المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الممكنات له تأثير استقلالي او تبعي على ممكن آخر ، فلا النار علة للإحراق ولا الشمس سبب للإنارة كما انّ البرودة ليست أثرا للثلج ولا الحلاوة أثر من آثار العسل.

وكلّ ما نشاهده من تلازم خارجي بين النار والإحراق والشمس والإنارة نشأ عن انّه قد جرت عادة الله جلّ وعلا ان يفيض النور مثلا عند ما يوجد الشمس وان يخلق الحلاوة عند ما يخلق العسل ، وإلاّ فليس بين الشمس والنور علاقة علّية ومعلولية وهكذا الكلام في سائر الممكنات التي توهّم انّ بينها علاقة علّية ومعلولية.

هذا وقد ترقى بعضهم وادعى ان حصول العلم بالنتيجة من القياس ليس ناشئا واقعا عن مقدمتي القياس بل لأنّ عادة الله جلّ وعلا قد جرت على إحداث العلم بالنتيجة بعد تأليف القياس وإلاّ فلا علاقة بين النتيجة وبين مقدمتي القياس ، فكما انّ قضيّة « الكلّ أعظم من الجزء » لا تنتج « زوجية الاربعة » فكذلك قضيتا « العالم متغيّر » « وكلّ متغيّر حادث » لا ينتجان « ان العالم حادث ».

ومن هذه النظريّة نشأ القول بالجبر وانّ الأفعال الصادرة عن الإنسان معلولة مباشرة لله جلّ وعلا وليس للإنسان أيّ نحو من أنحاء الدخل في حدوثها ، فكلامه وصلاته وظلمه وعدله وكذبه وصدقه وايمانه وكفره كلها أفعال معلولة لله جلّ وعلا أولا وآخرا ومباشرة واستقلالا.

هذا هو حاصل المراد من نظريّة الجبر ، وهي منافية للبراهين العقليّة ومباينة للأدلة الشرعية القطعيّة ، وبيان ذلك خارج عن المقصود إلاّ انّه قد أوضحنا ما هو المذهب الحقّ في هذه المسألة تحت عنوان « الأمر بين الأمرين ».

* * *

٦٠١

٢٦٤ ـ أصالة الجد

وهي من الاصول اللفظيّة العقلائية المقتضية للبناء على جدّيّة ما أخطره المتكلّم. وقد أوضحنا المراد من هذا الأصل وما هو منشأ حجيّته في بحث « أصالة الجهة ».

* * *

٢٦٥ ـ الجزء

الجزء من المفاهيم النسبيّة الإضافيّة والتي ينتزعها الذهن بواسطة ملاحظة شيء بالإضافة الى شيء آخر ، كملاحظة السورة بالإضافة الى الصلاة ، فإنّ العقل ينتزع من ذلك جزئية السورة للصلاة.

وكون الجزء من المفاهيم الانتزاعيّة لا يعني انّ معنونه ممّا ليس له ما بإزاء في الخارج بل انّ هذا المعنون تارة يلحظ بنفسه فيأخذ عنوانه الذي هو عليه واقعا وفي نفس الأمر ، واخرى يلحظ بالإضافة الى شيء آخر وحينئذ ينتزع العقل له عنوانا بواسطة هذا اللحاظ الإضافي إذا صحّ التعبير.

* * *

٢٦٦ ـ الجزء الخارجي

وهو الذي اذا انضمّ اليه غيره خارجا تشكل عن مجموعهما مركب واحد ويكون انفصاله عنه موجبا لنقص المركب أو انعدامه أو تبدل صورته الى صورة مركب آخر ، ومن هنا كان الجزء مقوم لحقيقة المركب ، بمعنى استحالة ان يحتفظ المركّب بواقعه ـ الذي هو عليه مع الجزء ـ حينما لا يكون الجزء موجودا مع سائر أجزاء المركب.

ومن هنا وقع الكلام في الأجزاء المستحبّة في المركب ، وهل هي جزء حقيقي للمركب أو لا؟.

فالنافون لجزئية الجزء الاستحبابي

٦٠٢

يتمسّكون بدعوى انّ جزئية الجزء لمركّب منوطة بتقوّم المركب بذلك الجزء ، وهذه الضابطة غير منطبقة على الجزء الاستحبابي باعتبار انّ المركب لا يتقوّم به ، وافتراض تقوّمه به خلف افتراض استحبابه ، إذ انّ استحباب الجزء يعني عدم تأثر المركب بانعدامه ، وقد قلنا انّ انعدام الجزء يعني نقص أو انعدام أو تبدّل صورة المركب ، وهذا ما يعبّر عن انّ المستحبّ ليس أكثر من فعل ظرف مطلوبيته هو المركب.

* * *

٢٦٧ ـ الجزء الذهني التحليلي

وهو الذي تكون دخالته في المركب بنحو الشرطيّة ، بمعنى ان يكون خارجا عن ذات المركّب إلاّ انّ المركّب يكون متقيّدا به. ومن الواضح انّ التقيّد ليس له ما بإزاء في الخارج بل انّ موطنه الذهن ، فذات المركب خارجا لا يختلف الحال فيه بين تقيّده بالشرط وعدم تقيّده به ، بمعنى انّ ذات المركّب المتقيّد بالشرط ليس فيه شيء زائد يمكن ان يشار اليه خارجا إلاّ انّه في صقع الذهن مباين لذات المركب الفاقد للتقيّد بالشرط.

وهذا هو منشأ التعبير عنه بالجزء الذهني ، فالفرق بين الجزء الذهني والجزء الخارجي انّ الجزء الخارجي يمكن أن يشار اليه ، فيقال هذا جزء المركب ، وأما الجزء الذهني فليس كذلك بل انّ جزئيته الذهنيّة ناشئة عن تحليل العقل للمركب وانّه مركّب من ذات المركب والتقيّد بالشرط ، ولهذا قالوا انّ الأمر عند ما يجعل على المركب فإنّه ينحل على أجزائه الخارجيّة ، بمعنى انّ الأمر بالمركب أمر بأجزائه ، إلاّ انّه لا ينبسط على شرائطه وقيوده بل انّها خارجة عن المأمور به ، والداخل في المأمور به انّما هو التقيّد بها ، بمعنى انّ المأمور به انّما هو الحصّة

٦٠٣

المتقيّدة بهذه القيود ، فالقيود خارجة والتقيّد بها داخل في المأمور به.

فالطهارة مثلا وكذلك الساتر والاستقبال ليست داخلة في المأمور به وهي الصلاة ، المتقيّدة بالطهارة.

وبهذا يتّضح انّ منشأ التعبير عن الجزء الذهني بالقيد هو انّه يوجب تقيّد المأمور به ، وذلك في مقابل اطلاقه وإرساله ، وعلى هذا الأساس يكون الجزء الذهني شاملا للقيد الوجودي مثل الطهارة وللقيد العدمي المعبّر عنه بالمانع مثل الغصبيّة ، إذ انّ كلاّ منهما يوجب تقيّد المأمور به ، فالاول يوجب تقيّد الصلاة مثلا بالطهارة ، والثاني يوجب تقيّد الصلاة بعدم الغصب.

* * *

٢٦٨ ـ الجزء الصوري

قد أوضحنا المراد منه تحت عنوان « القاطع والمانع ».

٢٦٩ ـ الجعل البسيط

والمراد من الجعل البسيط هو جعل الشيء ، أي ايجاده بمفاد كان التامة.

ويعرف الجعل البسيط بواسطة ان فعل « جعل » لا يتعدّى في مورده إلاّ لمفعول واحد ، كأن تقول « جعل الله الانسان » أي أوجده.

ثمّ انّ الجعل البسيط يختصّ بايجاد أو بافاضة الذات والذاتيات ، فايجاد الإنسان أو ايجاد الحيوانيّة أو الناطقيّة للإنسان يكون من الجعل البسيط ، وذلك لأن جعل الإنسان من جعل الشيء ، لا من جعل شيء شيئا أو من جعل شيء لشيء ، فإنّ من غير المعقول ان تنفك الإنسانيّة عن الإنسان حتى يصحّ جعل الإنسانيّة له ، فجعل الإنسانيّة للإنسان يكون من جعل الشيء لنفسه ، وهو مستحيل ، نعم إذا كان جعل الإنسانيّة للإنسان بمعنى جعل الإنسان أي

٦٠٤

ايجاده فهذا صحيح ، وعنده يكون جعلا بسيطا.

وهكذا الكلام في جعل مقوّم الإنسانيّة للإنسان كجعل الحيوانيّة أو الناطقيّة له فإنّه لا يكون إلاّ بنحو الجعل البسيط وإلاّ لزم جعل الشيء لنفسه ، إذ انّه حينما لا تكون الناطقيّة مجعولة فهذا معناه عدم جعل الإنسان ، ولذلك لا يكون جعل الناطقيّة للإنسان من جعل شيء لشيء بل هو من جعل الشيء.

وهنا معنى ثان للجعل البسيط يذكره الفلاسفة كصاحب المنظومة رحمه‌الله ويقول الشيخ المطهري رحمه‌الله انّ أول من نقّحه هو المير الداماد رحمه‌الله وهو ان الجعل البسيط هو جعل الوجود النفسي ، وذلك في مقابل الجعل المركّب فهو بمعنى جعل الوجود الرابط ، ولمّا لم يكن هذا المعنى هو المراد من كلمات الاصوليين فإننا لن نتعرض لبيانه.

* * *

٢٧٠ ـ الجعل التأليفي « المركب »

والمراد منه جعل الشيء شيئا آخر أو جعل شيء لشيء بمفاد كان الناقصة ، فالمعلول عند ما يكون موجودا وتأتي العلّة لتجعل له وجودا زائدا على أصل وجوده يكون هذا النحو من الجعل جعلا مركبا ، كما في جعل التراب طينا ، فإنّ الجاعل قد أفاض على التراب وجودا زائدا على أصل وجوده وهي صفة الطينية والتي كان التراب فاقدا لها قبل الجعل.

ويعرف الجعل المركب بواسطة ملاحظة فعل « جعل » فإن كان متعديا لمفعولين فهو من الجعل المركّب.

ثمّ انّ هذا النحو من الجعل يختص بالصفات والأعراض الأعم من اللازمة والمفارقة. ومرادنا من الجعل هنا هو خصوص الجعل التكويني الحقيقي وإلاّ فالجعل الاعتباري

٦٠٥

كالجعولات الشرعيّة لا يتعقّل معها جعل اللوازم الذاتيّة.

ولهذا قالوا بأن جعل الحجيّة واعتبارها للقطع غير ممكن لا بنحو الجعل البسيط كما هو واضح ولا بنحو الجعل المركّب ، وذلك لأنّه الحجيّة لازم ذاتي للقطع ، فجعل الحجيّة له من تحصيل الحاصل.

* * *

٢٧١ ـ الجعل الشرعي

والمراد منه تمام الأحكام المجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود.

وبيان ذلك : انّ الحكم قبل أن يصل لمرتبة الجعل يمرّ بمراحل يعبّر عنها بعلل الحكم أو قل بمبادئ الحكم والتي هي الملاك والإرادة كما سنوضح ذلك في محلّه ، فحينما يتوفر فعل من الأفعال على مصلحة أو مفسدة تنشأ عن ذلك إرادة أو مبغوضيّة تتناسبان مع مستوى المصلحة والمفسدة ، ويترتّب على ذلك اعتبار مولوي ينسجم بنظر المولى مع نحو الملاك ومرتبته ، وحينها يبرز المولى هذا الاعتبار بوسيلة من وسائل الإبراز فيكون ذلك الاعتبار المبرز هو الجعل الشرعي ، وعادة ما يتمّ ذلك بواسطة جعل الحكم واعتباره على الموضوع المقدّر الوجود ، أي انّ الجعولات الشرعيّة عادة ما تكون مصوغة على نهج القضايا الحقيقيّة.

ومن هنا لا يناط الجعل الشرعي بتحقّق موضوعه خارجا فقد لا يتّفق تحقّقه خارجا ، وقد يكون اتّفاق تحقّقه نادرا إلاّ انّ ذلك لا يؤثر على أصل الجعل ، إذ لا صلة للجعل بتحقّق الموضوع خارجا بل هو منوط ـ كما ذكرنا ـ بمبادئه وملاكاته ، والمفروض انّها متقرّرة في نفس الأمر والواقع.

فالفقير في نفس الأمر والواقع واجد لملاك استحقاقه للزكاة وان لم يكن ثمّة فقير خارجا ، فمبرّر جعل

٦٠٦

الاستحقاق انّما هو واجديّة الفقير لملاك الجعل لو اتّفق وجوده خارجا.

* * *

٢٧٢ ـ الجمع التبرعي

وهو الجمع بين مدلولات الأدلّة المتعارضة بنحو لا يتناسب مع الضوابط المقرّرة عند العرف ، ومن هنا يكون هذا النحو من الجمع ساقطا عن الحجيّة لعدم استناده الى الظهورات العرفيّة والتي هي موضوع أدلّة الحجيّة.

وغالبا ما يكون هذا الجمع مستندا الى قاعدة انّ الجمع مهما أمكن فهو أولى من الطرح ، وقد يكون المنشأ لهذا الجمع هو الغفلة عن الضوابط العرفيّة للجمع وإلاّ فكبرى سقوط الجمع التبرعي عن الحجيّة مسلّمة عند الأكثر.

* * *

٢٧٣ ـ الجمع العرفي

والمراد منه الجمع بين مدلولات الأدلّة المتعارضة بنحو التعارض البدوي ، على أن يكون ذلك الجمع متناسبا مع الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، ولهذا عبّر عنه بالجمع العرفي لتناسبه مع المتفاهم العرفي ، وذلك في مقابل الجمع التبرعي.

ومن هذا التعريف تتّضح امور يتشكّل من مجموعها المراد من الجمع العرفي :

الأمر الاول : انّ الجمع العرفي انّما يكون بين مدلولات الأدلّة ولا صلة له باسنادها ، ومن هنا لا بدّ من الفراغ عن صدور الأدلّة التي يراد الجمع بين مفاداتها ، ولذلك يعبّر عن الجمع العرفي بالجمع الدلالي.

الأمر الثاني : انّ مورد الجمع العرفي هو الأدلّة المتعارضة بدوا ، وبذلك تخرج الأدلّة المتعارضة بنحو التعارض

٦٠٧

بنحو التعارض المستقر ، ويخرج أيضا الدليل المشتمل على قرينة متّصلة منافية لظهوره التصوري ، وذلك لأنّ اشتمال الدليل على قرينة متّصلة يمنع عن انعقاد الظهور التصديقي للدليل من أوّل الأمر ، ويكون الظهور التصديقي مع ما تقتضيه القرينة.

وبهذا يتمحّض مورد الجمع العرفي بالدليلين اللذين يكون أحدهما قرينة على ما هو المراد النهائي لمجموع الدليلين ، فالدليل الذي يمثل القرينة على ما هو المراد من الدليل الآخر وان كان لا يهدم الظهور التصديقي للدليل الآخر إلاّ انّه ينفي حجيّته ، بمعنى انّ الحجيّة تثبت لما ينتج عن الجمع بين القرينة وذي القرينة.

الأمر الثالث : انّ منشأ ثبوت الحجيّة للجمع العرفي هو انّه من صغريات الظهور التصديقي الثاني المعبّر عنه بالمراد الجدي والنهائي ، والظهور التصديقي هو موضوع الحجيّة كما هو واضح.

وتقريب دعوى صغروية الجمع العرفي للظهور التصديقي هو انّ الجمع العرفي يستند الى ما يعدّه المتكلم من قرائن لغرض بيان مراده الجدّي من كلامه امّا بنحو الإعداد الشخصي أو بنحو الإعداد النوعي ، وواضح انّ هذا المستند هو الوسيلة العقلائيّة المعتمدة لبيان المراد ، كما هو الوسيلة للتعرّف على ما هو مراد المتكلّم. ولهذه لا يلتفت الى ما يظهر بدوا من كلامه الاول بعد ما تصدّى لبيان مراده الجدّي والنهائي.

والمراد من الإعداد الشخصي هو القرينة الخاصة التي يتصدّى المتكلّم نفسه لإبرازها لغرض تفسير كلامه الاوّل ، كأن يبرز المتكلّم قرينة على انّه ناظر لكلامه الاول لغرض شرحه وتفسيره ، ويعبّر عن الدليل المشتمل على قرينة النظر بالدليل الحاكم ويكون الدليل الآخر محكوما ، ويعبّر

٦٠٨

عن الجمع العرفي عند ما يكون منشؤه هذا النحو من القرائن بالحكومة.

والمراد من الإعداد النوعي هو القرينة النوعيّة التي أعدّها العرف لغرض التوسّل بها لتحديد المراد ، وعند ما يستعمل المتكلّم هذا النحو من القرائن يستظهر العرف جريانه على وفق ما هو مقرّر عندهم. ومنشأ هذا الاستظهار هو أصالة متابعة كلّ متكلّم ما هو مقرّر عند من يتكلّم بلغتهم ، إذ هم المقصودون بالافهام فلا بدّ من جريه على وفق الطريقة التي يفهمون بواسطتها مراداته وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، وهو خلف الحكمة المفترضة للمتكلّم.

ومثال القرائن النوعيّة التي يعتمدها المتكلّم لبيان مراده هو قرينة الأظهر على الظاهر والخاص على العام والمطلق على المقيّد.

ثمّ انّ الوسيلة التي يعتمدها العرف غالبا ـ كما أفاد المحقّق النائيني ـ للتعرّف على صلاحية الدليلين لأن يجمع بينهما جمعا عرفيا هي افتراض الدليلين كلاما واحدا متصلا ، وعندئذ ان احتفظ كلّ من الكلامين بظهوره التصديقي الثابت قبل افتراض اتّصالهما فهذا معناه ان لا أحد من الدليلين قرينة على الآخر ، بمعنى انّ هذين الدليلين لا يصلحان لأن يجمع بينهما جمعا عرفيا ، وذلك لأن القرينة المتّصلة تمنع من انعقاد الظهور التصديقي للدليل الآخر وتحوّل ظهوره البدوي الى ما يتناسب مع مقتضاها ، ومن هنا قلنا حين انحفاظ كل من الدليلين بظهوره التصديقي بعد افتراض اتّصالهما قلنا بأن لا أحد منهما قرينة على الآخر وإلاّ لمنع عن استقرار ظهوره.

وأمّا إذا لم يحتفظ أحد الدليلين بظهوره التصديقي ـ الثابت قبل افتراض الاتّصال ـ وتحوّل ظهوره بعد افتراض الاتّصال الى ظهور آخر

٦٠٩

يتناسب مع ظهور الدليل الآخر فإنّ هذا يعبّر عن انّ الظهور الآخر يمثل قرينة على الدليل الاول. وعلى اساس قرينيّة الدليل الآخر المستكشفة بواسطة افتراض اتّصالهما على هذا الاساس يتمّ الجمع العرفي.

وبما بينّاه تتّضح معالم الجمع العرفي. ثمّ انّه لا بدّ من توفّر الجمع العرفي على مجموعة من الشروط يتّضح بعضها بالتأمّل فيما ذكرناه.

منها : أن يكون الكلامان صادرين من متكلّم واحد أو من جهة واحدة ، كالروايات الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، فانّهم عليهم‌السلام يمثّلون بمجموعهم جهة واحدة هي الشريعة المقدّسة.

ومنها : احراز صدور الدليلين اللذين يراد الجمع بينهما وإلاّ فلو علمنا اجمالا بعدم صدور أحدهما فإنّ التعارض هنا يكون بين السندين ، وقد قلنا انّ الجمع العرفي جمع دلالي لا صلة له بالسند.

ومنها : ما قيل من لزوم إحراز جهة الصدور بمعنى ـ ظاهرا ـ ان لا نعلم اجمالا أو تفصيلا بأنّ أحد الدليلين صادر لغير بيان الحكم الواقعي ، كأن يكون صادرا تقيّة.

ومنها : أن لا يكون الجمع مقتضيا لإلغاء الدليل المغلوب رأسا.

* * *

٢٧٤ ـ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح

وهي من القواعد المشتهرة بين قدماء الاصوليّين ، وقد ادّعى الميرزا حبيب الله الرشتي رحمه‌الله ـ في بدائع الافكار ـ اجمال المراد من هذه القاعدة ، والذي يظهر من بعض كلمات العلاّمة الحلّي رحمه‌الله انّ المراد من الجمع هو الجمع الدلالي ، أمّا ما يظهر من بعض كلمات الشهيد رحمه‌الله في تمهيد القواعد فهو انّ المراد من الجمع هو الجمع العملي ، أي التبعيض في العمل

٦١٠

بالدليلين.

ولكي يتّضح المراد من هذه القاعدة نصنّف البحث الى ثلاثة جهات ، وقبل بيان ذلك نقول : انّ مورد القاعدة هل هو الأخبار المتعارضة مطلقا ، أي سواء كان التعارض مستقرا ومستحكما أو كان تعارضا بدويا ، أو انّ مورد القاعدة هو خصوص التعارض البدوي ، كالتعارض بين الاطلاق والتقييد؟

المستظهر من كلمات بعض الأعلام هو الاول وان مورد القاعدة هو مطلق التعارض ، ويترتب على كل من الاحتمالين ثمرات مهمّة تتّصل بفهم القاعدة ، وهذا ما سيتّضح من مطاوي الحديث عن الجهات الثلاث التي نرجوا بواسطتها اتّضاح المراد من القاعدة :

الجهة الاولى : ويقع البحث فيها عمّا هو المراد من الجمع ، وهل هو الجمع الدلالي أو هو الجمع العملي؟

والمقصود من الجمع الدلالي أحد احتمالات ثلاثة :

الاحتمال الاول : هو التوفيق بين مدلولي الخبرين المتعارضين بتأويل أحدهما أو كلاهما بنحو ينتفي معه التعارض الواقع بينهما بحسب الظهور الاولي قبل الجمع.

كما لو ورد « انّ ثمن العذرة سحت » وورد « انّه لا بأس ببيع العذرة » فنحمل العذرة في الرواية الاولى على عذرة الإنسان وفي الرواية الثانية على عذرة الحيوان.

الاحتمال الثاني : هو التحفّظ على مدلولي الدليلين والتعبّد بهما معا ولكن بنحو التخيير ، إمّا التخيير الاستمراري أو التخيير الابتدائي.

الاحتمال الثالث : الجمع بين مدلولي الدليلين بنحو يتناسب مع الضوابط العرفيّة ، بمعنى انّه لو ألقينا هذين الدليلين الى العرف لفهم من مجموعهما المعنى الذي حصّلناه من

٦١١

الجمع بينهما ، ومثاله حمل الأظهر على الظاهر والمقيّد على المطلق.

وأمّا المقصود من الجمع العملي فهو أحد احتمالات.

الاحتمال الاول : هو التبعيض العملي للخبرين بمعنى ان نعمل ببعض مدلول الخبر الاول وببعض مدلول الخبر الثاني.

الاحتمال الثاني : تبعيض العمل بمدلول أحد الخبرين مع العمل بتمام مدلول الخبر الآخر ، ومثاله المطلق والمقيّد ، أمّا المقيّد فنعمل بتمام مدلوله ، وأمّا المطلق فنعمل بالمقدار الذي لا يتنافى مع المقيّد.

الاحتمال الثالث : التبعيض العملي بنحو الترديد ، أي ان نعمل تارة بتمام مدلول الخبر الاول ، ونعمل تارة اخرى بتمام مدلول الخبر الثاني.

وبملاحظة مجموع احتمالات المراد من الجمع الدلالي واحتمالات المراد من الجمع العملي ينقدح في الذهن احتمال عدم الفرق بينهما ، إذ لو كان المراد من الجمع الدلالي هو الاحتمال الثالث وكان المراد من الجمع العملي هو الاحتمال الثاني لكان المراد من الجمعين واحدا والاختلاف انّما هو في التعبير ، بل لو كان المراد من الجمع الدلالي هو الاحتمال الاول وكان المراد من الجمع العملي هو الاحتمال الاول لكان من الممكن القول باتّحاد المراد منهما بأن يقال انّ التوفيق بين مدلولي الخبرين يلازم دائما العمل ببعض مدلول الخبر الاول وببعض مدلول الخبر الثاني ، ففي المثال الذي ذكرناه للاحتمال الاول من الجمع الدلالي عند ما حملنا العذرة في الرواية الاولى على عذرة الإنسان نكون قد عملنا ببعض مدلول الخبر الاول ، وهو اجتناب بيع عذرة الإنسان وان كنا لم نعمل باطلاقه المقتضي لترك بيع مطلق العذرة ، وعملنا أيضا ببعض مدلول الخبر الثاني من حيث التزامنا بصحّة بيع

٦١٢

عذرة الحيوان ، ولو كنّا واطلاق الرواية الثانية لجاز لنا بيع عذرة الإنسان أيضا.

نعم بناء على انّ المراد من الجمع الدلالي هو الاحتمال الثاني وانّ المراد من الجمع العملي هو الاحتمال الثالث أو الثاني أو الاول لكان الفرق بينهما بيّنا ، إذ انّ الاحتمال الثالث للجمع العملي يقتضي العمل بكلا الخبرين ولكن بنحو الطوليّة في حين انّ الاحتمال الثاني للجمع الدلالي ـ بناء على التخيير الابتدائي ـ لا يصحّ للمكلّف العمل بالخبر الثاني لو اختار أولا العمل بالخبر الاول وهكذا العكس. وأمّا بناء على التخيير الاستمراري فإنّ المكلّف لا يكون معه ملزما بالعمل بالخبر الثاني لو اختار الاول ، نعم له ان يعمل بالثاني بعد العمل بالاول إلاّ انّ ذلك غير ملزم وهذا بخلاف الاحتمال الثالث للجمع العملي ، نعم لو اخترنا في معنى الأولويّة انّ المراد منها الراجحيّة لكان من الممكن التوفيق بين الاحتمال الثاني للجمع الدلالي ـ بناء على التخيير الاستمراري ـ والاحتمال الثاني للجمع العملي.

وبهذا الطريقة يعرف الفرق بين سائر احتمالات الجمعين.

الجهة الثانية : ويقع البحث فيها عمّا هو المراد من الإمكان في القاعدة ، وهل هو الإمكان العقلي أو هو الإمكان العرفي؟

نسب الميرزا الرشتي رحمه‌الله الى كتاب غوالي اللئالي وغيره من الكتب انّ المراد من الإمكان في القاعدة هو الإمكان العقلي ثمّ ادّعى انّ القول بأنّ المراد من الإمكان هو الإمكان العرفي هو من الخلط والاشتباه ، ثمّ أفاد بأن أول من تبنّى القول بأن المراد من الإمكان هو الإمكان العرفي هو الاستاذ الوحيد البهبهاني رحمه‌الله.

وكيف كان فالمقصود من الإمكان

٦١٣

العقلي هو الإمكان الوقوعي ، وهو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال ، أي انّ وجوده لو اتّفق لا يكون مستلزما لأحد المحاذير العقليّة كاجتماع النقيضين.

وبناء على هذا المعنى يكون المصحّح للجمع بين الروايات هو ان لا يلزم من نتيجة الجمع محذور عقلي ، فلو كان يلزم من نتيجة الجمع بين الروايتين نسبة الظلم الى الله تعالى فهذا الجمع غير ممكن فلا يكون أولى من الطرح ، وهكذا لو كان يلزم من نتيجة الجمع التعبّد بالمتناقضين أو بالضدّين فإنّ الجمع غير ممكن فلا يكون أولى من الطرح.

ومن هنا لو وردت روايتان ، إحداهما تحرّم أكل لحم الأرنب والاخرى تحلّله فإنّ الجمع بين هاتين الروايتين بالقول انّ لحم الأرنب حرام شرعا وحلال شرعا غير ممكن ، نعم لو جمعنا بينهما بحمل الاولى على الكراهة والاخرى على الاباحة فإنّ هذا الجمع لا يلزم منه محذور عقلي ، ولذلك يكون أولى من الطرح.

ومن هنا قالوا في مقام الجواب على الجمع العملي بناء على الاحتمال الاول وهو العمل ببعض مدلول الخبر الاول والعمل ببعض مدلول الخبر الثاني بأنّه مستحيل ، وذلك لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعيّة ، والترخيص في المخالفة القطعيّة مستحيل وقوعا.

فلو قال المولى « أكرم كلّ العلماء » وقال : « لا تكرم كلّ العلماء » وكان مقتضى الجمع هو العمل ببعض مدلول الخبر الاول وببعض مدلول الخبر الثاني لكان ذلك معناه الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وذلك لأنّ الواقع لا يخلو إمّا أن يكون مدلول الخبر الاول أو يكون مدلول الخبر الثاني ، وعلى كلّ تقدير تحصل المخالفة لجزء الواقع.

هذا ما يمكن ان يقرّب به إشكال

٦١٤

القائلين بالجمع الدلالي على الجمع العملي ، وهو مخدوش كما هو واضح إلاّ انّه يعزّز دعوانا من ان المراد من الإمكان العقلي هو الإمكان الوقوعي.

وأمّا المقصود من الإمكان العرفي فيحتمل معنيين :

المعنى الاول : انّ المراد من الإمكان العرفي هو الإمكان العقلائي ، بمعنى ان لا تتنافى نتيجة الجمع مع المتبنّيات العقلائيّة وان كان متنافيا مع الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، وبهذا تكون دائرة الجمع الممكن بناء على هذا المعنى أضيق من دائرة الجمع الممكن بناء على انّ المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي ، إذ ليس كلّ ممكن وقوعا يتناسب مع المتبنّيات العقلائيّة.

مثلا : لو ورد خبر مفاده « لا تعمل بخبر الكاذب » وورد خبر آخر مفاده « أعمل بخبر الكاذب » وجمعنا بينهما بهذا الجمع وهو جواز العمل بخبر الكاذب ، فإنّ هذا الجمع وان كان ممكنا وقوعا اذ لا يترتّب من تبنيه محذور عقلي إلاّ انّه غير متناسب مع المتبنيات العقلائيّة كما هو واضح.

المعنى الثاني : انّ المراد من الإمكان العرفي هو التناسب مع الضوابط المعتمدة عند أهل المحاورة ، فمتى ما كان الجمع متناسبا مع هذه الضوابط كان ممكنا ، وعندئذ يكون أولى من الطرح ، ومتى كان الجمع منافيا لما عليه أهل المحاورة فهو غير ممكن ، فلا يكون أولى من الطرح.

والظاهر انّ هذا هو المراد من الإمكان العرفي بنظر الوحيد البهبهاني رحمه‌الله ، إذ هو المتناسب مع النقوضات التي نقض بها على مسلك الإمكان العقلي ، من قبيل استلزامه فقها جديدا واستلزامه اطراح روايات العلاج للاخبار المتعارضة والقاضية بالتخيير أو الترجيح ، إذ لو كان مراده من الإمكان العرفي هو

٦١٥

الإمكان العقلائي لكان ما نقض به على مبنى الامكان العقلي صالحا لأن يكون نقضا على مبناه أيضا.

إذ من الواضح انّ الجمع على أساس الإمكان العقلائي يستلزم أيضا اطراح روايات العلاج كما يستلزم أيضا استحداث فقه جديد ، لوضوح انّ كثيرا من الجموعات المفترضة لا تتنافى مع المتبنّيات العقلائيّة ، بمعنى عدم استيحاشهم من افتراضها إلاّ انّها تتنافى مع روايات العلاج ، ومستلزمة لاستحداث فقه جديد.

مثلا : لو ورد انّ الواجب في ظهر يوم الجمعة هو صلاة الظهر ، وورد خبر آخر مفاده انّ الواجب في ظهر يوم الجمعة هو صلاة الجمعة ، وجمعنا بين هذين الخبرين بالقول انّ الواجب في ظهر يوم الجمعة هو صلاة الجمعة والظهر معا. فإنّ هذا الجمع لا يكون متنافيا مع الإمكان العقلائي ، إذ لا يستوحش العقلاء من ايجاب المولى على عبيده صلاتين في ظهر يوم الجمعة إلاّ انّ هذا الجمع منافيا لروايات العلاج والتي تقتضي في حالات التعارض المستقرّ ـ كما في المثال ـ إمّا التخيير أو الترجيح بمرجحات باب التعارض ، كما انّ هذا النحو من الجمع يستلزم استحداث فقه جديد.

ومن هنا استظهرنا انّ مراد الوحيد البهبهاني رحمه‌الله من الإمكان العرفي هو تناسب الجمع مع الضوابط المعتمدة عند أهل المحاورة ، وواضح انّ هذه الضوابط تقتضي عدم امكان الجمع في حالات التعارض المستقرّ.

إلاّ انّ ما أفاده الوحيد البهبهاني ليس تفسيرا للإمكان في القاعدة ، بمعنى انّه لا يدعي انّ مراد العلماء من الإمكان في القاعدة هو الإمكان العرفي ، بل انّ غرضه بيان ما هو مقتضى التحقيق بنظره وانّه يستوجب حمل الإمكان في القاعدة على الإمكان العرفي لا العقلي بل ولا العقلائي كما

٦١٦

أوضحنا ذلك. وإلاّ فمراد المشهور من الإمكان في القاعدة هو الإمكان العقلي كما وقع التصريح بذلك في بعض كلماتهم وكما يشعر به النقض الذي نقض به الوحيد رحمه‌الله عليهم.

الجهة الثالثة : ويقع البحث فيها عما هو المراد من الاولويّة في القاعدة. فنقول : انّ للمراد من الاولويّة مجموعة من الاحتمالات :

الاحتمال الاول : انّ المراد من الاولويّة هو اللزوم ، بمعنى انّه إذا دار الأمر بين الطرح وبين الجمع الممكن فإنّه يلزم تقديم الجمع الممكن على الطرح ، فلا يسوغ للفقيه طرح الروايتين أو احداهما إذا كان الجمع ممكنا.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من الاولوية هو الراجحيّة ، بمعنى انّه اذا دار الأمر بين الطرح وبين الجمع الممكن فإنّ الفقيه مخيّر بينهما إلاّ انّ الراجح له هو اختيار الجمع الممكن.

الاحتمال الثالث : انّ الجمع اذا كان ممكنا بالإمكان العرفي فالاولوية بمعنى اللزوم ، وإذا كان ممكنا بالإمكان العقلي فالاولويّة بمعنى الرجحان.

الاحتمال الرابع : انّه اذا دار الأمر بين طرح كلا الروايتين وبين الجمع الممكن فالأولوية بمعنى اللزوم ، أمّا اذا دار الأمر بين طرح احدى الروايتين وبين الجمع الممكن بينهما فالأولويّة بمعنى الرجحان.

والاحتمال الاول هو المتناسب مع مبنى الوحيد رحمه‌الله بعد بنائه على انّ المراد من الإمكان هو الإمكان العرفي بالمعنى الثاني ، وهو لا يكون إلاّ في حالات التعارض البدوي والذي يكون معه الجمع عرفيا ، وقد قلنا بحجيّته أي بمنجزيته باعتباره الوسيلة الوحيدة لتنقيح الظهور التصديقي والذي هو موضوع الحجيّة ، فلا مناص للفقيه من اعتماده لتشخيص المراد من الخطابات الشرعيّة

٦١٧

المتعارضة بنحو التعارض البدوي.

ومن هنا كان المراد من الاولويّة ـ بناء على هذا المبنى ـ هو اللزوم وان كان ذلك منافيا للمدلول اللغوي للفظ الاولويّة إلاّ انّه لا مشاحة في الاصطلاح بعد معرفة المراد ، وبهذا يتّضح انّ المراد من الجمع بناء على هذا المسلك هو الجمع الدلالي بنحو الاحتمال الثالث ، ويمكن أن يراد الجمع العملي ولكن بنحو الاحتمال الثاني.

وأمّا بناء على مسلك المشهور وانّ المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي فيحتمل انّ المراد من الاولوية هو اللزوم أيضا بل انّ ذلك هو المستوحى من طريقتهم وكذلك استيحاشهم من طرح الروايات المتعارضة.

كما يحتمل إرادة المعنى الثالث للأولويّة وهي اللزوم في حالات الإمكان العرفي بالمعنى الثاني والراجحيّة في حالات الإمكان العقلي ، وهذا ما تشعره بعض كلماتهم إلاّ انّهم قالوا انّه في حالات الامكان العرفي لا تكون الروايات متعارضة أصلا لا بنحو التعارض المستقر ولا بنحو التعارض البدوي.

وعليه يكون الاحتمال الثاني هو المتّبع عمليا إلاّ انّه مختصّ بحالات التعارض المستقرّ ، فكلّما كان الجمع ممكنا بالإمكان العقلي فلا غضاضة على الفقيه في تقديمه على الطرح بل انّ ذلك هو الراجح خصوصا إذا دار الأمر بين طرح كلا الروايتين وبين الجمع بينهما جمعا ممكنا.

هذا تمام الكلام في شرح مفردات القاعدة. ثمّ انّ المتحصّل ممّا ذكرناه هو :

انّه لو كان المراد من الجمع هو الجمع الدلالي وان المتعين من احتمالاته هو الاوّل ، وانّ المراد من الامكان هو الإمكان العقلي ، وانّ الأولويّة بمعنى اللزوم يكون حاصل المراد من القاعدة هو لزوم التوفيق بين الروايات

٦١٨

المتعارضة مطلقا بنحو لا يلزم من ذلك التوفيق محذور عقلي ، وانّ الطرح حينئذ لا يكون سائغا ، وحينئذ تكون القاعدة في عرض روايات العلاج ومنافية لها ، كما انّها منافية للأصل الأولي للتعارض والذي هو التساقط أو التخيير ، كما انّها مستلزمة لاستحداث فقه جديد ، على انّها منافية لما عليه البناء العقلائي والعرفي في علاج الأدلّة المتعارضة ، وهذا ما يوجب سقوط هذه القاعدة عن الحجيّة لو كان هذا هو المراد منها.

وهكذا لو كان المراد من الجمع هو الجمع العملي ، وكان المتعيّن هو الاحتمال الاوّل ، وكان المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي ، وكانت الاولويّة بمعنى اللزوم أو حتى بمعنى الراجحيّة ـ في هذه الصورة والتي سبقتها.

وبهذه الطريقة يمكن التعرّف على ما هو حاصل المراد من القاعدة ، وما هي قيمتها العمليّة ، وحتى لا يتبرّم الطالب الكريم من الإطالة نوكل ذلك الى نباهته ونكتفي ببيان ما هو مناسب لمتبنيات الاصوليين فعلا.

فنقول : انّ الذي ينبغي أن يكون المراد من الجمع هو الجمع الدلالي ، والمتعيّن من احتمالاته هو الاحتمال الثالث ، وانّ المراد من الاولويّة هو اللزوم ، فيكون حاصل المراد من القاعدة هو لزوم التوفيق بين مدلولي الخبرين المتعارضين تعارضا بدويا بنحو يكون ذلك التوفيق متناسبا مع الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، وبهذا يكون التعبير « بمهما أمكن » احترازا عن حالات التعارض المستقرّ والذي لا يمكن معه الجمع بحسب الضوابط المعتمدة عند العرف ، ومن هنا تكون القاعدة مساوقة لقاعدة الجمع العرفي.

* * *

٦١٩

٢٧٥ ـ الجملة الإنشائيّة

اختلف الأعلام فيما هو المراد من الإنشاء ، فذهب المشهور الى انّ الإنشاء معناه ايجاد المعنى الاعتباري ـ باللفظ في عالم الاعتبار العقلائي.

وبيان ذلك : انّ للعقلاء مجموعة من الاعتبارات والمتبنّيات نشأت عن مبرّرات عقلائيّة مرتبطة بشئونهم الحياتيّة سواء منها الفرديّة أو الاجتماعيّة ، وكذلك ما تقتضيه علاقتهم مع الكون والدين ، على أساس كلّ ذلك نشأت الاعتبارات العقلائيّة ، كالزوجيّة والملكيّة والولاية والوجوب والحرمة والاستفهام والتمنّي والترجي وهكذا.

ودور الجملة الإنشائية انّما هو خلق فرد حقيقي لنحو من أنحاء هذه الاعتبارات ، فقول البائع « بعت » والمشتري « قبلت » ايجاد لفرد حقيقي ـ بواسطة هذه الألفاظ ـ لما هو معتبر عقلائيا ، فالعقلاء اعتبروا ـ وقبل صدور هذه الألفاظ من أحد ـ التمليك والتملّك كلّما صدر هذا القول من شخصين ، ومن أجل هذا ينخلق فرد حقيقي للتمليك والتملّك بمجرّد صدور هذا القول من شخصين.

ومن هنا قالوا انّ الإنشاء هو ايجاد المعنى الاعتباري حقيقة بواسطة اللفظ إلاّ انّ وعاء ذلك الوجود هو عالم الاعتبار العقلائي.

ويترتّب على ذلك انّ الجملة الإنشائيّة لا تكون انشائيّة لو لم يكن لمضمونها منطبق في عالم الاعتبار ، فلو قال شخص « ملكت كلّ شيء على هذه الأرض » فإنّ هذا القول لا يترتّب عليه الملكيّة في عالم الاعتبار لعدم وجود اعتبار عقلائي قاض بأنّه كلّما قال شخص ذلك تحقّقت الملكيّة الاعتباريّة ، ومن هنا لا تكون هذه الجملة انشائيّة ، لعدم وجود منطبق لها في عالم الاعتبار وعندئذ لا ينوجد بها

٦٢٠