المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

مستوجبا للوقوع في العسر والحرج فإنّ المعلوم من الشارع اهتمامه بعدم وقوع المكلفين في العسر والحرج ، وهذا ما ينفي الحسن عن الاحتياط لانتفاء الحيثيّة التعليليّة لحسنه.

ومع ذلك لا يسقط الاحتياط بتمام مراتبه بمجرّد استلزام الاحتياط التام لاختلال النظام أو العسر والحرج فإنّ سقوط الاحتياط انّما هو لمزاحمته لهذين الملاكين فالساقط عندئذ هو المزاحم لهما لا مطلقا ، ومن هنا يظلّ العقل مدركا لحسن الاحتياط في المرتبة التي لا تكون مزاحمة لأحد هذين الملاكين ، وهذه المرتبة هي المعبّر عنها بالتبعيض في الاحتياط أو الامتثال الظني إن لم تكن هذه المرتبة مزاحمة أيضا للملاكين المذكورين وإلا فمع مزاحمتها لهما فإنّ ما يدركه العقل عندئذ من حسن الاحتياط هو مرتبة الامتثال الاحتمالي.

* * *

٣١ ـ الاحتياط في التعبديات

والغرض من عقدهم هذا البحث هو ما وقع من اشكال في امكان الاحتياط في الاحكام التعبديّة وإلا فالأحكام التوصليّة ـ والتي لا يكون الغرض منها سوى تحقق متعلّقها في الخارج ـ فلا مسرح للإشكال في امكان الاحتياط في موردها ، فلو وقع الشك في وجوب دفن هذا الميت لاحتمال إسلامه وعدم وجوبه لاحتمال كفره فلا ريب في انّ مقتضى الاحتياط هو ايقاع الدفن وليس من محذور يترتب على هذا الاحتياط ، وذلك لتوفّره على الحيثية التعليلية القاضية بحسنه والتي هي التحفّظ على الواقع ، إذ لعلّ الواقع هو وجوب الدفن.

انّما الكلام في الاحكام التعبديّة المتقومة بقصد الوجه وقصد الامر المولوي ، وهنا صورتان :

الصورة الاولى : لو دار الأمر بين

٨١

وجوب الشيء واستحبابه فهل الاحتياط في هذه الصورة ممكن لو كان مورد الشك من سنخ الامور العبادية أو انّ الاحتياط غير ممكن؟

قد يقال بعدم الإمكان ، وذلك لتعذّر قصد الوجه في المقام ، إذ لا يتأتى للمكلّف قصد الاستحباب أو الوجوب لافتراض الشك فيما هو سنخ المطلوب المتوجّه اليه ، وهل هو الوجوب أو الاستحباب ، فقصد أحدهما تشريع محرّم.

والجواب عن هذا الإشكال مبني على عدم اعتبار قصد الوجه ـ أي قصد سنخ الطلب من وجوب أو استحباب ـ وعندها ينتفي المحذور من الاحتياط ، وهذا هو ما استقرّ عليه المحققون وانّ امتثال الاوامر العبادية ليس منوطا بأكثر من قصد التقرب للمولى جلّ وعلا ، وقصد التقرب للمولى في هذه الصورة ممكن بلا ريب بعد احراز الأمر المولوي الأعم من الوجوبي والاستحبابي.

الصورة الثانية : ما لو دار الأمر بين الوجوب والإباحة أو بين الاستحباب والإباحة. والإشكال على امكان الاحتياط في هذه الصورة ينشأ عن عدم امكان قصد الأمر المولوي ، وذلك لعدم إحرازه اذ من المحتمل ان يكون الواقع هو الاباحة وعندئذ إما ان يأتي بالفعل المردد بقصد الأمر وحينها يكون مشرّعا ، لأنّ البناء على الوجوب او الاستحباب مع عدم الجزم به من أنحاء التشريع المحرّم ، وان أتى بالفعل دون قصد الأمر فهذا ليس من الاحتياط بشيء ، وذلك لأن الاحتياط يعني التحفّظ على الواقع بحيث يحصل الجزم بعد الاحتياط بالاتيان بالواقع لو كان ، والحال انّه في الفرض الثاني ليس كذلك ، إذ لو كان الواقع هو الوجوب أو الاستحباب فإن المكلّف لم يأت به ، لأن امتثال الواجب العبادي وكذلك المستحب

٨٢

العبادي متقوّم بقصد الأمر.

والجواب عن هذا الإشكال هو انّه لا دليل على اعتبار قصد الأمر بخصوصه في التعبديات وانما المعتبر في موردها هو الاتيان بالفعل مضافا للمولى بنحو من أنحاء الإضافة كقصد التقرّب والتحبّب للمولى جلّ وعلا ، واذا كان كذلك فالاحتياط في هذه الصورة ممكن بلا ريب ، وذلك بأن يأتي المكلّف بالفعل المردد برجاء ان يكون مطلوبا للمولى وهو نحو من أنحاء الإضافة للمولى جلّ وعلا بل هو أدعى للتقرّب من بعض الإضافات.

* * *

٣٢ ـ الاحتياط قبل الفحص

والمراد من هذا الاحتياط هو الاحتياط العقلي وكذلك الشرعي احتمالا ، وذلك بقرينة انّهم تارة يستدلون عليه بعدم شمول قاعدة قبح العقاب بلا بيان لهذه الصورة ، وهذا ما يناسب الاحتياط العقلي ، وتارة يستدلون عليه بانصراف الادلة الشرعية اللفظية ـ الدالة على البراءة الشرعية ـ عن هذه الصورة وعليه لا مانع من التمسك بأدلة الاحتياط الشرعي لو تمّت ولم تكن إرشاديّة وإلا فلزوم الاحتياط قبل الفحص عقلي لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل غير المؤمّن عنه.

وعلى أيّ حال فالمراد من الاحتياط قبل الفحص هو لزوم الامتثال الاجمالي القطعي ـ أي المنتج لإحراز المطابقة للواقع ـ قبل مراجعة الادلة الاجتهادية القطعية والظنيّة المعتبرة أي التي قام الدليل القطعي على حجيتها.

وموضوع قاعدة الاحتياط قبل الفحص هو خصوص الشبهات الحكمية إذا كانت الشبهة بدويّة ، أما إذا كانت إجمالية فالاحتياط معها لازم

٨٣

سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية على انّ لزوم الاحتياط في موردها لا يختص بما قبل الفحص بل يظلّ الاحتياط لازما حتى بعد الفحص لو اتفق عدم العثور على ما يوجب انحلال العلم الإجمالي.

وأما الشبهات الحكمية البدويّة فالمرجع بعد الفحص وعدم العثور على الدليل المثبت للتكليف بل والنافي للتكليف المرجع هو أصالة البراءة العقلية والشرعية كما هو مسلك المشهور أو الشرعية فحسب كما هو مسلك السيد الصدر رحمه‌الله ، وأما الاخباريون فمبناهم التفصيل بين الشبهات الحكمية التحريمية والشبهات الحكمية الوجوبية ، فالثانية مجرى لأصالة البراءة بعد الفحص ، وأما الاولى فالجاري في موردها هو الاحتياط الشرعي في حال عدم العثور على ما ينفي الحرمة.

وأما الشبهات الموضوعية فالظاهر انّه لم يختلف أحد في انها مجرى لأصالة البراءة سواء قبل الفحص أو بعده وعدم ارتفاع الشك.

ثم ان البحث عمّا هو مقدار الفحص الذي يرتفع معه موضوع أصالة الاحتياط العقلي ويصحح جريان البراءة ، وقد ذكر السيد الخوئي رحمه‌الله انّ الاحتمالات الثبوتية في المقام ثلاثة :

الاحتمال الاول : ان يكون مقدار الفحص موجبا للعلم بعدم وجود الدليل.

الاحتمال الثاني : ان يكون مقدار الفحص موجبا للظن بعدم الدليل.

الاحتمال الثالث : ان يكون مقدار الفحص موجبا للاطمئنان بعدم الدليل.

أما الاحتمال الاول فساقط جزما ، وذلك لأنّ الدليل على لزوم الفحص لا يقتضي ذلك ، إذ انّ الأدلة على لزوم الفحص هي إما دعوى انّ ما يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان لا

٨٤

يشمل حالات عدم الفحص ، فلو كان هذا هو الدليل على لزوم الفحص قبل إجراء البراءة فإنّه لا يقتضي ان يكون مقدار الفحص هو الموجب للعلم بعدم الدليل ، إذ انّ الفحص المصحح لإدراك العقل لقبح العقاب بلا بيان هو الفحص المتعارف والذي هو البحث عن الأدلة في مظانّها وهو لا يوجب القطع بعدم الدليل.

وأما لو كان دليل لزوم الفحص هو دعوى الاجماع فهو لا يقتضي أكثر من لزوم الفحص في الجملة امّا ما هو مقدار الفحص فهو خارج عن معقد الإجماع.

وأما لو كان الدليل هو العلم الاجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة فالعلم الاجمالي يمكن انحلاله ولو حكما بالفحص المتعارف ، فلا يلزم ان يكون الانحلال حقيقيا كي يقال بلزوم ان يكون مقدار الفحص موجبا للعلم بعدم الدليل.

وأما لو كان دليل لزوم الفحص هو انصراف أدلة البراءة الشرعية عن حالات عدم الفحص فهذا الانصراف لا يكون مع الفحص المتعارف.

هذا أولا وثانيا انّ دعوى لزوم ان يكون مقدار الفحص موجبا للقطع بعدم الدليل لا تعدو عن كونها وهميّة لتعذّر حصول القطع بعدم الدليل ، وهذا ما يستوجب انسداد باب الاستنباط ، لأنّ الفقيه مهما بذل من جهد فإنّ القطع بعدم الدليل لا يحصل ، إلا ان يقال بأن غاية ما يلزم من شرطية حصول القطع بعدم الدليل هو عدم إمكان إجراء البراءة وهذا لا يلزم منه انسداد باب الاستنباط ، لانّ هذه الدعوى لا تقتضي عدم جواز العمل بالادلة الاجتهادية الغير الموجبة للعلم إذا كانت معتبرة.

وأما الاحتمال الثاني فمنشأ سقوطه هو انّ الظن بعدم الدليل ليس حجة لعدم حجية الظن في نفسه إلا مع قيام

٨٥

الدليل القطعي على حجيته وهو مفقود في المقام ، إذ انّ وجوب الفحص لا ينتهي بحصول الظن بعدم الدليل كما هو مقتضى أدلته.

وأما الاحتمال الثالث : فهو المتعين ، وذلك لانّ الاطمئنان حجة شرعا لقيام السيرة العقلائية الممضاة على ذلك.

ومن هنا فحصول الاطمئنان بعدم الدليل ـ والذي ينشأ عن الفحص عنه في مظانّه ـ كاف في انتفاء موضوع أصالة الاحتياط العقلي ومصحح لجريان البراء العقليّة والشرعية.

* * *

٣٣ ـ أخبار من بلغ

تبحث تحت هذا العنوان قاعدة « التسامح في أدلة السنن » من حيث تماميتها وعدم تماميتها وما هي حدود هذه القاعدة لو تمت.

والمدار في البحث عن ذلك هو ما يستظهر من مجموعة من الروايات تبلغ حدّ الاستفاضة وفيها ما هو معتبر سندا ، هذه الروايات معنونة بعنوان « أخبار من بلغ » وهو مقتبس من بعض هذه الروايات ، مثل رواية محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن كما بلغه » (٢).

وسوف نتعرض بشيء من التفصيل لهذا البحث تحت عنوان « التسامح في أدلة السنن ».

* * *

٣٤ ـ الاختيار

الاختيار قد يطلق فيكون في مقابل الجبر ، وقد يطلق فيكون في مقابل الاضطرار ، وقد يطلق في مقابل الإكراه ، وقد يكون بمعنى الانتخاب عند ما يواجه العاقل الملتفت مجموعة من الخيارات فينتخب أحدها ويهمل

٨٦

سائر الخيارات. وتفصيل ذلك انّ الاختيار يستعمل في أربع حالات :

الاولى : ان يكون الفعل ناشئا عن رغبة ودون ان يكون هناك قاسر أو قاهر خارجي ألجأه على القيام بالفعل ، والاختيار هنا في مقابل الجبر والذي يكون الفعل معه ناشئا عن قاسر خارجي ، ولا فرق في مثل هذه الحالة بين ان يكون الفعل القسري محبوبا أو مبغوضا كما لا فرق بين ان يكون الفاعل شاعرا وملتفتا حين صدوره عنه أو ذاهلا وغافلا عن صدوره عنه ، ففي تمام هذه الحالات يكون الفاعل مجبورا وذلك لصدور الفعل عنه قهرا.

الثانية : ان لا يكون الفعل ناشئا عن خوف الوقوع في محذور لا يحتمل أو يكون تحمّله شاقا ، على ان يكون المحذور من سنخ الامور التكوينية الغير المتصلة بإنسان آخر ، والاختيار هنا يقابل الاضطرار ، ومثاله ما لو شرب الإنسان السائل الخمري حتى لا يقع في الهلكة لعدم وجود ما يسد به الرمق.

وهذا الاضطرار وان كان ينافي الاختيار بالمعنى المذكور إلا انه لا ينافي الاختيار بمعان اخرى.

الثالثة : ان لا يكون الفعل ناشئا عن ضغط يمارس ضده من قبل شخص آخر بل يكون ناشئا عن رغبة نابعة عن إدراكه للمصلحة المترتبة على الفعل ، ويقابل هذا النحو من الاختيار الإكراه ، بمعنى ان يكون الفعل ناشئا عن ملاحظة المضاعفات المترتبة على ترك الفعل وكونها أسوأ مما سيترتب على صدور الفعل عنه.

وهنا لا يكون الإكراه منافيا لتمام معاني الاختيار.

الرابعة : ان يكون الفعل ناشئا عن ترجيح لأحد الخيارات ، وكان بوسعه ترجيح خيار آخر.

هذه حالات أربع يطلق على الفعل

٨٧

في موردها الفعل الاختياري ، وحتى يتبلور معنى الاختيار نذكر ما يتقوّم به مفهوم الاختيار حتى يكون تعريفه بعد ذلك واضحا.

المقوّم الاول : الوعي والالتفات وذلك في مقابل الغفلة والذهول التام كما لو صدر الفعل عن النائم فإنّه لا يتعقل في مورده الاختيار ، وهذا ما يعبّر عن انّ الاختيار لا يكون إلاّ مع مرتبة من الوعي والإدراك.

المقوم الثاني : العلم والالتفات الى انّ ما يصدر عنه متطابقا مع العنوان المقصود على ان يكون الواقع متطابقا مع المعلوم ، فلو قصد المكلّف شرب السائل المتعنون بعنوان الخمر وصدر عنه شرب ذلك السائل الملتفت الى انه خمر وكان ذلك السائل خمرا واقعا ، فهذا الفعل الصادر عنه اختياري إذا توفرت معه سائر الشروط.

وبهذا يتضح انّ العلم المعتبر في تحقق الاختيار ليس هو تلك الصفة النفسانية المعبّر عنها بالقطع بل المعتبر هو العلم المطابق للواقع ، فلو كان قاصدا لشرب الخمر ومعتقدا ان ما يشربه خمر إلا انّ الواقع انّ ذلك السائل الذي صدر عنه شربه لم يكن خمرا بل كان عصيرا عنبيا فهنا لا يكون شرب العصير العنبي بعنوانه اختياريا ، وكذلك لو شرب المكلّف خمرا معتقدا انّه ماء فإن شرب الخمر بعنوانه ليس اختياريا لانّه لا يعلم بخمريته وانما كان يقطع بكونه ماء ولم يكن قطعه واقعيا.

وبما ذكرناه يتضح انّ العلم المعتبر في صدق الاختيار هو العلم بعنوان الفعل الصادر على ان يكون الفعل منطبق العنوان ـ المعلوم والمقصود ـ واقعا.

ثم انّ المقصود من العلم المقوّم للاختيار هو العلم الإجمالي في مقابل الجهل التام بعنوان الفعل ، فيكفي في

٨٨

صدق الاختيار علم المكلف اجمالا بعنوان الفعل الصادر عنه ولا يلزم ان يكون عالما بحقيقة العنوان وبحدّه التام بل ولا برسمه ، فلو كان المكلف يعلم بخمرية هذا السائل ـ إلا انه يجهل ماهيته وممّ يتركب وما هي مضاعفاته ـ فإنّ ذلك كاف في صدق الاختيار عند اقدامه على شربه ، فلا يلزم العلم بتفاصيل العنوان كما هي دعوى الاشعري ، حيث استدل على عدم اختيارية ما يصدر عن المكلّف بدعوى تقوّم الاختيار بالعلم بتفاصيل عنوان الفعل الصادر وهذا لا يتفق لأحد ، فالنتيجة انّ صدور الأفعال عن المكلّفين ليس اختياريا.

ولا تخفى سماجة هذا الدليل لمنافاته للوجدان القطعي القاضي بكفاية العلم بالمميّز لعنوان الفعل الصادر عن سائر العناوين ، وهذا لا يستوجب أكثر من العلم اجمالا بعنوان الفعل الصادر ، فهذا المقدار هو الذي يقضي العقل باستحقاق فاعله للمدح أو الذم.

المقوّم الثالث : القدرة على الفعل الصادر عنه ، ولا تكون ثمة قدرة على فعل حتى تكون هناك قدرة على تركه ، ولهذا قالوا انّ القدرة تعني انّ له ان يفعل وله ان لا يفعل اما لو كان صدور الفعل عنه حتميا فإنّه لا يكون قادرا عليه لعدم قدرته على تركه.

المقوّم الرابع : وجود مرتبة من الرضا والرغبة في الفعل الصادر عن اختيار فلا يكون الفعل اختياريا لو تجرّد عن الرضا بتمام مراتبه ، فلو الجأ المكلّف على ايجاد فعل لم يكن له أدنى رغبة في صدوره عنه بحيث أصبح بمثابة الأداة فإنّ الفعل الصادر عنه لا يكون عندئذ اختياريا.

وبهذا يتضح انّ صدور الفعل في ظرف الإكراه وكذلك في ظرف الاضطرار ـ بالمعنى الذي ذكرناه هنا ـ يكون من قبيل الافعال الاختيارية ،

٨٩

إذ انّ صدور الفعل في ظرف الاكراه والاضطرار يكون ناشئا عن رغبة المكلّف في التخلّص من المحذور الأشق ، فهو وإن كان لو خلّي وطبعه لما اختار ذلك الفعل إلاّ انّ ذلك لا يسلب عن فعله صفة الاختيار بعد ان كانت مرتبة من الرغبة منحفظة في مورد فعله ، فالمريض الذي يدعو الطبيب لبتر عضو من أعضائه يعدّ مختارا وذلك لرغبته في قطع مادة المرض.

المقوّم الخامس : انّ الفعل لا يكون اختياريا إلا مع تصوره وتصور فائدته في الجملة ثم التصديق والإذعان بالفائدة وعندها ينقدح الشوق النفساني والرغبة في تحصيله.

هذا هو حاصل المقومات التي لا يكون الفعل اختياريا إلا مع التوفّر عليها. ولا يخفى تداخل هذه المقومات فيما بينها إلاّ انّ الغرض من بيانها بهذه الصورة هو تيسير فهمها.

* * *

٣٥ ـ أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر مثله

والمراد من هذه الفرضية هو ان يكون الحكم الذي أخذ العلم به قيدا في ترتّب الحكم الآخر مباينا ومغايرا للحكم الواقع في رتبة المحمول ، كما لو قيل : « إذا علمت بنجاسة العصير العنبي حرم عليك شربه » ، فالعلم بنجاسة العصير العنبي قطع موضوعي لافتراض وقوعه في رتبة الموضوع للحرمة ، كما انّ العلم بالنجاسة قطع طريقي لافتراض طريقيته وكاشفيته عن ثبوت النجاسة للعصير العنبي.

فالقطع الطريقي صار قطعا موضوعيا في هذه القضية ، ومن هنا يكون ثبوت الحرمة متولّدا عنه ، إذ انّ هذا هو مقتضى علاقة الموضوعات بأحكامها.

وكيف كان فلا ريب في امكان هذه الفرضية.

٩٠

ومن هنا يتضح الحال في أخذ العلم بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة اخرى ، كما لو قال المولى : « إذا علمت بإنشاء الحرمة للخمر فإنّ الحرمة تصبح فعلية في حقك » ، فإنّ الحكم بمرتبة الإنشاء غير الحكم بمرتبة الفعلية ، فأخذ العلم بالاول في موضوع الثاني نظير أخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر.

إلا ان يقال انّ العلم بالجعل ملازم للعلم بالمجعول أي انّ العلم بالإنشاء ملازم للعلم بالفعلية ، وحينئذ يكون أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم بمرتبة المجعول معناه أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوع نفس الحكم المجعول وهذا هو الدور المحال.

* * *

٣٦ ـ أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر مثله

والمراد من هذه الفرضية هو اعتبار قيدية العلم بحكم في موضوع حكم آخر إلاّ انّ هذا الحكم الآخر مسانخ للحكم الذي وقع العلم به قيدا في ترتب الحكم الآخر.

وبتعبير آخر : انّ الحكم الواقع في رتبة الموضوع غير الحكم الواقع في رتبة المحمول إلاّ انهما متسانخان ومتماثلان ، نعم الحكم الواقع في رتبة الموضوع ثابت لموضوعه ابتداء ، أما الحكم الواقع في رتبة المحمول فهو مترتّب على موضوعه بقيد العلم بثبوت الحكم الأول.

والمصحح لهذه الفرضية هو انّ الحكم الاول الواقع في رتبة الموضوع غير الحكم الثاني ، فهما وان كانا متحدين جنسا أو نوعا إلا انهما مختلفان شخصا ، فشخص الحكم الاول غير شخص الحكم الثاني ، مثلا : لو قيل « إذا علمت بوجوب الصلاة وجبت عليك بوجوب ثان » ، فالوجوب الثابت للصلاة في رتبة

٩١

الموضوع غير الوجوب المترتّب على العلم بوجوب الصلاة ، فهما وان كانا متحدين جنسا إلا انهما متغايران شخصا ، وهذا ما يميّز هذه الفرضية عن فرضية أخذ العلم بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.

وباتضاح ذلك يقع البحث عن استحالة هذه الفرضية أو امكانها ، فقد يقال باستحالتها وذلك بملاك آخر غير ملاك الدور ، إذ انّ محذور الدور لا يأتي في المقام بعد افتراض انّ الحكم الواقع في رتبة الموضوع غير الحكم الواقع في رتبة المحمول ، فمنشأ القول باستحالة هذه الفرضية هو دعوى لزوم اجتماع المثلين ، إذ انّ موضوع أو متعلّق كل من الحكمين المتسانخين واحد وهو الصلاة ، ودعوى انّ موضوع الحكم الثاني هو الصلاة بقيد العلم بوجوبها بخلاف الحكم الاول حيث ان موضوعه هو الصلاة فحسب غير تامة ، وذلك لما ذكرناه من انّه في ظرف العلم يكون كلا الحكمين فعليين أما الثاني فلافتراض تحقق موضوعه وأما الاول فلأنّ العلم طريق محض لثبوته ، فيكون كلا الحكمين المتماثلين ثابت في ظرف القطع بالحكم الاول.

إلا انّ السيد الخوئي رحمه‌الله نفى هذا المحذور عن هذه الفرضية وادعى امكانها وانّ الوجوب الثاني يكون مؤكدا للوجوب الاول في ظرف تحقق موضوع الوجوب الثاني. فالوجوب قد يكون ثابتا للصلاة دون ان يكون قطع ، فهنا لا يوجد إلاّ الحكم الاول وقد يكون الحكم الاول « وجوب الصلاة » مقطوعا به دون ان يكون مطابقا للواقع فهنا يكون الوجوب الثاني متحققا دون الاول ، وقد يكون الوجوب الاول مقطوعا به ومطابقا للواقع فهنا يترتب الوجوب الثاني لتحقق موضوعه إلاّ انّ وظيفته هي تأكيد الوجوب الاول فحسب.

وهذا نظير ما لو ورد دليلان

٩٢

أحدهما مفاده حرمة أكل الميتة والآخر مفاده حرمة أكل النجس ، فلو كانت الميتة غير نجسة فالحرمة الثابتة لها هي الحرمة الاولى ، ولو اتفق وجود النجس من غير الميتة فهو حرام بالحرمة الثانية ، أما لو اتفق وجود الميتة النجسة ـ كميته ذي النفس السائلة ـ فالحرمة الثابتة للميتة بمناط النجاسة مؤكدة للحرمة الثابتة بمناط الميتة.

* * *

٣٧ ـ أخذ القطع بحكم في موضوع ضده

والمراد من هذه الفرضية هو ان يكون الحكم الواقع في رتبة المحمول منافيا للحكم الذي أخذ العلم به موضوعا أو جزء موضوع لذلك الحكم « المحمول ».

مثلا : لو قيل « اذا علمت بحرمة الميتة وجب عليك تناولها » فالحكم في هذه القضية هو وجوب أكل الميتة وموضوعها هو العلم بحكم مضاد ومناف للوجوب ، ومنشأ التنافي هو افتراض وحدة موضوع الحكمين ، إذ لو افترضنا انّ موضوع الحرمة غير موضوع الوجوب لما لزم من ذلك أيّ تناف.

هذا وقد ذكر لاستحالة هذه الفرضية وجهان :

الوجه الاول : انّه يلزم من هذه الفرضية اجتماع الضدين ، وذلك لأنّ افتراض العلم بحرمة الميتة موضوعا لثبوت الوجوب لأكل الميتة معناه انّ أكل الميتة في الوقت الذي يكون فيه حراما يكون واجبا ، وهو من اجتماع الضدين.

وبيان ذلك : انّ العلم بحرمة أكل الميتة طريق محض لثبوت الحرمة لأكل الميتة فهو يكشف عن انّ أكل الميتة حرام واقعا بنحو مطلق ، فإذا كان أكل الميتة واجبا في ظرف القطع بالحرمة فهذا معناه انّه في ظرف القطع

٩٣

بالحرمة يكون أكل الميتة واجبا وحراما ، أما انّه واجب فلأنّ موضوع الوجوب هو القطع بالحرمة والمفروض انّ ذلك متحقق ، وأمّا انّه حرام فلأن المفترض انّه قاطع بالحرمة والتي هي طريق لثبوت الحرمة.

فالقاطع بحرمة أكل الميتة ـ بناء على هذه الفرضية ـ يكون أكل الميتة في حقه واجب لتحقق موضوع الوجوب وحرام الافتراض قطعه بذلك والذي هو طريق لثبوت الحرمة ، وهذا هو اجتماع الضدين.

وما يقال من انّ موضوع الحرمة مغاير لموضوع الوجوب ، إذ انّ موضوع الوجوب هو أكل الميتة المعلوم الحرمة ، وموضوع الحرمة هو خصوص أكل الميتة دون قيد العلم ، وهذا ما يستوجب ارتفاع التضاد.

إلا انّه يتضح الجواب عن ذلك بما ذكرناه من ان التنافي إنّما يقع في ظرف العلم بالحرمة حيث يكون موضوع الوجوب معه متحققا ، فباعتبار انّ العلم طريق لثبوت الحرمة وموضوع لثبوت الوجوب يكون ظرف القطع هو الحالة التي يتحقق معها التنافي والتضاد ، وأما مع عدم العلم بالحرمة كما لو كان تنجّز الحرمة عليه بوسيلة غير القطع كالأصل العملي مثلا فإنّه لا تنافي أصلا ، وذلك لعدم تحقق موضوع الوجوب بعد افتراض ان موضوعه القطع بالحرمة ، هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله.

الوجه الثاني : انّه يلزم من هذه الفرضية تعذر الامتثال ، وذلك لأنّ الحرمة تبعث نحو ترك تناول الميتة والوجوب يبعث نحو تناول الميتة ، وواضح استحالة الانبعاث عن هذين الحكمين.

* * *

٣٨ ـ أخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم

المراد من هذه الفرضية هو اعتبار العلم

٩٤

بحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم ، وهذا معناه إناطة ثبوت الفعلية للحكم بالعلم بثبوت الفعلية له ، وذلك لأنّ افتراض العلم بالحكم موضوعا يقتضي ترتّب ثبوت الحكم على تنقّح وتحقق موضوعه في رتبة سابقة كما هو مقتضى علاقة الموضوعات بأحكامها ، فأولا يتحقق الموضوع وعندئذ يترتب عليه الحكم ، فحينما يقال « اذا استطعت وجب عليك الحج » فهذا معناه اناطة فعلية الوجوب للحج بتحقق الاستطاعة فما لم تتحقق الاستطاعة لا يكون الحج واجبا.

ومثال الفرضية المذكورة هو اعتبار العلم بحرمة الخمر موضوعا لحرمة الخمر ، وهذا معناه انّ ثبوت الفعلية لحرمة الخمر منوط بتحقق العلم بثبوت الفعلية لحرمة الخمر ، وذلك لافتراض العلم بفعلية الحرمة موضوعا لثبوت الفعلية لحرمة الخمر.

وباتضاح ذلك يتضح استحالة هذه الفرضية لاستلزامها الدور. وبيان ذلك يتم بواسطة الالتفات الى هذه المقدمات :

المقدمة الاولى : انّ افتراض شيء موضوعا أو جزء موضوع لحكم يقتضي تأخر ثبوت الحكم عن وجود الموضوع المفترض ، فالحكم عدم ما لم يتقرّر موضوعه المفترض خارجا ، ولهذا قالوا انّ الموضوع مولّد للحكم وانّ نسبته للحكم نسبة العلة لمعلولها ، فالموضوع يقع في رتبة العلة والحكم يقع في رتبة المعلول.

المقدمة الثانية : انّ العلم بالحكم إذا افترضنا أخذه موضوعا لنفس ذلك الحكم فمعنى ذلك انّ العلم بالحكم لا بدّ وان يوجد قبل وجود نفس الحكم ، إذ انّ هذا هو مقتضى كون العلم بالحكم واقعا في رتبة الموضوع للحكم ، ومعنى ذلك انّ العلم بالحكم هو المولّد والعلة للحكم.

٩٥

المقدمة الثالثة : انّ العلم والقطع بشيء معناه ثبوت ذلك الشيء المقطوع في نفس الأمر بغض النظر عن القطع به ، وان القطع به ليس له سوى دور الكشف عن المقطوع ، فلا هو سابق على المقطوع ولا هو مولّد له بل هو متأخر عنه تأخّر الكاشف عن منكشفه.

وباتضاح هذه المقدمات يتضح استلزام الفرضية المذكورة للدور ، إذ انها تفترض انّ الحكم مترتب على العلم به ، وهذا يعني انّ الحكم متأخر عن العلم بالحكم تأخر الحكم عن موضوعه ، ولمّا كان الموضوع هو العلم بنفس الحكم ـ كما هو المفترض ـ فهذا معناه وجود الحكم في رتبة سابقة عن وجود الموضوع ، وهذا لأنّ العلم متأخر عن معلومه ، وذلك يعني انّ الحكم يكون متأخرا ومتقدما ، اما انّه متأخر فلأنه واقع في رتبة الحكم واما انّه متقدم فلافتراض ان موضوع الحكم هو العلم به والعلم بشيء فرع وجود المعلوم في رتبة سابقة عن العلم به.

ويمكن تقريب الدور بشكل آخر ، يراجع في محلّه.

* * *

٣٩ ـ اخطارية المعاني الاسميّة

ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله الى انّ المفاهيم الاسميّة مفاهيم اخطارية ، أي انّ لها تقرّر وثبوت في الذهن ، فهي نظير الوجودات العينية في الخارج ، فكما انّ الوجودات العينية ـ وهي الجواهر ـ وجودات متقررة ومستقلة في عالم الخارج ولا يناط وجودها بوقوعها في اطار موضوع بل هي موجودة في نفسها لنفسها فكذلك المعاني الاسمية في عالم الذهن ، فإنّها وجودات استقلالية ولا يناط وجودها في عالم الذهن بموضوع من قبيل المركب اللفظي بل تنقدح في

٩٦

الذهن ابتداء وان تجردت عن كل مركب ، فالمفاهيم الاسمية ـ بقطع النظر عن مداليلها وهل انّ مدلولها من قبيل الجواهر أو الأعراض أو الاعتبارات أو الانتزاعيات ـ كلها مفاهيم استقلالية غير مفتقرة لموضوع يؤهلها لأن تنخطر في الذهن ، ولهذا لو افترض جدلا ان لا مفهوم في عالم الوجود إلاّ مفهوم واحد فإنّه مؤهل لأن ينخطر في الذهن ، مما يعبّر عن انّ المفاهيم الاسمية كالوجودات العينية من حيث انّها موجودة لا في موضوع ، غايته انّ الوجودات العينية متقرّرة في وعاء الخارج وأما المفاهيم الاسمية فهي متقررة استقلالا في وعاء الذهن.

ولتوضيح ما ذكرناه نمثل بهذه المفاهيم ، وهي مفهوم الماء والبياض والعلية والبيع ، فإنّها جميعا مفاهيم اسميّة ، ونلاحظ انّها معاني متصورة ومدركة ولها تقرّر وثبوت بنحو مستقل في وعاء الذهن ، ونلاحظ انّ إدراكها ليس منوطا بوجود ألفاظ موضوعة ومستعملة لغرض الدلالة عليها بل ان تصوّر وإدراك هذه المعاني متحقق بقطع النظر عن ألفاظها.

كما نلاحظ انّ اختلاف هوية هذه المعاني ـ من حيث انّ الاول منها من قبيل الجواهر والثاني من قبيل الأعراض والثالث من قبيل المفاهيم الانتزاعية والرابع من قبيل المفاهيم الاعتبارية ـ لا يمنع من كون تعقّلها وتصورها في الذهن استقلاليا ، بمعنى انّ هذه المعاني وان اختلفت هوياتها إلاّ انّ لها تقرّر وثبوت في حدّ نفسها في وعاء الذهن.

ومع اتضاح ذلك يتضح ان الألفاظ الاسمية ليس لها إلاّ دور إخطار مداليها في ذهن السامع فهي لا توجد المعاني المدلولة لها في الذهن وانّما توجب حضورها وانخطارها في الذهن بعد ان كانت مخبوءة.

* * *

٩٧

٤٠ ـ الإرادة

وهي تطلق على معنيين :

المعنى الاول : هو الحبّ والشوق البالغ مرتبة تستدعي سعي المريد لتحقيق المراد ، وهذا المعنى يقتضي البناء على ان الإرادة من الكيفيات النفسانية المتخلقة في النفس بسبب مقدمات مرحلية تنشأ الإرادة عند آخر مرحلة منها ، فأولا يتصور الذهن الفعل ثم يتصوّر فائدته وحين يحصل التصديق والإذعان بالفائدة تنقدح الرغبة والشوق للفعل وهذا الشوق هو المعبّر عنه بالإرادة.

والإرادة بهذا المعنى لا تستتبع وجود المراد بل يتوسط بينها وبين المراد الاختيار. ولهذا فالإرادة بهذا المعنى قد تتعلّق بالمستحيل.

المعنى الثاني : وهو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنه بالمشيئة ، وهي تعني إحداث الفعل وإيجاده من العاقل الملتفت ، وهذا المعنى للإرادة هو أحد معاني الاختيار.

ولا تخفى الطوليّة بين المعنيين ، فإنّ إعمال القدرة مرحلة متأخرة عن الشوق الأكيد ، على انّ بين المعنيين عموم من وجه ، فقد يتحقق الشوق ولا يترتب عليه إعمال القدرة والسلطنة كما انّه قد يتحقق إعمال القدرة والإحداث والإيجاد ولا يكون منشؤه الشوق كما هو في المشيئة الإلهية ، فإنّ المشيئة الإلهيّة تعني الإرادة واعمال القدرة ـ والتي هي من صفات الأفعال ـ ولا يناسب ساحته المقدسة انسباق المشيئة بالشوق أو تكون إرادته بمعنى الشوق والذي قلنا انه من الكيفيات أو الافعال النفسانية.

ومن هنا ذكر بعض الأعلام انّ الإرادة المناسبة للإنسان تتمحض في المعنى الاول وأما المعنى الثاني فهو الاختيار المسبوق بالإرادة بالمعنى الاول.

* * *

٩٨

٤١ ـ الإرادة الاستعماليّة

لا يخفى إنّ الإرادة الاستعمالية غير الدلالة الاستعماليّة فالاولى تتصل بالمتكلم والثانية تتصل بالمخاطب.

والكلام هنا عن الإرادة الاستعماليّة وقد ذكر لها خمسة معان :

المعنى الاول : هي ان يقصد المتكلم من استعمال اللفظ تفهيم المعنى بواسطته.

وأورد السيد الصدر رحمه‌الله على هذا التفسير للإرادة الاستعمالية ، بأنه يلزم منه عدم شمول الإرادة الاستعماليّة لحالات استعمال اللفظ في المشتركات مع قصد الإجمال ، ولا ريب في شمول الإرادة الاستعمالية لمثل هذه الحالات ، إذ انّ المستعمل للفظ المشترك مريد للاستعمال رغم عدم إرادته للتفهيم ، فإرادة التفهيم ليست مقومة للإرادة الاستعمالية.

المعنى الثاني : ان يقصد المتكلم من استعمال اللفظ ايجاد المعنى في عالم الاعتبار بنحو التنزيل ، فالغرض من استعمال اللفظ هو التوصل لإيجاد المعنى بنحو الإيجاد التنزيلي ، فكأنّه أوجد المعنى باللفظ وأراد من ايجاد اللفظ ايجاد المعنى.

وأورد السيد الصدر على هذا المعنى بأنّه نشأ عما هو المبنى في تفسير حقيقة الوضع وما هو منشأ العلاقة الدلالية بين اللفظ والمعنى ، وهذا المبنى لو تم فإنّه يفسّر العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى إلا انّه لا يقتضي ان يكون الاستعمال مرتبطا بالكيفية التي انخلقت عنه العلاقة بين اللفظ والمعنى ، فحيثية الاستعمال لا تتطابق بالضرورة مع حيثية العلاقة الوضعية المختارة من قبل الواضع.

وبتعبير آخر : لا يلزم المستعمل ان يحتفظ بنفس الكيفية التي نشأت عنه العلاقة الوضعية ، فقد لا يقصد من الاستعمال ايجاد المعنى تنزيلا.

٩٩

المعنى الثالث : انّ المراد من الإرادة الاستعمالية هي إرادة التلفظ باللفظ المعين ، وذلك التزاما بتعهده ، حيث انه قصد إخطار معنى معين وقد التزم بأنّه متى ما أراد إخطار هذا المعنى فإنّه ياتي بهذا اللفظ المخصوص.

وهذا المعنى إنّما يتناسب مع مسلك التعهد في الوضع ، على انّه لا يفسّر معنى الإرادة التي هي محل البحث ، نعم هو يتحدث عن منشأ الإرادة الاستعمالية ، والحديث عن المنشأ غير الحديث عما هو المراد منها كما أفاد ذلك السيد الصدر رحمه‌الله.

المعنى الرابع : ان يقصد المتكلّم إفناء اللفظ في المعنى ، فتكون الإرادة الاستعمالية بمعنى إرادة لحاظ اللفظ لحاظا آليا فانيا في المعنى.

وهذا مبني على انّ الاستعمال يعني افناء اللفظ في المعنى فتكون الإرادة الاستعمالية هي إرادة الإفناء أي إرادة جعل اللفظ فانيا في المعنى. ومن هنا تكون تمامية هذا التفسير للإرادة الاستعمالية مبني على تمامية المسلك المذكور في تفسير الاستعمال والذي هو مسلك المشهور.

المعنى الخامس : وهو الذي تبنّاه السيد الصدر رحمه‌الله وحاصله : انّ الإرادة الاستعمالية تعني قصد التلفظ بماله أهلية إخطار المعنى ، فالمتكلم يقصد الإتيان باللفظ المعد للكشف عن المعنى ، وتبقى في البين عوامل اخرى لا بدّ من تحصيلها أو حصولها حتى تترتب عن مجموعها الدلالة ، فالإرادة الاستعمالية لا تساوق الإرادة التفهمية بل انّ إرادة التفهيم مرحلة متأخرة أو مباينة لإرادة الاستعمال ، فهي متأخرة لو كان مريدا للاستعمال ومريدا كذلك للتفهيم ، وهي مباينة لو انضم للإرادة الاستعمالية إرادة الإجمال ، وفي كلا الصورتين تكون الإرادة الاستعمالية غير إرادة التفهيم والإجمال.

والمتحصّل انّ الإرادة الاستعمالية

١٠٠