المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

بمستوى يصحّح صدق السيرة العقلائيّة عليه فإنّه يصلح للكشف عن الحكم الشرعي إذا أمكن اثبات معاصرة هذا التعارف لزمن المعصوم عليه‌السلام وكان بمرأى منه ومسمع ولم يكن ثمّة مانع عن الردع لو كان منافيا للشارع ، على انّه لا بدّ من افتراضه سنخ تعارف لو كان واقعا منافيا لما عليه الشارع لكان مهددا لأغراضه ، كما لو كان التعارف جاريا على فعل شيء وافترض بناء الشارع على حرمته.

إذا تمّت هذه المقدّمات أمكن القول بأنّ الشارع لم يردع عن هذا التعارف ، وبعدم ردعه نستكشف الإمضاء.

ومن هنا يتّضح انّ الاعراف التي انخلقت بعد زمن المعصوم عليه‌السلام لا تصلح للكشف عن الحكم الشرعي كما انّ الاعراف لو كانت من قبيل الالتزام بفعل فإنّ ذلك لا يعبّر عن بناء الشارع على وجوبه لاحتمال انّ الشارع يبنى على راجحيّته أو اباحته ، فعدم ردعه عن هذا التعارف لا يهدّد أغراضه ، نعم يمكن استكشاف عدم حرمة هذا الفعل الذي تعارف العقلاء على الالتزام به بواسطة عدم ردع الشارع عنه إذا تمّت بقيّة المقدّمات.

أما لو لم يكن التعارف بمستوى السيرة العقلائيّة فكاشفيّته عن الحكم الشرعي منوطة أيضا باحراز امضاء الشارع لهذا التعارف ، وكيف كان فالتعارف بأي شكل افترض لا يكون مصدرا من مصادر التشريع بل تكون دليليته على الحكم الشرعي راجعة لكشفه عن تقرير الشارع وامضائه.

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « السيرة العقلائيّة ».

الأمر الثاني : وهو صلاحيّة العرف لتحديد موضوعات الأحكام ، بمعنى انّ الشارع هل جعل العرف مرجعا لتشخيص موضوعات الأحكام ومرجعا للتعرف على تحقّق الموضوعات خارجا أو انّ الشارع لم يجعل للعرف هذه الصلاحيّة؟

فهنا جهتان :

أمّا الجهة الاولى : وهو البحث عن

٣٢١

مرجعيّته لتشخيص الموضوعات ، فنقول : انّ الشارع تارة يجعل الأحكام على موضوعات مخترعة ، واخرى يجعلها على موضوعات عرفيّة إلاّ انّ الشارع تصدى لبيان حدودها بنفسه ، وثالثة يجعل الحكم على موضوع عرفي دون ان يتصدى لبيان حدوده.

أمّا الأوّل : وهو ما لو كانت موضوعات الأحكام مخترعة من الشارع مثل كيفيّة الصلاة والوضوء والتيمّم فلا ريب في هذا الفرض انّ المرجع لتشخيص موضوعات الأحكام هو الشارع نفسه ، إذ من غير المعقول ان يخترع الشارع موضوعا ثمّ يحيل تشخيصه للعرف أو غيره ، فلا سبيل إذن للتعرف على مثل هذه الموضوعات إلاّ مراجعة الشارع ، وهذا واضح.

وأمّا الثاني : وهو ما لو كانت موضوعات الأحكام عرفيّة ، بمعنى انّ للعرف مفاهيم محدّدة لهذه الموضوعات إلاّ انّ الشارع تصدى بنفسه لبيان حدودها ، وذلك مثل مفهوم الحيض والسفر والاستطاعة.

وفي مثل هذا الفرض لا مرجعيّة للعرف أيضا في تشخيص موضوعات الأحكام بعد أن تصدى الشارع لتشخيصها وبيان حدودها ، إذ انّ نفس تصدي الشارع لذلك إلغاء لمرجعيّة العرف وانّ المفاهيم التي هي محدّدة عند العرف على سعتها أو ضيقها ليست هي موضوعات الأحكام ، نعم لو كان تصدي الشارع لتشخيص الموضوع انّما هو بنحو إضافة بعض القيود على الموضوع العرفي أو إلغاء بعض القيود فإنّ ذلك لا يلغي مرجعيّة العرف في المقدار الذي لم يتصد الشارع لتهذيبه لو استظهرنا من الأدلّة انّه ليس للشارع مفهوما مباينا للمفهوم العرفي ، غايته انّه لم يجعل الحكم على الموضوع العرفي على سعته أو ضيقه ، ففي مثل هذا الفرض يكون المرجع في تشخيص الموضوع هو العرف إلاّ في المقدار الذي تصدّى الشارع لبيانه وتهذيبه إمّا بالغاء بعض القيود أو الإجزاء أو باضافة قيود

٣٢٢

ليست دخيلة بحسب المتفاهم العرفي.

وأمّا الثالث : وهو ما لو كانت موضوعات الأحكام عرفيّة ولم يتصد الشارع لتشخيصها وبيان حدودها ، وهنا لا ريب في مرجعيّة العرف في تشخيص موضوعات الأحكام ، إذ انّ ذلك هو المستظهر من عدم تصدي الشارع لتشخيص الموضوعات ، إذ لا معنى لأن يجعل الشارع حكما على موضوع له مفهوم محدّد عند العرف ويكون الشارع مريدا لمفهوم آخر غير ما يفهمه العرف ومع ذلك لا يتصدى لبيانه رغم انّ الخطاب الذي جعل فيه الحكم على موضوعه كان ملقى لغرض ترتيب الأثر عليه والتحرك عنه ، وذلك ما يعبّر عن انّ موضوع الحكم الشرعي انّما هو ذلك المفهوم المحدّد لدى العرف.

وأما الجهة الثانية : وهي مرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع خارجا ، وهي تختلف عن الجهة الاولى من حيث انّه حتى لو لم نقل بمرجعيّة العرف في تشخيص مفاهيم الموضوعات فإنّ من الممكن القول بمرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع الشرعي خارجا ، فلو افترضنا انّ الشارع هو الذي حدّد مفهوم الفقير وانّه الذي لا يملك قوت سنته فإنّ من الممكن ان يحيل المكلفين الى العرف للتحقّق من انّ زيدا يملك قوت سنته أو لا يملك ، وهذا هو معنى مرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع الشرعي خارجا.

وكيف كان فلا ريب في انّ للعرف هذه الصلاحيّة ، وذلك بعد ان كانت الاحكام الشرعيّة مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، أي مجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود ، فإنّ ذلك يعطي انّ الشارع ليس بصدد التحقّق من وجود موضوعات الأحكام خارجا أو عدم وجودها ، إذ انّ ذلك انّما هو شأن القضايا الخارجيّة ، وعليه يكون التحقّق من وجود الموضوع أو عدم وجوده انّما هو من وظيفة المكلّفين ، ومن الواضح ان لا سبيل للمكلّف لإحراز تحقّق

٣٢٣

الموضوع خارجا أو عدم تحقّقه إلاّ الرجوع الى العرف ، إذ انّه الوسيلة العقلائيّة للتحقّق من ذلك ، ولمّا لم يخترع الشارع وسيلة اخرى لإحراز موضوعاته فإنّ ذلك يعبّر عن امضائه لهذه الوسيلة العقلائيّة راجع عنوان « السيرة العقلائيّة » القسم الثالث والرابع.

ثم انّ الملاحظ انّ اثبات تحقّق الموضوع او نفيه عند العرف يختلف باختلاف المجتمعات والازمنة والحالات ، فهل انّ ذلك مانع عن الرجوع الى العرف في التحقّق من وجود موضوع الحكم أو عدم وجوده؟

الظاهر انّ ذلك لا يمنع عن الرجوع اليه ، إذ انّ هذا الاختلاف لا يعبّر عن التباين في ضابطة التحقّق من وجود الموضوع عند العرف.

فمثلا : لو كان الفقير بحسب نظر الشريعة هو من لا ملك مئونة سنته له ولعياله فإنّ ضابطة تحقّق هذا الموضوع خارجا بنظر العرف لا تختلف باختلاف الظروف والمجتمعات ، إذ انّ غاية ما تقتضيه الظروف والمتغيرات هو تبدل مصاديق الموضوع ذي المفهوم المحدّد والمطرد ، فالمؤنة التي كان يملكها الشخص كانت تكفيه لسنة كاملة ، وذلك لقلّة عياله أو لعدم طرو ما يوجب النفقة الزائدة إلاّ انّه لو اتّفق ما يوجب النفقة الزائدة كما لو طرأ عليه أو على أحد عياله مرض أو اتّفق ارتفاع قيم الأجناس فأصبحت النقود التي بحوزته قاصرة عن استيعاب مئونته ومئونة عياله في حين انّ مقدارها في العام السابق كاف لتغطية مئونته ومئونة عياله ، وهكذا حينما يختلف المجتمع أو تكثر الحاجات والضرورات.

وهذا المعنى مطرد في تمام الموارد التي يتوهم اختلاف الضوابط العرفيّة فيما هو المحقّق لوجود الموضوع وعدم وجوده فإنّ الواقع انّ الضوابط لا تختلف وانّ الذي يختلف هو مصاديق الموضوعات ، فإنّ الشيء الواحد قد

٣٢٤

يكون مصداقا للموضوع في زمن ولا يكون مصداقا له في زمن آخر أو في مجتمع آخر أو في حالة اخرى.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر وهو لباس الشهرة فإنّ له معنى منضبطا عرفا وانّ تحققه خارجا معناه انطباق ذلك الضابط العرفي على لباس معين ، وهذا المقدار لا يختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة ، والاختلاف انّما ينشأ من جهة اختلاف الظروف الموضوعيّة من مجتمع لآخر ، وهذه الظروف هي التي تستوجب الاستيحاش من لباس معين واستهجان لبسه ، فيكون بذلك من لباس الشهرة في حين انّ هذا اللباس نفسه قد يكون مألوفا في مجتمع آخر نتيجة ظروفه الموضوعيّة المختصّة به ، وهذا ما يستوجب انتفاء أن يكون هذا اللباس مصداقا للباس الشهرة في ذلك المجتمع.

وبهذا يتّضح انّ منشأ الاختلاف في حكم العرف بتحقّق الموضوع وعدم تحقّقه انّما ينشأ عن انّ الأفراد الخارجيّة قد تكون منطبقا لمفهوم موضوع الحكم الشرعي وقد لا تكون منطبقا لذلك المفهوم بسبب انتفاء الخصوصيّات المأخوذة في المفهوم عن ذلك الفرد ، وانتفاء الخصوصيات أو وجودها يخضع في كثير من الأحيان للظروف الموضوعيّة ، وهذا هو السرّ في اختلاف حكم العرف بتحقّق الموضوع أو عدم تحقّقه. وقد ذكرنا ما يتّصل بالمقام في بحث « السيرة العقلائيّة ».

وأمّا الأمر الثالث : وهو مرجعيّة العرف لتحديد المراد من الخطابات الشرعيّة فلا ريب في ثبوت هذا الدور للعرف ، إذ هو الوسيلة العقلائيّة المتّبعة في مقام التعرّف على مرادات المتكلّمين ، وقد أمضى الشارع هذه الوسيلة ، وبذلك تثبت دليليتها وكاشفيتها عن مرادات الشارع من خطاباته ، وأمّا ما هو الدليل على امضاء الشارع لذلك وما هو حدود ذلك الإمضاء فهذا ما تتصدّى لإثباته مباحث الظهور ، فراجع.

* * *

٣٢٥

٤٤٥ ـ العزيمة

قد أوضحنا المراد من العزيمة تحت عنوان « الرخصة والعزيمة ».

* * *

٤٤٦ ـ العقل العملي

العقل العملي باصطلاح المناطقة هو المعبّر عنه بالحسن والقبح عند المتكلّمين ، والمعبّر عنه بالخير والشرّ عند الفلاسفة ، والمعبّر عنه بالفضيلة والرذيلة في اصطلاح علماء الأخلاق.

والمراد من العقل العملي هو المدرك لما ينبغي فعله وايقاعه أو تركه والتحفّظ عن ايقاعه ، فالعدل مثلا ممّا يدرك العقل حسنه وانبغاء فعله والظلم مما يدرك العقل قبحه وانبغاء تركه ، وهذا ما يعبّر عن انّ حسن العدل وقبح الظلم من مدركات العقل العملي ، وذلك لأنّ المميز للعقل العملي هو نوع المدرك فلمّا كان المدرك من قبيل ما ينبغي فعله أو تركه فهذا يعني انّه مدرك بالعقل العملي.

هذا ما هو متداول في تعريف العقل العملي ، وقد جاء السيّد الصدر رحمه‌الله بصياغة اخرى لتعريف العقل العملي ، وحاصلها انّ العقل العملي هو ما يكون لمدركه تأثير عملي مباشر دون الحاجة لتوسّط مقدّمة خارجيّة.

وبتعبير آخر : انّ العقل العملي هو ما تكون مدركاته مستتبعة لموقف عملي ابتداء دون الحاجة لتوسط مقدّمة اخرى ، وذلك مثل إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم ، فإنّ هذا المدرك يقتضي تأثيرا مباشرا دون الحاجة الى ضمّ مقدّمة اخرى إلاّ انّ ذلك لا يعني استغناؤه عن مقدّمات اخرى لو كان الغرض استنباط حكم شرعي منه ، فاقتضاؤه للتأثير العملي هو المستغني عن المقدّمة الاجنبيّة ، وأمّا استنباط الحكم الشرعي منه فهو مفتقر الى انضمام مقدمات من خارج المدرك العملي. كما سنوضح ذلك تحت عنوان « المستقلاّت العقليّة ».

* * *

٣٢٦

٤٤٧ ـ العقل النظري

المراد من العقل النظري هو العقل المدرك للواقعيات التي ليس لها تأثير في مقام العمل إلاّ بتوسّط مقدمة اخرى ، كإدراك العقل لوجود الله جلّ وعلا ، فإنّ هذا الإدراك لا يستتبع أثرا عمليا دون توسّط مقدّمة اخرى كإدراك حقّ المولويّة وانّ الله جلّ وعلا هو المولى الحقيق بالطاعة ، وحينئذ يكون إدراك العقل لوجود الله جلّ وعلا مستتبعا لأثر عملي.

وبذلك يتّضح انّ ما يدركه العقل النظري وكذلك العقل العملي هو الواقع ، غايته انّ سنخ المدركات النظريّة لا تستتبع أثرا عمليّا مباشرا وهذا بخلاف المدركات العقليّة العمليّة ، فالفرق بين العقل العملي والنظري هو نوع المدرك بصيغة المفعول.

وبهذا يتّضح الخلل في التعبير عن العقل النظري بأنّه المدرك للواقع وانّ العقل العملي هو المدرك لما ينبغي فعله ، إذ انّ ذلك موهم بأنّ مدرك العقل العملي لا يكون الواقع ، وهذا غير مراد قطعا.

ولمزيد من التوضيح لاحظ الاستلزامات العقليّة.

* * *

٤٤٨ ـ علامات الحقيقة والمجاز

وهي العلامات التي يتعرّف بواسطتها على ما هو الموضوع له اللفظ في ظرف الشك فيما هو الموضوع له اللّفظ.

والبحث عن هذه العلامات انّما هو بحث عن صلاحيتها للكشف عن الوضع.

ولاتّضاح محلّ البحث نقول : انّ المتلقي للّفظ تارة يشك فيما هو الموضوع له هذا اللفظ من قبل واضع اللغة ، وتارة يشك في مراد المتكلّم مع العلم بما هو الموضوع له اللفظ ، ومحل البحث انّما هو الجهة الاولى من الشك ، وهو الشك في أصل الوضع للفظ ، وهل هو موضوع لهذا المعنى أو لمعنى آخر ، وأمّا الجهة الثانية فمرجعها الاصول اللفظيّة.

٣٢٧

وكيف كان فهنا مجموعة من العلامات والطرق ذكرت كوسائل للتعرّف على ما هو الموضوع له اللفظ ، وأهمها التبادر وصحّة الحمل والإطراد ، وقد أوضحنا المراد من هذه العلامات في محلّها.

* * *

٤٤٩ ـ مسلك العلاميّة

وهي احدى النظريّات المتصدّية لتفسير العلاقة الوضعيّة الواقعة بين اللفظ والمعنى ، وحاصل المراد من مسلك العلاميّة هو دعوى انّ الواضع اعتبر اللفظ علامة على المعنى وهذا هو المبرّر لخطور المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ ، فكما انّ العلامة تعبّر عن ذي العلامة فكذلك اللفظ بعد ما اعتبره الواضع علامة على المعنى أصبح عند اطلاقه معبّرا عن المعنى.

وبهذا يتّضح منشأ التعبير عن هذا المسلك بمسلك العلاميّة ، فمنشأ التعبير عنه بذلك هو دعوى انّ الوسيلة التي توسّل بها الواضع لإنشاء العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار اللفظ علامة على المعنى ، فهو نظير جعل العلامات المخصوصة على الطرق لغرض التعبير بواسطتها عن معان معينة كالكشف عن انّ الطريق سالك أو مغلق ، غايته انّ وضع العلامات الخارجيّة يكون حقيقيا وأمّا وضع اللفظ علامة على المعنى فهو اعتباري.

ففي وضع العلامات على الطرق يكون هناك موضوع عليه خارجي ، وأمّا في الوضع اللغوي فليس ثمّة شيء خارجي موضوع عليه اللفظ وانّما هو اعتبار وادعاء للوضع ، بل قد يقال انّه لا يوجد موضوع عليه في الاوضاع اللغويّة وانّما الموجود هو خصوص الموضوع والذي هو اللفظ والموضوع له وهو المعنى وعمليّة الوضع والتي هي عمليّة ادعائيّة اعتباريّة.

* * *

٤٥٠ ـ علل الأحكام

والمقصود من علل الأحكام هي ملاكات الأحكام الكامنة في متعلّقاتها

٣٢٨

والمنتجة لجعل الأحكام واعتبارها على المكلّفين إذا اتّفق تحقق موضوعاتها خارجا ، وهذا هو معنى تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

فإذا كان ثمّة فعل مشتمل على مصلحة تامّة غير مزاحمة فهذه المصلحة هي علّة جعل الحكم ، وهكذا لو كان هناك فعل مشتمل على مفسدة تامّة وغير مزاحمة فإنّ هذه المفسدة تكون علّة لجعل الحكم على ذلك الفعل.

وهذه العلل هي التي يقول الاصوليون بصلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي لو اتّفق ادراك وجودها في موضوع من الموضوعات ، وذلك لما ثبت من انّ الأحكام الشرعيّة تابعة لملاكاتها وجودا وعدما.

وهذا المقدار لا إشكال فيه كبرويا انّما الإشكال من جهة عجز العقل عن الإحاطة بوجوه المصالح والمفاسد ، فإنّه حتى لو اتفق إدراك العقل لاشتمال فعل على مصلحة أو مفسدة فإنّ من الصعب القطع بأنّ هذه المصلحة تامة وغير مزاحمة بما يمنع عن تأثير اقتضاء المصلحة لأثرها.

ومن هنا جاءت الروايات لتعبّر عن هذا المعنى « وانّ دين الله لا يصاب بالعقول » وانّ عقول الرجال أبعد ما تكون عن إدراك دين الله جلّ وعلا ، فالإشكال في هذه الجهة صغروي لا كبروي ، إذ لا إشكال كبرويا في انّ العقل لو أدرك المصلحة التامّة ولو بكشف الشارع لكان ذلك صالحا للكشف عن ثبوت الحكم الشرعي بعد البناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

* * *

٤٥١ ـ العلم الإجمالي في التدريجيّات

والمقصود منه أن تكون أطراف الجامع للعلم الإجمالي طوليّة بأن يكون الطرف الاوّل المحتمل انطباق الجامع عليه في الزمن الاوّل ويكون

٣٢٩

الطرف الثاني المحتمل انطباق الجامع عليه في الزمن الثاني وهكذا ، وذلك في مقابل العلم الإجمالي في الامور الدفعيّة العرضيّة والتي تكون معه أطراف الجامع التي يحتمل انطباقه على واحد منها في زمن واحد ، كالعلم بوجود النجاسة في أحد الإنائين ، فإنّ النجاسة ممّا يعلم انطباقها فعلا على واحد من هذين الإنائين الموجودين فعلا.

ومثال العلم الإجمالي في الامور التدريجيّة هو ما لو علمت المرأة بأنّها امّا أن تكون حائضا في هذا الوقت وامّا ان تكون حائضا غدا ، فطرفا العلم الإجمالي واقع كلّ واحد منهما في طول الآخر. ومعنى انعقاد العلم الإجمالي بأنّها حائض الآن أو غدا هو العلم بحرمة مكثها في المسجد اليوم أو غدا.

وباتّضاح المراد من العلم الإجمالي في التدريجيّات نقول : انّ مورد البحث هو ما لو كان أحد الأطراف مقيّدا بزمان متأخّر عن زمان الطرف الاول لو كان هو الواقع ، أو يكون مقيّدا بقيد زماني متأخّر عن زمان الطرف الاول.

ومثال الاوّل لو انعقد علم اجمالي بوجوب صلاة إمّا الآن أو يوم الجمعة بمعنى امّا أن تكون واجبة فعلا أو تكون مقيّدة بيوم الجمعة ، وهذا هو معنى تقيّد الطرف الآخر بزمان متأخّر وهو يوم الجمعة.

ومثال الثاني هو انعقاد علم اجمالي بوجوب اكرام زيد امّا الآن أو عند مجيء عمرو ، وعمرو لا يأتي إلاّ غدا ، فالطرف الآخر مقيّد بقيد زماني وهو مجيء عمرو الواقع في الزمان الاستقبالي.

وعلى كلا التقديرين فتارة يكون التكليف معلوم الفعليّة سواء كان متعلّقه فعليا أو استقباليّا ، وتارة يكون التكليف فعليّا على تقدير دون تقدير ، فعليّا تقدير انّ متعلّقه هو الطرف الأوّل مثلا فهو فعلي ، وعلى تقدير انّ متعلّقه هو الطرف الآخر فهو استقبالي.

ومثال الاول ما لو نذر المكلّف ان

٣٣٠

يصلّي لله عزّ وجل ركعتين إذا رزق ولدا ، فلو رزق ولدا فإنّ التكليف بوجوب الوفاء بالنذر يكون فعليا إلاّ انّه لو شكّ في انّ الواجب هو الإتيان بركعتين اليوم أو يوم الجمعة ـ بناء على امكان الواجب المعلّق ـ فهنا وان كان التكليف بوجوب الوفاء بالنذر فعليّا على أيّ تقدير إلاّ انّ الواجب مردّد بين الزمان الاول والزمان الثاني ، فالتدريجيّة إذن من جهة متعلّق التكليف المحرز تنجّزه.

والظاهر انّه لم يختلف أحد في منجّزية العلم الإجمالي في هذه الصورة وانّ المكلّف ملزم بالصلاة مرّتين الآن ويوم الجمعة ، وذلك للعلم بفعليّة التكليف والذي هو مناط المنجزيّة ولزوم الخروج عن العهدة عقلا.

ومثال الثاني ما لو علمت المرأة بحرمة مكثها في المسجد أمّا اليوم أو غدا ، وذلك لعلمها بتحيّضها إمّا اليوم أو غدا ، فهنا لا يكون التكليف بحرمة المكث فعليا على أيّ تقدير ، إذ انّه على تقدير انّ الواقع هو تحيّض المرأة غدا لا يكون التكليف فعليا في هذا اليوم ، وذلك لأنّ حرمة المكث في المسجد منوط بتحيّضها والمفترض انّ الواقع هو تحيّضها غدا ، ففعليّة التكليف بحرمة المكث ليست ثابتة على أيّ تقدير بل هي على تقدير دون تقدير.

ويمكن تشقيق هذا الفرض الى صورتين :

الصورة الاولى : ان يفترض انّ التكليف وان لم يكن فعليا لو كان الواقع هو الطرف الاستقبالي إلاّ انّ ملاكه ثابت من الآن ، كما لو افترضنا استحالة الواجب المعلّق ، وعليه تتأخر فعلية التكليف الى زمان الواجب.

ومثاله : لو علم المكلّف اجمالا بوجوب الوفاء بالنذر إمّا الآن أو غدا مع افتراض انّ الواقع لو كان هو الطرف الثاني لما كانت الفعليّة متحقّقة في هذا اليوم ، وذلك لاستحالة الواجب المعلّق وانّ الواجب يستحيل تأخّره عن زمان الوجوب إلاّ انّ الوجوب وان افترضنا تأخّر فعليّته

٣٣١

لكنّ ملاكه موجود الآن ، أي من حين ان رزقه الله تعالى ولدا.

ومثال آخر : لو علم المكلّف انّه سيقدم اليه شراب محرم الآن أو غدا ، فعلى فرض انّ المحرّم هو الشراب الذي سيقدم اليه غدا فإنّ فعليّة التكليف لا تكون متحقّقة في هذا الوقت إلاّ انّه نعلم بأنّ ملاك التكليف متحقّق من الآن وان كانت فعليّته متأخّرة الى حين تقديم الشراب له غدا.

الصورة الثانية : هو افتراض عدم فعليّة التكليف لو كان الواقع هو الطرف الاستقبالي كما انّ ملاكه لا يتحقّق إلاّ حين تحقّق الفعليّة للتكليف ، فكل من الفعليّة والملاك متأخران لو كان الطرف الواقعي هو الطرف الاستقبالي.

ومثاله ما لو علم المكلّف بوجوب صلاة إمّا الآن وامّا عند كسوف الشمس ، فهنا لا تكون الفعليّة متحقّقة من الآن لو كان الواقع هو الطرف الاستقبالي ، كما انّ الملاك لا يكون متحقّقا من الآن لو كان الطرف الواقعي هو الطرف الاستقبالي.

وباتّضاح هاتين الصورتين للفرضيّة الثانية نقول : انّه وقع النزاع بينهم في هذه الفرضيّة بصورتيها ، فذهب الشيخ الأنصاري رحمه‌الله إلى المنجّزيّة في الصورة الاولى دون الثانية ، وذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى عدم المنجّزية مطلقا في الصورتين ، وذهب السيّد الخوئي والمحقّق النائيني رحمهما الله الى المنجّزية في الصورتين ، وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٤٥٢ ـ العلم الإجمالي والتفصيلي

المراد من العلم الإجمالي هو العلم بوجود جامع في ضمن طرف من أطراف متعدّدة مع الجهل بالطرف الذي يقع الجامع واقعا في ضمنه.

وبتعبير آخر : هو العلم بالجامع بين أطراف متعدّدة مع الشك فيما هو الطرف الواقع منطبقا لذلك الجامع واقعا.

٣٣٢

فالعلم الإجمالي مشتمل على حيثيّتين :

الحيثيّة الاولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الحيثيّة الثانية : هي الشك في أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

والمراد من الجامع هو الكلّي المعلوم القابل للانطباق على كلّ واحد من أطرافه بقطع النظر عن كون هذا الجامع الكلّي جامعا ماهويا أو جامعا انتزاعيا منتزع من ملاحظة تمام الأطراف.

فالاول مثل العلم بوجوب صلاة ، فإنّ الصلاة جامع ماهوي لأطرافها مثل صلاة الظهر والجمعة والمغرب ، فالصلاة هي الحقيقة المشتركة القابلة للصدق على كلّ واحد من أطرافها ، بمعنى انّ أطراف العلم الإجمالي تشترك من حيث انّها أفراد لماهيّة واحدة هي طبيعة الصلاة.

والثاني مثل العلم بنجاسة أحد الشيئين امّا الماء أو الثوب فإنّ عنوان أحد الشيئين جامع انتزاعي انتزع من ملاحظة الماء بالإضافة الى الثوب.

وأمّا المراد من أطراف الجامع فهي الأفراد التي لو لوحظ كلّ واحد منها على حدة لكان من المحتمل انطباق الجامع عليه ، أمّا لو لوحظت بنحو المجموع فمن المقطوع عدم كونها جميعا منطبقا للجامع المعلوم ، وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال أقلّ من أطراف العلم الإجمالي دائما. وبهذا يتّضح خروج الأطراف الغير محتمل انطباق الجامع عليها عن أطراف العلم الإجمالي.

ثمّ انّ هنا واقعا متقرّرا في نفسه ومتشخّصا في حدّ ذاته إلاّ انّه مشكوك عند المكلّف ، أي انّ المكلّف يجهل موضع استقراره ، وهل هو الطرف الاول أو الثاني أو الثالث وهكذا ، وهذا هو المعبّر عنه بالمعلوم بالإجمال ، وهو غير الجامع ، إذ الجامع معلوم تفصيلا ، فالمعلوم بالاجمال هو متعلّق الجامع ، أمّا انّه معلوم فلأنّنا نقطع بوجوده ، وأمّا انّه معلوم بالإجمال فلأننا نجهل موضع استقراره ، فجهة الغموض في المعلوم بالإجمال هي

٣٣٣

مشخّصاته الثابتة في نفس الأمر والواقع والمجهولة عند المكلّف.

والمتحصّل انّ العلم الإجمالي مشتمل على حيثيّتين الاولى : هي العلم بالجامع ، وهذه الحيثيّة معلومة تفصيلا للعالم بالاجمال ، والحيثيّة الثانية هي الشك في الأطراف وهذه هي جهة الجهل والغموض في موارد العلم الإجمالي.

وأمّا المعلوم بالإجمال فهو الطرف الواقع منطبقا للجامع في نفس الأمر والواقع ، وكونه معلوما بالإجمال باعتبار انّ موضع استقراره مجهول للمكلّف العالم بالإجمال.

هذا هو حاصل المراد من العلم الإجمالي ، وقد ذكرت بيانات اخرى له :

منها : ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ العلم الإجمالي عبارة عن العلم بالفرد المردّد.

وأورد عليه باستحالة الفرد المردّد كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « استصحاب الفرد المردّد ».

ومنها : ما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه‌الله من انّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّق بالواقع ، بمعنى انّ منكشف العلمين هو الواقع من غير فرق بينهما أصلا من هذه الجهة ، وانّما الفرق بينهما من جهة نفس العلم والانكشاف ، فقد لا يكون في الانكشاف أي غموض وضبابيّة ، وهذا هو العلم التفصيلي ، وقد يكون الانكشاف محاطا بالتشويش والغموض ، وهذا هو العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : انّ العلم وان كان يتعلّق بالواقع إلاّ انّه تارة يكون من الوضوح بحيث لا تكون معه جهة غموض أصلا ، وتارة يكون هذا العلم مشوشا ، بمعنى انّ الصورة المدركة ليست صافية بحيث يكون مرئيها واضحا إلاّ انّ ذلك لا ينفي انّ المرئي بهذه الصورة المشوشة هو الواقع.

ويمكن تنظير ذلك ـ كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله ـ بشخصين ينظران الى جسم إلاّ انّ أحدهما أقرب الى الجسم من الآخر ، فالقريب من الجسم تكون الصورة لديه واضحة ، ولذلك يكون

٣٣٤

المرئي « الجسم » متشخصا عنده ، وأمّا البعيد عن الجسم فهو وان كان يرى نفس الجسم إلاّ انّه ولبعده عنه لا يشخص هوية الجسم ، وهل هو حيوان أو انسان أو شجرة.

وتلاحظون انّ كلا النظرين متعلّقهما واحد وهو الواقع المتعيّن ، غايته انّ الاول ولقربه من المرئي يكون المرئي لديه واضحا ومتشخّصا بتمام مشخصاته ، وأمّا الثاني فلبعده عن المرئي تكون الصورة بالنسبة له مشوشة.

والمتحصل انّ العلم الإجمالي ليس علما تفصيليّا بالجامع دون منطبقه بخلاف العلم التفصيلي فإنّه علم بمنطبق الجامع بل انّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّقهما هو الواقع المعبّر عنه بالمنطبق الواقعي ، غايته انّ الصورة المدركة « العلم » تارة تكون واضحة وحينئذ يكون العلم تفصيليّا ، واخرى تكون مشوشة ومعها يكون العلم اجماليّا.

وعلّق السيّد الصدر رحمه‌الله على مجموع التعريفات بما حاصله : انّ المراد من العلم الإجمالي واضح ووجداني لكلّ أحد ، ولهذا لا يبعد ان يكون الاختلاف بين هذه التعريفات ناشئ عن اختلاف الجهة المنظورة عند التعريف ، فكلّ واحد قد لاحظ جهة وعرّف العلم الإجمالي على ضوئها.

وأمّا المراد من العلم التفصيلي فهو العلم بالجامع مع العلم بموضع استقراره ، أي العلم بالجامع مع تشخيص متعلّقه ، فليس في العلم التفصيلي جهة غموض أصلا ، فالعالم بالعلم التفصيلي يعلم بوجوب الصلاة مثلا كما يعلم بأنّ الصلاة الواجبة هي الظهر مثلا.

ولكي يتّضح الفرق بين العلمين نذكر هذا المثال ، لو قطعنا بوجوب صلاة إلاّ انّه وقع الشك في هوية هذه الصلاة الواجبة ، وهل هي الظهر أو الجمعة ، فالجامع الصالح للانطباق على الطرفين هو عنوان الصلاة ، وهذا الجامع معلوم وجوبه تفصيلا ، فالعلم بوجود الجامع الكلي علم تفصيلي ، غايته انّ منطبقه غير متشخّص لنا إلاّ

٣٣٥

انّ ذلك لا يوجب غموضا من ناحية وجود الكلي ، مثلا لو كنّا نعلم بوجود فرد من الإنسان فإنّ هذا يساوق العلم بوجود كلي الإنسان ، ولذلك نستطيع أن نقول انّنا عالمون بوجود الإنسان في الخارج ، غايته انّنا نشك في هوية ذلك الفرد إلاّ انّه غير الشك في وجود الكلّي كما هو واضح ، فالعلم بالجامع وهو الكلّي علم تفصيلي.

وأمّا المعلوم بالاجمال فهو الصلاة التي وقعت متعلقا للوجوب واقعا ، وهي متقرّرة ومتشخّصة في نفس الأمر والواقع غايته انّنا نجعل بمشخّصاتها ، وهذا ما سبب اتّصافها بالإجمال.

وأمّا لو كنّا نعلم بوجوب الصلاة وانّها صلاة الجمعة ، فالجامع وهي الصلاة معلومة الوجوب تفصيلا ، كما انّ منطبق الجامع الواقعي وهي صلاة الجمعة معلومة تفصيلا أيضا. وبذلك يكون العلم تفصيليّا في الجامع ومنطبقه ، وهذا هو العلم التفصيلي.

* * *

٤٥٣ ـ علم الاصول

ذكرت لعلم الاصول مجموعة من التعريفات نذكر ثلاثة منها مع شرحها اجمالا دون بيان ما اورد عليها :

التعريف الاول : هو انّ علم الاصول عبارة عن « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي » ، وهذا هو التعريف المشهور.

فضابطة المسألة الاصوليّة ـ بناء على هذا التعريف ـ هو تمهيدها لاستنباط حكم شرعي ، فحجيّة خبر الواحد مثلا من القواعد التي تمهّد وتساهم في استنباط واستخراج الحكم الشرعي ، وذلك لوقوع حجيّة خبر الواحد كبرى في قياس نتيجته الحكم الشرعي ، فلو لا وقوع حجيّة خبر الواحد مقدّمة في القياس الذي يراد بواسطته التعرّف على الحكم الشرعي لما أمكن الوصول الى النتيجة الشرعيّة ، فحجيّة خبر الواحد إذن تمهّد للوصول الى النتيجة الشرعيّة ،

٣٣٦

وهذا هو المبرّر لاعتبارها من القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي.

وبهذا يتّضح انّ القواعد المرادة في التعريف لا بدّ وان يكون لها دور المساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، ومن هنا عبّر عنها بالممهّدة للاستنباط ، أمّا لو كان دور القاعدة هو تشخيص موارد الحكم الشرعي المعلوم قبل بل ذلك فهذه ليست قاعدة اصوليّة بل هي قاعدة فقهيّة ، فالقاعدة الفقهيّة لا تمهّد للكشف عن الحكم الشرعي وانّما يتحدّد بواسطة ملاحظة مفادها موارد تطبيقها.

والمتحصّل انّ علم الاصول عبارة عن العلم بمجموعة من الضوابط التي تساهم في الكشف عن الحكم الشرعي ، هذا هو التفسير اللفظي لهذا التعريف.

التعريف الثاني : انّ علم الاصول عبارة عن « العلم بالكبريات التي لو انضمّت اليها صغرياتها لاستنتج منها حكم فرعي كلّي » ، وهذا هو الذي تبناه المحقّق النائيني رحمه‌الله.

وحاصل المراد من هذا التعريف انّه ليس كلّ ما يساهم في استنباط الحكم الشرعي فهو مسألة اصوليّة ، فالوصول الى الحكم الشرعي يكون منوطا بمجموعة من المقدّمات بعضها يتّصل بعلم النحو والصرف والآخر يتّصل بعلم اللغة كما انّ بعضها يتّصل بعلم الرجال ، وكلّ ذلك ليس من مسائل علم الاصول وان كان يمهّد لاستنباط الحكم الشرعي ، بل وان كان يقع كبرى في القياس إلاّ انّه ليس القياس الذي ينتج عنه الحكم الشرعي بل الأقيسة التي ينتج عنها القياس المنتج للحكم الشرعي.

إذن فضابطة المسألة الاصوليّة هي كلّ مسألة تقع كبرى في القياس المنتج للحكم الشرعي لا الأقيسة التي تسبق القياس المنتج للحكم الشرعي.

هذا هو معنى قوله : « انّ علم الاصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمّت اليها صغرياتها لأنتجت الحكم الشرعي » ، إذ انّ الكبريات الاخرى المساهمة في استنباط الحكم الشرعي لا تنتج الحكم الشرعي

٣٣٧

ابتداء وانّما تساهم في استنباط الحكم الشرعي بواسطة تمهيدها لمقدّمات القياس المنتج للحكم الشرعي.

فالقياس الأخير والذي ينتج عنه الحكم الشرعي هو الذي تكون كبراه مسألة اصوليّة.

ولتوضيح ذلك نذكر هذا المثال ، لو أردنا مثلا التعرّف على حكم لحم الأرنب فوجدنا رواية عن زرارة مفادها حرمة لحم الأرنب فإنّ الوصول الى النتيجة الشرعيّة يحتاج إلى مجموعة من الأقيسة نذكر منها قياسين :

الأوّل : انّ النجاشي قد وثّق زرارة.

وكلّ من وثّقه النجاشي فهو ثقة.

النتيجة : انّ زرارة ثقة.

الثاني : انّ زرارة الثقة أخبر بحرمة لحم الأرنب.

وكلّ شيء دلّ على حرمته خبر الثقة فهو حرام.

النتيجة : هي حرمة لحم الأرنب التي دلّ عليها خبر الثقة.

وتلاحظون انّ الكبرى في القياس الاول لم تنتج الحكم الشرعي وان كانت قد ساهمت في الوصول إليه بواسطة تمهيدها للنتيجة التي وقعت حدا أصغر في صغرى القياس المنتج للحكم الشرعي.

كما تلاحظون انّ الكبرى في القياس الثاني والتي هي عبارة عن حجيّة خبر الثقة نتج عن انضمامها لصغراها الحكم الشرعي ، ولهذا فهي مسألة اصوليّة. وهذا التعريف قريب الى حدّ كبير من تعريف السيّد الخوئي رحمه‌الله.

التعريف الثالث : انّ علم الاصول عبارة عن « العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي والتي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلّي » ، وهذا هو تعريف السيّد الصدر رحمه‌الله.

* * *

٤٥٤ ـ علم الجنس

إنّ بعض أسماء الأجناس تأخذ سمة العلميّة في كلام العرب ويترتّب عليها أحكام الأعلام الشخصيّة من قبيل عدم دخول الألف واللام عليها ومجيء

٣٣٨

الحال بعدها وامتناعها من الصرف ، وهذه هي المعبّر عنها بأعلام الاجناس ، وذلك مثل اسامة وثعالة وذؤالة.

والبحث في المقام عمّا هو الموضوع له علم الجنس ، وفي ذلك اتّجاهان :

الاتّجاه الأوّل : وهو ما ذهب إليه المشهور ، وحاصله انّ علم الجنس لا يختلف فيما هو الموضوع له عن اسم الجنس ، فكلاهما موضوع للطبيعة أو قل الماهيّة المهملة إلاّ انّ الفرق بينهما انّ علم الجنس ليس موضوعا للماهيّة المهملة من تمام الجهات كما هو الحال في اسم الجنس بل هو موضوع للماهيّة المتعيّنة بالتعيّن الذهني ، أي للماهيّة المهملة بشرط تعيّنها في الذهن ، فالتعيّن مأخوذ فيما هو الموضوع له علم الجنس.

والمقصود من انّ علم الجنس موضوع للماهيّة المتعيّنة في الذهن أحد احتمالين :

الاحتمال الاول : انّ علم الجنس موضوع لمعنى اسمي موجود في الذهن ، وعلى حدّ تعبير بعضهم انّه موضوع للحقيقة الذهنيّة ، وعلى هذا يكون علم الجنس موضوعا لمعقول من المعقولات الثانويّة ـ كمفهوم الكلّي ومفهوم العليّة ـ والذي ليس له ما بإزاء في الخارج.

وبتعبير آخر : انّ علم الجنس موضوع للصورة الذهنيّة المتعيّنة في وعاء الذهن ، إذ انّ الصورة الذهنيّة إذا اخذ التعيّن الذهني قيدا أو جزء فيها فهذا معناه أن تكون ملحوظة بما هي موجودة في الذهن ، وهذا ما فهمه صاحب الكفاية رحمه‌الله من كلام المشهور.

وأورد عليه بأن ذلك يلزم منه عدم امكان حملها وانطباقها على الأفراد الخارجيّة ، إذ انّ المفهوم إذا لوحظ على انّه موجود في الذهن لا يمكن انطباقه على ما في الخارج إلاّ بنحو العناية ، بأن يجرّد عن خصوصيّاته الذهنيّة ، وهو خلاف ما نجده من عدم بذل هذه العناية عند حمل علم الجنس على أفراده الخارجيّة.

الاحتمال الثاني : انّ علم الجنس موضوع للإشارة الى ما هو متعيّن ومتحدّد في الذهن في مرتبة سابقة ، كما

٣٣٩

هو الحال في اللام الداخلة على اسم الجنس ، فإنّها تشير الى المعنى المتعيّن والحاضر في الذهن ، فعلم الجنس موضوع لنفس الحيثيّة الموضوعة لها لام الجنس ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان اللام الداخلة على اسم الجنس.

وعلى هذا المعنى لا يرد اشكال صاحب الكفاية رحمه‌الله ، إذ انّ التعيّن الذهني على هذا لن يكون مأخوذا في المعنى الموضوع له اسم الجنس حتى يمتنع صدقه وحكايته عن الخارج وانّما هو موضوع للإشارة الى الصورة الذهنيّة الحاكية عن الخارج.

الإتجاه الثاني : وهو الذي ذهب اليه صاحب الكفاية والسيد الخوئي رحمهما الله من انّه لا فرق بين علم الجنس واسم الجنس فكلاهما موضوعان للطبيعة المهملة من تمام الجهات ، غايته انّ العرب تتعامل مع علم الجنس معاملة المعارف إلاّ انّ ذلك لا يقتضي انّه موضوع لغير ما وضع له اسم الجنس ، إذ انّ التعريف في علم الجنس لا يعدو عن كونه لفظيا كما هو الحال في معاملة العرب بعض الاسماء معاملة الأسماء المؤنثة رغم انّها ليست مؤنّثة حقيقة.

والمتحصّل انّ ترتيب أحكام المعارف على علم الجنس ناشئ عن السماع وإلاّ فما هو الموضوع له علم الجنس هو عينه الموضوع له اسم الجنس.

* * *

٤٥٥ ـ العلّة الانحصاريّة

يتمّ التطرّق لهذا العنوان في بحث المفاهيم ، والمقصود منه يتّضح من هذا البيان :

وهو أنّ العلّة التي يترتّب عن وجودها وجود المعلول على قسمين :

القسم الأوّل : هو العلّة ذات البديل ويعبّر عنها بالعلّة غير المنحصرة ، وهي التي يكون وجودها موجبا لوجود المعلول على أن يكون للمعلول علّة مستقلّة أخرى لو اتّفق وجودها لأنتجت وجود المعلول نفسه.

فحينما يكون للمعلول علّتان مستقلّتان كلّ واحدة منهما كافية في

٣٤٠