّد الصدر رحمه‌الله فقد ادّعى انّ الحكومة بتمام أقسامها متقوّمة بالنظر أي بنظر أحد الدليلين للآخر بنحو يكون الدليل الناظر مشتملا على قرينة خاصّة تعبّر عن انّ المتكلّم في مقام الشرح والتفسير وبيان المراد الجدّي والنهائي ، غايته انّ القرينة الخاصّة المعبّرة عن النظر تكون بأساليب متعدّدة ، فقد تكون بلسان التفسير والشرح ، وقد تكون بلسان التنزيل ، كما قد تكون قرينة النظر من نحو مناسبات الحكم والموضوع ، وقد تأتي بأساليب اخرى.

ومن هنا يتّضح الفرق بين الحكومة وبين سائر الجموع العرفيّة الاخرى ، فالحكومة لا تتمّ إلاّ بواسطة تصدّي المتكلّم نفسه للتعبير عن انّه في مقام الشرح والتفسير لكلامه الاول ، بمعنى انّه القرينة على الحكومة تكون قرينة شخصيّة تتمّ باعداد شخصي من المتكلّم بحيث لو لم يتصدّ هو بنفسه لاعداد هذه القرينة وابرازها لما كان لغيره ان يستعملها لغرض الكشف عن مراد المتكلّم ، وهذا بخلاف الجموع الاخرى والتي تكون بواسطة القرائن النوعيّة ، فإنّه يمكن للغير أن يجمع بين كلامي المتكلّم ويناسب بينهما ثمّ يخرج بنتيجة هي مراد المتكلّم جدا.

وبتعبير آخر : انّ التعرّف على المراد الجدّي للمتكلّم بواسطة القرائن

٥٩

النوعيّة يكون بملاك انّ المتكلّم يجري في محاوراته وخطاباته على وفق ما تقتضيه الضوابط العرفيّة المعتمدة عند أهل المحاورة ، وهذا هو الذي يصحّح حمل كلامه على معنى معيّن باعتبار انّ هذا المعنى هو المتناسب مع الفهم العرفي لهذا النحو من الكلام وان لم يكن المتكلّم قد تصدّى للجمع بين كلاميه بنحو يتحصّل عنه المعنى الذي فهمه العرف إلاّ انّه وباعتبار أصالة متابعة كلّ متكلّم لما عليه أهل المحاورة في مقام أداء مراداتهم يحصل الاطمئنان بأن مراده الجدي هو ما تحصّل عن الجمع بين كلاميه.

وأمّا قرينة النظر والمعبّر عنها بالقرينة الشخصيّة فهي لا تكون إلاّ من المتكلّم نفسه ، بمعنى انّه لو لم يتصدّ للكشف عن انّه في مقام النظر والشرح لكلامه الاوّل لما كان من وسيلة للتعرّف على ذلك.

مثلا : عند ما يقول المتكلّم « أكرم العلماء » ثمّ يقول في مجلس آخر « لا تكرم العالم الفاسق » فإنّ العرف يجمعون بين الكلامين وينتهون بنتيجة هي انّ الذي يجب اكرامه هم العلماء العدول دون الفسّاق رغم انّ المتكلّم لم يتصدّ شخصيا لبيان مراده النهائي من الكلامين ، نعم هو قد أعدّ الكلامين بنحو يفهم معه العرف انّ مراده النهائي هو ما ينتج عن هذا الجمع.

وأمّا لو قال المتكلّم : « أكرم العلماء » ثمّ قال « أعني العدول منهم » فإنّ المتكلّم في المثال لم يتّكل في بيان مراده الجدّي والنهائي على القرائن النوعيّة وانّما تصدّى شخصيا للتعبير على انّه في مقام النظر للدليل الآخر لغرض شرحه وتفسيره ، وواضح انّ قرينة النظر لا تكون إلاّ من المتكلّم نفسه ، وهذا هو مبرّر التعبير عنها بالقرينة الشخصيّة أو بالإعداد الشخصي.

وبما ذكرناه يتّضح انّ ملاك تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو عينه ملاك التقديم في سائر الجموع العرفيّة ، وهو انّ المتكلّم اذا كان بصدد إعداد ما يعبّر عن تحديد مراده الجدّي

٦٠