المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

٢٥٤ ـ التواتر

يعرّف التواتر عادة باخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب كما يمتنع اتّفاق خطئهم واشتباههم.

وهذا التعريف ـ كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله يستبطن قياسا منطقيا مكونا من صغرى وكبرى ، أما الصغرى فهي تكثّر عدد المخبرين للخبر ، وأمّا الكبرى فهي انّ هذه الكثرة من المخبرين يمتنع تواطؤهم على الكذب واتفاق اشتباههم.

وهذه الكبرى قضيّة عقليّة أوليّة ، ومن هنا اعتبروا المتواترات من القضايا الضروريّة الست ، والتي تؤدي الى قطعية النتيجة المستفادة عن القياس المشتمل على احدى هذه القضايا الست ، واذا كان هناك خلل فهو من الصغرى ، إذ وقع الخلاف فيما هي حدود الكثرة التي تقع صغرى لكبرى امتناع التواطؤ على الكذب.

فقطعية الخبر المتواتر إذن ناشئ عن يقينيّة الكبرى التي يتألّف منها القياس المنطقي وعن تكثر عدد المخبرين ، فهو إذن عين الوسيلة التي يتوسّل بها المناطقة لإثبات يقينيّة القضايا التجريبيّة ، وهي أيضا من القضايا العقليّة الاوليّة الست من قضايا البرهان ، حيث يعتمد المناطقة لإثبات يقينيّة القضايا التجريبيّة على تأليف قياس منطقي صغراه اقتران حادثة باخرى في حالات متعدّدة وكثيرة ، وكبراه هي انّ الصدفة لا تكون أكثريّة ودائميّة ، إذ انّ اتّفاق الاقتران بين الحادثتين قد يكون صدفة في المرّة الاولى والثانية إلاّ انّه الصدفة لا تتثنى ولا تتكرّر الى حد الكثرة ، ومن هنا يكون الاقتران الدائمي أو الأكثري بين الحادثتين يعبّر عن علاقة العليّة والمعلوليّة بين الحادثتين أو علاقة التلازم.

ولو لاحظتم لوجدتم انّ الكبرى

٥٨١

التي تعتمدها القضايا المتواترة في الوصول للنتيجة القطعيّة هي عينها التي تعتمدها القضايا التجريبيّة في الوصول الى النتيجة القطعيّة ، وذلك لأنّ افتراض كذب المخبر لمصلحة شخصيّة دعته لذلك أو اشتباهه لظرف خاص قد يتفق إلاّ انّ هذا الاتفاق لا يكون أكثريا ، لأنّ معناه ان تقترن مصلحة المخبر الاول مع مصلحة المخبر الثاني وهكذا الثالث والرابع صدفه ، بحيث تكون تلك المصالح الشخصيّة مجتمعة صدفة على نقل خبر ذي مضمون واحد بالرغم من تفاوت الظروف والمشارب والأحوال ، وبهذا تثبت قطعية القضايا التجريبيّة والمتواترة.

هذا حاصل ما قرّب به المناطقة ـ أمثال ابن سنيا ـ كيفيّة إثبات قطعيّة القضايا المتواترة والتجريبيّة إلاّ انّ السيد الصدر رحمه‌الله لم يرتض هذه الطريقة ، وتبنّى وسيلة اخرى لإثبات قطعيّة القضايا المتواترة وعبّر عنها باليقين الموضوعي الاستقرائي الناتج عن حساب الاحتمالات ، والذي هو عبارة عن تراكم القرائن الاحتماليّة لدرجة ينشأ عن هذا التراكم اليقين الاستقرائي ، والذي هو في مقابل اليقين الرياضي ، إذ لا يبقى مع اليقين الرياضي احتمال منافاة الواقع مهما كان هذا الاحتمال ضئيلا بخلاف اليقين الاستقرائي فإنّه لا يتمكن من إلغاء احتمال المنافاة للواقع ، نعم هو يتمكن من تحجيمه وايصاله الى مستوى لا يحتفظ معه العقل البشري ، وهذا هو مبرّر اطلاق اليقين على ما ينتج من حساب الاحتمالات.

وحاصل ما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله في ذلك :

انّ مسار الوصول للنتيجة القطعيّة في القضايا المتواترة ينشأ عن تراكم الاحتمالات الحاصلة من كلّ خبر ، إذ انّ كل خبر فهو يحتمل المطابقة للواقع كما يحتمل المنافاة مع الواقع بسبب انّ

٥٨٢

اخبار المخبر قد يكون بدافع الكذب لمصلحة شخصيّة دعته لذلك أو بسبب الاشتباه إلاّ انّ احتمال الكذب والاشتباه يبدأ في التضاؤل كلّما تعدّد المخبرون للخبر ، ومعه ترتفع نسبة احتمال الصدق والمطابقة ، إذ انّ العلاقة بين الاحتمالين المتعاكسين طرديّة ، فكلّما تضاءل احتمال الكذب والاشتباه كلّما تصاعد احتمال الصدق والمطابقة ، وهذا هو معنى تراكم القرائن الاحتماليّة للصدق والمطابقة.

فتضاؤل احتمال الكذب والاشتباه ينشأ عن ضرب القيم الاحتماليّة للكذب والاشتباه في بعضها ، فلو كان احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الاول هو ٥٠% واحتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني ـ المتّحد مضمونا مع الخبر الاول ـ هو ٥٠% أيضا لكان قيمة الاحتمال في الخبر الاول تساوي الكسر ٢ / ١ وكذلك الخبر الثاني فإنّ قيمة احتماله تساوي الكسر ٢ / ١ ، فلو ضربنا قيمة كلّ من الاحتمالين في الآخر لوجدنا انّ مستوى الاحتمال للكذب والاشتباه يتضاءل هكذا ٢ / ١ * ٢ / ١ ـ ٤ / ١ فإنّ نسبة الكسر ٤ / ١ الى الواحد أقلّ كما هو واضح من نسبة الكسر ٢ / ١ الى الواحد ، وهكذا ينخفض احتمال عدم المطابقة ويرتفع معه مستوى احتمال مطابقة الخبر للواقع ، إذ انّ العلاقة بين الاحتمالين ـ كما قلنا ـ طرديّة.

ولو تعدّد الخبر ذو المضمون الواحد الى أكثر من الاثنين فإنّ القيم الاحتماليّة الناشئة عن الإخبارات المتعدّدة تضرب في بعضها ، وسنجد انّ مستوى الاحتمال لعدم المطابقة يتضاءل أكثر كلما كان العدد أكبر ، فإذا بلغ العدد حدا يكون احتمال عدم المطابقة ضئيلا جدا بحيث لا يحتفظ العقل بهذا المستوى من الاحتمال لعدم المطابقة فعندئذ يكون الخبر قد بلغ حدّ التواتر.

٥٨٣

والذي يعبّر عن انّ يقينيّة الخبر المتواتر تنشأ عن تراكم القيم الاحتماليّة ما نجده من تفاوت الحالات في الأخبار المتواترة ، بمعنى انّه لا ضابط في الخبر المتواتر من جهة عدد المخبرين ، فقد يحصل اليقين من عدد قليل من المخبرين ، وقد لا يحصل من عدد أكبر ، وما ذلك إلاّ لأنّ القيمة الاحتماليّة للصدق والمطابقة في الحالة الاولى كبيرة بخلاف في الحالة الثانية ، إذ انّه عند ما تكون القيم الاحتماليّة لكلّ خبر كبيرة فإنّ حصول اليقين من تراكم الاحتمالات أسرع منه عند ما تكون القيمة الاحتماليّة لكلّ خبر ضعيفة.

وبتعبير آخر : عند ما تكون القيم الاحتماليّة لعدم المطابقة لكلّ خبر ضئيلة فإنّ الوصول الى اليقين الاستقرائي سريعة بخلافه عند ما تكون القيم الاحتماليّة لعدم المطابقة لكلّ خبر كبيرة فإنّ الوصول الى اليقين يكون أبطأ ، ولهذا نحتاج الى عدد أكبر من المخبرين.

فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ خبر من الأخبار الثلاثة مثلا هي قيمة الكسر ١٠٠ / ١ فإنّ ضرب كلّ قيمة من هذه القيم الثلاثة في بعضها ينتج ضئالة الاحتمال الى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثل هذا المستوى من الاحتمال ، وهذا بخلاف ما لو كانت قيمة الاحتمال هي الكسر ٢ / ١ فإنّ ضربها في مثلها ثلاث مرات يساوي الكسر ٨ / ١ ، ومن الواضح انّ مستوى الاحتمال الناتج عن الكسر ٨ / ١ مما يعتني العقلاء بمثله ، فلذلك نحتاج في تكوين التواتر الى عدد أكبر من المخبرين.

والتفاوت في القيم الاحتماليّة من حيث الضعف والقوة يخضع لمجموعة من المبرّرات تتصل تارة بحالة كلّ مخبر ، فقد يكون المخبر ثقة وقد لا يكون كذلك ، وقد يكون ضبطا وقد لا يكون كذلك. وتتّصل تارة اخرى بمضمون الخبر ، فقد يكون غريبا وقد

٥٨٤

يكون مألوفا. ويتّصل كذلك بالصياغة اللفظيّة للخبر ، فقد تكون الإخبارات متّحدة لفظا وقد تتفاوت الألفاظ مع اتّحاد المضمون وقد تكون المضامين متفاوتة إلاّ انّها متّحدة من حيث اشتمالها على خصوصيّة مشتركة.

فلو كان المخبر ثقة ضبطا وكان مضمون الخبر مألوفا ومتوقعا وكان منافيا لمذهب المخبر وكانت صياغته متحدة لفظا مع خبر المخبر الآخر فإنّ القيمة الاحتماليّة لعدم المطابقة تكون ضعيفة ، فيكون العدد الذي يحتاجه لتكوين التواتر أقل ، ويكون الوصول الى مرحلة اليقين معه أسرع.

والمتحصل ممّا ذكرناه انّ تفاوت القيم الاحتماليّة التي ينشأ عنها التفاوت في مقدار الكثرة التي نحتاجها لتكوين التواتر ناتج عن عوامل نوعيّة تتّصل تارة بالمخبر واخرى بمضمون الخبر وثالثة بصياغته.

هذا حاصل ما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله ، وقد أجملناه خشية الإطالة على القارئ الكريم.

* * *

٢٥٥ ـ التواتر الإجمالي

وقد ذكر للتواتر الإجمالي معان ثلاثة :

المعنى الاول : هو اشتراك الإخبارات الكثيرة في المدلول التضمني أو الالتزامي دون المدلول المطابقي ، وهذا التعريف هو عينه التعريف الثاني للتواتر المعنوي.

المعنى الثاني : هو ان تتصدّى مجموعة كبيرة من الإخبارات لبيان موضوع واحد إلاّ انّها تتفاوت من حيث السعة والضيق ، فيكون القدر المتيقّن من مجموع الإخبارات متواترا اجمالا.

ومثاله : الإخبارات الكثيرة المتصدّية لبيان موضوع الحجيّة لخبر الواحد ، فإنّ مفاد بعضها حجيّة خبر العدل الامامي ، ومفاد البعض الآخر

٥٨٥

انّ موضوع الحجيّة هو خبر الثقة ، كما انّ مفاد بعض الأخبار هو حجيّة الخبر الموثوق ، وبملاحظة مجموع هذه الأخبار يحصل القطع بصدور بعضها اجمالا دون القدرة على الجزم بما هو الصادر منها من غير الصادر ، إلاّ انّ لهذه الاخبار قدرا متيقنا يمكن الجزم بثبوته ، وهذا القدر المتيقّن هو حجيّة خبر العدل الموثوق.

المعنى الثالث : هو عبارة عن اقتطاع مجموعة كبيرة من الإخبارات بشكل عشوائي بحيث لا يكون لهذه الإخبارات مصبّ واحد تحكي عنه أو قدر متيقّن تتفق عليه ، وحينئذ لا يكون للمضعف الكيفي وجود ظاهر ، وان كان يمكن التماس جهة مشتركة من بين هذه الإخبارات بنحو الدقّة ، كأن تكون جميع هذه الإخبارات متصدّية لأحكام الفروع أو تكون الجهة المشتركة هو جامع الخبرية.

وكيف كان فالوثوق بصدور بعضها غير المعين ينشأ عن المضعف الكمي فحسب ، وذلك بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة لعدم الصدور ـ لكلّ خبر ـ في بعضها فإنّ ذلك سينتج تضاؤل القيم الاحتماليّة الى حدّ يحصل معه الاطمئنان بصدور بعضها غير المعين.

وهذا التعريف للتواتر الإجمالي ذكره السيد الصدر رحمه‌الله في دورته التي حضرها السيد الحائري ، وقد ذكر انّ السيّد الصدر رحمه‌الله قد عدل عن ذلك وقال بعدم كفاية المضعف الكمي في تحقّق التواتر.

وعلّق السيّد الحائري « حفظه الله » على التواتر الإجمالي بالمعنى الأخير بأنّه غريب لا يقول به الاصحاب ، إذ لا بدّ لحصول التواتر في الخبر ان يكون لمجموع الاخبارات مصبّ واحد ثم نقل وجه العدول وحاصله :

انّه لو لم يكن للإخبارات المقتطعة عشوائيا مصب واحد فإنّه حينئذ لن يكون سوى المضعف الكمي ، وهو وان

٥٨٦

كان يوجب ضئالة احتمال عدم المطابقة لبعضها غير المعيّن بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة لكلّ في خبر في بعضها إلاّ انّ ذلك لا ينتج زوال الاحتمال من النفس ، إذ انّ هذه الإخبارات الكثيرة المقتطعة عشوائيا

معارضة دائما بمقدارها من الإخبارات التي يعلم اجمالا بكذبها.

وبتعبير آخر : اننا نعلم اجمالا بكذب مائة من الأخبار الواصلة لنا ، فلو كانت الاخبار المقتطعة عشوائيا بمقدار مائة فإنّ من المحتمل ان تكون المائة المعلوم كذبها اجمالا هي التي اقتطعناها من الأخبار ولا موجب لنفي هذا الاحتمال ، إذ انّ كلّ مائة من الأخبار يحتمل أن تكون هي منطبق المعلوم بالإجمال.

ودعوى انّ هذه المائة المقتطعة ليست هي منطبق المعلوم بالإجمال بلا مبرّر بعد ان كانت طرفا للعلم الإجمالي ، نعم لو كان لهذه الأخبار مصبّ واحد لكان في البين مضعف كيفي يمكن ان يعالج به محذور الترجيح بلا مرجّح ، بمعنى انّ المضعف الكيفي يوجب الاطمئنان أو القطع بخروج المائة عن أطراف العلم الإجمالي.

* * *

٢٥٦ ـ التواتر اللفظي

وهو ان تتحد الإخبارات ـ المتكثرة ـ لفظا ، كما في حديث الثقلين ، وحصول التواتر من هذا النحو من الإخبارات يكون أسرع ، وذلك لاشتماله ـ بالاضافة الى المضعّف الكمي وهو كثرة عدد المخبرين للخبر ، على المضعّف الكيفي ، إذ انّ احتمال اتفاق أن تكون مصلحة كلّ واحد من المخبرين منوطة بالتحفظ على لفظ واحد بعيد جدا.

وعرّف السيد الصدر رحمه‌الله التواتر اللفظي بتعريف أوسع من التعريف المذكور واعتبر ما ذكرناه أكمل مراتب التواتر اللفظي. وأفاد انّ التواتر

٥٨٧

اللفظي هو ما تكون معه الإخبارات متّحدة من حيث المدلول المطابقي.

وهنا مراتب للتواتر اللفظي بهذا المعنى ، إذ قد تشترك تمام الإخبارات في التفاصيل ، وعندها يكون المضعف الكيفي أشدّ منه عند ما لا تكون التفاصيل مذكورة في تمام الاخبارات ، ومنشأ الأشدّية واضحة ، إذ كلما كانت التفاصيل متّحدة في تمام الاخبارات أو متقاربة فإنّ القيمة الاحتماليّة لعدم المطابقة تكون أضعف بسبب استبعاد اتّفاق اقتضاء المصالح الشخصيّة لكلّ مخبر للتحفّظ على تفاصيل الخبر.

* * *

٢٥٧ ـ التواتر المعنوي

ويراد منه اتّحاد الإخبارات ـ المتكثرة ـ في المضمون دون الألفاظ ، وبناء على هذا التعريف يكون التواتر المعنوي أحد مراتب التواتر اللفظي بحسب تعريف السيّد الصدر رحمه‌الله في الحلقة الثالثة ، حيث عرّف التواتر اللفظي باتّحاد الإخبارات في المدلول المطابقي بقطع النظر عن الاتّحاد اللفظي ، واعتبر الاتحاد اللفظي بين الاخبارات المتكثرة أكمل مراتب التواتر اللفظي.

وهناك تعريف آخر للتواتر المعنوي ذكره السيد الصدر رحمه‌الله وذكره بعض آخر من الأعلام ، وهو اتحاد الاخبارات ـ المتكثّرة ـ في المدلول التضمني أو الالتزامي دون أن يكون بينها اتحاد في المدلول المطابقي.

ويمكن التمثيل لذلك بالإخبارات الكثيرة التي تحدثت عن بطولات الإمام علي عليه‌السلام ، فإنّها مختلفة المضامين ، وكلّ واحد منها يحكي موقفا بطوليا مغايرا لما يحكيه الخبر الآخر إلاّ انّها تشترك جميعا في مدلول تضمني أو التزامي واحد وهو شجاعة علي ابن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.

٥٨٨

٢٥٨ ـ توقف الوضع على تصوّر المعنى واللفظ

من الواضح انّه لا يتأتى الحكم على شيء إلاّ بعد تصوّره ، إذ انّ إثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له في عالمه ، ولما كان وعاء الحكم هو الذهن فحينئذ لا بدّ من تصوّر موضوعه في رتبة سابقة عن جعل الحكم عليه.

وباتضاح هذه المقدمة نقول : انّ الوضع عبارة عن جعل لفظ دالا على معنى ، فالوضع بهذا حكم على المعنى كما هو حكم على اللفظ ، أي انّ المعنى واللفظ كلّ منهما يمثل جزء موضوع لقضيّة يكون المحمول فيها هو الوضع ، فكأنّما الواضع يشكل قضيّة هذه صورتها « اللفظ والمعنى يدلّ الاول منهما على الثاني » ، فاللفظ والمعنى يمثلان موضوع القضيّة و « يدلّ الاول منهما على الثاني » هو محمول القضيّة وهو عينه الوضع كما هو واضح.

فإذا كان الوضع هو الحكم على اللفظ والمعنى فهذا يقتضي ان يتصوّر الواضع اللفظ والمعنى في رتبة سابقة على جعل الحكم أي جعل الوضع ، وذلك لاستحالة جعل الاحكام قبل تقرّر موضوعاتها.

وبهذا البيان اتّضح المراد من توقّف الوضع على تصوّر المعنى واللفظ ، وبعد ذلك نقول انّ تصوّر المعنى الذي يتوقّف عليه الوضع على نحوين :

النحو الاول : ان نتصور المعنى ـ الذي نريد جعل اللفظ دالا عليه ـ بنفسه ، بحيث نستحضره في ذهننا كاملا ومن تمام حيثياته وبماله من سعة أو ضيق ، وذلك مثل ان نستحضر ونتصوّر معنى « زيد » بماله من مشخصات ثمّ نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المتشخّص والمحدد ، وكذلك مثل ان نتصور معنى « الإنسان » ـ بماله من حيثيات تميّزه عن سائر المعاني ، وبماله من سعة بحيث يقبل الصدق على أفراده ـ ثمّ نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المحدّد.

٥٨٩

النحو الثاني : ان نستحضر ونتصوّر المعنى ولكن ليس بنفسه وانّما بعنوانه المنطبق عليه ، فيكون هذا العنوان مشيرا ومنوها بالمعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، وذلك مثل ان نتصور معنى زيد ولكن ليس بنفسه وبمشخصاته الخاصة به وانّما بعنوان هذا العنوان صالح لأن ينطبق عليه ، وهو مثلا عنوان الإنسان أو الرجل ، فهنا نكون قد تصوّرنا معنى زيد بعنوان كلي صالح للانطباق عليه.

ومع اتّضاح هذين النحوين من تصوّر المعنى نكون قد توفرنا على الشرط المصحّح للوضع ، إذ قلنا انّ الوضع لا يمكن إلاّ بعد تصوّر الموضوع ، والمعنى أحد جزئي الموضوع كما اتّضح ممّا تقدم.

ثمّ انّ الوضع بلحاظ المعنى المتصوّر منقسم الى ثلاثة أقسام وهي الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والوضع الخاص والموضوع له العام ، وهذا ما سيأتي ايضاحه تحت عنوانه.

وأمّا الوضع بلحاظ تصوّر اللفظ فهو منقسم الى قسمين :

الاول يعبّر عنه بالوضع الشخصي ، والثاني يعبّر عنه بالوضع النوعي وايضاحهما تحت عنوانيهما.

٥٩٠

هوامش حرف التاء

(١) الوسائل : باب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٩.

(٢) الوسائل : باب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

(٣) مستدرك الوسائل : باب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢.

(٤) الوسائل : باب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات الحديث ٦.

(٥) سورة يونس : ٥٩.

(٦) سورة الأنفال : ٢٠.

(٧) الوسائل : باب ١ من أبواب نواقض الوضوء الحديث ١.

(٨) سورة البقرة : ٢٨.

(٩) الوسائل : باب ٧ من أبواب آداب القاضي الحديث ٢.

(١٠) الوسائل : باب ٢٦ من كتاب الأمر بالمعروف الحديث ٢.

(١١) سورة النجم : ٢٨.

٥٩١
٥٩٢

حرف الثّاء

٥٩٣

عناوين حرف الثاء

٢٥٩ ـ أصالة الثبات

٥٩٤

حرف الثاء

٢٥٩ ـ أصالة الثبات

وهي من الاصول العقلائية المقتضية للبناء على ثبات المعنى اللغوي المتبادر في زمن الشك ، بمعنى انّه لو كان المتبادر من لفظ معنى معين إلاّ انّه وقع الشك في انّ هذا المعنى هل هو المتبادر من اللفظ في زمن النصّ أو انّ المتبادر منه معنى آخر إلاّ انّه وبتمادي الزمن هجر المعنى الاول الموضوع له اللفظ وصار المعنى الثاني المتبادر فعلا هو المعنى المنسبق عند اطلاق اللفظ.

وهنا يأتي دور الاصل العقلائي ـ المعبّر عنه بأصالة الثبات في اللغة ـ لإثبات انّ المعنى المنسبق فعلا من اللفظ هو المعنى المتبادر في عصر النص ، ولعلّ المنشأ لهذا الأصل العقلائي هو غلبة بقاء اللغة على ما هي عليه حين نشأتها ، وانّ المداليل اللغوية هي آخر ما يمكن ان يطرأ عليه التغيير بسبب تمادي العصور.

ويعبّر عن أصالة الثبات في اللغة بالاستصحاب القهقرائي ، إذ انّه على خلاف طبع الاستصحاب من حيث انّ المعهود من الاستصحاب هو تأخر زمان الشك عن زمان اليقين والمقام ليس كذلك ، إذ يكون اليقين معه فعليا والشك يكون في حدوث المتيقّن في الزمان المتقدّم ، ولذلك أفاد جمع من

٥٩٥

الأعلام بأنّ الأدلّة قاصرة عن اثبات الحجيّة للاستصحاب القهقرائي في غير اللغة ، وانّ ثبوت الحجيّة له في خصوص اللغة مستفاد من السيرة العقلائيّة المقتضية لثبات اللغة.

وقد ذكرنا ما يتّصل بهذا البحث تحت عنوان « التبادر » وعنوان « الاستصحاب القهقرائي » فراجع.

٥٩٦

حرف الجيم

٥٩٧

عناوين حرف الجيم

٢٦٠ ـ الجامع الانتزاعي

٢٦١ ـ الجامع الذاتي الحقيقي

٢٦٢ ـ الجامع العرضي

٢٦٣ ـ نظريّة الجبر

٢٦٤ ـ أصالة الجد

٢٦٥ ـ الجزء

٢٦٦ ـ الجزء الخارجي

٢٦٧ ـ الجزء الذهني التحليلي

٢٦٨ ـ الجزء الصوري

٢٦٩ ـ الجعل البسيط

٢٧٠ ـ الجعل التأليفي « المركب »

٢٧١ ـ الجعل الشرعي

٢٧٢ ـ الجمع التبرعي

٢٧٣ ـ الجمع العرفي

٢٧٤ ـ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح

٢٧٥ ـ الجملة الإنشائيّة

٢٧٦ ـ الجملة التامة والجملة الناقصة

٢٧٧ ـ الجملة الخبريّة

٢٧٨ ـ أصالة الجهة

٥٩٨

حرف الجيم

٢٦٠ ـ الجامع الانتزاعي

هو العنوان المشترك المنتزع من أفراد مختلفة.

فحينما تلحظ زيدا وخالدا والقرطاس والثلج تجد أنّ لكلّ واحد من هذه الأفراد ما يشخّصه ويميّزه عن الآخر ، وتجد في ذات الوقت أنّ شيئا مشتركا يجمع بينها وهو البياض ، هذا الشيء الأبيض يمكن أن تجعله جامعا لهذه الأفراد.

وسمّي هذا الجامع بالانتزاعي لأنّه تمّ انتزاعه من بين أفراد مختلفة ، فهو عنوان تقرّر بواسطة إلغاء الفوارق الشخصيّة أفراد بعد التحفّظ على الجهة المشتركة بينها.

٢٦١ ـ الجامع الذاتي الحقيقي

المراد من الجامع الذاتي هو العنوان المقوّم لأفراده وهو ما يعبّر عنه بالنوع عند المناطقة.

ومثاله عنوان الإنسان ، فإنّه الجامع الذاتي لأفراده وهم زيد وبكر وخالد ، وذلك لأنّ زيد وبكر وخالد وإن كان لكلّ واحد منهم ما يشخّصه ويميّزه إلاّ أنّهم جميعا يشتركون في شيء واحد هو الإنسانيّة ، فالإنسانيّة هي المقوّمة لذواتهم وهي تمام حقيقتهم بحيث لو افترض انتفاؤها عن واحد منهم فإنّ معنى ذلك هو انتفاؤه.

ومنشأ التعبير عن عنوان الإنسان

٥٩٩

مثلا بالجامع الذاتي لأفراده هو أنّه يشير إلى ما به تتقوّم ذواتهم ، وأمّا أنّه جامع حقيقي فإنّه يشير إلى حقيقة أفراده.

وقد يطلق الجامع الذاتي الحقيقي على ما يسمّيه المناطقة بالجنس. ومثاله عنوان الحيوان والذي هو جامع للإنسان والأسد والثعلب والخيل ، فهو ذاتي لأنّه يمثّل جزء الذات المقوّم لهذه الحقائق ، وهو جامع حقيقي لأنّه ـ واقعا ـ جزء الحقيقة المقوّم لهذه الأنواع.

* * *

٢٦٢ ـ الجامع العرضي

هو العنوان المشترك بين مجموعة من الأفراد بشرط أن لا يكون ذاتيّا لتلك الأفراد.

ومثاله عنوان الأبيض بالنسبة لزيد وبكر والقرطاس والثلج فإنّ كلّ هذه الأفراد متّصفة بالبياض كان عنوان الأبيض جامعا مشتركا بينها ، ولأنّ البياض لا يمثّل حقيقة هذه الأفراد وليس ذاتيّا لها كان عنوان الأبيض جامعا عرضيّا.

ولذلك يمكن أن يقال أنّ الجامع العرضي هو ما يعبّر عنه المناطقة بالعرض الخاصّ ـ كالضاحك بالنسبة لأفراد الإنسان ـ والعرض العامّ كالماشي بالنسبة للحيوان ، فالضاحك جامع لأفراد الإنسان وليس ذاتيّا له ، والماشي جامع لأفراد الحيوان وليس ذاتيّا له.

* * *

٢٦٣ ـ نظريّة الجبر

وهي النظريّة المنسوبة للاشاعرة ، وحاصلها :

هو نفي قانون العلّية والمعلولية بين الممكنات ، وانّه لا شيء في عالم الممكنات إلاّ وهو معلول مباشرة لله جلّ وعلا ، فليس ثمّة ممكن من

٦٠٠