المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الأمرين » وهي نظريّة الاماميّة « أعزّهم الله تعالى ».

* * *

٢٤٢ ـ التقابل بين الإطلاق والتقييد

والبحث في هذا العنوان يكون عن نحو العلاقة بين الإطلاق والتقييد ، فهل هي التضادّ أو التناقض أو تقابل العدم والملكة ، احتمالات بل أقوال ثلاثة نشأت عن اختلاف المبنى فيما هو المراد من الإطلاق.

فبناء على أنّ الإطلاق يعني لحاظ عدم القيد كما ذهب لذلك السيّد الخوئي رحمه‌الله فالعلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة التضادّ ، وذلك لأنّ علاقة التضادّ تكون بين أمرين وجوديّين يستحيل اجتماعهما وإن كان يصحّ ارتفاعهما.

فحينما نفترض أنّ الإطلاق يعني لحاظ عدم القيد فهذا معناه افتراض أنّ الإطلاق أمر وجودي ، ولمّا كان التقييد بمعنى لحاظ القيد فهو من الأمور الوجوديّة أيضا ، ولأنّ لحاظ القيد ولحاظ عدمه في آن واحد غير ممكن كانت النتيجة هي أنّ العلاقة ببين الإطلاق والتقييد هي علاقة التضادّ.

وأمّا بناء على أنّ الإطلاق يعني عدم لحاظ القيد كما ذهب لذلك السيّد الصدر رحمه‌الله فالعلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة التناقض ، وذلك لأنّ التناقض يكون بين الوجود والعدم لذلك الوجود ، ولهذا يستحيل اجتماعهما كما يستحيل ارتفاعهما.

فإذا افترضنا أنّ الإطلاق معناه عدم لحاظ أخذ القيد فهذا معناه أنّ الإطلاق أمر عدمي ، ولمّا كان التقييد هو لحاظ أخذ القيد فهو أمر وجودي كانت النتيجة هي أنّ العلاقة بين الإطلاق والتقييد هي التناقض.

وأمّا بناء على أنّ الإطلاق يعني عدم لحاظ القيد في مورد قابل للتقييد

٥٦١

فالعلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة العدم والملكة ، وذلك لأنّ هذا النحو من العلاقة يعني التقابل بين الوجود والعدم في مورد تكون له قابليّة ذلك الوجود ، فإذا افترضنا أنّ الإطلاق يعني عدم لحاظ القيد في مورد قابل للتقييد بمعنى لحاظ أخذ القيد فإنّ نتيجة ذلك هو أنّ العلاقة بينهما هي علاقة العدم والملكة. والثمرة التي يمكن تحصيلها من المباني الثلاثة هي أنّه بناء على مبنى التضادّ لا تكون استحالة التقييد منتجة لاستحالة الإطلاق ، لأنّ افتراض كون العلاقة بينهما هي التضادّ معناه أنّ الإطلاق والتقييد أمران وجوديّان فمن الممكن وجود أحدهما عند استحالة الآخر عينا كما هو الحال بالنسبة للبياض والسواد ، فإنّ استحالة وجود السواد لشيء لا يلازم استحالة وجود البياض له.

وكذلك لا يكون ـ بناء على التضادّ ـ امتناع التقييد مقتضيا لتعيّن الإطلاق ، وذلك لأنّ الضدّين يمكن ارتفاعهما ، عينا كما هو الحال بالنسبة للسواد والبياض فإنّه من الممكن حين استحالة أن يكون الشيء أبيضا أن لا يكون أسودا أيضا بأن يتّفق كونه أخضرا.

وبذلك اتّضح أنّ استحالة تقييد الحكم بالعلم به لا يقتضي ضرورة تعيّن الإطلاق كما لا يقتضي استحالته ، فمن الممكن أن يكون الحكم مطلقا من جهة العلم به وأن لا يكون مطلقا من هذه الجهة.

وأمّا بناء على مبنى التناقض فإنّ استحالة التقييد تنتج ضرورة تعيّن الإطلاق ، وذلك لأنّ المتناقضين يستحيل ارتفاعهما ، فإذا كان التقييد مستحيلا كان الإطلاق ضروري الثبوت حتّى لا تخلوا الواقعة من الوجود والعدم.

ولذلك كان استحالة تقييد الحكم بالعلم به مقتضية ـ بناء على التناقض ـ

٥٦٢

للزوم إطلاق الحكم من جهة قيد العلم به.

وأمّا بناء على مبنى العدم والملكة فإنّ استحالة التقييد تلازم استحالة الإطلاق لأنّ الإطلاق ـ بناء على العدم والملكة ـ لا يكون إلاّ في مورد قابل للتقييد ، فإذا كان المورد غير قابل للتقييد فهذا معناه عدم قابليّته للإطلاق.

وعليه تكون استحالة تقييد الحكم بالعلم به تلازم عدم قابليّة الحكم لأن يكون مطلقا من جهة العلم به ، بخلاف ما لو كان المورد قابلا للتقييد فإنّ عدم أخذ القيد لا ينتج استحالة الإطلاق كما لا ينتج تعيّن ثبوته.

والنتيجة هي أنّ عدم أخذ القيد لا يستلزم الإطلاق بناء على مبنى التضادّ ، ويستلزم عدم أخذ القيد تعيّن الإطلاق بناء على مبنى التناقض ، وأمّا بناء على مبنى العدم والملكة فإنّ عدم أخذ القيد يستلزم استحالة الإطلاق لو كان منشأ عدم أخذ القيد هو استحالة أخذه ولو لم يكن منشأ عدم أخذ القيد هو استحالة أخذه فإنّ عدم التقييد لا تنتج عدم الإطلاق كما لا تنتج تعيّن ثبوته.

* * *

٢٤٣ ـ التقسيمات الأوليّة والثانويّة للواجب

قلنا إنّ المراد من الواجب هو متعلّق الحكم ( الوجوب ) ، وعليه تكون تقسيمات الواجب هي تقسيمات لمتعلّق الحكم.

ومتعلّق الحكم تارة يلاحظ بقطع النظر عن الحكم المتعلّق به ، وتارة يلاحظ بالإضافة إلى الحكم ، فإذا كان المتعلّق ملحوظا في ذاته بقطع النظر عن الحكم فإنّ له تقسيمات بحسب الإمكان العقلي ، هذه التقسيمات يعبّر عنها بالتقسيمات الأوليّة.

وإذا لوحظ المتعلّق بالإضافة إلى الحكم فإنّ له تقسيمات أخرى تلحقه

٥٦٣

بسبب تعلّقه بالحكم ، هذه التقسيمات يعبّر عنها بالتقسيمات الثانويّة.

فالصلاة مثلا والتي يمكن أن تكون متعلّقا للوجوب تارة تلحظ في نفسها وبقطع النظر عن الوجوب وحينئذ يمكن تقسيمها ثبوتا بمجموعة من التقسيمات أي يمكن للعقل أن يفترض لها حالات وأفرادا متعدّدة.

كأن تقسّم الصلاة إلى صلاة بطهارة وصلاة دون طهارة وإلى صلاة في المسجد وصلاة في الحمّام وصلاة في الصحراء كما يمكن تقسيمها إلى صلاة واجدة للسورة وصلاة فاقدة لها وإلى صلاة واجدة للاستقبال وصلاة دون استقبال وهكذا.

وتلاحظون أنّ هذه التقسيمات يمكن افتراضها حتّى لو لم يثبت الوجوب للصلاة بل حتّى لو لم يكن ثمّة شريعة. ولذلك يعبّر عن هذه التقسيمات بالتقسيمات الأوليّة وذلك لأنّ هذه التقسيمات نشأت عن ملاحظة المتعلّق في نفسه ، فهي ثابتة له بالنظر إلى ذاته.

وأمّا إذا لوحظت الصلاة باعتبارها متعلّقا للوجوب ( الحكم ) فحينئذ يمكن تقسيمها ثبوتا إلى تقسيمات أخرى ، أي يمكن للعقل أن يفترض لها تقسيمات لوحظ فيها ثبوت الوجوب لها.

فمثلا يمكن تقسيم الصلاة بهذا اللحاظ إلى صلاة بقصد الأمر ( الوجوب ) وصلاة دون قصد الأمر ، كما يمكن تقسيمها إلى صلاة معلومة الوجوب وصلاة مجهولة الوجوب.

وتلاحظون أنّ مثل هذه التقسيمات لا تتعقّل دون افتراض ثبوت الوجوب للصلاة ، فلا يمكن تقسيم الصلاة إلى صلاة بقصد الوجوب وصلاة دون قصد الوجوب إلاّ حين افتراض كون الصلاة واجبة ، وهكذا الحال في التقسيم الثاني إذ أنّ العلم بوجوب الصلاة أو الجهل به فرع افتراض الوجوب في مرحلة سابقة

٥٦٤

على التقسيم ، لذلك يعبّر عن هذه التقسيمات بالتقسيمات الثانويّة لأنّها تلحق المتعلّق حين يلاحظ بالإضافة إلى الوجوب.

ثمّ إنّ التقسيمات الأوليّة والثانويّة يمكن لحوقها بموضوع الحكم أيضا ، فحين يلاحظ بقطع النظر عن الحكم تكون التقسيمات المفترضة له تقسيمات أوّليّة ، وحين يلاحظ بالإضافة إلى الحكم تكون التقسيمات المفترضة ثبوتا له تقسيمات ثانويّة.

فالإنسان حين يلاحظ بقطع النظر عن وجوب الصلاة عليه يمكن تقسيمه إلى بالغ وغير بالغ ، وعاقل وغير عاقل ، ويمكن تقسيمه إلى ذكر وأنثى ، وإلى عربي وأعجمي ، وهذه هي التقسيمات الأوّليّة لموضوع الحكم.

وحين يلاحظ الإنسان بالإضافة إلى وجوب الصلاة عليه يمكن تقسيمه إلى العالم بالحكم ، والجاهل به ويمكن تقسيمه إلى القاصد للوجوب وغير القاصد له.

* * *

٢٤٤ ـ التقليد

وهو بحسب المتفاهم اللغوي يعني تطويق القلادة على العنق أو على جزء آخر من الجسم على أن يكون العنق مشمولا للتطويق كما في تقلّد الرجل بحمائل سيفه ، والمقلّد ـ بصيغة المفعول ـ هو المطوّق ، والمقلّد ـ بصيغة الفاعل ـ هو الذي يقوم بجعل الطوق أو القلادة في العنق ، فتقليد المرأة هو جعل القلادة في عنقها ، وتقليد الهدي بمعنى تطويقه بحبل مشتمل على نعال قد صلّى فيه.

ثم استعير هذا المعنى لإفادة معنى المسئوليّة ، ووجه المناسبة بين هذا المعنى وبين المعنى الوضعي واضحة ، إذ انّ المسئولية تعني تقيد المسئول وانحباسه وعدم تمكنه من التفصّي عما

٥٦٥

هو مسئول عنه ، وهو يناسب تطويق العنق ، إذ معه تسهل قيادة المطوّق ومعه يكون مضطرا للتحرّك باتجاه الجهة المرادة لماسك الطوق ، فتطويق العنق أسهل وسيلة لجرّ المطوّق نحو الجهة المرادة.

وهذا هو السرّ في التعبير عن جعل السلطان الولاية على عمل من الأعمال لأحد الرعية بالتقليد ، إذ معه يكون العامل مطوقا من قبل السلطان بذلك العمل.

ثمّ انّ التقليد بالمعنى المصطلح لا يبتعد كثيرا عن المعنى الاستعاري ، إذ انّ المقلّد ـ بصيغة الفاعل ـ يجعل عمله قلادة وطوقا في عنق المجتهد أي يلقي عليه مسئولية وتبعات العمل الذي يمارسه في اطار التعبّد للمولى جلّ وعلا ، ومن هنا جاء في بعض الأخبار أنّ الامام عليه‌السلام خاطب اعرابيا كان قد سأل ربيعة الرأي عن مسألة فلما أفتاه ، سأله الإعرابي أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة الرأي ، فقال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : « هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكل مفت ضامن » (٩).

وكيف كان فقد ذكرت للتقليد مجموعة من التعريفات يرجع بعض منها لبعض روحا ، ونحن هنا نذكر تعريفين :

التعريف الاول : ما ذكره صاحب العروة رحمه‌الله : وهو « الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وان لم يعمل بعد بل ولم يأخذ بفتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد ».

وهذا التعريف يعبّر عن انّ التقليد لا يتقوّم بأكثر من القصد ، فمتى ما قصد المكلّف تقليد مجتهد معين وعقد العزم على ذلك فإنّه قد تحقّق التقليد منه ، وتترتب بذلك آثاره ، والتي منها كما ذكر جمع من الأعلام انّه لو اتّفق موت المجتهد بعدئذ فإنّ المكلّف ملزم بالبقاء على تقليده أو لا أقل يجوز له البقاء على تقليده ، ولا يكون الرجوع اليه

٥٦٦

من التقليد الابتدائي بل هو من الاستمرار على التقليد ، إذ انّه كما هو الفرض قد تحقق منه التقليد في حياة المجتهد ، وذلك لافتراض التزام المكلّف بالرجوع اليه في حياته وان كان لم يعمل بفتاواه في حياته.

كما انّ من آثاره ـ كما هو مدعى جمع من الأعلام ـ عدم جواز العدول عنه حال حياته الى غيره من الأحياء ، إذ انّه بالتزامه يكون قد تحقّق التقليد في حقّه ، ومعه لا يصحّ له العدول إلاّ أن ينكشف له أعلميّة الآخر. إلاّ انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله لم يقبل بهاتين الثمرتين.

أمّا الثمرة الاولى فلأنّ تقليد الميت لم يرد بعنوانه في الخطابات الشرعيّة حتى يترتب على تحديده هذه الثمرة بل انّ المرجع في هذه المسألة هو الأدلّة التي استدلّ بها على جواز تقليد الميّت أو عدم الجواز ، فلو كان الدليل هو الاستصحاب فهذا معناه جواز البقاء ، إذ انّ حجيّة قول المجتهد حال حياته لم تكن منوطة بالاستناد الى فتواه بل يكفي في حجيّة فتواه توفره على الشرائط المعتبرة مثل الأعلميّة والحياة ، واذا توفّر على ذلك لزم تقليده ، فلو مات بعد ذلك لزم الحجيّة ثابتة لفتواه على كلّ من كان مسئولا في حياته عن العمل بفتواه حتى وان لم يعمل بها غفلة أو عصيانا وذلك بالاستصحاب.

وأمّا لو كان الدليل هو السيرة والإطلاقات القاضية بلزوم تقليد المجتهد الواجد للشرائط فكذلك يلزم المكلّف تقليده بعد موته حتى ولو لم يعمل بفتواه في حياته ، إذ انّ قول أهل الذكر ووجوب قبول إنذار المنذر غير منوط بالعمل ولا بالالتزام ، فسواء عمل أو لم يعمل التزم أو لم يلتزم فهو مسئول عن العمل بانذار المنذر وبقول أهل الذكر. وأمّا الثمرة الثانية فيتّضح جوابها ممّا هو مذكور في الجواب عن الثمرة الاولى.

٥٦٧

التعريف الثاني : هو انّ التقلد عبارة عن « العمل المستند الى فتوى المجتهد » ، وقد تبنّى هذا التعريف جمع من الأعلام منهم السيد الخوئي رحمه‌الله وقال انّه المناسب للمعنى اللغوي وكذلك الأخبار.

أمّا مناسبته للمعنى اللغوي فباعتبار انّ التقليد يعني جعل القلادة في العنق ، فتقليد المكلّف للمجتهد أشبه بجعل عمله قلادة في عنق المجتهد ، وعندها يكون المجتهد مسئولا عن عمل المكلّف ، وهذا لا يناسب غير العمل ، إذ لا مسئولية على المجتهد تجاه التكاليف الملقاة على المكلّف بمجرّد التزام المكلّف بفتوى المجتهد حتى ولو لم يعمل بها.

وأمّا مناسبته للأخبار فلأنّ الرواية التي ذكرناها والتي أكّد الامام عليه‌السلام فيها بأن فتوى المجتهد طوق في عنقه لا يمكن التزامه بمجرّد إلقائه للفتوى وإن لم يعمل بها الإعرابي ، إذ انّ تبعات الفتوى للأعرابي لا تكون إلاّ بعمل الإعرابي بالفتوى ، فلو لم يعمل بها لا يكون المجتهد مسئولا عنها إلاّ من جهة أصل الإفتاء ، وهذا أجنبي عن المقام ، إذ انّها تبعة اخرى لا ترتبط بالتقليد بل هي مرتبطة باسناد الفتوى الى الشارع.

* * *

٢٤٥ ـ التقيّة

التقيّة من الوقاية وهي التحفّظ عن الوقوع في المحذور ، وصيانة النفس ـ أو ما يتّصل بها ـ عن الضرر ، والتدرّع بأسباب الحماية عن كلّ ما هو مخوف. ومن هنا تكون التقيّة شاملة لموارد الحيطة والحذر من الطوارئ التكوينيّة ، هذا بحسب المتفاهم العرفي لعنوان التقيّة وقد استعملت في الآيات والروايات بهذا المعنى.

وأمّا التقيّة المبحوث عنها في المقام فقد استعملت في كلمات الفقهاء وتبعا لكثير من الروايات وبعض الآيات في معنيين :

٥٦٨

المعنى الاول : التقيّة بالمعنى الأعم : وهي التحفّظ عن كلّ ما يوجب عدم التحفّظ عنه الوقوع في الضرر يقينا أو احتمالا عقلائيا سواء كان هذا الضرر المخوف مرتبطا بالحوادث الكونيّة ، كالجلوس تحت جدار يريد أن ينقضّ أو تناول السموم ، فإنّ التقيّة عن الحوادث الكونيّة يكون بالتحفّظ عن تعريض النفس ـ أو ما يتّصل بها ـ لمضاعفات هذه الحوادث ، أو كان الضرر المخوف مرتبطا بالانسان كالسلطان الجائر أو القوي الأحمق بقطع النظر عن متبنياته ودينه ومذهبه ، فإنّ التقيّة من هؤلاء يكون بالتحفّظ عن الإساءة إليهم.

ثمّ انّ الضرر المخوف قد يكون من قبيل الضرر المتّصل بالنفس وقد يكون متصلا بما يتعلّق بالنفس من المال والعرض ، وقد يتّصل بالقرابة القريبة ، وقد يرتبط بالمؤمنين ، كما قد يكون الضرر المخوف مرتبطا ببيضة الإسلام أو كيان المسلمين أو مقدّراتهم أو مقدّساتهم.

المعنى الثاني : التقيّة بالمعنى الأخص وهي التقيّة من أبناء العامة ، وذلك بواسطة العمل على وفق ما تقتضيه متبنّياتهم ، والقول بمقالتهم ، والتقيّة بهذا المعنى لا تتحقق إلاّ في حالة تكون تلك المتبنيات والأقوال منافية للواقع ، وأمّا موافقتهم لاتّفاق مطابقة ما يبنون عليه للواقع فليس هذا من التقيّة.

وهل التقيّة بهذا المعنى متقوّمة بخوف الضرر كما هو الحال في التقيّة بالمعنى الأعم ، الظاهر من كلمات الفقهاء عدم تقومها بذلك ، ولو كانت متقوّمة بالضرر فهو مسمى الضرر والذي يتحمّل عادة أو يكون احتمال وقوعه ضعيفا أو كان احتمال وقوعه قويا ولكن على المدى البعيد ، ففي تمام هذه الموارد يكون اظهار الموافقة من التقيّة بالمعنى الأخصّ.

٥٦٩

٢٤٦ ـ التقيّة المداراتيّة

وهي من أقسام التقيّة بالمعنى الأخص ، والمراد منها مسايرة العامة في أقوالهم ومتبنّياتهم رغم عدم ترتب الضرر على المخالفة.

ومنشأ التعبير عن هذا النحو من التقيّة بالمداراتية هو انّ الحكمة من تشريعها هو مداراة العامة وتألّفهم وتوحيد الصف الإسلامي وبيان ما عليه الشيعة من الخلق الرفيع والسماحة في التعامل المعبّرة عن الروح الأخويّة التي ينعم بها المذهب الشيعي « أعزّه الله تعالى ».

وقد دلّ على مشروعيّة التقيّة المداراتيّة مجموعة من الروايات ، منها معتبرة هشام بن الحكم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « ايّاكم ان تعملوا عملا نعيّر به ، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم اليه زينا ، ولا تكونوا علينا شينا ، صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم الى شيء من الخير ، فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبّ اليه من الخباء » قلت : وما الخباء؟ قال عليه‌السلام : « التقيّة » (١٠).

وهذه الرواية تعبّر عن انّ الاختلاف الفكري والعقيدي بيننا وبين سائر المذاهب لا ينبغي أن يحول دون معاشرتهم بالمعروف ومسايرتهم في ترك ما يأنفون فعله أو فعل ما يستمجّون تركه ، وهذا النحو من التقيّة لا يختصّ بحالات الخوف من الضرر المحتمل وقوعه عند المخالفة والمنافرة ، وذلك لاطلاق بعض الروايات واشتمال البعض الآخر على حكمة التشريع لهذا النحو من التقيّة ، ومن هنا فرّع السيد الخوئي رحمه‌الله على ذلك مشروعيّة هذا النحو من التقيّة حتى في حالات ضعف العامّة وذهاب شوكتهم ، وذلك في مقابل دعوى

٥٧٠

الفقيه الهمداني رحمه‌الله حيث ذهب الى اختصاص مشروعيّة التقيّة بحالات اقتدار العامّة وقدرتهم على ايقاع الضرر.

ثم انّ هنا تنبيه اتّضح ممّا ذكرناه وهو انّ التقيّة المداراتيّة لا دليل على مشروعيتها مع غير العامة كما في المجتمعات الكافرة أو مع السلطان الذي يتبنى التشيع مذهبا له إلاّ أن يكون عدم التقيّة موجبا للوقوع في الضرر ، وحينئذ لا تكون من التقيّة المداراتيّة وانما هي من التقيّة الاضطراريّة أو الإكراهيّة.

ثمّ انّ التقيّة المداراتية لا تستوجب اباحة الفعل المحرم كشرب الخمر أو قتل النفس المحترمة أو غيرهما من المحرّمات ، كما لا تسوّغ ترك الواجب مثل الصوم أو حج بيت الله الحرام ، نعم هي مسوّغة لمراعاة ما يعتبرونه شرطا في الصلاة مثلا أو ترك ما يعتبرونه مانعا. ثمّ انّ الفعل المأتي به لأجل التقيّة المداراتيّة هل يكون مجزيا عن المأمور به بالأمر الواقعي أو لا؟ وقع الخلاف في ذلك ولعلّنا نشير اليه فيما بعد.

* * *

٢٤٧ ـ التكليف

التكليف هو تحميل الغير بشيء فيه مشقّة وتعب ، ومن هنا ناسب أن يطلق عنوان التكليف على الأحكام الإلزاميّة وان كانت تستتبع مصلحة أو تندفع بها مفسدة ، إذ انّ عنوان التكليف لم يؤخذ فيه لغة خلو ما فيه كلفة ومشقّة عن المصلحة بل يصدق حتى في موارد ترتب المصلحة على المكلّف به أو التوسّل به لدفع مفسدة ، كما انّ التكليف لا يختصّ بموارد الحمل على الفعل الشاق بل يشمل موارد الحمل على ترك فعل يكون في تركه عناية ومئونة زائدة لولاه لكان المكلّف في سعة من جهة فعله وتركه.

ومن هنا يصدق التكليف على

٥٧١

التحريم ، إذ انّه يستوجب حرمان المكلّف ، وهذا ما يستبطن تقييده وحبسه المساوق للكلفة ، فالتحريم كالإيجاب يمنع المكلّف عن الاسترسال مع مشتهيات النفس ، فهو ينافي السعة ويناسب المشقّة ولو النفسيّة.

وبهذا البيان يتّضح انّ التكليف لا يشمل المستحبّات والمكروهات ، لأنّ المكلّف في سعة من جهتها إلاّ انّه قد يقال بصدق المعنى اللغوي عليها ، وذلك لأنّ التكليف ـ كما قلنا ـ هو تحميل الغير بما فيه مشقّة وتعب ، فالمناط في صدق التكليف هو متعلّقه ، فإن كان فيه كلفة زائدة فهو تكليف بقطع النظر عن لزوم الالتزام به أو عدم لزومه ، إذ لم يؤخذ في مفهوم التكليف لغة قيد الإلزام بل يكفي في صدق التكليف ان الالتزام به ولو من غير ملزم موجب لتحمّل الكلفة والمشقّة ، ولهذا يصحّ أن يقال : انّ زيدا قد تكلّف صوم يوم مستحبّ أو الإنفاق على جيرانه وان كان لا ملزم له بالقيام بذلك.

هذا كلّه بحسب المدلول اللغوي لعنوان التكليف ، وأمّا بحسب الاصطلاح فإنّ التكليف يطلق ويراد منه الأحكام الشرعيّة المتّصلة بفعل المكلّف ابتداء ، فهي امّا ان تعني اعتبار الفعل على عهدة المكلّف ودينا ، وهذا هو المستحب ، وامّا اعتباره مرجوحا دون اعتبار المكلّف محروما منه ، وهذا هو المكروه. وتارة يعتبر الفعل غير مترجّح من حيث ارتكابه وعدمه ، وهذا هو الإباحة بالمعنى الأخصّ.

وبهذا تكون الأحكام التكليفيّة اعتبارات شرعيّة متّصلة بفعل المكلّف ، ولمزيد من التوضيح راجع الحكم التكليفي والحكم الوضعي.

* * *

٢٤٨ ـ تمايز العلوم

راجع عنوان « موضوع العلم ».

٥٧٢

٢٤٩ ـ التنجيز والتعذير

التنجيز والتعذير هو المراد من الحجيّة الاصوليّة ، والمراد من التنجيز المقابل للتعذير هو ثبوت المسئوليّة على المكلّف ، فحينما يقال انّ هذا الحكم منجّز على المكلّف فمعناه انّ المكلّف مسئول عن امتثاله.

والتنجيز تارة يثبت بواسطة الجعل الشرعي وتارة لا يكون كذلك بل يكون ثبوته بواسطة الجعل الشرعي مستحيلا.

أمّا ما يثبت بواسطة الجعل الشرعي فهو الحكم الواصل بطريق الظنّ المعتبر ، فلو لا اعتبار الشارع للظن وجعل الحجيّة له لما كان الحكم الواصل بواسطته منجزا ، أي مثبتا للمسئوليّة على المكلّف تجاهه. والواقع انّ الجعل هنا لا يقع على التنجيز ابتداء بل انّ الجعل الشرعي واقع على الطريق الظني ، وبجعل الحجيّة للطريق الظني يتنقح موضوع التنجيز ، فموضوع التنجيز هو الحكم الصادر عن المولى جلّ وعلا ، والظن ليست له صلاحيّة اثبات ذلك إلاّ بواسطة الجعل الشرعي ، فمتى ما تحقق الجعل الشرعي للطريق الظني اكتسب صلاحية الكشف عن الحكم الشرعي والذي هو موضوع التنجيز.

فتنجّز الحكم الشرعي حكم عقلي مدرك بواسطة العقل العملي ، وهذا المدرك هو المعبّر عنه بحقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ المجعول في الامارات هو المنجزية والمعذرية فمعناه انّ الشارع جعل الحجيّة للأمارات وعندها تنقح موضوع الحكم العقلي والذي هو المنجزيّة والمعذريّة ، وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان « المنجزيّة والمعذريّة ».

وأمّا التنجيز الذي يثبت بغير الجعل الشرعي فهو التنجيز الثابت بواسطة القطع. والقطع هنا أيضا ليس

٥٧٣

علة في ثبوت التنجيز للحكم المقطوع ، نعم هو ينقّح موضوع تنجيز الحكم الشرعي ، والفرق بين القطع والطريق الظني هو انّ صلاحية القطع لتنقيح موضوع التنجيز ليست منوطة بالجعل الشرعي كما هو الحال في الطريق الظني ، فالقطع بنفسه ينقّح الموضوع بخلاف الطريق الظني كما اتّضح ممّا سبق.

وهناك حالة ثالثة ادعي ثبوت التنجيز في موردها بغير واسطة الجعل الشرعي للظن ، وهذه الحالة هي المعبّر عنها بالاحتياط العقلي في الشبهات البدويّة ، حيث تبنّى السيد الصدر رحمه‌الله انّ الحكم الواصل بواسطة الظنّ غير المعتبر بل وكذلك الاحتمال منجّز عقلا ، وذلك بدعوى انّ حقّ الطاعة يتّسع ليشمل الاحكام المظنونة والمحتملة ، فالظن والاحتمال ينقّحان موضوع التنجيز وعندها يدرك العقل ـ بواسطة إدراكه لحقّ الطاعة المطلقة ـ لزوم الاحتياط والذي هو التنجيز.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب المشهور الى عدم صلاحيّة الظن غير المعتبر وكذلك الاحتمال لتنقيح موضوع التنجيز ، وذلك لأنّ ما يدرك بالعقل في حالات الظنّ والاحتمال هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، نعم يكون الظنّ والاحتمال منقّحين لموضوع التنجيز لو جعل الشارع الحجيّة للظنّ والاحتمال كما هو في الشبهات التحريميّة عند الإخباريين ، وكما هو في الدماء والفروج عند البعض.

وأمّا التعذير فالمقصود منه نفي المسئوليّة عن المكلّف تجاه الحكم الواقعي ، وهذا أيضا من الأحكام العقليّة التي قد يثبت موضوعها بواسطة الجعل الشرعي للظنّ ، كما في موارد جعل الحجيّة للأمارات النافية للتكليف ، وكما في موارد البراءة الشرعيّة ، وقد يتنقّح موضوع التعذير بواسطة ما يدركه العقل كما موارد

٥٧٤

القطع وكذلك الشبهات البدويّة بناء على تماميّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبما بيناه يتّضح السرّ في تعريف الحجيّة بالمنجّزية والمعذرية ، وسيتّضح ذلك أكثر في تعريف الحجيّة ان شاء الله تعالى.

* * *

٢٥٠ ـ التنجيز والتعليق

يطلق التنجيز المقابل للتعليق ويراد منه الإطلاق وعدم الإناطة بشيء ، وهو يقع تارة وصفا للحكم واخرى يكون وصفا لمتعلّق الحكم. والاول يعبّر عنه بالحكم التنجيزي ، وهو الذي يكون ثبوته لموضوعه غير معلّق ولا منوط بشيء ، كثبوت الحرمة للخمر أو يكون ثبوته لموضوعه غير معلّق على الجهة المنظورة ، كوجوب الصلاة بالنسبة للطهارة أو القبلة فإنّ ثبوته غير معلّق على تحقّق الطهارة واحراز القبلة.

والثاني يعبّر عنه بالواجب المنجّز ، وهو الذي لا تناط صحّة الإتيان به بوقت متأخّر عن زمان الوجوب ، ومثاله الصلاة فإنّ وجوبها يثبت عند دخول الوقت وكذلك الإتيان بها فإنّه يصحّ من حين دخول الوقت ، فالتعبير عن الصلاة بالواجب المنجّز منشؤه انّ صحّة الإتيان بها ليست معلّقة على زمن متأخّر عن زمان تحقّق الفعليّة للوجوب.

ويطلق التنجيز على القضيّة الحملية وذلك في مقابل القضيّة الشرطيّة التقديريّة ، ومنشأ التعبير عن القضايا الحمليّة بالقضايا التنجيزيّة هو انّ ثبوت محمولها لموضوعها لا يناط بشيء بل يثبت المحمول للموضوع في موردها ابتداء.

كما قد يطلق التنجيز على الحكم البالغ مرحلة الفعليّة ، وذلك في مقابل الحكم الإنشائي. وبلوغ الحكم مرحلة الفعليّة والتنجّز يكون بتحقّق

٥٧٥

موضوعه وشرائطه التي انيط تحقّق الفعليّة للحكم بتحقّقها خارجا.

وأمّا التعليق فيراد منه التوقيف والربط ، وهو أيضا تارة يقع وصفا للحكم واخرى يكون وصفا لمتعلّق الحكم ، والاول يعبّر عنه بالحكم التعليقي أو الحكم المشروط ، وهو ما يكون الحكم فيه منوطا بشرط ، ويعبّر عن هذا الشرط بالمقدّمة الوجوبيّة.

وأمّا ما يكون وصفا لمتعلّق الحكم فهو المعبّر عنه بالواجب المعلّق ، وهو ما يكون معه الوجوب حاليا والواجب استقباليا ، أي منوطا بوقت متأخّر عن زمان الفعليّة للوجوب ، ويمثل له بالصوم حيث يكون ثبوت الوجوب له من حين رؤية الهلال وأمّا زمان الواجب « الصوم » فهو من طلوع الفجر. وسيأتي ايضاح كلّ ذلك في مباحث أقسام الوجوب والواجب ان شاء الله تعالى.

٢٥١ ـ تنزيل الأمارة منزلة القطع

ويراد من هذا العنوان الإشارة الى أحد المباني فيما هو المجعول في الأمارات. وحاصل المراد من هذا المبنى هو :

انّ أدلّة الحجيّة للأمارات قد نزلت الأمارة منزلة العلم من حيث لزوم العمل بمؤداها ، فالتنزيل هنا بلحاظ الأثر التكويني للقطع وهو المنجزية والمعذريّة.

والمتحصّل انّ الكيفيّة التي تمّ بها جعل الحجيّة للأمارة عبارة عن التصرّف في عقد الوضع وهو العلم وذلك بواسطة التوسيع من دائرة العلم واعتبار الأمارة فردا منه ادعاء على طريقة المجاز السكّاكي ، فهو نظير قوله عليه‌السلام « الفقّاع خمرة استصغرها الناس » ، إذ انّ واقع الفقّاع مباين لواقع الخمرة إلاّ انّ الشارع نزّله منزلتها لغرض ترتيب الآثار الثابتة

٥٧٦

للخمرة على الفقاع.

وقد أورد على هذا المبنى بأنّ المنجزيّة والمعذرية من الآثار العقليّة للقطع ، وعندئذ لا يكون للشارع بما هو شارع التصرّف في المنزّل عليه ـ وهو القطع ـ وتوسيع دائرته لغرض تعدية آثاره العقليّة للمنزل وهي الأمارة.

وبتعبير آخر : انّ الشارع بما هو شارع ليس له شأنيّة التصرّف في الآثار التكوينيّة ، إذ انّها تابعة لاسبابها الواقعيّة ، فهي غير قابلة للتصرّف ، وهذا ما يعبّر عن انّ المنجزيّة والمعذرية لو كانت ثابتة للأمارة ، فهي ثابتة بواسطة الاعتبار الشرعي ابتداء نتيجة مبررات نشأ عنها الاعتبار ، ومن هنا لو كان دليل الحجيّة ظاهرا في التنزيل فلا بدّ من التصرّف فيه بما يتناسب مع هذا المحذور.

* * *

٢٥٢ ـ تنزيل المؤدى منزلة الواقع

ويراد من هذا العنوان الإشارة الى أحد المباني فيما هو المجعول في الامارات والاصول ، فقد ذهب البعض أو جرى على لسانه انّ أدلّة الحجيّة للأمارات والاصول تقتضي تنزيل مؤديات الأمارات والاصول منزلة الواقع ، بمعنى انّ الشارع قد نزّل الحكم المفاد بواسطة الأمارة أو الاصل منزلة الواقع ، فكأنّ قيام الأمارة يحقّق موضوعا لنشوء حكم واقعي مطابق لمفادها ، وكذلك الحال عند قيام الأصل.

مثلا عند ما يرد خبر مفاده حرمة أكل لحم الأرنب فإنّ ورود الخبر ينقح موضوعا لنشوء حكم واقعي مطابق لمؤدى الخبر وهو حرمة أكل لحم الأرنب ، وهكذا الكلام لو أجرينا أصالة الطهارة فيما هو مشكوك الطهارة ، فإنّ جريان هذا الأصل

٥٧٧

يوجب تحقّق حكم واقعي هو طهارة المشكوك.

وقد أورد السيّد الخوئي رحمه‌الله على هذا المبنى بأنّه يستلزم التصويب. والمراد من التصويب هنا امّا التصويب المعتزلي والذي يعني تبدل الواقع عما هو عليه وانقلابه الى ما يتناسب مع مؤدى الأمارة أو الأصل ، أو بمعنى انخلاق واقع جديد بسبب قيام الأمارة أو الأصل ، والظاهر انّ المعنى الثاني هو الأنسب ، وذلك لالتزام صاحب هذا المبنى بانحفاظ الواقع.

والايراد الآخر انّه لا شيء من أدلّة الحجيّة للأمارات تصلح لإثبات تنزيل مؤديات الأمارات منزلة الواقع.

* * *

٢٥٣ ـ تنقيح المناط

التنقيح هو التنقية والتهذيب والتمييز ، ويقال نقّحت الشيء ، أي خلّصته من الشوائب ، ونقّحت الحنطة ، أي خلّصت جيدها من رديئها.

والمناط اسم لموضع التعليق ، فيقال ناطه نوطا ، أي علّقه ، ونياط القربة عروتها ، وشجرة ذات أنواط أي ذات أغصان يمكن ان تعلّق عليها الثياب والسيوف بواسطة حمائلها.

ولهذا يطلق لفظ المناط ويراد منه العلة ، وذلك لإناطة الشارع الحكم بها ، وعليه يكون معنى تنقيح المناط هو تمييز علة الحكم عن سائر الاوصاف والحيثيّات المذكورة في الخطاب ، ومع تميّزها تكون النتيجة هي امكان الاستفادة من العلّة لإثبات نفس الحكم لموضوعات اخرى غير الموضوع المنصوص عليه في الخطاب ، بمعنى امكان تعدية الحكم من مورد النصّ الذي اكتنف بمجموعة من الاوصاف والحيثيّات الى موارد اخرى ليست واجدة لتلك الاوصاف والحيثيّات ما عدى العلّة المنقّحة.

ومن هنا قالوا انّ تنقيح المناط

٥٧٨

يتقوّم بعمليتين يعالج بهما المجتهد النص ، العمليّة الاولى هي الحذف ، أي حذف الاوصاف والحيثيّات الغير دخيلة في ثبوت الحكم لموضوعه ، والعمليّة الثانية هي التعيين ، وهي تعني السعي للوقوف على علة ثبوت الحكم لموضوعه من نفس النص.

وعرّف تنقيح المناط بتعريف آخر لا يبتعد كثيرا عن التعريف الاول وهو « إرجاع الفرع الى الأصل » ويحتمل معنيين ولعلّهما جميعا مرادان :

الاحتمال الأول : أن يكون المراد من الإرجاع هو التعيين الذي ذكر في التعريف الاول ، والذي يعني تمييز العلّة ـ التي ترتّب عليها ثبوت الفرع ـ عن سائر الأوصاف المذكورة في الخطاب ، فالإرجاع يعني تحديد المرجع الذي نشأ عنه ثبوت الحكم لموضوعه المنصوص.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من الإرجاع هو إرجاع فروع اخرى غير منصوصة للعلّة المنصوصة في الخطاب ، بمعنى التعرّف على حكم فروع اخرى بواسطة العلّة المنصوصة في الخطاب.

وباتّضاح المراد من تنقيح المناط نقول : انّ تنقيح المناط تارة يكون قطعيا واخرى يكون ظنيّا ، ولا إشكال في عدم جواز ترتيب الأثر الشرعي على تنقيح المناط الظني ، وذلك لعدم قيام الدليل القطعي على حجيّته ، فيكون مشمولا لأدلة المنع عن العمل بالظنّ كقوله تعالى ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (١١). وأمّا تنقيح المناط القطعي فهو حجّة لحجيّة القطع بلا إشكال ، نعم الإشكال في تحديد صغريات تنقيح المناط القطعي.

ولكي يتّضح المراد من تنقيح المناط أكثر نذكر هذا المثال :

لو ورد دليل بهذا اللسان « سألت الامام عليه‌السلام عن الدم يسقط في هذا العصير من الرمان فيقول الامام عليه‌السلام لا

٥٧٩

تشربه » فإنّ من المقطوع به انّ العلّة من ثبوت الحرمة لعصير الرمان هو سقوط الدم فيه ، واحتمال ان تكون الحرمة مسبّبة عن سقوط الدم بالإضافة الى كونه عصير رمان منفيّ قطعا ، كما انّ احتمال أن يكون لشخص العصير المسئول عنه خصوصيّة اقتضت ثبوت الحرمة منفي أيضا ، كما انّ احتمال انّ لاتّخاذ ماء الرمّان من العصر خصوصيّة منفي كذلك ، وبهذا يتنقح انّ لا علّة لثبوت الحرمة سوى سقوط الدم في العصير.

ومن هنا يمكن الاستفادة من العلّة المنقّحة لإثبات الحرمة لفرد آخر من عصير الرمان ، وذلك لانتفاء الاحتمال الثاني ، كما يمكن الاستفادة من العلّة لإثبات الحرمة لمطلق ما يعتصر من الاجسام حين سقوط الدم فيه ، وذلك لانتفاء الاحتمال الاول ، كما يمكن تعدية الحرمة لمطلق الماء المضاف حتى وان كانت الإضافة بسبب الامتزاج لا الاعتصار ، وذلك لانتفاء الاحتمال الثالث.

وتلاحظون انّنا مارسنا هنا عمليتين ، الاولى هي التعيين ، حيث عيّنا بعد ملاحظة الدليل العلّة الموجبة لثبوت الحكم لموضوعه ، والعمليّة الثانية هي الحذف ، أي حذف الاوصاف والحيثيّات المكتنفة بموضوع الحكم المذكور في الخطاب ، فحذفنا خصوصيّة الفرد المسئول عنه ، كما حذفنا خصوصيّة الرمان ، وحذفنا أيضا خصوصيّة الاعتصار ، وليكن هذا من تنقيح المناط القطعي.

وأمّا تنقيح المناط الظنّي فهو ان نقول : انّ العلة من ثبوت الحرمة لعصير الرمان هو سقوط النجاسة ، فنلغي خصوصيّة الدم ونفترض العلّة هي مطلق النجاسة ، كما نلغي خصوصيّة العصير ونجعل الموضوع مطلق السائل الشامل للماء المطلق.

وليكن هذا من تنقيح المناط الظنّي ، والذي قلنا بعدم حجيّته.

٥٨٠