المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

وعدم وجود الداعي الى فعله ، وهذا هو المعبّر عنه بعدم المقتضي للفعل أي لفعل الحرام ، فعدم فعل الحرام حين عدم إرادته ناشئ عدم المقتضي لوجود الحرام وليس ناشئا عن وجود ضده وهو الفعل الاختياري.

وأمّا ان يكون ترك الضد « الحرام » ناشئا عن وجود المقتضي لفعل ضده ، فترك الضد « الحرام » ليس ناشئا عن وجود الضدّ الآخر وانّما هو ناشئ عن وجود المقتضي لفعل الضد الآخر أي ناشئ عن إرادة فعل الضدّ الآخر.

ومن هنا لا يصحّ اسناد ترك الحرام الى وجود الفعل الاختياري بل انّ ترك الحرام مستند في هذا الفرض الى إرادة فعل الضدّ الآخر والذي هو الفعل الاختياري المضاد لفعل الحرام. وهذا ما ثبت في بحث مسألة الضدّ فراجع.

هذا لو كان الكعبي يقصد من التوقف معلوليّة ترك الحرام للفعل الاختياري المضاد ، وأمّا اذا كان يقصد من ذلك دعوى الملازمة بين حرمة شيء وجوب ضده المعاكسة لدعوى اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضده فجوابه مذكور في بحث مسألة الضدّ وانّ الحكم لا يسري من أحد المتلازمين الى الآخر.

* * *

٣٨٣ ـ الشبهة المصداقيّة

المراد من الشك بنحو الشبهة المصداقيّة هو الشك في مصداقيّة فرد لطبيعة ما على أن يكون منشأ الشك هو اشتباه الامور الخارجيّة لا أن يكون منشؤه إجمال المفهوم للطبيعة.

مثلا : لو قال المولى تصدّق على فقير وشككنا انّ زيدا فقير أو لا؟ فتارة يكون منشأ الشك هو اجمال المراد من مفهوم الفقير ، وانّه من لا يملك قوت سنته أو قوت يومه ، فنحن وان كنّا نحرز انّ زيدا يملك قوت يومه ولا يملك قوت سنته إلاّ انّه وبسبب إجمال مفهوم الفقير واحتمال اختصاصه بمن لا يملك قوت يومه يقع الشك في صدق مفهوم الفقير على زيد

٢٠١

لافتراض انّه يملك قوت يومه وان كان لا يملك قوت سنته إلاّ انّ الشك في مصداقيّة زيد لعنوان الفقير لما كان منشؤه اجمال المفهوم فإن الشبهة لا تكون مصداقيّة.

اما لو كان منشأ الشك في مصداقيّة زيد لعنوان الفقير هو الجهل بحاله فالشبهة حينئذ مصداقيّة ، بمعنى انّه لو كان المراد من مفهوم الفقير محددا إلاّ انّه وقع الشك في فقر زيد بسبب عدم الاطلاع على أحواله وظروفه فإنّ الشبهة تكون عندئذ مصداقيّة ، وذلك لأنّها نشأت عن اشتباه الامور الخارجيّة.

* * *

٣٨٤ ـ الشبهة المفهوميّة

المراد من الشبهة المفهوميّة هو الشك الناشئ عن اجمال مفهوم من المفاهيم الواقعة موضوعا أو متعلقا لحكم شرعي ، كما لو وقع الشك فيما هو المراد من مفهوم الفقير الواقع موضوعا لوجوب الصدقة أو فيما هو المراد من مفهوم الغناء الواقع متعلقا للحرمة أو وقع الشك في مفهوم الاستطاعة والتي هي شرط من شرائط وجوب الحجّ أو في مفهوم الساتر والذي هو شرط من شرائط الصحّة في الصلاة وهكذا.

والشبهة الناشئة عن اجمال المفهوم على قسمين :

الاول : هو أن يكون المفهوم دائرا بين معنيين أو معان متباينة.

ومثاله قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (١) ، فإنّ لفظ « القرء » يحتمل معنيين متباينين هما الطهر والحيض.

الثاني : أن يكون المفهوم دائرا بين معنيين أحدهما أعم مطلقا من الآخر أي أحدهما أوسع دائرة من الآخر.

ومثاله قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (٢) ، فإن مفهوم الصعيد يدور بين السعة والضيق ، إذ انّ المراد منه إما هو مطلق وجه الأرض أو هو خصوص التراب ، فبناء على الاول يكون مفهوم الصعيد أوسع دائرة ممّا لو

٢٠٢

كان المراد من مفهوم الصعيد هو المعنى الثاني.

وهناك قسم ثالث يمكن إدخاله في القسم الثاني وهو ما لو دار أمر الشبهة بين معنيين بينهما عموم وخصوص من وجه ، فالتباين في مادتي الافتراق للمعنيين.

ويمكن التمثيل له بمفهوم الغناء ، فلو افترضنا اجماله ودورانه بين معنيين ، الاول هو ترجيع الصوت الموجب للطرب الفعلي ، والثاني هو الترجيع المناسب لمجالس اللهو وأهل الفسوق. فمورد الاجتماع بين هذين المعنيين هو ما لو أوجب ترجيع الصوت الطرب الفعلي مع مناسبته لمجالس اللهو وأهل الفسوق.

وأمّا مورد افتراق المعنى الاول عن الثاني فهو ما لو اتّفق عدم مناسبة ترجيع الصوت لمجالس اللهو رغم انّه موجب فعلا للطرب والخفّة ، وأمّا مورد افتراق المعنى الثاني عن الاول فهو ما لو اتّفق مناسبة الترجيع لمجالس اللهو وأهل الفسوق إلاّ انّه لم يكن موجبا للطرب الفعلي.

فلو كان المعنى الاول هو المتعيّن لكان المورد الثاني ليس غناء محرما ، ولو كان العكس لكان المورد الاول ليس محرما. وتلاحظون انّ منشأ الشك هو اشتباه المفهوم واجماله وانّ نحو الشك ليس هو السعة والضيق وان كان لهذين المفهومين قدرا متيقّنا وهو مورد الالتقاء.

* * *

٣٨٥ ـ الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي

تارة يقع الشكّ في شيء من جهة أنّه واجب أو ليس بواجب ، أو أنّه حرام أو ليس بحرام ، أو أنّه طاهر أو ليس بطاهر وهكذا. والشكّ بهذا النحو يعبّر عنه بالشبهة البدويّة ، وقد أوضحنا ضابطتها تحت عنوان الشبهة البدويّة.

وتارة يقع الشكّ في شيء أنّه واجب مثلا أو ليس بواجب ولكن يقترن بهذا الشكّ علم إمّا بوجوب هذا الشيء أو وجوب شيء آخر. فالشيء الأوّل

٢٠٣

وإن كان مشكوك الوجوب إذا لوحظ بقطع النظر عن غيره ولكنّه إذا لوحظ منضما إلى الشيء الآخر تولّد من ملاحظتهما معا علم إجمالي بوجوب أحدهما ، هذه الفرضيّة هي المعبّر عنها بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ومنشأ التعبير عنها بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي هو أنّ كلّ علم إجمالي منحلّ إلى حيثيّتين ؛ الأولى : هي الشكّ في أطرافه ، والثانية : هي العلم بالجامع بين الأطراف. فهي بلحاظ الحيثيّة الأولى شبهة ، وبلحاظ الحيثيّة الثانية علم. ولمزيد من التوضيح والتفصيل راجع عنوان العلم الإجمالي والتفصيلي.

* * *

٣٨٦ ـ الشبهة الموضوعيّة

المراد من الشبهة الموضوعيّة هي ما يكون متعلّق الشك في موردها عبارة عن انطباق الحكم الكلّي على واقعة شخصيّة ويكون منشأ الشك في مصداقيّة تلك الواقعة لموضوع الحكم الكلّي هو اشتباه الامور الخارجيّة ، فثبوت أصل الجعل للحكم الكلّي على موضوعه محرز والشك انّما هو من جهة مصداقيّة المورد لموضوع الحكم الكلّي نتيجة الجهل بحال المورد.

وبتعبير آخر : انّ متعلّق الشك في الشبهة الموضوعيّة هو الحكم ولكن بمرتبة المجعول والفعليّة وأمّا أصل الجعل فهو محرز ولا شبهة فيه ، وهذا بخلاف الشبهة الحكميّة ، فإنّ أصل الجعل في موردها غير محرز.

وبيان ذلك : انّ الشك قد يكون في أصل جعل الحكم على موضوعه الكلّي ، وهذا هو الشك في الحكم بمرتبة الجعل ، وهو مورد الشبهة الحكميّة ، ومثاله ما لو وقع الشك في جعل الحرمة للعصير العنبي أو جعل الوجوب لصلاة الجمعة ، ويعبّر عن الحكم في مرتبة الجعل بالحكم الكلّي ، وذلك تبعا لموضوعه ، لأنّه عادة ما يجعل على موضوع كلّي مقدر الوجود قابل للانطباق على أفراده الكثيرين ، ومن الواضح انّ كلّيّة القضايا وشخصيتها

٢٠٤

تابع لموضوع القضيّة ، فإذا كان موضوعها كليا كان الحكم بتبعها كليا ، وأمّا لو كان شخصيّا فالحكم يكون عندئذ شخصيّا.

ومن هنا قالوا انّ الشك في الشبهات الحكميّة متعلّقه الحكم الكلي ، وذلك لاننا نشك في حكم طبيعة الصلاة والتي هي موضوع كلّي. فالشك في أصل الجعل شك في الحكم الكلي في مرتبة الجعل ، وهو مورد الشبهة الحكميّة.

وقد يكون الشك في الحكم بمرتبة الفعليّة والمجعول وان كان الحكم بمرتبة الجعل محرز ، والشك في الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة هو مورد الشبهة الموضوعيّة ، وذلك لأنّ الشك في الفعليّة ينشأ عن الشك في تحقّق موضوع الحكم الكلّي ، فالشك في فعليّة الوجوب للحج على زيد ينشأ عن الشك في استطاعته أو عدمها أي الشك في تحقّق موضوع الوجوب ، وكذلك الشك في حرمة هذا المائع انّما ينشأ عن الشك في خمريته أو عدمها أي الشك في تحقق موضوع الحرمة للخمر ، إذ انّ الشك في مصداقية هذا المائع للخمر معناه الشك في انطباق طبيعة الخمر على هذا المائع.

وتلاحظون انّ الشك في الفعليّة يساوق الشك في الوقائع الخارجيّة الشخصيّة ، وهذا هو معنى انّ الشبهة الموضوعيّة عبارة عن الشك في الواقعة الجزئيّة. لأنّنا حينما نشك في خمريّة هذا المائع أو في دخول الوقت فإنّ معنى ذلك هو الشك في مورد شخصي جزئي راجع « الشكّ في التكليف ».

* * *

٣٨٧ ـ الشبهة الوجوبيّة

المراد من الشبهة الوجوبيّة هي الشبهة التي يكون متعلّقها الوجوب ، وهي تارة تكون حكمية واخرى تكون موضوعيّة.

أمّا الشبهة الوجوبيّة الحكميّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الوجوب الكلّي ، بمعنى الشك في أصل جعل

٢٠٥

الوجوب لطبيعة كليّة ، كما لو وقع الشك في جعل الوجوب لطبيعة صلاة الجمعة.

وأمّا الشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الوجوب الجزئي ، بمعنى اننا نحرز جعل الوجوب لطبيعة من الطبائع إلاّ انّ الشك في الوجوب نشأ عن عدم احراز مصداقيّة مورد للطبيعة المحرز وجوبها ، فلو كنا نحرز جعل وجوب الصدقة على طبيعة الفقير إلاّ اننا شككنا في وجوب الصدقة على زيد للشك في مصداقيّته لطبيعة الفقير نتيجة الجهل بحالة مثلا ، فالشك ليس في جعل الحكم الكلّي للطبيعة وانّما في انطباق الحكم المعلوم على هذا المورد.

ثمّ انّ الظاهر عدم وقوع خلاف بين الفقهاء في انّ الأصل الجاري في الشبهات الوجوبيّة الأعم من الحكميّة أو الموضوعيّة هو البراءة الشرعية.

راجع « الشبهة الموضوعيّة » « الشك في التكليف » « الشك في المكلّف به ».

* * *

٣٨٨ ـ الشبهة غير المحصورة

العلم الإجمالي قد تكون أطرافه محصورة وقد لا تكون محصورة فمع انحصار أطراف العلم الإجمالي يكون منجّزا لتمام أطرافه ، وأمّا مع عدم الانحصار فقد قيل بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية ، فالبحث عن العلم الإجمالي من جهتين :

الجهة الاولى : في تحديد ما هو المراد من الشبهة غير المحصورة.

الجهة الثانية : انّ عدم انحصار أطراف الشبهة هل يقتضي سقوط المنجّزية عن العلم الاجمالي؟

وما يدخل في الغرض انّما هو الجهة الاولى ، فنقول : اختلفت الأقوال في تحديد المراد من الشبهة غير المحصورة ، ونحن نستعرض ما عثرنا عليه من أقوال :

الأوّل : الشبهة غير المحصورة هي التي تكون أطرافها كثيرة جدا بحيث لو لاحظنا كل طرف من أطرافها على حدة لوجدنا انّ احتمال كونه هو منطبق

٢٠٦

الجامع موهوما.

فالضابطة لكون الشبهة غير محصورة هو ان تكون كثرة الأطراف مؤدية لضعف احتمال مطابقة كلّ طرف عند ملاحظته للواقع ، على أن يكون هذا الاحتمال من الضعف بحيث لا يعتد العقلاء بمثله. وهذا المعنى هو الذي تبناه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله.

الثاني : وهو المنسوب للشهيد الثاني والمحقق الثاني وصاحب المدارك رحمهم‌الله انّ ضابطة التعرّف على الشبهة غير المحصورة هو البناء العرفي وانّ كلما عسر عدّ أطرافه عادة فهو شبهة غير محصورة ، فالضابطة هي عسر العدّ والإحصاء لا امتناعه.

الثالث : انّ الشبهة غير المحصورة هي ما كانت موافقتها القطعيّة متعسّرة على المكلّف ، بمعنى انّ الامتثال القطعي الإجمالي بواسطة الإتيان بتمام الأطراف إذا كان متعسرا وكان منشأ العسر هو كثرة الأطراف فالشبهة غير محصورة.

الرابع : وهو المنسوب لكاشف اللثام رحمه‌الله وتبنّاه صاحب مفتاح الكرامة رحمه‌الله ، وحاصله : انّ ضابط الشبهة غير المحصورة هو ما يكون امتثال تمام أطرافها مؤديا لترك الصلاة غالبا ، أو كان امتثال تمام أطرافها مؤديا لترك أكل اللحم ولترك التزويج غالبا.

ولعله يشير بذلك الى انّ أطراف الشبهة إذا كانت من الكثرة بحيث يكون الامتثال لتمام الأطراف مفضيا عادة الى ترك ما ثبت وجوبه أو اباحته أو راجحيته بالضرورة فهي شبهة غير محصورة.

أو لعله يشير الى انّ ضابط التعرّف على الشبهة غير المحصورة هو افتراض اتصالها بشرط من شرائط الصلاة ، فلو كانت حين افتراضها وتنجّزها مؤدية لترك الصلاة غالبا فهي شبهة غير محصورة.

مثلا : لو كان المعلوم بالإجمال هو حرمة واحد من العصيرات الموجودة في البلاد فإنّ هذه الشبهة لا يكون امتثالها مؤديا لترك الصلاة ، فلو ترك

٢٠٧

المكلّف تمام أفراد وأنواع العصير فإنّ ذلك لن يؤدي الى ترك الصلاة إلاّ انّه لو استبدلنا متعلّق الشبهة بشيء يتّصل بشرائط الصحّة في الصلاة فإن وجدنا انّ امتثالها يؤدي الى ترك الصلاة فهذه الشبهة تكون غير محصورة كما لو علمنا بغصبيّة بقعة من بقاع الأرض وكانت اطراف الشبهة في تمام بقاع الأرض.

الخامس : انّ الشبهة غير المحصورة هي ما كانت مخالفتها القطعيّة غير ممكنة عادة ، بمعنى انّ المكلّف لو أراد ارتكاب تمام الأطراف ليقطع بعد ذلك بمخالفة الواقع لما كان ذلك ممكنا.

وبهذا تكون الشبهة غير المحصورة مختصّة بالشبهات التحريميّة دون الوجوبيّة ، إذ من الممكن مخالفة الشبهة الوجوبيّة مهما بلغت أطرافها من الكثرة ، وذلك بترك مجموع الأطراف ، وأمّا الشبهة التحريميّة فمخالفتها لا تكون إلاّ بواسطة ارتكاب تمام الأطراف ، فلو كان ارتكابها جميعا ممكنا عادة فهى شبهة محصورة وان لم يكن ممكنا عادة فهي شبهة غير محصورة.

مثلا : لو علمنا بأن احدى أغنام البلد موطوءة للإنسان فإنّ الأكل من كلّ واحدة من أغنام البلد غير ممكن عادة ، ومن هنا تكون الشبهة غير محصورة ، وهذا بخلاف ما لو علمنا بوجوب اطعام واحد معين من فقراء البلد إلاّ انّه غير مشخّص فإنّ المخالفة القطعيّة في مثل هذه الصورة ممكن وذلك بواسطة ترك اطعام كلّ من هو واقع طرفا في الشبهة.

فالشبهة غير المحصورة بناء على هذه الضابطة تكون مختصّة بالشبهات التحريميّة ، إذ هي التي يتصوّر في موردها امكان المخالفة القطعيّة ، وهذا المعنى ذهب اليه المحقّق النائيني رحمه‌الله.

السادس : انّ الضابط في الشبهة غير المحصورة هو الصدق العرفي ، وهو يختلف باختلاف موارد الشبهة ، فقد تكون شبهة ذات أطراف كثيرة بحيث يعسر عدّها ومع ذلك لا يرى العرف انّها غير محصورة ، كما لو علمنا باشتمال

٢٠٨

صبرة من رز على حبة مغصوبة ، وقد تكون شبهة لا يعسر عد أطرافها ومع ذلك تكون غير محصورة بنظر العرف.

* * *

٣٨٩ ـ شرائط الجعل والمجعول

شرائط الجعل هي الملاكات المقتضية لجعل الاحكام على موضوعاتها المقدرة الوجود ، وهذا معناه انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فجعل الحكم ينشأ عن ملاك في متعلقه ، هذا الملاك هو المعبّر عنه بشرط الجعل.

ومن هنا لا تكون شرائط الجعل قابلة للجعل والاعتبار ، إذ انّها عبارة عن المصلحة والمفسدة والشوق والإرادة والكراهة وهي امور واقعيّة تكوينيّة لا تخضع للجعل.

وأمّا شرائط المجعول فهي عبارة عن الموضوعات المجعول عليها الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ولكن بوجوداتها الخارجيّة ، فوجود الموضوعات خارجا يؤثر في تحقق الفعليّة لهذه الأحكام فهو بمثابة العلة للحكم بمرتبة المجعول ، أي هو بمثابة العلة لوصول الحكم مرحلة الفعليّة.

ومثال ذلك البلوغ والعقل والاستطاعة بالنسبة للحج ، فإنّ وجوب الحج لا يكون فعليا إلاّ بذلك ، وهكذا الإيجاب والقبول بالنسبة للملكيّة والزوجيّة ، فإنهما وبوجودهما الخارجي يؤثران في تحقق الملكيّة والزوجيّة.

ثمّ انّه تعارف اطلاق شرائط المجعول على ما اعتبر وجوده مع الموضوع دخيلا في تحقق الفعليّة للحكم ، فكأنما شرائط المجعول خاصة بالقيود الدخيلة في تحقق الفعليّة للحكم ولا تشمل الموضوعات إلاّ انّ ذلك غير مراد منهم ، فشرائط المجعول هو كلّ ما يكون دخيلا في تحقّق الفعليّة للحكم ، فلا يختصّ بالقيود.

وبتعبير آخر : انّ شرائط المجعول هي موضوعات الأحكام بوجودها الخارجي ، والمقصود من الموضوعات هو كلّ ما اعتبر دخيلا في تحقق الفعليّة

٢٠٩

للحكم ، فالقيد المعتبر دخيلا مع الموضوع في تحقق الفعليّة جزء الموضوع روحا وواقعا.

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الشرطيّة والسببيّة والمانعيّة ».

* * *

٣٩٠ ـ شرط الاتّصاف

إذا كان الشيء دخيلا في اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة فهو من شروط الاتّصاف أيّ من شروط اتّصاف الفعل بالملاك.

فالدواء مثلا يكون نافعا للمريض دون غيره ، فحينما لا يكون الشخص مريضا فإنّ الدواء لا يكون نافعا له بل قد يكون ضارّا له ، فالمرض إذن دخيل في اتّصاف شرب الدواء بالمصلحة ، لذلك كان المرض شرط في الاتّصاف ، أي شرط في اتّصاف شرب الدواء بالمصلحة والملاك.

وكذلك بالنسبة للشراب المسكر فإنّ اتّصاف شربه بالمفسدة نشأ عن إسكاره ، فالإسكار إذن من شروط الاتّصاف بالملاك.

ولأنّ أحكام الله عزّ وجلّ تابعة للملاكات وجودا وعدما كان ذلك مقتضيا لأن تكون شروط الاتّصاف بالملاك دخيلة في ثبوت الحكم لموضوعه ، بمعنى أنّ الموضوع إذا انتفى عنه الملاك فإنّ ذلك ينتج انتفاء الحكم عنه.

ولأنّ إرادة جعل الحكم على موضوعه منوطة بإدراك اشتمال الموضوع على الملاك كان ذلك معناه أنّ شرط الاتّصاف دخيل بوجوده العلمي في انقداح الإرادة لجعل الحكم.

فما لم يعلم باتّصاف الموضوع بالملاك فإنّه لن تنقدح في نفسه إرادة جعل الحكم ، فشرط الاتّصاف دخيل في تحقّق الإرادة لجعل الحكم ولكن بوجوده العلمي ، بمعنى أنّ الشيء قد يكون واجدا للملاك إلاّ أنّه لا ينتج انقداح الإرادة للحكم لعدم العلم باتّصاف الموضوع بالملاك ، فشرط الاتّصاف دخيل في انقداح الإرادة ولكن لا بوجوده الخارجي بل وجوده العلمي.

٢١٠

ولذلك لا تحصل للمريض إرادة لشرب الدواء إذا لم يكن يعلم أنّه مريض وقد يريد شرب الدواء لا لأنّه مريض واقعا بل لتوهّمه بأنّه مريض.

ولأنّ شرط الاتّصاف دخيل بوجوده العلمي في انقداح الإرادة كان ذلك مقتضيا لأن يكون دخيلا في جعل الحكم على موضوعه لأنّ جعل الحكم على موضوع مقدّر لا يكون إلاّ عن إرادة الجعل وإرادة الجعل متوقّفة على إدراك اتّصاف الموضوع ـ المراد جعل الحكم عليه ـ بالملاك.

ولأنّ الحكم قد جعل على موضوع قدّر له أن يكون متّصفا بالملاك كان ذلك معناه توقّف فعليّة الحكم على وجود الموضوع المتّصف بالملاك خارجا.

فالنتيجة أنّ شرط الاتّصاف بالملاك دخيل في إرادة الحكم وجعله وفعليّته ، فهو دخيل بوجوده العلمي في الإرادة والجعل ودخيل بوجوده الخارجي في الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة.

* * *

٣٩١ ـ شرط الترتّب

المراد من شرط الترتّب هو كلّ شرط يتوقّف استيفاء الملاك والمصلحة عليه.

فالمصلحة المشتمل عليها الموضوع والتي كانت سببا في جعل الحكم عليه قد لا يمكن تحصيلها واستيفاؤها إلاّ على تقدير خاصّ ، هذا التقدير الخاصّ والمعيّن هو الذي يعبّر عنه بشرط الترتّب أي شرط ترتّب المصلحة من الفعل.

فالدواء مثلا يكون واجدا للمصلحة بالنسبة لخصوص المريض ، لذلك كان المرض من شروط اتّصاف الدواء بالمصلحة إلاّ أنّ هذه المصلحة المشتمل عليها الدواء قد لا يمكن استيفاؤها منه إلاّ حينما يشربه المريض بكيفيّة خاصّة ، فحينما لا يلتزم المريض بهذه الكيفيّة فإنّ المنفعة المنتظرة من الدواء لا تترتّب ولا تتحقّق. وهذا لا يعني أنّ الدواء ليس ذا مصلحة ، فهو واجد لها بقطع النظر عن استعمال

٢١١

المريض وعدم استعماله إلاّ أنّه إذا أراد الانتفاع منه لزمه استعماله بكيفيّة خاصّة كأن يشربه قبل النوم أو بعد الطعام ، هذه الكيفيّة هي المعبّر عنها بشرط الترتّب.

وبذلك يتّضح أنّ شرط الترتّب لا يكون دخيلا في وجود الملاك ، لأنّ اشتمال الموضوع على الملاك ثابت بقطع النظر عن شرط الترتّب ، أي اتّصاف الدواء بالمصلحة ثابت بقطع النظر عن استعمال المريض له بالكيفيّة الخاصّة أو عدم استعماله.

وكذلك لا يكون شرط الترتّب دخيلا في انقداح الإرادة في النفس للقيام بالفعل الواجد للملاك ، بل إنّ المريض أو المشرّع تحصل منه الإرادة بقطع النظر عن شروط الترتّب.

وهكذا الحال فيما يتّصل بالحكم بمرتبة الجعل ، فالمولى ينشئ جعل الحكم على الفعل الواجد للملاك دون تقييده بشروط الترتّب ، وإذا تحقّق موضوع الحكم خارجا أصبح الحكم فعليّا حتّى حينما تكون شروط الترتّب غير متحقّقة ، غايته أنّ الامتثال لا يكون إلاّ حينما يحصّل العبد شروط الترتّب.

وبذلك يتّضح أنّ شروط الترتّب هي المعبّر عنها بقيود الواجب. فالصلاة عند الزوال مثلا لمّا كانت واجدة للملاك كان ذلك سببا في إرادة جعل الوجوب عليها وسببا في إنشاء الوجوب ، وكان تحقّق الزوال خارجا سببا في صيرورة الوجوب فعليّا.

إلاّ أنّ استيفاء الملاك من الصلاة لا يتمّ إلاّ حينما يكون المكلّف متطهّرا ، فالطهارة هي شرط الترتّب لكن ذلك لا يعني كونها سببا في اشتمال الصلاة على المصلحة بل إنّ الصلاة واجدة للمصلحة بقطع النظر عن امتثال المكلّف وعدم امتثاله وبقطع النظر عن تحصيل المكلّف للطهارة وعدم تحصيله لها ، ولذلك فهي ليست سببا في إرادة إنشاء الجعل وليست سببا في الجعل كما أنّها ليست سببا في تحقّق الفعليّة لوجوب الصلاة ، فالمكلّف مسئول عن الصلاة عند تحقّق الزوال

٢١٢

بقطع النظر عن تحصيل الطهارة ، نعم هو إذا أراد الخروج عن عهدة التكليف فلا بدّ وأن يأتي بحصّة خاصّة للصلاة وهي الصلاة عن طهارة.

فشروط الترتّب تنتج تحصيص المطلوب بحصّة خاصّة وهي الحصّة الواجدة لتلك الشروط ، لذلك يجب على المكلّف ـ حين يصبح التكليف فعليّا ـ السعي لتحصيل شروط الترتّب حتّى يتمكّن من تحصيل المطلوب ( الواجب ).

وخلاصة الكلام أنّ شروط الترتّب هي قيود الواجب التي يلزم المكلّف تحصيلها.

* * *

٣٩٢ ـ الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن

ذكروا انّ القيود أو قل المقدمات الخارجيّة تنقسم الى ثلاثة أقسام ، قيود مقارنة وقيود متقدّمة وقيود متأخرة ، ويعبّر عن الاولى بالشرط المقارن وعن الثانية بالشرط المتقدّم وعن الثالثة بالشرط المتأخّر ، وهذا التقسيم تقسيم لقيود الوجوب « الحكم » ولقيود الواجب أي متعلّق الحكم.

والمراد من الشرط المقارن هو القيد المأخوذ بنحو يكون متحدا زمانا مع المقيد ، وهو تارة يكون راجعا الى الحكم واخرى يكون راجعا الى متعلّق الحكم ، فالقيد أو الشرط الراجع للحكم هو القيد الذي يكون تحقّقه موجبا لتحقّق الفعليّة للحكم بحيث لا تكون ثمة فاصلة زمنيّة بين تحقّق القيد خارجا وبين تحقق الفعليّة للحكم.

ويمكن التمثيل لذلك بزوال الشمس بالنسبة لوجوب صلاة الظهر.

والشرط المقارن الراجع لمتعلّق الحكم هو القيد المأخوذ على نحو تكون صحة الواجب منوطة بتواجده في زمان أدائه بمعنى أن لا يكون الواجب فاقدا للشرط حين أدائه.

ويمكن التمثيل للشرط المقارن للواجب بالاستقبال والساتر والكون

٢١٣

على طهارة ، فإنّ كل هذه الشروط من الشروط المقارنة للصلاة والتي هي متعلّق الحكم بوجوب الصلاة.

وأمّا المراد من الشرط المتقدّم فهو القيد الذي أخذ بنحو يكون متقدّما على المقيّد ، أي يلزم أن يكون وجوده قبل وجود المقيّد به ، وهو أيضا تارة يكون راجعا الى الحكم واخرى يكون راجعا لمتعلّق الحكم.

فالقيد أو الشرط المتقدّم الراجع للحكم هو القيد الذي افترض على نحو تكون فعليّة الحكم متأخرة عنه. ومثاله الاستطاعة بناء على انّ الفعلية لوجوب الحج انّما تكون بعد تحقق أشهر الحج.

والشرط المتقدم الراجع لمتعلّق الحكم هو القيد الذي أخذ على نحو يكون متقدما على أداء الواجب بحيث لا يكون المتعلّق واجدا لشرط الصحة ما لم يتحقّق القيد أولا.

ومثاله الطهارات الثلاث بالنسبة للصلاة والطواف ، فإنّها اخذت متقدّمة عليهما.

وأمّا الشرط المتأخّر فهو القيد الذي أخذ على نحو يكون متأخرا عن زمان المقيّد.

فالشرط المتأخر الراجع للحكم هو القيد المتأخر زمانا عن الحكم والموجب لفعليّته من حين وقوع متعلّقه ، ويمكن التمثيل له بعقد الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، وذلك لأنّه بناء على الكشف تكون إجازة المالك موجبة لنفوذ العقد من حين وقوعه ، فتكون الإجازة المتأخرة شرطا في نفوذ ما وقع من عقد في زمن متقدم ، بمعنى انّ الشارع اعتبر نفوذ العقد متحققا من أول وقوع العقد متى ما تحققت الإجازة المتأخرة ، فتكون الإجازة من الشروط الراجعة للحكم.

وبتعبير آخر : تكون الإجازة من الشروط الراجعة للحكم بصحّة العقد والذي هو حكم وضعي ، والتي تعني اعتبار الشارع ترتب الأثر ، وقد قلنا في بحث الصحّة انّ الصّحة في المعاملات تعني اعتبار الشارع ترتب

٢١٤

الأثر على المعاملة.

أمّا الشرط المتأخّر الراجع لمتعلّق الحكم فهو القيد الذي اخذ على نحو يكون متعلّق الحكم منوطا أداؤه على الوجه المطلوب بتحقق ذلك القيد متأخرا عن تحقق المتعلّق « الواجب ».

ويمكن التمثيل له بغسل المستحاضة الليلي ، فإنّه شرط في صحّه الصوم الواقع في النهار المتقدّم ، والمراد من الصحّة هنا هو مطابقة المأتي به للمأمور به ، فلا تتحقّق مطابقة الصوم المأتي به للمأمور به ما لم تغتسل المستحاضة في الليل الذي صامت نهاره.

هذا هو حاصل المراد من الشروط المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة.

* * *

٣٩٣ ـ الشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع

يتمّ البحث في علم الأصول عن هذا العنوان عند التصدّي لبيان ما ينتج المفهوم في الجمل الشرطيّة ، وقد أفيد هناك أنّ الجملة الشرطيّة لا تكون ظاهرة في المفهوم إلاّ حينما يكون موضوع الحكم متقرّرا أو منحفظا بقطع النظر عن الشرط.

وبيان ذلك :

أنّ الشرط في الجملة الشرطيّة على قسمين :

القسم الأوّل : هو الشرط الذي يثبت لموضوع الحكم مع إمكان زواله عن الموضوع ورغم ذلك يبقى الموضوع منحفظا.

وبتعبير آخر : يكون الشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع المتقرّر في مرحلة سابقة عن عروض الشرط عليه ، فلذلك لا يكون للشرط دخل في وجود الموضوع ، بل إنّه إذا اتفق عروضه على الموضوع يثبت الحكم للموضوع ، مثلا : « إذا كان زيد فقيرا فتصدّق عليه » فوجوب التصدّق ثبت لموضوعه وهو زيد بواسطة عروض الشرط عليه ، وهذا الموضوع متقرّر وثابت بقطع النظر عن

٢١٥

الشرط ، فهو لا يساوي الشرط وجودا وعدما ، فقد يوجد زيد ولا يكون فقيرا ، وقد يثبت له الفقر ثمّ يزول عنه.

فإذا كانت علاقة الشرط بموضوع الحكم من هذا القبيل فالجملة الشرطيّة لها مفهوم.

القسم الثاني : هو الشرط الذي يكون مساويا لموضوع الحكم وجودا وعدما ، فحيثما وجد الشرط وجد معه الموضوع ، وحيثما انعدم الشرط انعدم معه الموضوع ، فليس للموضوع تقرّر وثبوت في صورتي وجود الشرط وعدمه ، وهذا النحو من الشروط في الجمل الشرطيّة هو المعبّر عنه بالشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع ، وهو قد يكون غير الموضوع إلاّ أنّه مساو للموضوع في الوجود والعدم وقد يكون هو عين الموضوع ، وفي كلا الحالتين لا يكون للجملة الشرطيّة مفهوم وذلك لأنّ المفهوم ـ كما قلنا ـ هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، فإذا كان الموضوع منتفيا بانتفاء الشرط أو كان الشرط هو الموضوع فأيّ موضوع نبحث عن انتفاء الحكم عنه ، وهل هو إلاّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخرى : إنّ الثمرة التي نستفيدها من المفهوم هي أنّ الحكم في ظرف انتفاء الشرط منتف عن الموضوع فإذا لم يكن هناك موضوع في ظرف انتفاء الشرط فلا حاجة للمفهوم في إثبات انتفاء الحكم لأنّ الحكم في مثل هذه الحالة منتف حتما لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، نعم لو كان للموضوع تقرّر وثبوت حتّى في ظرف انتفاء الشرط يكون للمفهوم فائدة إذ قد ينتفي الشرط ولا ينتفي الحكم عن الموضوع فيكون دور المفهوم هو إثبات انتفاء الحكم عن موضوعه في ظرف انتفاء الشرط.

ويمكن التمثيل للشرط المساوي للموضوع بهذا المثال : « إن رزقت ولدا فاختنه » فإنّ الموضوع مساو للشرط المعلّق عليه الأمر بالختن وهو

٢١٦

أن يرزق المكلّف ولدا.

فإنّ عدم رزق الله المكلّف للولد معناه عدم الولد أي عدم الموضوع ، وبهذا ينتفي الحكم وهو الأمر بالختن بانتفاء موضوعه وهو الولد ، وذلك لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها وليس انتفاء الحكم بسبب المفهوم إذ أنّ المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند انتفاء الشرط.

* * *

٣٩٤ ـ الشرط من أجزاء العلّة

ذكروا انّ أجزاء العلّة أربعة ، المعد والشرط والمقتضي وعدم المانع ، ونبيّن في المقام المراد من الشرط.

ذكر الفلاسفة انّ الشرط عبارة عن الكيفيّة الخاصّة التي اذا توفّر عليها المقتضي أثّر أثره ، بمعنى انّ الشيء قد يكون له اقتضاء التأثير شأنا إلاّ انّ فعليّة تأثيره تكون منوطة بتكيفه بكيفيّة خاصة ، هذه الكيفيّة هي المعبّر عنها بالشرط.

ويمكن التمثيل لذلك بالفاعل المختار ، فإنّه بنفسه مقتض لصدور الفعل الاختياري عنه إلاّ انّ فعليّة صدور الفعل منه عن اختيار منوطة بالعلم ، فلا بدّ أولا من تصوّر الفعل وتصوّر فائدته ثم التصديق والإذعان بذلك ، وعندئذ يؤثر المقتضي ـ وهو فاعليّة الفاعل ـ أثره والذي هو الفعل الاختياري ، وكلّ فعل يصدر عن الإنسان لا يكون عن علم لا يكون فعلا اختياريا ، ولهذا لا يقال عن حركة النائم انّها اختياريّة.

كما انّ الشرط قد يطلق على الشيء الموجد للكيفيّة الخاصة المصحّحة لتأثير المقتضي لأثره ، فيطلق الشرط على تقريب الخشبة من النار حتى تؤثر النار أثرها ، وهو الإحراق.

ثم انّهم قد ذكروا للشرط قسمين :

القسم الأول : الشرط من جهة الفاعل ، وهو الموجب لفعليّة تأثير الفاعل أثره ، فالشيء الذي إذا توفر عليه الفاعل صار قادرا على إيجاد أثره هو المعبّر عنه بالشرط من جهة الفاعل أو شرط فاعليّة الفاعل.

٢١٧

ومثاله : الضوء بالنسبة للعين فإنّه شرط فاعليتها للرؤية ، فالعين لا تؤثر أثرها وهو الرؤية ما لم تكن ثمّة اضاءة ، ومن هنا قالوا انّ الشرط مكمل لفاعليّة الفاعل.

القسم الثاني : الشرط من جهة القابل ، والقابل هو المحل الذي يستقبل الفيض من العلّة. والشرط من جهة القابل هو الشيء الذي إذا توفر عليه القابل صار مؤهلا لاستقبال الفيض من العلة ، ويمكن التمثيل له بيبوسة الخشبة ، فالخشبة هي القابل للاحتراق واليبوسة شرط في تأهّل الخشبة للاحتراق.

والمتحصّل انّ الشرط هو المصحّح لفاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل ، ولذلك لا يلزم أن يكون وجوده مزامنا لوجود المعلول ، فقد يتقدم الشرط زمانا على المعلول ، وهذا لا يعني تخلّف المعلول عن علته ، إذ انّ الذي يلزم أن يكون مزامنا لوجود المعلول ويكون تقدّمه زمانا على وجود المعلول موجبا لتخلّف المعلول عن علته هو الجزء الاخير من العلة كما أفاد ذلك السيد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

٣٩٥ ـ الشرطية والسببيّة والمانعيّة

ذكر الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله انّ الشرطية والسببيّة والمانعيّة الراجعة للتكليف غير قابلة للجعل لا بنحو الاستقلال ولا بالتبع ، ومن هنا لا تكون من الأحكام الوضعيّة.

وأورد عليه السيد الخوئي رحمه‌الله بأنّ ذلك انّما يتم في أسباب وشرائط وموانع الجعل فإنّها امور واقعيّة ثابتة في نفس الأمر ولا تخضع للجعل والاعتبار ، وذلك لأنّ أحكام الله جلّ وعلا تابعة للمصالح والمفاسد والملاكات الواقعيّة ، فاشتمال فعل على مصلحة واقعيّة يكون سببا في جعل حكم متناسب مع مستوى المصلحة المشتمل عليها ذلك الفعل على أن لا يكون ثمة مانع يزاحم تلك المصلحة المتعلّقة بالفعل ، ولو كانت تلك المصلحة منوطة بشرط واقعي فإنّ

٢١٨

جعل الحكم على ذلك الفعل منوط بتوفره على الشرط.

فإذن أسباب وموانع وشرائط الجعل امور تكوينيّة واقعيّة غير قابلة للجعل والاعتبار فلا تكون من سنخ الأحكام الوضعيّة إلاّ انّ دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله لا يمكن قبولها في أسباب وشرائط وموانع المجعول أي الحكم بمرتبة الفعليّة ، فإنّه لا ريب في كونها من المجعولات الشرعيّة.

وبيان ذلك : انّ فعليّة التكليف منوطة بتحقّق موضوعه خارجا ، وذلك مستفاد من جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ، بمعنى جعلها على موضوعاتها المقدرة الوجود ، وهذا يقتضي اعتبار الشارع الحكم على عهدة المكلف في ظرف تحقّق موضوعه خارجا ، إذ انّ الشارع لاحظ الموضوع وقدّره وجعل عليه الحكم واعتبر المكلّف مسئولا عن امتثال الحكم لو اتّفق تحقّق الموضوع ـ المقدر ـ خارجا.

فمسئوليّة المكلّف عن الحكم في ظرف تحقّق الموضوع خارجا انّما نشأ عن اعتبار الشارع ، وحينئذ نقول : ان الشارع قد يعتبر الحكم بمجرّد تحقق الموضوع خارجا ، وهذا هو معنى اطلاق الحكم والتكليف ، وقد يعتبر الحكم على المكلّف في ظرف اشتمال الموضوع على قيد زائد ، وهذا القيد هو المعبّر عنه بالشرط والذي يقتضي أن يكون الحكم مقيدا بعد أن كان مطلقا في الفرض السابق. وقد يعتبر الحكم على المكلّف في ظرف انعدام شيء عن الموضوع ، أي في ظرف عدم اتّصاف الموضوع بشيء ، وهذا هو المانع الموجب لكون الحكم مقيدا بعدم وجود ذلك الشيء مع الموضوع.

فالمتصف بالإطلاق والتقييد بالشرط أو المانع هو الحكم في مرتبة الفعليّة ، ولاحظتم انّ ذلك انّما نشأ عن اعتبار الشارع ، وهذا هو المصحّح لدعوى انّ الشرطيّة والمانعيّة من المجعولات الشرعيّة حيث اتّضح ممّا تقدم انّ الشرطيّة والمانعيّة ليستا أكثر من اعتبار فعليّة التكليف مقيّدة

٢١٩

بوجود شيء مع الموضوع أو بانعدام شيء عن الموضوع.

فالشرطيّة والمانعيّة منتزعتان عن اعتبار الشارع فعليّة الحكم منوطة بوجود شيء مع الموضوع أو عدم شيء عن الموضوع ، فحينما يقول الشارع « المكلّف المستطيع يجب عليه الحج » ينتزع العقل عن ذلك شرطيّة الاستطاعة لتحقّق الفعليّة للحج ، فالشرطيّة انتزعت عن اعتبار الفعليّة لوجوب الحجّ منوطة باتّصاف الموضوع « المكلّف » بالاستطاعة.

وحينما يقول الشارع « المرأة الحائض لا تجب عليها الصلاة » ننتزع عن ذلك مانعيّة الحيض لفعليّة الوجوب للصلاة ، فالمانعيّة انتزعت عن اعتبار الشارع الفعليّة لوجوب الصلاة منوطة بعدم التحيض للمرأة والتي هي موضوع التكليف.

ثم انّه لا فرق بين الشرطيّة والسببيّة فكلاهما يعبّران عن معنى واحد ، غايته انّ الفقهاء يستعملون الشرطيّة في القيود المأخوذة في الأحكام التكليفيّة ويستعملون السببيّة في القيود المأخوذة في الأحكام الوضعيّة ، بمعنى انّ الحكم اذا كان من سنخ الأحكام التكليفيّة فكلّ شيء اعتبر دخيلا في تحقق الفعليّة لذلك الحكم يعبّر عنه بالشرط ، ولهذا يعبرون عن الاستطاعة ودخول الوقت بالشرط.

أما لو كان الحكم من سنخ الأحكام الوضعيّة فكلّ شيء اعتبر دخيلا في تحقق الفعليّة لذلك الحكم يعبّر عنه بالسبب ، ولهذا يعبّرون عن الحيازة بأنّها سبب للملكيّة وبأنّ موت المورّث سبب لاستحقاق الوارث للميراث وانّ غسل الأخباث سبب في التطهير وهكذا.

والمتحصّل انّ السببيّة والشرطيّة والمانعيّة الراجعة للحكم بمرتبة المجعول أحكام وضعيّة ، والأول والثاني منتزعان عن اعتبار الشارع التكليف منوطا بوجود شيء في الموضوع ، والمانعيّة منتزعة عن اعتبار التكليف منوطا بعدم شيء مع الموضوع.

٢٢٠