المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

واجيب عن دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله بأن الظهور في الاطلاق وان كان ينعقد بمجرّد انتهاء المتكلم من كلامه مع عدم وجود قرينة على عدم إرادة الاطلاق إلاّ انّ هذا الظهور في الاطلاق يسقط عن الحجيّة بعد ورود القرينة على الخلاف أو بعد ورود ما يصلح للقرينية ، بمعنى انّ القرينة المنفصلة لا تنفي الإرادة الاستعماليّة للإطلاق إلاّ انّها تنفي الإرادة الجدّيّة والتي هي مناط الحجيّة ، على انّه لا مانع من انعقاد الإطلاق لو جرت عادة المتكلّم ـ كما هو الحال في خطابات الشارع ـ على اعتماد القرائن المنفصلة ، وحينئذ لا بدّ من الفحص قبل الاعتماد على الاطلاق ، فمتى ما تمّ العثور على القرينة فإنّ ذلك يستوجب انكشاف عدم إرادة الإطلاق جدّا وان كان الإطلاق مرادا استعمالا لغرض في نفس المتكلم.

فالنتيجة انّه لا فرق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة من حيث عدم صحة الاعتماد على الاطلاق ، غايته انّ القرينة المتصلة تمنع من انعقاد الظهور الاستعمالي للاطلاق ، وأمّا القرينة المنفصلة فهي تهدم الظهور الجدّي للاطلاق ، وبهذا يكون مقتضى الجمع العرفي بين العموم والإطلاق المتنافيين هو العمل بمقتضى العموم في مادة الاجتماع واختصاص الاطلاق بمادة الافتراق.

* * *

٢٣٤ ـ التعارض بين الدليل اللفظي والدليل العقلي

التعارض قد يكون بين دليلين لفظيين ، وقد يكون بين دليلين عقليين ، وقد يكون بين دليل عقلي ودليل لفظي ، وروايات العلاج سواء المفيد منها للترجيح بالمرجحات أو المفيد للتخيير أو التوقف والإرجاء كلها متصدية لمعالجة التعارض في

٥٤١

الأدلّة اللفظية ، وهي خارجة هنا عن محل الكلام ، ونقتصر في المقام على الفرضين الآخرين.

أما الفرضية الاولى : وهي ما اذا كان التعارض بين دليلين عقليين فيمكن تصنيفها الى ثلاث حالات :

الاولى : ما لو كان التعارض بين دليلين عقليين قطعيين ، وهذا ما لا يمكن اتفاقه ، وذلك لاستحالة ان يدرك العقل بنحو قطعي حكمين متغايرين لموضوع واحد ، إذ انّ إدراك العقل القطعي لحكم معناه تصديه أولا لتحديد موضوعه من تمام حيثياته بحيث لا يدع مجالا للمرونة في الموضوع ، وبعد ذلك يدرك الحكم المناسب له ، وحينئذ لا يتعقل ان يكون له حكمان متغايران رغم اتحاد الموضوع ، ولو توهّم وقوع التعارض في الفرض المذكور فإنّه بأدنى التفات الى حدود الموضوع يرتفع التعارض ويتّضح امّا عدم إدراك العقل لأحد الحكمين أو انّ موضوع كلّ واحد منهما مباين لموضوع الآخر. ومن هنا لا يتعقل التعارض في الأحكام العقلية القطعية.

الثانية : ما لو كان التعارض بين حكمين عقليين إلاّ انّ أحدهما قطعي والآخر ظني ، كما لو كان مقتضى الدليل العقلي القطعي هو الحرمة باعتبار انّ متعلقه من الظلم القبيح ، وكان مقتضى الدليل العقلي الظني هو الجواز باعتبار انّ ذلك هو المتناسب مع القياس ـ بناء على حجيته ـ ، وهنا يكون المقدم هو الدليل العقلي القطعي ، وذلك لوروده على الدليل الظني.

وورود الدليل العقلي القطعي انّما هو بلحاظ مرحلة الحجيّة للدليل الظني العقلي ، بمعنى انّه تلاحظ علاقة الدليل العقلي القطعي مع دليل الحجيّة للدليل العقلي الظني فتكون النتيجة هي الورود باعتبار انّ الحجيّة الثابتة للدليل العقلي الظني انّما هو في حالة

٥٤٢

الشك في الحكم الواقعي ، والدليل العقلي القطعي يلغي موضوع الحجيّة للدليل الظني حقيقة ، أي انّه يلغي الشك في الحكم الواقعي والذي هو موضوع الدليل العقلي الظني ، وهذا هو الورود.

وبتعبير آخر : الدليل العقلي الظني انّما هو حجّة في اثبات الجواز لو كان هناك شك في الحكم الواقعي ، ومع قيام الدليل القطعي لا يكون هناك شك في الحكم الواقعي ، ومن هنا يكون مآل التعارض بين الدليل العقلي القطعي والدليل العقلي الظني هو توهم اتحاد الموضوع في الحكمين ، والواقع ليس كذلك ، فمثلا لو حكم العقل بنحو قطعي بانّ التصرّف في أموال الغير قبيح لأنه ظلم ، وكان مقتضى القياس هو جواز التصرّف ، فإن موضوع الحكم العقلي القطعي هو التصرّف في أموال الغير وأما القياس فهو التصرف في الأموال باعتبار الشك مثلا في مملوكيتها لمالك محترم ، فموضوع كلّ واحد من الحكمين مباين لموضوع الآخر.

الثالثة : ما لو كان التعارض بين دليلين عقليين ظنيين كأن كان أحدهما يقتضي الايجاب والآخر عدمه ، فهنا يكون مآل التعارض الى التعارض بين دليلي حجيتهما ، فلا بدّ من ملاحظتهما لغرض العلاج بحسب ما تقتضيه الضوابط المقررة في باب التعارض ، فقد يكون دليلا الحجيّة لفظيين ، وقد يكونان عقليين قطعيين ، وقد يكونان شرعيين غير لفظيين.

وأما الفرضية الثانية : وهي ما لو كان أحد الدليلين عقليا والآخر لفظيا فله ثلاث حالات أيضا :

الاولى : ان يكون الدليل العقلي قطعيا ويكون الدليل اللفظي ظنيا ، وحينئذ يكون الدليل العقلي القطعي واردا على الدليل اللفظي الظني ، ووروده انما هو على دليل الحجيّة للدليل اللفظي الظني بنفس البيان السابق.

٥٤٣

الثانية : ان يفترض العكس ، وهنا يكون الدليل اللفظي القطعي واردا على الدليل العقلي الظني بنفس البيان.

الثالثة : ان يفترض كون الدليلين العقلي واللفظي ظنيين ، وهنا يكون مآل التعارض بينهما الى التعارض في دليلي الحجيّة فيأتي نفس البيان المذكور في الحالة الثالثة من الفرضيّة الاولى.

وهنا أمر نبّه عليه السيد الصدر رحمه‌الله وهو انّ التعارض الذي يكون أحد طرفيه أو كلاهما عقليا لا يتصور فيه الجمع العرفي والذي تكون وظيفته الكشف عن المراد الجدّي للشارع ، نعم يتصور الجمع العرفي ـ في مورده ـ بالورود فحسب في بعض حالات التعارض كما أوضحنا ذلك.

فالتعارض بين الدليلين العقليين الظنيين وكذلك العقلي الظني واللفظي الظني يؤول دائما الى التعارض بين دليلي الحجيّة لهما. وهذا بخلاف التعارض بين الدليلين اللفظيين فإنّ من الممكن الجمع العرفي بينهما لغرض الكشف عن المراد الجدّي للشارع ، وبذلك يزول التعارض ، ولا نحتاج عندئذ لملاحظة دليلي الحجيّة للدليلين المتعارضين ، نعم تكون الحاجة للرجوع الى دليلي الحجيّة في الأدلة اللفظية المتعارضة في حالة تعذر الجمع العرفي ، إذ يكون المرجع هو أدلة العلاج والتي يكون نظرها الى دليلي الحجيّة ، فتقول مثلا : انّ خبر الثقة إذا منافيا للكتاب المجيد أو كان موافقا للعامة يكون ساقطا عن الحجيّة بخلاف الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة ، ولو لم يمكن الاستفادة من روايات العلاج فإنّ المرجع هو ما تقتضيه القاعدة من التساقط مثلا ، والملاحظ هنا هو دليلا الحجيّة للخبرين أيضا.

* * *

٥٤٤

٢٣٥ ـ التعارض بين العامين من وجه

التعارض قد يكون بنحو التباين التام ، كما لو دلّ أحد الخبرين على وجوب شيء ودلّ الآخر على حرمته ، فإنّ مدلول الخبر الاول هو نفي الحرمة عن الشيء ومدلول الخبر الثاني هو نفي الوجوب عن ذلك الشيء ، فليس ثمة مورد في مؤدى الدليل الثاني غير منفي بالاول وكذلك العكس.

وقد يكون التعارض بنحو التباين الجزئي المعبّر عنه بالتباين بنحو العموم والخصوص من وجه ، وهو ما لو كان التنافي بين مدلولي الدليلين في مورد دون مورد.

ومثاله ما لو دلّ الدليل الاول على وجوب اكرام كلّ العلماء ودلّ الدليل الآخر على حرمة اكرام كل الفسّاق ، فإنّ مورد التنافي بين المدلولين انما هو في مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق ، فإنّ مقتضى الدليل الاول هو وجوب اكرامه ومقتضى مدلول الدليل الثاني هو حرمة اكرامه ، وأما مورد الافتراق في كل من الدليلين فليس بين المدلولين من جهتهما أيّ تناف.

وهنا وقع البحث فيما هو المرجع لو اتّفقت هذه الحالة ، وهل يلتزم بالتبعيض في الحجيّة ، بمعنى الالتزام بسقوط الحجيّة عن الدليلين في مورد الاجتماع وبقاء مادتي الافتراق على الحجيّة أو انّ المرجع في مثل هذه الحالة هو المرجحات الجهتية والمضمونية دون المرجحات الصدورية ، بمعنى ملاحظة مادة الافتراق للدليلين فإن كان أحدهما موافقا لمذهب العامة والآخر غير موافق فإن الرجيح يكون لغير الموافق ، وهذا هو معنى الرجوع للمرجح الجهتي ، ومعه يسقط الدليل الموافق للعامة في مادة الاجتماع. أو كان أحد الدليلين في مادة الاجتماع

٥٤٥

متحدا من حيث المضمون من أحد مضامين الكتاب المجيد ، أو كان الآخر مخالفا للكتاب فإنّ الترجيح حينئذ يكون مع الموافق أو غير المخالف ، وهذا هو المرجّح المضموني.

وأما عدم الرجوع للمرجّح الصدوري ـ كالترجيح بالصفات أو الشهرة ـ فلأنّه يقتضي سقوط الدليل المرجوح من رأس ، وهذا وان كان له مبرّر في مادة الاجتماع الاّ انّه لا مبرّر لسقوطه عن الحجيّة في مادة الافتراق بعد ان لم تكن طرفا في المعارضة إلاّ ان يلتزم بالتبعيض في السند.

وقد أوضحنا كلّ ذلك تحت عنوان « التبعيض في الحجيّة ».

* * *

٢٣٦ ـ التعبّدي والتوصّلي

المراد من الواجب التعبدي هو ما يعتبر في سقوطه عن عهدة المكلّف قصد القربة حين امتثاله كالصلاة والحج ، فلو لم يقصد المكلّف التقرّب للمولى والامتثال لأمره لما كان ممتثلا.

وأمّا الواجب التوصلي فيطلق على معان أربعة :

المعنى الاول : هو ما لا يعتبر في سقوطه عن عهدة المكلّف قصد القربة حين امتثاله بل يكفي الإتيان به ولو مجردا عن قصد القربة والامتثال لأمر المولى جلّ وعلا ، نعم يترتب على قصد القربة استحقاق المكلّف للثواب إلاّ انّه ليس شرطا في الإجزاء والسقوط عن العهدة.

ويمثل لذلك بدفن الميت والنفقة على الزوجة فإنّ الأمر بهما يسقط بمجرّد الإتيان بمتعلقه.

المعنى الثاني : هو ما لا يعتبر في سقوطه عن عهدة المكلّف مباشرة الامتثال بل يكفي في سقوطه قيام الغير به سواء بنحو الاستنابة أو التبرع.

ومثاله : الصلوات الفائتة عن الميت فإنّها لازمة على وليّه ، وهي تسقط

٥٤٦

عن عهدة الولي بقيام الغير بها سواء بنحو الاستنابة أو التبرع.

المعنى الثالث : هو ما لا يعتبر فيه الاختيار والالتفات بل يسقط بمجرّد وقوعه خارجا حتى وان كان عن غير اختيار بل ولا التفات.

ومثاله : إزالة النجاسة عن المسجد ، فلو اتفق ان أزال المكلّف النجاسة عنه من غير قصد للتطهير فإنّ التكليف بإزالة النجاسة يسقط بذلك.

المعنى الرابع : ما لا يعتبر في سقوطه عن العهدة امتثاله في ضمن فرد جائز ، كما لو أزال النجاسة عن المسجد بماء مغصوب ، فإنّ التكليف بوجوب الإزالة يسقط بذلك وان كان المكلّف قد ارتكب محرما بتصرّفه في الماء المغصوب ، وكما لو أنقذ ذا مخمصة بطعام مغصوب وهكذا.

وتلاحظون انّ النسب بين الواجب التعبّدي وبين المعاني الأربعة للواجب التوصلي مختلفة.

فالنسبة بين الواجب التعبّدي وبين المعنى الاول للواجب التوصلي هي التباين ، اذ لا شيء من الواجبات التعبّدية إلاّ ويعتبر فيها قصد القربة ، ولا شيء من الواجبات التوصلية بالمعنى الاول إلاّ وهي غير مشروطة بقصد القربة ، وبهذا تكون النسبة بينهما هي التباين.

وأمّا النسبة بين الواجب التعبّدي وبين المعنى الثاني للواجب التوصلي فهي العموم من وجه ، ومورد الاجتماع هو الواجبات التي يعتبر في سقوطها قصد القربة مع انّه لا يعتبر فيها المباشرة ، فإنّها واجبات تعبديّة من جهة اعتبار قصد القربة في امتثالها وتوصلية من جهة عدم اعتبار المباشرة في موردها.

ومثاله : قضاء الصلوات عن الميت فإنّها واجبة على الولي ويعتبر في سقوطها قصد القربة إلاّ انّه لا يعتبر فيها المباشرة بل تسقط بالاستنابة

٥٤٧

وبالتبرع.

وأمّا النسبة بين الواجب التعبّدي وبين المعنى الثالث فهو التباين ، وذلك لأنّه لا يتعقل قصد القربة إلاّ في ظرف الاختيار والالتفات ، ومعه لا يكون ثمة واجب تعبّدي إلاّ ويعتبر فيه الاختيار والالتفات ، نعم بناء على صحّة الامتثال الإجمالي في التعبّديات وكان الالتفات بمعنى الالتفات الى انّ ما يأتي به واجب ، بناء على ذلك يجتمع الواجب التعبّدي مع الواجب التوصلي بالمعنى الثالث ، إذ انّ المكلّف يكرّر الفعل مثلا لغرض امتثال الواجب الواقعي دون ان يعلم أي الأفعال التي جاء بها هو الواجب الواقعي ، كمن صلّى الى الجهات الأربع ، فإنّه لا يعلم أي الصلوات هي المطلوبة واقعا ، وحينئذ تكون العلاقة بين الواجب التعبّدي والواجب التوصلي ـ بهذا المعنى ـ هي العموم المطلق ، ومورد الاتفاق هي الواجبات التعبّديّة التي يتم امتثالها اجمالا ، ومورد الافتراق في الواجب التوصلي هي الواجبات التي لا يعتبر فيها قصد القربة كما لا يعتبر فيها الاختيار والالتفات.

هذا بناء على صحة الامتثال الإجمالي مطلقا حتى في ظرف القدرة على الامتثال التفصيلي وإلاّ فلو بنينا على انّ صحّة الامتثال الاجمالي منوطة بعدم القدرة على الامتثال التفصيلي فالعلاقة بينهما هي العموم من وجه ، ومورد الاجتماع هي الواجبات التعبّدية التي يتم امتثالها اجمالا لعدم القدرة على الامتثال التفصيلي ، ومورد الافتراق في الواجب التعبّدي هي الواجبات التي يتمكن المكلف معها من الامتثال التفصيلي ، كما انّ مورد الافتراق في الواجب التوصّلي هي الواجبات التي لا يعتبر فيها قصد القربة كما لا يعتبر فيها الالتفات والاختيار.

٥٤٨

وأمّا النسبة بين الواجب التعبّدي وبين المعنى الرابع للواجب التوصلي فهي العموم من وجه بناء على انّ امتثال الواجب التعبّدي في ضمن الفرد المحرّم في ظرف الجهل يكون مجزيا ، وأمّا بناء على عدم الإجزاء وانّ الفرد المحرّم ليس مأمورا به مطلقا فالنسبة بينهما التباين ، إذ لا شيء من التعبديات إلاّ ويعتبر في امتثاله ان يقع في ضمن فرد محلّل ، فكل واجب يسقط بامتثاله في ضمن فرد محرّم فهو ليس واجبا تعبديّا.

وأمّا النسبة بين المعنى الاول للواجب التوصلي والمعاني الثلاثة فالعموم من وجه ، فمورد الاجتماع بين المعنى الاول والمعنى الثاني هو الواجب الغير منوط بقصد القربة ولا يعتبر فيه المباشرة ، ومثاله : دفن الميت ـ بناء على وجوبه على وليّ الميت ابتداء ـ فإنّه لا يعتبر فيه قصد القربة كما يسقط بالاستنابة والتبرع.

ومورد الافتراق من جهة المعنى الاول وطئ الزوجة كلّ أربعة أشهر فإنّه مشروط بالمباشرة ولا يعتبر فيه قصد القربة ، ومورد الافتراق من جهة المعنى الثاني هو الصلاة على الميت بالنسبة للولي ، فإنّه واجب توصلي باعتبار عدم اشتراطه بالمباشرة.

وأمّا النسبة بين المعنى الاول والمعنى الثالث فالعموم من وجه أيضا ، ومورد الاجتماع هو الواجب الذي لا يعتبر فيه قصد القربة كما لا يعتبر فيه الاختيار والالتفات ، كما في إزالة النجاسة عن المسجد ، ومورد الافتراق من جهة المعنى الاول هو رد السلام مثلا إذ يعتبر فيه الاختيار لو كان بمعنى القصد لا ما اذا كان بمعنى يقابل الاكراه ، ومورد الافتراق في المعنى الثالث فهو الامتثال الإجمالي في التعبديات فإنه يكون توصليا بمعنى عدم اشتراطه بالالتفات.

وأمّا النسبة بين المعنى الأوّل

٥٤٩

والمعنى الرابع فالعموم من وجه ، ومورد الاجتماع مثل إزالة النجاسة عن المسجد فإنّه لا يعتبر فيه قصد القربة كما لا يعتبر في سقوطه امتثاله في ضمن فرد محلل.

ومورد الافتراق من جهة المعنى الاول هو مثل النفقة على الزوجة فإنّه يعتبر فيه أن يكون بمال محلل ، ومورد الافتراق في المعنى الرابع هو الصلاة في الارض المغصوبة في ظرف الجهل فإنّها مشروطة بقصد القربة إلاّ انّها وقعت في ضمن فرد محرم واقعا ، فهي واجب توصلي بالمعنى الرابع.

وأمّا النسبة بين المعاني الاخرى فيما بينها فتعرف بالتأمل. وباتضاح ما ذكرناه نقول : انّه لا كلام فيما لو أحرزنا طبيعة الواجب وانّه من أيّ الأقسام انّما الكلام فيما لو وقع الشك في ذلك ، وهذا ما سيتم الحديث عنه تحت عنوان « المرجع عند الشك في التعبديّة والتوصّليّة ».

٢٣٧ ـ تعدّد الدال والمدلول

المراد من الدال هو اللفظ وغيره المعبّر عن المعنى ، واما المراد من المدلول فهو المعنى المنكشف بواسطة الدال. كما انّ المقصود من المدلول هو خصوص المدلول المطابقي دون سائر المدلولات ، فحينما يقال « تعدد الدال والمدلول » يقصدون تعدد المدلولات المطابقية لتعدّد الدوال وهي الالفاظ مثلا المفيدة والمعبّرة عن المدلولات.

وبهذا تخرج المدلولات التضمنيّة وكذلك الالتزاميّة ، إذ انّ تعددها ليس منوطا بتعدد الألفاظ ، فقد يكون لفظ واحد له ـ بالاضافة الى المدلول المطابقي ـ مدلولات تضمنية ومدلولات التزاميّة متعددة.

فالمقصود من « تعدد الدال والمدلول » هو تعدّد المدلولات المطابقية بتعدّد الفاظها ، كما لو قيل « أكرم الرجل العالم » فإنّ لفظ الرجل

٥٥٠

دال ومدلوله الطبيعة بما هي ، ومن هنا لا يكون لفظ الرجل استعمل في غير ما وضع له وهو الحصة الخاصة والتي هي الرجل المتصف بالعالمية ، بل هو مستعمل في معناه الموضوع ، وهكذا الكلام في لفظ العالم فإنّه مستعمل في معناه الموضوع له وهو طبيعة العالم ، وعليه نكون قد استفدنا مدلولين بواسطة دالين.

هذا من جهة ما هو مستفاد من اللفظين ، وأمّا استفادة اختصاص موضوع الحكم بالحصّة الخاصّة وهي الرجل المتّصف بالعالميّة فهو ما يتم بواسطة النسبة الحاصلة عن اتّصاف الرجل بالعالميّة ، وهو اجنبي عمّا يدل عليه كلا اللفظين.

* * *

٢٣٨ ـ تعقّب الاستثناء لجمل متعددة

والبحث في المقام عمّا لو وردت جمل متعدّدة في كلام متّصل ثمّ تعقّب هذه الجمل استثناء. فهل انّ هذا الاستثناء راجع الى خصوص الجملة الاخيرة أو الى تمام الجمل فيقتضي بذلك تخصيصها به جميعا ، أو انّ رجوع الاستثناء الى الجملة الأخيرة هو القدر المتيقّن وتكون الجمل الاولى مجملة بسبب احتفافها بما يصلح للقرينيّة على تخصيصها.

والمثال المعروف لذلك هو قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) ، فإنّ قوله تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) تعقّب جملا متعدّدة ، وهي الأمر بالجلد والنهي عن قبول شهادتهم والحكم بالفسق.

ومن هنا يقع البحث عن ان الاستثناء ، هل هو راجع الى الجملة الأخيرة وبذلك تكون الجملتان

٥٥١

الاوليان على اطلاقهما ولزوم امتثالهما حتى في ظرف التوبة. أو انّ الاستثناء راجع الى جميع الجمل ، وعليه يلزم تخصيصها جميعا بعدم التوبة. أو انّ تخصيص الجملة الأخيرة هو القدر المتيقّن إلاّ انّ الجملتين الاوليين لا ظهور لهما في الإطلاق كما لا ظهور لهما في التقييد ، وذلك لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة والذي هو الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة ، وبهذا تكون الجمل غير الجملة الأخيرة مجملة من حيث إرادة الاطلاق أو التقييد.

وتحرير البحث ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله يستدعي تصنيف مورد الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة الى ثلاثة أنحاء :

النحو الاول : أن يكون الموضوع في الجمل متّحدا مع تعدد المحمولات ، وهذا النحو له صورتان :

الصورة الاولى : ان يكون ذكر الموضوع متحدا ، بمعنى ذكره مرة واحدة في صدر الكلام كما في الآية الشريفة ، وكما لو قلنا « العلماء يجب اكرامهم واحترامهم واطاعتهم إلاّ الفسّاق منهم ».

وفي هذه الصورة يكون الاستثناء ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ راجعا الى تمام الجمل وبهذا يجب تقييدها جميعا بما يقتضيه الاستثناء ، وذلك لأنّها ترجع روحا الى جملة واحدة بحسب المتفاهم العرفي ، وتكرار المحمولات انّما هو لعدم جامع بينها ، وهذا ما أوجب ذكرها جميعا بنحو التعاقب.

الصورة الثانية : ان يتكرر ذكر الموضوع ، بمعنى ان يذكر الموضوع أكثر من مرة في الجمل المتعاقبة ، كما لو قال المتكلّم : « العلماء يجب اكرامهم واحترامهم والعلماء تجب طاعتهم إلاّ الفسّاق منهم ».

وفي هذه الصورة لا بدّ من البناء على اختصاص الاستثناء بالجملة التي اشتملت على ذكر الموضوع ووقع

٥٥٢

الاستثناء بعدها أو لو افترض تعدد المحمولات بعد ذكر الموضوع ثانيا فإنّ الاستثناء يكون مقيّدا أو مخصّصا لخصوص المحمولات بعد الموضوع المذكور ثانيا ، كما لو قال المتكلّم « العلماء يجب اكرامهم واحترامهم والعلماء تجب طاعتهم ومراعاة أقربائهم إلاّ الفساق منهم » فإنّ الاستثناء يكون من الجملة الاولى والثانية الواقعتين بعد ذكر العلماء ثانيا دون الجمل الاولى الواقعة قبل ذكر العلماء ثانيا ، وذلك لأنّ ذكر الموضوع ثانيا بعد ذكره في المرّة الاولى لا يكون له مبرّر بنظر العرف إلاّ أن يكون غرض المتكلّم بيان خصوصيّة مفقودة في المحمولات الاولى المذكورة عقيب ذكر الموضوع أولا ، وليس هنا من خصوصيّة سوى إرادة تقييد المحمولات المذكورة بعد ذكر الموضوع ثانيا بما يقتضيه الاستثناء.

النحو الثاني : ان تتعدّد الموضوعات ويتّحد المحمول ، ومثاله : ان يقول المتكلّم : « العلماء والزهاد والسادة يجب اكرامهم إلاّ الفساق منهم » ، وهنا يأتي التفصيل المذكور في النحو الاول بصورتيه.

النحو الثالث : ان تعدّد الموضوعات ويكون لكلّ واحد منها محمول مستقل ، ومثاله : ان يقول المتكلم « أكرم العلماء وعاشر الصلحاء وتصدق على الفقراء إلاّ الفساق منهم ».

وواضح هنا رجوع الاستثناء الى الجملة الاخيرة دون الجمل الاولى ، وذلك لأنّ كلّ جملة تعبّر عن كلام مستأنف ومستقل ، فتكون الجملة التي تعقبها الاستثناء هي التي يراد تقييدها بما يقتضيه الاستثناء ، ولا مبرّر لتقييد الجمل الاولى بعد ان كانت جملا مستقلّة ، وتوهم سريان الاستثناء لها كان بسبب اتّصال الكلام وهو غير موجب لذلك ، وكان على

٥٥٣

المتكلّم لو كان مريدا لتقييدها هي أيضا أن يأتي بما يناسب إرادة التقييد.

إذ انّ تعقب الاستثناء لجملة مستقلة لا يناسب إرادة التقييد للجمل التي سبقتها ، ومع الشك في إرادة الاطلاق أو العموم بسبب الاستثناء المتعقب للجملة الأخيرة يكون المرجع هو أصالة الإطلاق وأصالة العموم ، وهما من الاصول اللفظية العقلائية التي يلجأ اليها في ظرف الشك في المراد.

ودعوى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ليست تامة ، وذلك لأنّ المراد من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة أن تكون هناك قرينة يمكن للمتكلم ان يتكل عليها لبيان مراده وهذا يستوجب ان يكون للقرينة ظهور لا ان تكون مجملة في نفسها كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله.

ثم انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ ما ذكرناه في هذا البحث ليس مختصّا بالاستثناء المتعقب للجمل المتعددة بل يشمل مطلق المقيدات والمخصصات والقرائن المتعقبة للجمل المتعددة.

* * *

٢٣٩ ـ تعقّب العام بضمير يرجع الى بعض مدلوله

والبحث في المقام عما لو ورد حكم على موضوع عام ثم تعقب هذا العموم ضمير يرجع الى بعض أفراد العام ، فهل المرجع هو أصالة العموم أو انّ المرجع هو أصالة عدم الاستخدام؟

فلو التزمنا بأصالة العموم كانت النتيجة هي التمسّك بالعموم في غير الأفراد التي يعود إليها الضمير ، ولو التزمنا بأصالة عدم الاستخدام كانت النتيجة هي تخصيص تمام أفراد العموم بما يقتضيه الضمير ، إذ المراد من الاستخدام في المقام هو عود الضمير الى بعض أفراد العام دون البعض الآخر ، وهذا هو معنى ما ذكره علماء

٥٥٤

البديع من انّ الاستخدام عبارة عن عود الضمير الى أحد معنيي اللفظ ويكون المراد من اللفظ هو المعنى الآخر. فاللفظ العام له معنيان ، الاول هو دلالته على استيعاب تمام الأفراد ، وهذا هو المدلول المطابقي والثاني هو دلالته على بعض أفراد العام ، وهذا هو المدلول التضمني.

فلفظ العام يدل على استيعاب أفراد العام والضمير يرجع الى بعض أفراد العام ، وهذا هو أحد مصاديق الاستخدام ، فلو بنينا على أصالة عدم الاستخدام كان اللازم هو البناء على عود الضمير الى تمام الأفراد كما هو الحال في دلالة لفظ العموم على تمام الأفراد ، أما لو بنينا على أصالة العموم فإنّه لا بدّ من الالتزام بالاستخدام وانّ العموم منحفظ في غير الأفراد التي يرجع اليها الضمير.

ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ) (٨) ، فالضمير في قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) يرجع الى خصوص المطلّقات الرجعيّات والحال انّ صدر الآية الشريفة يدلّ على العموم الشامل للرجعيات والبائنات.

وهنا يقع البحث في انّ المرجع هل هو أصالة العموم ، وهذا ما يستوجب ترتب الأحكام المذكورة غير الحكم الأخير على عموم المطلقات ويكون حقّ الرجوع وهو الحكم الأخير مختصا بالرجعيات وتكون النتيجة حينئذ هي الالتزام بالاستخدام في الضمير.

أو انّ المرجع هو أصالة عدم الاستخدام ، وعليه يلتزم بتخصيص تمام الأحكام بخصوص المطلّقات الرجعيات دون البائنات ، وتكون

٥٥٥

النتيجة حينئذ هي استظهار عدم إرادة العموم في تمام الأحكام ، وان اللاتي يتربّصن ثلاثة قروء واللاتي لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن هو خصوص الرجعيات كما هو الحال في الحكم باستحقاق الزوج للرجوع في العدّة.

أو انّ الصحيح هو عدم امكان الرجوع الى أصالة العموم وعدم امكان الرجوع الى أصالة عدم الاستخدام؟

ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى القول الثالث ، وذلك لأنّ الرجوع الى أصالة العموم متعذر بسبب احتفاف العام بما يصلح للقرينيّة على التخصيص وهو الضمير ، إذ يحتمل قرينيّته على إرادة خصوص الرجعيّات من المطلقات في تمام الاحكام المذكورة في الآية الكريمة.

وأمّا عدم امكان الرجوع الى أصالة عدم الاستخدام فلأنّه أصل لفظي عقلائي يتمسّك به العقلاء في ظرف الشك في المراد من اللفظ ، فهم يتمسّكون بأصالة عدم الاستخدام لإثبات انّ الضمير راجع الى عموم المطلّقات في المثال ، وأمّا إذا كان المراد معلوما والشك انّما هو في كيفيّة إرادته فإنّ العقلاء لا يتمسكون بالأصل اللفظي لإثبات كيفيّة الإرادة.

وبتعبير آخر : انّه لا ريب في إرادة خصوص الرجعيّات من الضمير وانّما الإشكال في كيفيّة ذلك وانّ ذلك تمّ بواسطة الاستخدام أو لا؟ فحينئذ لا يمكن التمسّك بأصالة عدم الاستخدام باعتباره أصلا لفظيا لا يلجأ اليه إلاّ في حالة الشك فيما هو المراد ، والمراد من الضمير محرز ، غايته انّ كيفيّة الإرادة هي الواقعة موقع الشك.

وذهب السيد الخوئي رحمه‌الله الى تقديم أصالة عدم الاستخدام في موارد الدوران بينها وبين أصالة العموم ، وذلك لأنّ هذا الدوران يؤول الى الشك فيما هو المراد من الضمير ، وهل

٥٥٦

اريد به بعض أفراد العام أو تمام أفراد العام ، وحينئذ يكون الظهور السياقي مقتضيا لعود الضمير الى تمام أفراد العموم ، وهذا هو معنى عدم الاستخدام ، وقرينة ذلك هو الظهور السياقي ، فوحدة السياق مستوجبة لكون المراد من مرجع الضمير هو عين المعنى المراد من اللفظ الواقع موقع المرجع للضمير.

وهذا هو المستأنس من المتفاهم العرفي ، إذ انّ وحدة السياق تقتضي بحسب الفهم العرفي تقديم ما يظهر من مدلولها حتى على المعنى الحقيقي. ومن هنا لا بدّ من صرف ظهور اللفظ عن العموم والبناء على انّ المراد جدّا من لفظ العموم هو الخاص وانّ تمام الاحكام المحمولة على لفظ العام مختصة ببعض أفراده التي يقتضيها الضمير.

* * *

٢٤٠ ـ نظرية التعهّد

وهي احدى النظريات المتصدّية لتفسير العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى والموجبة لتصور المعنى عند اطلاق اللفظ ، حيث وقع الخلاف بين الأعلام عما هو حقيقة الوضع ونشأ عن ذلك مجموعة من النظريات ، ونظريّة التعهّد هي احدى هذه النظريّات ، وقد تبنّاها السيّد الخوئي رحمه‌الله وأصرّ على انّها التفسير الوحيد لحقيقة الوضع وما هو واقع العلاقة بين اللفظ والمعنى.

وحاصل المراد من هذه النظريّة هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن التباني النفساني من كلّ متكلّم بأن يأت بلفظ مخصوص عند ما يقصد تفهيم معنى معين ، فالوضع إذن ـ بناء على هذه النظريّة ـ هو التعهّد والالتزام والتباني النفساني على الإتيان بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى معين ، وهذا

٥٥٧

التعهّد والتباني هو الذي نشأت عنه العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى.

وبناء على هذه النظريّة تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة دائما ، إذ انّ صدور اللفظ من غير اللافظ العاقل الشاعر القاصد لتفهيم المعنى المخصوص لا يكون فعلا اختياريا لمن صدر عنه اللفظ والحال انّ الدلالة بناء على هذه النظريّة منوطة بالتعهّد والالتزام وهو لا يكون إلاّ اختياريا ، والاختيار متقوّم بالقصد كما هو واضح.

فالدلالة الوضعيّة إذن لا تكون إلاّ في حالة قصد المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا هو معنى الدلالة التصديقيّة ، وأمّا ما يتبادر من اللفظ عند صدوره من غير الشاعر فهو ناشئ عن انس السامع باللفظ والمعنى وهو ما يعبّر عنه بتداعي المعاني.

ثمّ انّه يترتّب على هذه النظريّة افتراض كلّ متكلّم واضع ، إذ انّ الالتزام والتعهد لو كان من واضع واحد لما كان الوضع بمعنى التعهّد ، إذ انّ التعهّد يستبطن معنى الاختيار ولا يكون التزام الواضع اختياريا لغيره إلاّ أن نفترض قبول سائر المتكلمين بتعهد الواضع الاول ، وهذا معناه انّ كلّ متكلّم عند ما يتلقى تعهد الواضع الاول بالقبول يكون قد تعهّد والتزم بمثل ما تعهّد به الواضع الاول ، وهذا يرجع الى ما ذكرناه أولا من انّ كلّ متكلم واضع ، أي ملتزم ومتعهّد بأن لا يأت باللفظ المخصوص إلاّ عند قصد تفهيم معنى معين ، ولا فرق بين أن يكون المتكلّم قد ابتكر اللفظ الذي يريد الالتزام بإبرازه عند قصد تفهيم المعنى وبين ان يقبل بتعهد متكلم آخر فيلتزم بما التزم به المتكلّم الآخر ، إذ في كلا الحالتين يكون فيهما كلّ متكلّم واضع.

وبهذا يرتفع الاستيحاش عن دعوى انّ كلّ متكلّم واضع ، إذ انّ ذلك لا يعني أن يكون لكلّ متكلّم ألفاظ مخصوصة تعهد بأن يبرزها عند إرادة

٥٥٨

معان معينة بل بمعنى انّ كلّ متكلّم ملتزم بأن يأت باللفظ المخصوص عند إرادة تفهيم المعنى وإن كان هذا الالتزام ملتزم به عند الآخرين أيضا ، وبهذا يتّضح السرّ في ثبات الدلالات الوضعيّة رغم تعاقب الأجيال ، إذ انّ كلّ جيل يتعهّد بعين ما تعهد به الجيل السابق وهكذا.

ثمّ انّ التعهد الذي يلتزم به كلّ متكلّم يكون بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى على نهج القضيّة الحقيقيّة ، بمعنى انّه يلاحظ طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ويلتزم بأنّه كلما أراد هذا المعنى فإنّه يبرزه بهذا اللفظ ، وعليه يكون المتكلّم في مقام الاستعمال ـ أي مقام تطبيق التزامه ـ يوجد فردا من طبيعي اللفظ لغرض تفهيم المعنى ، وهكذا يبرز فردا آخر من طبيعي اللفظ في استعمال آخر.

ومن هنا يندفع اشكال الدور الذي قد يدعى وروده بناء على نظرية التعهد ، بأن يقال : انّ الالتزام بإبراز اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى يتوقف على العلم بالوضع أي بوضع هذا اللفظ للمعنى ، فلو كان الوضع هو نفس الالتزام والتعهّد للزم من ذلك الدور ، بمعى انّ الالتزام بالإتيان بشخص هذا اللفظ عند إرادة تفهيم هذا المعنى متوقف على العلم بوضع هذا اللفظ لهذا المعنى ولما كان الوضع بمعنى التعهّد والالتزام فهذا معناه ان التعهّد والالتزام متوقف على التعهّد والالتزام ، وهذا هو الدور المحال.

ويتّضح الجواب ممّا ذكرناه ، إذ انّ الالتزام والتعهّد في مرحلة الوضع غير الالتزام والتعهّد في مرحلة الاستعمال ، فالالتزام في مرحلة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز طبيعي لفظ مخصوص عند إرادة طبيعي المعنى ، وأمّا التعهّد في مرحلة الاستعمال فهو بمعنى استعمال فرد من طبيعي اللفظ في المعنى ، والذي يتوقّف على العلم بالوضع هو الثاني

٥٥٩

دون الأول.

وبهذا العرض الإجمالي اتّضح المراد من نظريّة التعهّد وانّ حقيقة الوضع عبارة عن التزام كلّ متكلّم بإبراز لفظ مخصوص عند إرادة تفهيم معنى معين.

* * *

٢٤١ ـ التفويض

وهو مذهب المعتزلة ، وحاصل المراد منه انّ صدور الأفعال الاختياريّة للإنسان معلولة ـ بنحو الاستقلال التام ـ للإنسان نفسه دون أن يكون لله جلّ وعلا أيّ دخل ، فهي مخلوقة للإنسان أولا وبالذات.

ومنشأ التعبير عن هذه النظريّة بالتفويض هي ما ذكروه من الله جلّ وعلا حين خلق العباد ففوضهم فيما يصدر عنهم من أفعال ، فكلّ ما يصدر عنهم فهو بمحض إرادتهم وسلطنتهم دون أن يكون وراء هذه السلطنة سلطنة اخرى ، فكلّ ما يفعلونه من خير أو شرّ فهو مخلوق لهم وناشئ عن محض إرادتهم.

وهذه النظريّة قد توسّلوا بها لنفي ما يلزم من مذهب الأشاعرة من نسبة الأفعال القبيحة الصادرة عن العباد لله جلّ وعلا والذي يستوجب نسبة الظلم اليه تعالى ونفي صفة العدالة عنه ، وهم وان كانوا قد تفصوا عن هذه المشكلة إلاّ انّهم وقعوا فيما هو أشكل منها وهو نفي السلطنة المطلقة عن الله جلّ وعلا واثبات الشريك لله عزّ وجل ، وهو أحد أنحاء الشرك الأفعالي ، حيث انّ العباد يشتركون معه في الخلق والايجاد ، فدعواهم تشبه دعوى المجوس القائلين بوجود الهين أحدهما للخير والآخر للشر وانّ الاول يصدر عنه كلما هو خير ويصدر عن الآخر كلّما هو شر ، ولهذا عبّرت الروايات عنهم بمجوس هذه الامة. وقد تعرضنا بشيء من التفصيل عن هذه النظريّة في بحث « الأمر بين

٥٦٠