المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

يعرض المفردات اللفظية وقد يعرض الهيئات التركيبية كما قد يعرض المعنى والمفهوم.

والمقصود من عروضه للمفردات اللفظية هو خفاء معناها وعدم وضوحه ، فالإجمال واقعا وصف للمعنى غايته انّه نشأ عن اللفظ فمعنى اللفظ هو المجمل وإلا فاللفظ من حين مادته وهيئته ليس فيه إجمال ، وهكذا الكلام في إجمال الهيئات التركيبية ، وليس مرادنا من إجمال معانيها هو عدم وضوحها في نفسها بل مقصودنا الاجمال من حيث عدم معرفة أيّ المعاني الذي تكشف عنه هذه الالفاظ أو الهيئات. راجع إجمال النص.

وأما المقصود من الإجمال الذي يعرض المعنى والمفهوم ابتداء فهو انّ المعنى قد يكون مجملا في نفسه وبقطع النظر عن الفاظه ، إذ قد لا يكون له لفظ كما في بعض الحركات والمواقف التي تصدر عن العاقل ولا ينفهم منها معنى محصل ، وكذلك بعض المطالب الغامضة التي لا يكون منشأ غموضها التعقيد اللفظي بل منشؤها مثلا ضعف العقل البشري عن إدراكها ، كمفهوم الروح.

* * *

٢٢ ـ اجمال المخصّص اللبّي

والمراد من المخصّص اللبّي هو ما يوجب خروج بعض أفراد العام عن حكم العام ولكن بواسطة غير لفظية ، كأن يتم التخصيص بواسطة الإجماع أو السيرة أو الدليل العقلي أو القرنية الحالية. وهذا النحو من التخصيص تارة يكون بمثابة التخصيص بالمتصل واخرى يكون بمثابة التخصيص بالمنفصل.

أما الاول : فهو ما لو كان المخصّص اللبّي من الوضوح بحيث يمكن للمتكلم ان يعتمد عليه في تفهيم مراده الجدّي من العموم وانّه غير مريد

٦١

لإدخال بعض أفراد العام تحت حكم العام.

ومثاله ما لو قال السيّد المتديّن لعبده « اسقني من ايّ شراب » فإنّ من المقطوع به عدم إرادة الخمر من العموم ، فالخمر خارج عن حكم العام تخصيصا. وهذا المخصص لبّي لاستفادته من غير لفظ ، وهو بمثابة المخصّص المتصل لوضوحه ، ولذلك صحّ للسيّد الاتّكال على هذا الوضوح وعدم تكلّف التلفّظ بالمخصّص.

وأما الثاني : والذي هو بمثابة المخصّص المنفصل ، فهو ما يحتاج الى التأمّل والرجوع الى بعض القرائن ، وليس من الوضوح بحيث لا ينعقد معه ظهور في العموم كما هو في الفرض الاول.

ومثاله ما لو قال المولى : « انّ كل طواف فهو مشروط بالطهارة » ، ثم بعد ملاحظة الأدلة اتّضح وجود اجماع على عدم اشتراط الطهارة في الطواف المستحب ، فإنّ هذا النحو من الاجماعات يكون بمثابة المخصّص المنفصل ، لوضوح انّه لا يؤثر على انعقاد الظهور في العموم ، إمّا لأنّه متأخر عن زمن الخطاب بالعموم ـ طبعا هذا بخلاف الدليل العقلي القطعي فإنه لا يعقل تاخره عن الخطاب ـ أو لأنّ صلاحيته للتخصيص تتم بعد الملاحظة والمتابعة وانّه ليس من قبيل الإجماعات المدركيّة ، وعندها لا يظلّ الخطاب معلّقا على نتيجة التتبع ، إذ انّ انعقاد الظهور في العموم والإطلاق لا يتأثر باحتمال المخصّص كما عليه أهل التحقيق.

ومع اتّضاح المراد من المخصّص اللبّي وانّه ينقسم الى ما يشبه المخصص المتصل والى ما يشبه المخصّص المنفصل نقول انّ الإجمال في مورد المخصّص اللبّي قد يكون مصداقيا كما هو العادة وقد يكون مفهوميا ، وان كلا منهما تارة يكون بنحو التردد بين

٦٢

المتباينين وتارة يكون بنحو التردد بين الاقل والاكثر ، على غرار ما ذكرناه في اجمال المخصّص اللفظي ، فراجع.

نعم قد يقال انّ الإجمال في المخصّص اللبّي من جهة المفهوم غير معقول ، وذلك لانّ المخصص اللبّي من قبيل ما يدركه العقل ، ولا يتعقل الإجمال فيما يدركه العقل ، إذ انّ موضوع الحكم العقلي دائما يكون محدّد المعالم ، ، فلا يحكم العقل على ما هو مبهم.

ولعلّ هذا هو منشأ تركّز البحث عن إجمال المخصّص اللبّي من جهة المصداق.

والظاهر انّ الامر ليس كذلك فإنّ الاجمال من جهة المفهوم في المخصص اللبي معقول في بعض المخصّصات اللبيّة ، ومثاله قيام الاجماع على حجية خبر الواحد بنحو يكون معقد الاجماع المنقول هو حجية خبر الواحد ، فإنّ هذا الإجماع مخصص للأدلة النافية لحجية العمل بالظن إلاّ انّه قد يدعى إجمال هذا المخصص مفهوما ، إذ انّ خبر الواحد في عرف أهل الحديث يحتمل معنيين ، الاول هو مطلق الخبر غير البالغ حد التواتر ، وهذا المعنى يقتضي السعة والشمول للخبر الذي ليس له إلاّ طريق واحد ، والاحتمال الثاني انّ الخبر الواحد هو الخبر المستفيض فحسب ، ولو كان هذا المعنى هو المراد من خبر الواحد فهو يقتضي الضيق ، وعندها يتردد مفهوم خبر الواحد بين الاقل والاكثر.

هذا هو تصوير الإجمال المفهومي بين الاقل والاكثر في المخصّص اللبّي ، نعم قد يدعى انّ الإجماع لمّا كان دليلا لبيا فيتمسك بالقدر المتيقن منه.

أقول : انّ هذا الكلام وان كان تاما إلا انّه لا يلغي امكان تصوير الإجمال المفهومي في المخصص اللبّي وان كان سيترتب على ذلك سقوط الثمرة من التقسيم.

٦٣

وأما تصوير الاجمال في المخصّص اللبّي من جهة التردد بين متباينين فمثاله ما لو ورد عام مفاده حرمة إطعام كل كافر ، ونقل لنا قيام الإجماع على جواز اطعام المولى وإن كان كافرا وكان هذا هو لسان الإجماع المنقول ، ولم يتضح لنا المراد من عنوان المولى وهل هو العبد او هو السيّد ، وواضح انّ هذا الإجمال مفهومي وانّ التردد فيه بين متباينين ، كما انّ التمسّك بالقدر المتيقن من المخصّص في الفرض المذكور غير ممكن بعد ان كان التردّد بين مفهومين متباينين ، وعندئذ يقع البحث عن سريان الاجمال للعام أو عدم سريانه.

وبتعبير آخر يقع البحث عن إمكان التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية إذا كان المخصص لبيّا. وللتعرّف على هذا البحث يراجع عنوان التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية.

* * *

٢٣ ـ إجمال المخصّص اللفظي

المراد من المخصّص اللفظي هو القرينة اللفظية الموجبة لخروج بعض أفراد العام عن حكم العام ، ولو لا تلك القرينة لكانت تلك الافراد مشمولة لحكم العام.

مثلا لو قال المولى : « أكرم كل العلماء إلا الفساق منهم » ، فإن قوله « إلا الفساق منهم » هو المخصّص أي هو القرينة الموجبة لخروج فساق العلماء عن حكم العام وهو وجوب الإكرام ، ولو لا هذا المخصّص لكان فساق العلماء مشمولين لوجوب الإكرام والذي هو حكم العام.

والمراد من إجمال المخصّص هو ان تكون تلك القرينة مشتبهة المعنى. ثم انّ المخصّص تارة يكون متصلا واخرى يكون منفصلا ، والاتصال يعني انّ القرينة الموجبة للتخصيص وردت في نفس الخطاب الدال على

٦٤

العموم والانفصال يعني انّ القرينة وردت في خطاب منفصل عن الخطاب الدال على العموم.

والإجمال في المخصّص تارة يكون من جهة المفهوم واخرى يكون من جهة المصداق ، وكل منهما ينقسم الى قسمين ، فالاجمال المفهومي تارة يكون بين الأقل والأكثر وتارة يكون بين المتباينين ، وكذلك الإجمال المصداقي ، فحاصل أقسام الإجمال في المخصّص اللفظي ثمانية :

ونبدأ بالإجمال المفهومي :

والمراد منه هو انّ المعنى والمفهوم من المخصّص غير واضح او قل غير منضبط ولا محدّد المعالم ، وهو على قسمين فتارة يكون الغموض والاشتباه مقتضيا للترديد بين معنيين متباينين ، وتارة يكون مقتضيا للتردد بين معنيين أحدهما أعم مطلقا من الآخر أي أحدها أوسع دائرة من الآخر.

أما الاول : وهو التردد بين مفهومين متباينين ، فمثاله ما لو ورد « لا تطعم أحد الا الموالي » ولم ينفهم المراد من مفهوم الموالي ، إذ انّه يحتمل معنيين ، فلعلّ مراد المتكلم من الموالي العبيد ولعل مراده السادة فالمفهومان متباينان.

واما الثاني : وهو التردّد بين مفهومين أحدهما أعم مطلقا من الآخر ، فمثاله ما لو قال المولى « لا تتزوج من الكافرة إلاّ الكتابية » وكان مفهوم الكتابية مجملا ومرددا بين اختصاصه بمعتنق الديانتين « اليهودية والنصرانية » وبين شموله لديانة ثالثة هي « المجوسية » فالثاني أعم مطلقا من الاول ، فالمرأة اليهودية والنصرانية على كلا الاحتمالين كتابية وانما التردد في المرأة المجوسية من حيث شمول عنوان الكتابية لها فتكون داخلة في عنوان المخصص أو عدم شموله لها فتكون تحت عنوان العام.

٦٥

وباتّضاح هذين القسمين يتضح انّ الإجمال المفهومي في المخصّص على أربعة أقسام ، وذلك لأنّ المخصّص المجمل مفهوما تارة يكون متصلا واخرى يكون منفصلا.

وأمّا الإجمال المصداقي في المخصّص : فهو الشك والتردّد الناشئ عن غير المفهوم ، بأن يكون المفهوم من المخصّص واضحا وبينا ، وانّما الشك في موضوعية ومصداقية بعض الافراد لعنوان المخصص نتيجة اشتباه الامور الخارجية ، وهذا النحو من الإجمال على نحوين أيضا ، فتارة يكون التردد بين متباينين واخرى يكون بين الأقل والأكثر.

أما الاول : فمثاله ما لو قال المولى : « تصدّق على الفقراء إلا الهاشميين » ، وكان مفهوم الهاشمي واضحا ومحددا إلا انه وقع الشك في « زيد وخالد » الفقيرين فأحدهما غير المعين هاشمي قطعا.

وأما الثاني : فمثاله عين المثال الاول إلا انّ الشك وقع في « زيد » وهل هو مصداق لعنوان الهاشمي أولا؟

فهنا التردد بين الاقل والأكثر حيث نحرز انّ ثلاثة من الفقراء هاشميون إلا انّ الشك في انّهم أربعة بإضافة « زيد » أو ثلاثة وانّ زيدا ليس منهم.

ثم انّ كل واحد من هذين القسمين ينقسم الى مخصّص متصل وآخر منفصل ، فحاصل أقسام الإجمال المصداقي في المخصص أربعة.

وأما جواز التمسّك بالعام في موارد إجمال المخصص فسيتضح تحت عنوان التمسّك بالعام في الشبهات والتمسّك بالعام في الشبهات المصداقية.

* * *

٢٤ ـ إجمال النص

والمراد من اجمال النص هو الغموض الذي يكتنف النص إما من

٦٦

جهة مدلوله التصوري أو من جهة مدلوله الاستعمالي دون التصوري أو من جهة مدلوله الجدّي دون الاستعمالي.

أمّا الإجمال من جهة المدلول التصوري فهو الإجمال الناشئ عن الجهل بالوضع اللغوي للفظ ، وعندها لا ينقدح أيّ معنى في الذهن من اطلاق اللفظ.

ومن هنا ادعى صاحب الكفاية رحمه‌الله انّ الإجمال من المفاهيم الإضافية باعتبار انّ اللفظ قد يكون مجملا عند شخص لجهله بوضعه اللغوي ويكون بيّنا عند آخر لعلمه بالوضع اللغوي ، إلا انّ السيد الخوئي رحمه‌الله لم يقبل دعوى انّ الإجمال من المفاهيم الاضافية ، ونقض على الشيخ الآخوند رحمه‌الله بانّه لو كان كذلك لكانت تمام الالفاظ العربية مجملة عند غير العرب باعتبار جهلهم بأوضاعها اللغوية.

فالصحيح انّ الإجمال من المفاهيم الواقعية والذي لا يختلف الحال فيه من شخص لآخر بل ان للإجمال معنى منضبطا ومطردا في تمام الحالات والموارد ، فكلّ لفظ بحسب المتفاهم العرفي مشتبه المعنى فهو مجمل وإلاّ فهو مبيّن ، وليس ثمة حالة يكون فيها اللفظ مجملا بالاضافة لشخص وبينا بالاضافة لشخص آخر ، ويمكن التنظير لذلك بوصف العالم ، فالشخص إمّا أن يكون عالما أو لا يكون عالما ، وصحة اتصافه بالعالمية لا يرتبط بمعرفة الآخرين حتى يكون وصف العالمية لزيد وصفا اضافيا فهو عالم بالاضافة لعمرو باعتبار معرفته بعلمه وغير عالم بالاضافة لخالد باعتبار جهله بعالميته ، بل انّ كلّ من هو واجد للعلم فهو عالم بقطع النظر عن معرفة الآخرين لواجديته للعلم أو عدم واجديته.

وهكذا الكلام في الاجمال ، فكلّ لفظ مشبه المعنى بحسب الموازين

٦٧

المقررة عند أهل المحاورة فهو مجمل وإلاّ فهو مبيّن ، غايته انه قد يقع الخلاف في بعض الموارد وانّ هذا المورد من قبيل المجمل أو المبيّن ، وهذا الخلاف في الواقع يرجع الى مقام الاثبات أي مقام تطبيق ضابطة المجمل على موارده ، وهذا بنفسه يكشف عن انّ للإجمال معنى متقررا في مرحلة سابقة ، والنزاع انّما هو في انّ الضابطة منطبقة على المورد أولا.

وبهذا البيان اتضح انّ الإجمال لا يتعقل في المدلول التصوري بحسب ما يستفاد من نظر السيد الخوئي رحمه‌الله.

ومن هنا فالإجمال في النص منقسم الى قسمين :

القسم الاول : هو الاجمال الواقع في مرحلة المدلول الاستعمالي ، والمراد من المدلول الاستعمالي هو ما يظهر من حال المتكلم انّه أراد من استعمال هذه الالفاظ اخطار معان معينة ، فالظهور الاستعمالي ظهور حالي سياقي يكشف عن إرادة المتكلم لإخطار معان معينة من الفاظها إلاّ انّه لا يكشف عن إرادته الجدية للمعاني المنكشفة ، إذ انّ الظهور الاستعمالي يجامع الهزل والتقية والإيهام على المخاطب.

وعلى أيّ حال فالإجمال في مرحلة المدلول الاستعمالي معناه عدم وضوح هذا المقدار من الدلالة ، بمعنى انّ المخاطب يجهل أيّ المعاني التي أراد المتكلم اخطارها من كلامه ، وهذا النحو من الإجمال عبّر عنه السيد الخوئي رحمه‌الله بالإجمال الحقيقي وقال : انّه على نحوين :

الاول : الإجمال بالذات : وهو الإجمال الذي ينشأ عن نفس اللفظ أو الهيئة التركيبية اللفظية ، ومثاله استعمال اللفظ المشترك دون قرينة.

الثاني : الإجمال بالعرض : وهو الذي ينشأ عن احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ولو لا احتفافه بذلك لكان ظاهرا في مدلوله الاستعمالي.

٦٨

والمراد من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية هو عدم الجزم بالقرينة وعدم الجزم بعدم القرينية.

وبتعبير آخر : انّه قد يكتنف الكلام لفظ يوجب التشويش على المراد الاستعمالي ، وقد يلقى الكلام في جو يستوجب التعمية على المراد ، فلا هو قرينة صريحة فتستوجب صرف الظهور الأولي الى ظهور يتناسب مع القرينة كما لا يمكن اهماله باعتبار صلاحيته لأن يعتنى به بنظر أهل المحاورة ، وعندها لا يستقرّ المخاطب على معنى ثابت من كلام المتكلم بل يظلّ محتملا لأكثر من معنى ، ويمكن التمثيل لذلك بورود الأمر عقيب الخطر ، فإنّ الأمر لو خلّي ونفسه لكان ظاهرا في الوجوب إلاّ انّ وروده بعد الحظر يستوجب اجمال المراد من الأمر.

القسم الثاني : الإجمال في مرحلة المدلول الجدّي ، وهذا النحو من الإجمال يجامع الظهور في الدلالة الاستعمالية ، فقد يظهر من حال المتكلم انّه مريد لإخطار المعنى من كلامه إلاّ انّ مراده الجدّي مجمل.

والمقصود من الإرادة الجديّة هي ان يظهر من حال المتكلم انّه جاد في الحكاية عن الواقع من كلامه ، كأن يظهر من حال الامام عليه‌السلام انّه متصد لبيان الحكم الواقعي وانّ كلامه لم يكن عن تقية مثلا.

ومثال الإجمال في مرحلة المدلول الجدّي ان يرد عن المتكلم كلام ظاهر في العموم ، ثم يرد عنه كلام آخر يستوجب تخصيص العموم به إلاّ انّ هذا المخصّص كان مجملا ، فإنّ هذا الإجمال يسري من المخصّص الى العموم في بعض الموارد ، فالإجمال في العموم ليس حقيقيا ، لأنّه لم ينشأ عن نفس الكلام الاول بل انّ الكلام الاول كان ظاهرا في العموم ، غايته انّ الإجمال قد طرأ عليه بسبب إجمال

٦٩

المخصّص المنفصل وإلا فهو ظاهر في انّ المتكلم أراد اخطار العموم من كلامه ، أي انّ المدلول الاستعمالي لا إجمال فيه ، نعم بسبب اجمال المخصّص وقع التردد من جهة انّ المتكلم هل أراد من كلامه الاول العموم واقعا أولا.

ومثال ذلك ما لو قال المولى « أكرم كلّ العلماء » ثم قال في خطاب آخر « لا تكرم زيدا العالم » ، وزيد العالم مردد بين شخصين ولا ندري أيهما أراده المولى ، فعندئذ لا يمكن التمسّك بالعموم لإثبات وجوب الإكرام لزيد الاول أو لزيد الثاني ، إذ انّ التردد فيمن هو المراد من المخصّص أوجب التردد فيمن هو المشمول للعموم واقعا ، فواحد منهما قطعا خارج عن العموم إلا انه غير متشخص بسبب اجمال المخصص. وهذا ما أوجب عدم التعرّف على من هو الباقي تحت العموم منهما ، وهذا هو معنى سريان الإجمال في المخصص للعموم.

ولاحظتم انّ الإجمال الذي عرض العموم انما هو في مرحلة المدلول الجدّي وإلا فالظهور الاستعمالي في العموم لم يتأثر باجمال المخصّص.

وهذا النحو من الإجمال عبّر عنه السيد الخوئي رحمه‌الله بالإجمال الحكمي ، بمعنى انّه في حكم المجمل وإلا فهو ظاهر في نفسه ، واجمال المخصّص لم يسلب عنه الظهور الاستعمالي ، نعم أوجب التشويش على ما هو المراد الجدّي من العموم.

* * *

٢٥ ـ احترازية القيود

المراد من القيود عادة هو كلّ ما يوجب التضييق في دائرة موضوع الحكم أو متعلّقه ، ولهذا فهي تشمل النعت والحال والتمييز والإضافة والشرط والغاية وهكذا.

والمراد من الاحترازية هو المانعية عن شمول الحكم للموضوع الفاقد

٧٠

للقيود عند أخذها فيه ، بحيث يكون موضوع الحكم روحا هو المتحيّث بتلك القيود المأخوذة فيه.

وبتعبير آخر : إنّ الاحترازية تقتضي دخالة القيود في ترتّب الحكم على الموضوع بحيث يكون شخص الحكم منتفيا عند انتفائها ، وهي في مقابل المثالية أو التوضيح مثلا ، إذ ان القيود المذكورة لغرض التمثيل تقتضي عدم اختصاص الحكم بمورد المثال.

مثلا لو قال المولى : « أكرم الفقير العادل » واستظهرنا انّ العدالة مذكورة لغرض التمثيل أو لغرض بيان الفرد الاكمل من الموضوع ، فعندئذ يكون موضوع الحكم هو مطلق الفقير ، وليس للعدالة دخل في ترتّب وجوب الإكرام على الفقير. أما لو استظهرنا الاحترازية فهذا يقتضي عدم وجوب اكرام الفقير إذ لم يكن متصفا بالعدالة.

ومع اتضاح المراد من عنوان احترازية القيود يقع البحث عن انّ القيود المأخوذة في مرحلة المدلول التصوري الوضعي هل هي مرادة في مرحلة المدلول الجدّي أولا؟

فإن كان الجواب بالإيجاب فهذا يعني انّ القيود تقتضي الاحترازية وإلا فلا.

والصحيح كما هو مقتضى الظهور العرفي انّ القيود المذكورة في كلام المتكلم يراد بها الاحتراز عن كل حالة لا تكون معها القيود متوفرة ، أي انّ الأصل في القيود الاحترازية ، وهو أصل عقلائي منشؤه هو انّ المستظهر من حال كل متكلم انّ ما يخطره من معان بواسطة ألفاظها تكون مرادة بالإرادة الجديّة ، وهذا هو المعبّر عنه بأصالة التطابق بين المدلول التصوري ـ المفاد بواسطة الألفاظ ـ والمدلول الجدّي.

وبهذا يتضح انّ قاعدة احترازية القيود نحو من الدلالة الحالية السياقية

٧١

المطردة يتعاطاها العقلاء لغرض بيان حدود مقاصدهم ، وينتج عن هذه القاعدة انتفاء الحكم بانتفاء القيود المأخوذة في موضوعه ، كما ينتج عنها عدم سقوط الحكم في حالات عدم توفّر المتعلّق المأتي به على القيود المأخوذة فيه ، كما لو كان متعلّق الحكم هو الصلاة عن طهارة وجاء المكلف بصلاة فاقدة للطهارة ، فإن الحكم بالوجوب مثلا لا يسقط بتلك الصلاة الفاقدة للطهارة.

وهنا لا بدّ من التنبيه على أمر وهو انّ الذي تنفيه قاعدة احترازية القيود ـ عند انتفاء القيود عن موضوع الحكم ـ انّما هو شخص الحكم لا طبيعيّة فهي لا تمنع عن ثبوت مثل الحكم للموضوع الفاقد أو المتقيد بقيد آخر.

كما انّه لا بدّ من الالتفات الى انّ هذه القاعدة أو هذا الأصل انّما يجري في موارد الشك فيما هو المراد الجدّي من ذكر القيود ، وهل المراد منها تضييق من دائرة الموضوع أو انّ المراد منها التمثيل والتوضيح او بيان الفرد الاكمل ، وعندها يصح التمسّك بأصالة الاحترازية في القيود ، أما لو دلّت القرينة على إرادة المثالية من القيد فإنّ القاعدة لا تجري بل المتبع حينئذ هو ما تقتضيه القرينة.

ومنشأ ذلك هو انّ العقلاء عند ما يشكون فيما هو المراد الجدّي للمتكلم فإنّهم يستظهرون جريانه وفق الطريقة المتعارفة والتي تقتضي التطابق بين الدلالة التصورية والإرادة الجديّة ، ولمّا كان المدلول التصوري من ذكر القيود هو تضييق دائرة الموضوع المتقيّد بتلك القيود المذكورة فكذلك المدلول الجدّي ، أما مع إحراز انّ المتكلم لم يرد جدّا من ذكر القيود تضييق دائرة الموضوع فإنه لا مجال للتمسّك بالقاعدة.

* * *

٧٢

٢٦ ـ الاحتمال والمحتمل

المراد من الاحتمال في عرف المناطقة هو ما يقابل الظنّ والشكّ ، إلاّ أنّه في عرف الأصوليّين قد يطلق فيما يقابل اليقين والاطمئنان فيكون الظنّ والشكّ داخلين تحت عنوان الاحتمال.

وفي كلا الاستعمالين يحتفظ عنوان الاحتمال بخصوصيّة مشتركة بينهما وهي القبول بإمكانيّة أن لا يكون متعلّق الاحتمال مطابقا للواقع.

وببيان آخر :

إذا توجّهت النفس إلى نسبة بين شيئين كانتساب الموت لزيد فإمّا أن يحصل القطع أو الاطمئنان بثبوت نسبة الموت لزيد أو بانتفاء النسبة ، وهذا الفرض خارج عن معنى الاحتمال في استعمال المناطقة والأصوليّين.

وإمّا أن لا يحصل القطع والاطمئنان بثبوت النسبة أو انتفائها ، وهنا إمّا أن لا يترجّح في النفس كلا الأمرين النسبة وعدمها ، وهذا ما يعبّر عنه بالشكّ ، وإمّا أن يترجّح في النفس ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها ، وهذا ما يعبّر عنه بالظنّ ، فإذا كانت النسبة هي المترجّحة فالظنّ في جانبها ، ويكون الاحتمال في جانب عدم ثبوت النسبة ، أي يكون الاحتمال في جانب المرجوح في النفس من الأمرين.

وإذا كان عدم ثبوت النسبة هو المترجّح في النفس فالظنّ في جانبه ويكون الاحتمال في جانب ثبوت النسبة.

والفرض الثاني ـ وهو عدم القطع أو الاطمئنان بثبوت النسبة أو عدم ثبوتها ـ بجميع صوره هو المراد من عنوان الاحتمال في عرف الأصوليّين ، غايته أنّ الاحتمال قد يكون قويّا فيكون بمرتبة الظنّ ، وقد يكون ضعيفا فيكون بمرتبة الاحتمال في استعمال المناطقة ، وقد لا يترجّح في النفس

٧٣

أحد الأمرين أي ثبوت النسبة وعدم ثبوتها فيكون الاحتمال بمرتبة الشكّ.

وبذلك يتّضح أنّ كلّ واحد من صور الفرض الثاني ينحل إلى احتمالين في استعمال الأصوليّين ، فالظنّ بثبوت النسبة يقتضي أن يكون بإزائه احتمال منطقي بعدم ثبوتها ، والشكّ بثبوت النسبة يقتضي أن يكون بإزائه شكّ بعدم ثبوت النسبة ، واحتمال عدم ثبوت النسبة احتمالا منطقيّا يقتضي أن يكون بإزائه ظنّ بثبوتها.

وأمّا المراد من المحتمل فهو متعلّق الاحتمال ، فلو كان ثمّة احتمال بموت زيد فمتعلّق الاحتمال هو موت زيد فهو إذن المحتمل.

وبذلك يتبيّن المراد من قولهم أنّ الاحتياط مثلا قد ينشأ عن أهميّة المحتمل ، إذ قد تكون مرتبة الاحتمال ضعيفة إلاّ أنّ المحتمل لمّا كان خطيرا بمعنى أنّه لو اتّفق مطابقته للواقع لما كان الشارع يرضى بتفويته ، لمّا كان الأمر كذلك كان مقتضيا لجعل الاحتياط لغرض التحرّز عن فوات الواقع ذي الأهميّة الخطيرة.

فالهدف الذي يصوّب المكلّف السهم نحوه يحتمل ضعيفا أنّه إنسان إلاّ أنّه لمّا كان المحتمل وهو قتل الإنسان خطيرا فهذا قد يقتضي لزوم الأمر بالاحتياط لئلاّ يفوت الملاك المهمّ لو اتّفق مصادفة الاحتمال للواقع.

* * *

٢٧ ـ الاحتياط

الاحتياط كما هو المستفاد من كلمات اللغويين يعني التحفّظ والتحرّز عن الوقوع في المكروه ، وهذا المعنى هو المراد في استعمالات الاصوليين ، فهو يعني التحفّظ والتحرّز عن الوقوع في مخالفة الواقع بواسطة العمل بتمام المحتملات والذي هو أعلى مراتب الاحتياط.

ثم انه يقع البحث عندهم عن

٧٤

الحالات التي يكون معها المكلف ملزما بالاحتياط ، وما هي المرتبة التي يكون المكلّف ملزما بتحصيلها ، فتارة يكون المكلّف مسئولا عن الالتزام بتمام الأطراف المحتملة كما في موارد العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة ، وتارة لا يكون ملزما بأكثر من عدم المخالفة القطعية كما في موارد العلم الإجمالي في التدريجيات على بعض المباني ، كما انّه في بعض الفروض يكون مسئولا عن الامتثال الإجمالي الظنّي دون الشكي والوهمي كما في موارد انسداد باب العلم والعلمي بناء على الحكومة على بعض التفسيرات والمعبّر عنه بالتبعيض في الاحتياط ، وهناك حالة يكون معها المكلّف ملزما بالأخذ بأحوط أقوال الفقهاء الواقعين في شبهة الأعلمية وهي حالة اختلافهم في الفتوى على بعض المباني.

ثم انّ ثمة حالات لا يكون معها الاحتياط لازما بتمام مراتبه كما في الشبهات البدويّة ، نعم ذهب الأخباريون رحمه‌الله الى لزوم الاحتياط لو كانت الشبهة حكمية تحريمية ، وهنا يكون الاحتياط مقتضيا لترك ما يحتمل حرمته.

والمتحصّل انّ الاحتياط في تمام الموارد المذكورة بمعنى واحد وهو التحفّظ عن مخالفة الحكم الواقعي.

* * *

٢٨ ـ الاحتياط الشرعي

وهو الأصل العملي الذي بنى الأخباريون على انّه المرجع في الشبهات الحكمية التحريميّة وذلك في مقابل مشهور الاصوليين حيث يبنون على جريان أصالة البراءة الشرعية والعقلية في هذا المورد ، وفي مقابل ما بنى عليه السيد الصدر رحمه‌الله من جريان خصوص البراءة الشرعية في هذا المورد.

٧٥

فالأخباريون وان كانوا يبنون على جريان البراءة الشرعية ـ بل وكذلك العقلية كما هو الظاهر ـ في الشبهات الوجوبية إلا انهم يختلفون عن المشهور في الشبهات التحريمية حيث يدعون انّ الأدلة من الآيات والروايات تثبت لزوم مراعاة الاحتياط في خصوص الشبهات الحكمية التحريمية ، وهذا هو منشأ التعبير عن هذا الاحتياط بالشرعي ، ولذلك ادعى السيد الخوئي رحمه‌الله وهو المستظهر من كلمات الشيخ الانصاري بل وسائر الاصوليين انّ النزاع بين الاخباريين والاصوليين في المقام صغروي وان كانت كبرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان مسلمة عند الجميع.

فالنزاع انما هو في صلاحية أدلة الاحتياط لرفع موضوع البراءة العقلية وعدم صلاحيتها لذلك ، فالأخباريون يقولون : انّ البراءة العقلية انّما تجري مع عدم البيان وأدلة الاحتياط في الشبهات التحريمية بيان فلا موضوع لأصالة البراءة العقلية.

وأما الاصوليون فحيث ادعوا انّ أدلة الاحتياط غير تامة إما من جهة السند أو من جهة الدلالة فلا موجب لانتفاء موضوع أصالة البراءة العقلية ، فلا فرق بين الشك في الوجوب « الشبهة الوجوبية » أو الشك في الحرمة « الشبهة التحريمية » من جهة انهما جميعا مجرى لاصالة البراءة العقلية وكذلك الشرعية.

أقول : يمكن دعوى انّ الخلاف بين الاصوليين والاخباريين في المقام كبروي ولكن في خصوص البراءة الشرعية ، وذلك حينما نفترض انّ الإخباريين يرون انّ موضوع أدلة البراءة الشرعيّة في الشبهات التحريميّة هو عينه موضوع الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريميّة ، فمنشأ الاختلاف هو دعوى التعارض بين الأدلة وترجيح أدلة الاحتياط

٧٦

الشرعي ، فالنزاع لو كان كذلك ـ كما هو ليس ببعيد في بعض الأدلة ـ فهو كبروي ، إذ انّهم حينئذ يبنون على عدم جريان البراءة الشرعية في الشبهات التحريمية لسقوط دليلية أدلتها بالتعارض وترجيح أدلة الاحتياط الشرعي لا انّ المنشأ لذلك هو انّ الاحتياط الشرعي ينفي موضوع البراءة كما أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

٢٩ ـ الاحتياط العقلي

وهو أحد الاصول العملية العقلية أي المدركة بواسطة العقل العملي ، ولم يختلف أحد من العلماء في انّ أصالة الاحتياط العقلي جارية في كل مورد تتسع له حدود حق الطاعة للمولى جلّ وعلا ، وانّما وقع الخلاف في حدود حق الطاعة فهو الذي نشأ عنه الاختلاف فيما هو مجرى أصالة الاحتياط العقلي.

فالسيد الصدر رحمه‌الله حيث بنى على انّ حدود حق الطاعة للمولى تتسع لتشمل التكاليف المظنونة والمحتملة ذهب الى انّ أصالة الاحتياط العقلي تجري في موارد الظن بالتكليف بل وفي موارد احتماله.

وأما المشهور فحيث بنوا على تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان ذهبوا الى انّ أصالة الاحتياط العقلي لا تجري في موارد الظن أو احتمال التكليف ، وهذا ناشئ ـ كما هو مقتضى الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ عن انّ حدود حق الطاعة للمولى جلّ وعلا بنظرهم لا تشمل التكاليف غير المعلومة ، ولذلك بنوا على جريان أصالة البراءة العقلية في حالات عدم العلم بالتكليف.

والظاهر انهم لا يختلفون عن السيد الصدر رحمه‌الله في انّ التكليف المحتمل موجب للاحتياط عقلا ، وذلك دفعا

٧٧

للضرر الاخروي المحتمل ، واحتمال الضرر لا يأتي لو كانت حدود حق الطاعة غير شاملة للتكاليف المحتملة ، إذ انّ ذلك موجب للقطع بعدم الضرر.

فالخلاف بين المشهور والسيد الصدر رحمه‌الله هو انّ المشهور يقولون انّ المؤمّن عن الضرر المحتمل هو العقل والذي هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان والذي يظهر من عبائر السيد الصدر رحمه‌الله هو انّ مورد أصالة البراءة هو عينه مورد أصالة الاحتياط العقلي ، فإما ان يدرك العقل البراءة أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو يدرك الاحتياط العقلي ولزوم التحفّظ على التكاليف المحتملة ، إذ من المستحيل ان يدرك العقل حكمين متنافيين لموضوع واحد في رتبة واحدة.

فالخلاف بينهما في رتبة المدرك العقلي القاضي بالاشتغال والاحتياط ، فالمشهور يقولون انّ ما يدركه العقل من لزوم التحفظ على التكاليف المحتملة هو المدرك الاولي وهو معلّق على عدم وجود مؤمّن عن التكليف المحتمل ، فإذا ما جاء المؤمن لم يلزم مراعاة التكليف المحتمل ، وهذا المؤمن قد يكون شرعيا ـ كما يؤمن بذلك السيد الصدر رحمه‌الله ـ وقد يكون عقليا كأصالة البراءة العقلية المستندة الى القاعدة ، ومن هنا لو منع مانع عن جريان البراءة العقلية فالمرجع هو أصالة الاشتغال العقلي.

مثلا : في مورد العلم الإجمالي تسقط البراءة العقلية والشرعية عن الطرفين بسبب التعارض وعندها يتنجّز العلم الإجمالي ، فلو اضطر المكلف بعد ذلك الى أحد الطرفين أي بعد تنجّز العلم الإجمالي اضطر الى أحد الطرفين المعين أو غير المعين فإن أصالة البراءة العقلية والشرعية لا تجري فيبقى ارتكاب ذلك الطرف محتملا للمخالفة الواقعية ولا مؤمّن عن هذا الاحتمال لسقوط المؤمّن

٧٨

العقلي والشرعي بالتعارض فيجب الاحتياط عقلا ، وهذا الاحتياط في الواقع يرجع الى انّ حق الطاعة للمولى يتسع للتكاليف المحتملة لكن غير المؤمّن عنها لا شرعا ولا عقلا.

وكذلك الكلام في الشبهات الحكميّة البدويّة قبل الفحص ، فحيث لا مؤمّن عنها لعدم جريان البراءة العقلية والشرعية فالمرجع هو أصالة الاحتياط العقلي.

وحاصل كلام السيد الصدر رحمه‌الله انّ التأمين العقلي غير ممكن ، وذلك لأنّ موضوعه المفترض هو عينه موضوع أصالة الاحتياط العقلي فلا يمكن ان يدرك العقل لزوم الطاعة في موارد التكاليف المحتملة وفي نفس الوقت يدرك انّ المكلّف غير مسئول عن التكاليف المحتملة ، نعم المؤمن الشرعي وهو أصالة البراءة الشرعية ينفي موضوع لزوم الاحتياط العقلي في التكاليف المحتملة ، وذلك لأن ما يدركه العقل من لزوم الاحتياط معلّق من أول الامر على عدم الترخيص الشرعي فإذا ما جاء الترخيص الشرعي انتفى موضوع الاحتياط العقلي.

وأما المشهور فيدعون انّ المؤمّن الشرعي والمؤمن العقلي كلاهما في رتبة واحدة وان الذي هو في رتبة متقدمة هو الاحتياط العقلي ، وهذا هو معنى قولهم انّ التكاليف المحتملة غير مشمولة لحق الطاعة للمولى جلّ وعلا.

والمتحصّل انّ المشهور يذهبون الى ان موضوع المدرك العقلي بلزوم طاعة المولى هو التكليف المحتمل غير المؤمن عنه عقلا وشرعا والسيد الصدر رحمه‌الله يذهب الى موضوعه هو التكليف المحتمل غير المؤمّن عنه شرعا فحسب.

هذا ما نفهمه من الخلاف الواقع بين المشهور والسيد الصدر رحمه‌الله ثم انّ

٧٩

المقدار المتفق عليه في الجملة هو انّ أصالة الاحتياط العقلي تجري في موارد الشك في المكلف به إذا كان الاحتياط ممكنا. ولمزيد من التوضيح راجع البحث تحت عنوان الشك في المكلّف به.

* * *

٣٠ ـ الاحتياط حسن على أيّ حال

والمراد من هذه القاعدة التي أطبق العلماء على تماميتها هو انّ العقل يستقلّ بإدراك حسن الاحتياط مهما أمكن ولم يلزم من مراعاته محذور.

ومنشأ إدراك العقل لحسن الاحتياط هو ما يترتب على الاحتياط من التحفّظ على أغراض المولى جلّ وعلا لو اتفقت ، وهو من أكمل مصاديق الشكر لوليّ النعمة جلّ وعلا ، واذا كان كذلك فالاحتياط محبوب للمولى جلّ وعلا ولو بنحو المحبوبيّة الطريقية ، ولا ريب انّ تحرّي ما هو محبوب للمولى من أكمل صور العبودية والتي يستقلّ العقل برجحانها وبهذا يثبت المطلوب.

وبذلك يتضح انّ الاحتياط حسن سواء امكن الامتثال التفصيلي أو لم يكن ممكنا وسواء استلزم الاحتياط التكرار أو لم يستلزم ذلك ، وسواء كان في التوصليّات أو كان في التعبديّات ، وسواء كان الاحتياط منتجا للتحفّظ على الأغراض اللزومية للمولى أو الأغراض الغير البالغة حد الإلزام.

نعم لو ترتّب على مراعاة الاحتياط محذور علم من الشارع عدم قبوله باهماله كما لو استوجب الاحتياط اختلال النظام فإن حسن الاحتياط حينئذ ينتفي ، وذلك لانتفاء الحيثية التعليليّة لحسنه والتي هي التحفّظ على الملاكات الواقعية الغير المزاحمة بما هو أهم.

وهكذا الكلام لو كان الاحتياط

٨٠