المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

اجتماعها على موضوع واحد ، إذ انّ الاعتبار ـ كما قيل ـ سهل المئونة.

* * *

٢٢٢ ـ التعادل والترجيح

يبحث الأصوليّون تحت هذا العنوان مسألة التعارض بين الأدلّة. والمقصود من التعادل هو تكافؤ الدليلين المتعارضين في المزايا كأن يكون كلّ منهما صحيح السند واضح المعنى غير مخالف لكتاب الله عزّ وجلّ.

وأمّا الترجيح فالمقصود منه هو اشتمال أحد الدليلين المتعارضين على مزيّة يفتقدها الآخر كأن يكون واجدا للمرجّح السندي أو الدلالي أو الجهتي أو غير ذلك وقد بحثنا كلّ ذلك في محلّه.

هذا وقد أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله أنّ الأولى تبديل العنوان بالتعارض بين الأدلّة ، وذلك لأنّ التعادل والترجيح من الحالات والأوصاف التي تلحق الدليلين المتعارضين ، فالمناسب هو عنونة البحث بعنوان يكون مقسما وجامعا للحالات التي تلحق الأدلّة المتعارضة.

* * *

٢٢٣ ـ تعارض الأحوال

والبحث في المقام عن تعارض الأحوال في اللفظ ، والمراد من أحوال اللفظ هو ما يتّصف به اللفظ ـ باعتبارات مختلفة ـ من حقيقة ومجاز والنقل والاشتراك والتخصيص والتقييد والاستخدام وغيرها.

فقد يكون حال اللفظ محرزا ، كما لو كنا نحرز استعماله فيما وضع له ، أي بنحو الحقيقة ، أو نحرز استعماله في المعنى المنقول. وهنا لا إشكال في لزوم ترتيب الأثر على ما هو محرز ، انّما الكلام فيما لو دار أمر اللفظ بين حالين أو أكثر ولم يكن في البين قرينة على تعيّن أحدها.

كما لو دار الأمر بين النقل

٥٢١

والاشتراك أو بين العموم والاستخدام أو بين المجاز والاشتراك ، فما هو المرجع حينئذ؟

وقد أطال العلماء في بيان ما هو المرجع عند تعارض أحوال اللفظ ، إلاّ انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ـ وتبعه جمع من الأعلام ـ أفاد بأنّ الوجوه المذكورة في ذلك لا تعدو عن كونها استحسانات ظنيّة لا يصح اللجوء إليها ، وانّ الصحيح هو اعتماد ما تقتضيه الظهورات العرفيّة في كلّ حالة من حالات الدوران ، إذ هي التي جرت عليها السيرة العقلائية في مقام الاحتجاج والتفهيم.

* * *

٢٢٤ ـ تعارض الاستصحاب مع الأمارة

ذكرنا في بحث التعارض بين الاصلين والأصل والأمارة انّ مآل التعارض في الموردين الى التعارض بين دليلي حجيتهما ، فالتعارض بين الاستصحاب والأمارة يرجع روحا الى التعارض بين دليل حجيّة الاستصحاب ودليل حجيّة الأمارة.

ولم يستشكل أحد من الاصوليين في تقدم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب إلاّ انّهم اختلفوا فيما هو المبرّر لهذا التقديم ، فذهب البعض الى انّ المبرّر هو انّ العلاقة بين دليل الأصل ودليل الأمارة هو علاقة العام والخاص فدليل الأمارة مخصّص ولهذا فهو يتقدّم على عموم دليل الأصول ، وذهب البعض الى انّ العلاقة بينهما هي علاقة الوارد والمورود ، والوارد هو دليل الامارة. وذهب آخرون الى انّ العلاقة بينهما هي علاقة الحاكم والمحكوم ، ودليل الأمارة هو الحاكم.

وبيان ذلك :

أما تقدم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب بالتخصيص فدليله انّ دليل الاستصحاب وان كانت علاقته

٥٢٢

مع دليل الأمارة هي علاقة العموم من وجه ، باعتبار انّ دليل الأمارة قد يجري مورد لا يجري فيه دليل الاستصحاب ، وهكذا دليل الاستصحاب قد يجري في مورد لا يجري فيه دليل الأمارة ، وقد يتحدان في مورد واحد ، إلاّ انّه حينما يلاحظ دليل الأمارة مع دليل الاصول العمليّة ـ والتي منها الاستصحاب ـ تكون النتيجة هي عدم وجود مورد تجري فيه الأمارة إلاّ وهو مجرى لأحد الاصول العمليّة ، فلو كان البناء هو تقديم الاصول العمليّة لما بقي مورد تجري فيه الأمارة ، وعندها تكون الأمارة ملغية ، وهذا بخلاف العكس ، فلو كان البناء هو تقديم الأمارة على الاصول فإنّ الاصول تبقى لها موارد كثيرة تجري فيها. وهذا ما يعبّر عن انّ العلاقة بين دليل الأمارة ودليل الاصول هي علاقة العام والخاص. ومن هنا يلتزم بتقدمها في كلّ مورد تجري فيه.

والمبرّر لملاحظة دليل الأمارة مع دليل تمام الاصول العمليّة دون الاستصحاب وحده هو انّ العلاقة بين دليل الأمارة ودليل كلّ أصل هي علاقة العموم من وجه ، ومن هنا لا بدّ من ملاحظة دليل الأمارة مع دليل تمام الاصول ، وعندها تنقلب النسبة من العموم من وجه الى العموم والخصوص المطلق.

وأمّا دعوى تقدم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب بالورود فقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله لذلك ثلاثة تقريبات نقتصر على بيان أحدها :

وهو انّ المراد من قوله عليه‌السلام « ولكن انقضه بيقين آخر » (٧) هو الأمر بالنقض عند قيام الحجّة ، فاليقين ليس إلاّ أحد مصاديق الحجّة ، فليس له موضوعيّة بحيث لا ينقض اليقين السابق إلاّ باليقين والذي هو القطع والكاشف التام ، نعم اليقين أجلى

٥٢٣

مصاديق الحجّة ، باعتبار ان حجيّته ذاتيّة إلاّ انّه ليس المصداق الوحيد الصالح لنقض اليقين السابق ، وعليه تكون الأمارة المعتبرة أيضا ناقضة لليقين السابق ، وهذا معناه انّها كاليقين من حيث إلغاء موضوع الاستصحاب حقيقة ، وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين السابق وعدم قيام الحجّة على انتقاضه ، ومع قيام الأمارة الحجّة ينتفي موضوع الاستصحاب.

وبتعبير آخر : انّ موضوع الاستصحاب هو اليقين السابق مع عدم قيام الحجة على انتفاضة ، فإذا قامت الأمارة ـ والتي هي حجة حقيقة بالتعبّد ـ انتفى موضوع الاستصحاب ، وهذا هو معنى الورود.

وأمّا دعوى تقدم دليل الأمارة على الاستصحاب بالحكومة فلأنّ دليل الأمارة انّما يتصرّف في موضوع الاستصحاب فيضيّق من دائرته تعبدا ، فدليل الاستصحاب مفاده جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء الحالة السابقة المتيقّنة أمّا دليل الأمارة فيتصرّف في موضوع الاستصحاب ويقول انّه في مورد قيام الأمارة لا شك في البقاء ، فلا صلة لدليل الامارة بالحكم المجعول في مورد الشك.

وبتعبير آخر : انّ دليل الأمارة يلغي موضوع الاستصحاب تعبّدا ويقتضي ان لا شك في مورد قيام الأمارة ، وبه يكون الاستصحاب غير جار لانتفاء موضوعه تعبّدا ، فهو مثل قوله عليه‌السلام « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّ هذا التعبير لا يتصرّف في الحكم بحرمة الربا ، وانّما يتصرّف في موضوع الحكم وهو الربا ، فيضيّق من دائرته ويخرج منها الربا بين الوالد والولد ويعتبره ليس من الربا ، ومن هنا ينتفي الحكم بالحرمة لانتفاء موضوعه تعبدا.

* * *

٥٢٤

٢٢٥ ـ تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول

لا خلاف في تقدم الاستصحاب على سائر الاصول سواء منها العقليّة ـ وهي البراء العقلية والاحتياط العقلي والتخيير العقلي ـ أو الشرعيّة مثل البراء الشرعيّة والاحتياط الشرعي ، وانّما الكلام فيما هو المبرّر للتقديم ، وهل هو الحكومة أو الورود أو التخصيص. والوجوه التي ذكرناها في بحث « تعارض الاستصحاب مع الامارة » يمكن تصويرها في المقام ، فتأمّل.

وقد تبنى السيد الخوئي رحمه‌الله في المقام التفصيل بين تعارض الاستصحاب مع الاصول العقليّة وتعارضه مع الاصول الشرعيّة ، فذهب الى انّ الاول يكون معه تقدم الاستصحاب بالورود وأما الثاني فالتقدّم يكون بالحكومة.

أما تصوير ورود دليل الاستصحاب على سائر الاصول العقليّة فتقريبه أنّ موضوع البراءة العقليّة مثلا هو عدم البيان ، ودليل الحجيّة للاستصحاب بيان حقيقة ولكن ثبت بواسطة التعبّد الشرعي ، فلا موضوع للبراءة في مورد جريان الاستصحاب.

وأما تصوير حكومة الاستصحاب على سائر الاصول الشرعيّة فهو بنفس التصوير الذي ذكرناه في دعوى حكومة الأمارة على الاستصحاب ، غايته انّ دليل الاستصحاب في المقام حاكم وهناك محكوم.

* * *

٢٢٦ ـ تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد

والكلام عما هو المراد من قاعدة اليد سيأتي ايضاحه تحت عنوان « قاعدة اليد » ، والبحث في المقام متمحّض عمّا لو تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد ، بأن كان مقتضى

٥٢٥

الاستصحاب هو عدم ملكيّة هذا المال لذي اليد ، وكان مقتضى القاعدة هو ملكيّته لما في يده.

وهنا لم يستشكل أحد في تقدم قاعدة اليد على الاستصحاب ، أما بناء على كون الاستصحاب أصلا عمليا وان قاعدة اليد أمارة فواضح ، إذ لا ريب في تقدم الأمارة على الاصول العمليّة إمّا بالتخصيص أو الورود أو الحكومة. وأما لو بنينا على أمارية الاستصحاب أو على انّ قاعدة اليد أصل عملي كالاستصحاب فهنا أيضا يلزم تقديم قاعدة اليد على الاستصحاب ، وذلك لأنّه لو كان البناء على تقديم الاستصحاب لاستوجب ذلك حمل أدلّة القاعدة على الفرد النادر ، إذ انّ غالب الموارد التي تجري فيها قاعدة اليد هي مجرى لاصالة الاستصحاب ، فقاعدة اليد تقتضي ملكيّة ذي اليد لما في يده ، وواضح انّ ملكيّة الشخص لشيء غالبا ما يكون بواسطة الانتقال عن ملكيّة شخص آخر ، وهذا ما يعني امكان جريان استصحاب عدم الملكيّة في حالات الشك كما هو مورد القاعدة ، إذ انّها تجري في حالات الشك في الملكيّة. بل لو قلنا باستصحاب العدم الأزلي الثابت قبل تكوّن المملوك فإنّه لا يبقى مورد ـ حتى المباحات الأوّلية ـ إلاّ ويجري فيها الاستصحاب في عرض قاعدة اليد.

ومن هنا تتقدم قاعدة اليد على الاستصحاب في موارد جريانهما وإلاّ كانت قاعدة اليد لاغية أو كانت محمولة على الفرد النادر. على انّ الملاك الذي نصت عليه بعض الروايات من جعل القاعدة وهو قوله عليه‌السلام « لولاه لما قام للمسلمين سوق » يكون منتفيا لو كان البناء هو تقديم الاستصحاب ـ في موارد جريانه ـ على قاعدة اليد ، وذلك لغالبية اتحاد مورديهما.

٥٢٦

٢٢٧ ـ تعارض الاستصحابين

التعارض بين الاستصحابين له صورتان :

الصورة الاولى : ان يفترض التعارض في مورد يكون فيه أحد الاستصحابين أصلا سببيّا والآخر أصلا مسببيّا ، ويكون كلّ واحد منهما مقتضيا لغير ما يقتضيه الآخر.

ومثاله : ما لو شك المكلّف في طهارة ماء كان على يقين من طهارته ، واتّفق ان اغتسل عن الجنابة بهذا الماء ، فإنّ مقتضى استصحاب الطهارة هو ارتفاع حدث الجنابة ، ومقتضى استصحاب الجنابة هو البقاء على حدث الجنابة. ومن هنا يتنافى الاستصحابان ويحصل الجزم بعدم واقعية أحدهما.

والمعروف في مثل هذه الصورة هو تقديم الاستصحاب الجاري في الموضوع ـ المعبّر عنه بالاستصحاب السببي ـ على الاستصحاب الجاري في رتبة الحكم والمعبّر عنه بالاستصحاب المسبّبي ، وقد بينّا المراد من ذلك ومنشأ التقديم تحت عنوان « الاستصحاب السببي والمسبّبي ».

الصورة الثانية : أن يكون التعارض بينهما بنحو التنافي العرضي والذي يكون منشأ التنافي في مورده هو العلم الإجمالي الخارجي بعدم واقعية أحدهما وإلاّ لو قطع النظر عن العلم الإجمالي الخارجي لما كان بينهما أيّ تناف.

ومثاله : ما لو علمنا اجمالا بسقوط نجاسة في أحد مائعين ، واتّفق ان كان المائعان معلومي الطهارة قبل ذلك ، فهذا معناه انّ كلّ واحد من المائعين مجرى لاصالة الاستصحاب إلاّ انّ إجراءهما معا يصطدم بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

وقد صنّف هذا النحو من التعارض الى قسمين :

٥٢٧

القسم الاول : أن يكون إجراء الاستصحاب في الطرفين مؤديا للعلم بالمخالفة العمليّة للواقع ، أي مؤديا للوقوع في المعصية.

ومثاله : ما لو كان المكلّف يعلم بعدم وجوب الإنفاق على زوجتيه لنشوزهما ، ثم علم اجمالا برجوع احداهما للطاعة. فهنا لو أجرينا استصحاب عدم وجوب الإنفاق على الزوجة الاولى وكذلك الثانية لكان ذلك مقتضيا للمخالفة القطعية العمليّة.

وفي هذه الصورة ذهب جمع من الاصوليين الى سقوط الاستصحابين عن الحجيّة ، وذلك لأن نسبتهما لدليل حجيّة الاستصحاب واحدة ، فجعل الحجيّة لأحدهما دون الآخر بلا مرجّح ، وجعلها لهما معا يستلزم الترخيص في المعصية ، فلا يبقى سوى التخيير أو التساقط ، والأول مفتقر الى دليل مفقود فيتعيّن الثاني ، وهو سقوطهما معا عن الحجيّة.

القسم الثاني : أن لا يكون إجراء الاستصحاب في الطرفين مؤدّيا للعلم بالمخالفة العمليّة للواقع ، أي لا يكون مؤديا للوقوع في المعصية ، غايته ان إجراء الاستصحاب في الطرفين موجبا للعلم بالمخالفة الالتزامية للواقع.

ومثاله : ما لو علم المكلّف باشتغال ذمته بقضاء صلاتين هي صلاة الظهر وصلاة المغرب ثم علم اجمالا بقضاء احداهما ، فهنا لو أجرى استصحاب اشتغال الذمّة بصلاة الظهر واستصحاب اشتغال الذمّة بصلاة المغرب لما لزم من ذلك العلم بمخالفة الواقع عملا.

وهنا اختلف الاعلام ، فذهب الشيخ الأنصاري رحمه‌الله والمحقّق النائيني رحمه‌الله الى عدم جريان كلا الاستصحابين بل يسقطان بالمعارضة ويكون المرجع هو منجزيّة العلم

٥٢٨

الإجمالي ، وذهب الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله الى جريان الاستصحاب في كلا الطرفين ، ونتيجة المبنيين واحدة من حيث تنجّز كلا الصلاتين على المكلّف ، غايته انّ الاول بمقتضى العلم الإجمالي ، والثاني بالاستصحاب ، إلاّ انّه تترتب ثمرة على الخلاف في بعض الموارد ، وهو الحكم بنجاسة الملاقي لبعض اطراف العلم الاجمالي بناء على جريان الاستصحاب في الطرفين ، وأما على المبنى الاول فلا يلزم منه الحكم بنجاسة الملاقي لبعض أطراف العلم الإجمالي.

وبيان ذلك : انّه لو كان المكلّف يعلم بنجاسة مائعين ثم علم بطهارة أحدهما اجمالا ، فإنّه بناء على مذهب الشيخ الانصاري رحمه‌الله وكذلك بناء على مذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله يلزم التجنّب عن كلا المائعين ، غايته انّ المنشأ للزوم الاجتناب بناء على مذهب الشيخ رحمه‌الله هو تنجّز العلم الإجمالي بعد سقوط كلا الاستصحابين عن الحجيّة ، وأما بناء على ما ذهب اليه صاحب الكفاية رحمه‌الله فالمنشأ هو جريان كلا الاستصحابين المنجّزين ، فنتيجة المبنيين واحدة من جهة لزوم الاجتناب عن كلا المائعين إلاّ انّ الثمرة تظهر لو لاقى شيء أحد المائعين ، فإنّه بناء على مذهب الشيخ رحمه‌الله لا يكون ذلك الشيء الذي لاقى أحد الطرفين متنجسا ، وأمّا بناء على جريان الاستصحاب في الطرفين فإنّ الملاقي يكون محكوما بالتنجّس ، وذلك لأنّ الملاقي للطرف ملاق للمتنجّس تعبّدا بالاستصحاب. فإنّ الملاقي يكون محكوما بالتنجّس ، وذلك لأن الملاقي للطرف ملاق للمتنجّس تعبدا بالاستصحاب.

وكيف كان فقد استدلّ صاحب الكفاية رحمه‌الله على جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي بدعوى انّ موضوع الاستصحاب متحقّق في

٥٢٩

كل طرف فيكون مشمولا لدليل الحجيّة هذا مع افتراض عدم المانع من جريانه ، إذ المانع المتصوّر في إجراء الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي هو لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة وهو غير متحقّق في هذا الفرض كما هو واضح.

وأمّا الشيخ الأنصاري رحمه‌الله فقد استدلّ على عدم الجريان في تمام الأطراف بدعوى اجمال دليل الحجية للاستصحاب ، وذلك لأنّ قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يقتضي جريان الاستصحاب في كل طرف لتوفره على موضوع الاستصحاب ، إذ انّه كان متيقنا ثم وقع الشك في بقائه إلاّ انّه مع ملاحظة ذيل الرواية « ولكن تنقضه بيقين آخر » يحصل الإجمال ، وذلك لأن مقتضى اطلاق اليقين الآخر الشمول لليقين الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة.

وبتعبير آخر انّ ملاحظة مجموع الصدر والذيل يوجب اجمال المراد من الرواية من هذه الجهة ، وذلك لأن مقتضى الصدر جريان الاستصحاب في كلّ طرف لأنّه متوفر على شرط الجريان وهو اليقين السابق والشك اللاحق ، وهذا منحفظ في كل طرف. وملاحظة الذيل تقتضي عدم جريان الاستصحاب في تمام الاطراف ، وذلك لانتقاض الحالة السابقة بالعلم الإجمالي ، فيحصل التنافي بين الصدر والذيل ، وهذا ما يوجب الإجمال في الرواية.

وأجاب عنه السيد الخوئي رحمه‌الله انّ اليقين الآخر الموجب لانتقاض اليقين السابق انّما هو اليقين التفصيلي ، وذلك لظهور الرواية في وحدة متعلق اليقينين ، ولمّا كان متعلق اليقين الاول هو النجاسة التفصيليّة ـ مثلا ـ لهذا الطرف ولذاك الطرف فلا بدّ وان يكون اليقين متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين السابق ، بأن يحصل العلم تفصيلا

٥٣٠

بطهارة الإناء الاول ـ مثلا ـ فينتقض اليقين الاول في مورده ، على انّه لو سلّم الإجمال في أحد أدلّة الاستصحاب لا يكون ذلك موجبا لسريان الإجمال للأدلة الاخرى.

والنتيجة ـ بنظر السيد الخوئي رحمه‌الله انّه لا مانع من جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي إذا لم يكن ذلك مستوجبا للمخالفة القطعية العمليّة.

* * *

٢٢٨ ـ تعارض الإطلاق البدلي والإطلاق الشمولي

والبحث في المقام عما لو اتفق ورود دليلين أحدهما مطلق بالاطلاق الشمولي والآخر مطلق بالإطلاق البدلي ووقع التنافي بينهما في مادة الاجتماع ، فهل يكون هذا المورد من صغريات التعارض المستقر أو انّه من موارد التعارض البدوي والذي يمكن معه الجمع العرفي.

ومثال ذلك هو ما لو ورد دليل بهذا اللسان « لا تكرم الفاسق » ، وورد دليل آخر بهذا اللسان « أكرم عالما » ، فإنّ مقتضى الاطلاق الاول هو حرمة اكرام كلّ فرد من أفراد الفاسق ، ومقتضى الإطلاق الثاني هو وجوب اكرام أي فرد من أفراد العلماء حتى لو كان فاسقا ، فالتنافي يقع في مادة الاجتماع وهو العالم الفاسق ، فإنّ مقتضى الدليل الاول هو حرمة اكرامه ، ومقتضى الدليل الثاني هو صحة تطبيق امتثال الأمر بالطبيعة عليه ، فلو أكرم العالم المتّصف بالفسق لكان قد امتثل الأمر باكرام عالم.

فالإطلاق في الدليل الاول شمولي بمعنى ان الحكم فيه بالحرمة ينحل الى حرمات بعدد أفراد طبيعة الفاسق ، والإطلاق في الدليل الثاني بدلي ، بمعنى انّ الأمر متعلّق بصرف الطبيعة ، والمكلّف في سعة من جهة تطبيق

٥٣١

الطبيعة على أيّ فرد من أفرادها ، فالحكم واحد في مورد الاطلاق البدلي ومتعلّق بصرف طبيعة العالم.

وباتّضاح ذلك نقول : انّ المعروف بينهم انّ هذا المورد من صغريات التعارض البدوي والذي يمكن معه الجمع العرفي ، وانّ مقتضى الجمع العرفي هو تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي. ومن هنا يكون المقدم في المثال ـ في مادة الاجتماع ـ هو حرمة إكرام الفاسق العالم ، وبه لا يكون إكرامه امتثالا للأمر بالطبيعة في الدليل الثاني.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله الى عدم وجود ما يبرّر التقديم بعد ان كان الإطلاق في كلا الدليلين مستفادا من مقدمات الحكمة.

وقد ذكر المحقق النائيني رحمه‌الله لصالح الدعوى الاولى ثلاثة وجوه نبيّن واحدا منها :

انّ تقديم الإطلاق البدلي معناه نفي الحكم المفاد بواسطة الاطلاق الشمولي عن الفرد الواقع في مادة الاجتماع بخلاف العكس ، فإنّ القول بتقديم الشمولي لا يلزم منه ذلك ، وغاية ما يلزم هو تضييق دائرة الخيار للمكلّف ، بحيث لو لا الإطلاق الشمولي لكانت دائرة التخيير للمكلّف أوسع ، إذ يمكنه تطبيق امتثال الأمر بالطبيعة على الفرد الواقع في مادة الاجتماع.

وبيان ذلك : انّ الإطلاق الشمولي ـ كما ذكرنا ـ يقتضي انحلال الحكم الى أحكام بعدد أفراد الطبيعة ، فكلّ واحد من هذه الأحكام له طاعة ومعصية مستقلّة فلا يكون امتثال واحد منها مجزيا عن امتثال الآخر ، فلا بدّ من امتثال الآخر وما بعده وهكذا.

وأما الإطلاق البدلي فليس كذلك بل هو حكم واحد متعلقه صرف

٥٣٢

الوجود للطبيعة ، غايته انّ المكلّف في سعة من جهة اختيار أيّ فرد من أفراد الطبيعة لجعله موردا لامتثال الأمر بالطبيعة ، وحينئذ لا يكون المنع عن تطبيق امتثال الأمر على فرد من أفراد الطبيعة موجبا لرفع اليد عن الحكم ، وهذا بخلاف المنع عن فرد من أفراد الطبيعة في الإطلاق الشمولي فإنّه يعني رفع اليد عن الحكم الوارد على ذلك الفرد ، وذلك لما ذكرناه من انّ لكلّ فرد حكم مستقل عن الأحكام الاخرى الثابتة لسائر أفراد الطبيعة ، فلو قدمنا الاطلاق البدلي للزم من ذلك رفع اليد عن حكم بلا مبرّر لذلك بعد امكان التحفّظ عليه والتحفّظ على الحكم الوارد في الإطلاق البدلي.

* * *

٢٢٩ ـ تعارض الإطلاقين من وجه

وهو من الموارد التي وقع البحث عن انها من صغريات التعارض المستقر أو من صغريات التعارض البدوي والذي يمكن معه الجمع العرفي.

ومثاله : ما لو ورد دليل لسانه « أكرم العلماء » ، وورد دليل آخر لسانه « لا تكرم الفساق » ، فإنّه لو تمّ الإطلاق في الدليلين فإنّه يحصل التنافي في مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق ، فإنّ مقتضى الإطلاق الاول هو وجوب اكرامه ومقتضى الإطلاق الثاني هو حرمة اكرامه الاّ انّ المعروف هو عدم تمامية الإطلاق في كلا الدليلين ، وذلك لأن الإطلاق ليس مستفادا من الوضع ـ كما هو مبنى البعض ـ بل هو مستفاد من قرينة الحكمة والتي لا تتصل بنفس اللفظ ، فالحكم انما هو مجعول على الطبيعة المهملة ، والاطلاق ـ وكذلك التقييد ـ انّما يعرضها بواسطة دال آخر ، فتقييد الطبيعة مستفاد من ذكر القيد ، وأما الإطلاق فيستفاد بواسطة مقدمات الحكمة والتي منها عدم نصب قرينة

٥٣٣

على عدم إرادة الاطلاق او عدم وجود ما يصلح للقرينية.

والمقام من موارد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على عدم إرادة الإطلاق ، وذلك لأنّ إرادة الاطلاق في الدليل الاول منافية لإرادة الإطلاق في الدليل الثاني ، فالتعبّد بكلا الإطلاقين تعبّد بالمتناقضين ، والتعبّد باطلاق أحدهما دون الآخر بلا مرجح ، فيتعين عدم انعقاد الإطلاق في كلا الدليلين.

فالاطلاق انّما هو مستفاد من حكم العقل وهو قرينة الحكمة ، والعقل لا يمكن ان يحكم بالاطلاق في كلا الدليلين أو في أحدهما المعيّن ، فلا موجب لانعقاد الاطلاق فيتعيّن الاهمال في كلا الدليلين من جهة مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق ، فلا محيص من الرجوع الى الاصول العمليّة لو لم يكن ثمة عمومات أو اطلاقات لبيان حكم العالم الفاسق.

وما ذكرناه مختصّ بالاطلاقين المتسانخين كأن يكون كلّ منهما اطلاقا شموليا أو بدليا ، أما لو كان أحدهما شموليا والآخر بدليا فقد أفردنا لهذا الفرض عنوانا مستقلا.

* * *

٢٣٠ ـ التعارض العرضي

وهو في مقابل التعارض الذاتي الناشئ عن استحالة اشتمال متعلّق واحد على حكمين متغايرين ، ومن هنا كان دليل كلّ واحد من الحكمين مقتضيا لنفي مدلول الدليل الآخر ، بمعنى انّ وحدة المتعلّق لمدلولي الدليلين هي التي نشأ عنها نفي مدلول الدليل الاول لمدلول الدليل الثاني وإلاّ لو كان المتعلّق متعددا لما كان لمدلول الدليل الاول صلاحية النفي لمدلول الدليل الآخر وهكذا العكس ، فلو كان متعلّق الحرمة هو شرب الخمر ومتعلّق الوجوب هو الصلاة فإن

٥٣٤

الاول لا يقتضي نفي الثاني ولا العكس.

والمتحصل انّ التعارض الذاتي هو ما يكون فيه مؤدى كلّ واحد من الدليلين نافيا لمؤدى الدليل الآخر بنفسه. أي انّ ملاحظة كلا الدليلين بنفسهما تكون مفضية للجزم بعدم واقعية مؤدى أحدهما.

وأما التعارض العرضي فهو التنافي بين مدلولي الدليلين الناشئ عن العلم الإجمالي الخارجي بعدم واقعية أحدهما وإلاّ فلا تنافي بينهما لو قطع النظر عن العلم الإجمالي الخارجي ، وذلك لافتراض انّ متعلّق كل واحد من مدلولي الدليلين يختلف عن متعلّق الآخر.

ومثاله : ما لو كان مدلول الدليل الاول هو وجوب شيء وكان مدلول الدليل الآخر هو حرمة شيء آخر فإنّه لا منافاة بين مدلولي الدليلين أصلا ، إلاّ انّه لو اتّفق ان علمنا بعدم واقعية أحدهما غير المعين فإنه يحصل التعارض ، وذلك لأن هذا العلم الإجمالي المستفاد من خارج الدليلين أوجب ان ينفي كل واحد من مدلولي الدليلين مدلول الدليل الآخر بعد ان يثبت مدلول نفسه ، فالمدلول الاول يثبت الوجوب لمتعلقه وينفي الحرمة عن متعلق المدلول الآخر وكذلك العكس ، ومن هنا نشأ التنافي والتكاذب بين الدليلين.

* * *

٢٣١ ـ التعارض بين الأدلّة

المراد من التعارض هو التنافي بين مؤدى دليلين بنحو يعلم بعدم واقعيّة أحدهما ، وهذا التنافي قد يكون بنحو التناقض كما لو كان مفاد أحد الدليلين الإيجاب وكان مفاد الآخر عدم الإيجاب ، وقد يكون بنحو التضاد كما لو كان مفاد أحدهما الإيجاب ومفاد الآخر الحرمة.

ومنشأ التنافي هو انّ الاحكام متضادة فيما بينها ، وذلك لنشوئها عن

٥٣٥

ملاكات في متعلقاتها ، وحينئذ لا يتعقل ان يكون لفعل واحد من جهة واحدة حكمان متغايران ، إذ انّ ذلك معناه اشتمال الفعل على ملاكين يقتضي كل واحد منهما غير ما يقتضيه الآخر.

ومن هنا يتّضح انّ التعارض لا يختص بما لو كان مؤدى الدليلين حكمين إلزاميين متغايرين ، إذ انّ معنى وجوب الفعل انّه مشتمل على مصلحة تامة موجبة لايجابه ، ومعنى كراهة أو استحباب نفس الفعل انّه مشتمل على مفسدة مانعة عن ايجابه أو مشتمل على مصلحة ليست بالغة حدا تستوجب جعل الوجوب عليه.

كما اتّضح أيضا انّ كلّ حكم فهو يتحمل مدلولين ، الاول مطابقي والآخر التزامي ، فالوجوب مثلا مدلوله المطابقي هو الإلزام وجعل العهدة على المكلّف تجاه متعلقه وأما مدلوله الالتزامي فهو نفي تمام الاحكام الأخرى عن متعلقه. وواضح انّه لو لا انّ الاحكام ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها لما كان لكل حكم مدلول التزامي ، إذ لا مانع حينئذ من ان يكون للفعل الواحد حكمان أو أكثر.

ويترتب على ما ذكرناه ان التعارض دائما يؤول الى التناقض ، فلو كان مفاد الدليل الاول هو الوجوب وكان مؤدى الدليل الثاني هو حرمة نفس الفعل الذي أثبت الدليل الاول وجوبه ، فهذا معناه التناقض بين مؤدى الدليلين ، إذ انّ الدليل الاول في الوقت الذي يكشف عن الوجوب لمتعلقه ينفي الحرمة عنه كما ينفي سائر الأحكام ، والدليل الثاني يثبت بواسطة مدلوله المطابقي الحرمة لمتعلقه وينفي بمدلوله الالتزامي سائر الاحكام بما فيها الوجوب ، فالمدلول المطابقي لكلا الدليلين وان كانا متضادين إلاّ انّ مدلول أحدهما المطابقي يناقض مدلول الآخر الالتزامي.

وحتى يتبلور مركز التعارض بين

٥٣٦

الأدلّة نقول : انّ التنافي المبحوث عنه في المقام انّما هو التنافي في مرحلة الجعل ، أي مرحلة انشاء الاحكام وجعلها على موضوعاتها المقدرة الوجود ، وذلك لما ذكرناه من انّ الاحكام ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها ، وهذا معناه ان كلّ حكم يراد جعله على موضوع لا بدّ وان يتناسب مع نحو الملاك ومرتبته ، ومن هنا ينشأ التنافي بين الأحكام ، إذ ملاكاتها لها تقرّر ووجود في نفس الأمر والواقع ، ومن المستحيل ان يكون المتعلّق واجدا للمصلحة التامّة والمفسدة التامة ، واذا كان كذلك فالمتعلّق له حكم واحد متعيّن واقعا ويستحيل ان يثبت له حكم آخر غير الحكم المسبّب عن الملاك المتقرّر له في نفس الأمر والواقع.

هذا بحسب مقام الثبوت ، وأما مقام الإثبات والذي هو الأدلة الإثباتية الحاكية عما عليه الواقع فلا بدّ وان تعبّر عما عليه مقام الثبوت وهو انّ المتعلّق الواحد لا يكون له أكثر من حكم واحد يتناسب مع ملاكه ، فلو كانت الأدلّة الإثباتية والتي تتصدّى للكشف عن الجعل مقتضية لثبوت حكمين متغايرين لمتعلّق واحد فإنّه يحصل الجزم بعدم واقعيّة أحدهما ، إلاّ انّه لمّا لم نكن مطلعين على الحكم المتعيّن ثبوته يحصل التردد في أيّ الحكمين هو المطابق للواقع.

فالتعارض إذن بين الأدلة المثبتة لحكمين متغايرين لمتعلّق واحد انّما هو باعتبار تصديها للكشف عن الاحكام الإنشائية المعبّر عنها بالجعل ، وباعتبار انّ الاحكام الإنشائية متقرّرة في نفس الأمر ويستحيل ان يثبت أكثر من حكم إنشائي لمتعلق واحد لأجل ذلك يحصل التنافي بين الأدلّة الإثباتيّة إذا كان مؤدى أحدها يقتضي حكما منافيا لما يقتضيه مؤدى الدليل الآخر رغم اتحاد المتعلّق.

٥٣٧

٢٣٢ ـ التعارض بين الأصلين وبين الأصل والامارة

والتعارض بين الأصلين هو ما لو اتّفق ان كانت البراءة ـ مثلا ـ المقتضية للإباحة جارية في مورد ، وكان الاستصحاب المقتضي للحرمة جاريا في نفس المورد.

وفي الواقع انّ هذا النحو من التعارض ليس تعارضا بين الأصلين وانّما هو تعارض بين دليلي حجيتهما ، إذ انّ التعارض بين الأصلين غير معقول ، وذلك لأنّ دور الأصل هو بيان ما هو الوظيفة المقرّرة على المكلّف ، وليس وراء الأصل منكشف يكشف عنه ، فالبراءة لا تقتضي أكثر من التأمين والتعذير والاستصحاب لا يقتضي في المثال أكثر من التنجيز ، واذا كان كذلك فليس لأيّ واحد نفي الآخر ، والذي هو قوام التعارض.

وهذا بخلاف دليلي حجيتهما فإنّهما يكشفان عن واقع وراءهما ، وهو انّ الشارع جعل الحجيّة للبراءة مثلا في هذا المورد دون غيرها من الاصول ، وجعل الحجيّة للاستصحاب في هذا المورد دون غيره من الاصول ، وعليه لا بدّ من ملاحظة دليلي الحجيّة لهما للتعرّف على المتقدم منهما من المتأخر ، وبأيّ نحو يكون ذلك التقدم أو للتعرّف مثلا على سقوطهما عن الحجيّة.

وأما التعارض بين الأمارة وبين الأصل العملي كما لو كان مفاد الأمارة هو الحلية ومقتضى الأصل وهو الاستصحاب مثلا هو التنجيز ، فالتعارض هنا أيضا يؤول الى التعارض بين دليلي حجيتهما ، وذلك لأنّ الاستصحاب ليس له محكي يحكي عنه حتى يكون صالحا لنفي مفاد الأمارة.

ومن هنا لا يكون بين مقتضى الأصل ومفاد الأمارة تعارض ، نعم

٥٣٨

دليل الأصل والقاضي بجريان الاستصحاب وبالتالي التنجّز ينافي دليل حجيّة الامارة المقتضية للحليّة ، وذلك لأنّ دليل الحجيّة للاصل يثبت الاستصحاب المقتضي للتنجّز ، وإثباته للحجيّة له معناه نفي الحجيّة عن الأمارة المقتضية للحليّة ، وكذلك دليل الحجيّة للأمارة فإنّه في الوقت الذي يثبت الحجيّة لما تقتضيه الأمارة ينفيها عن الأصل المقتضي للتنجّز.

والمتحصل انّ التعارض لا يتصوّر إلاّ بين الأدلّة المحرزة المعبّر عنها بالأدلّة الاجتهاديّة ، وأمّا التعارض بين الاصول أو بين الاصول والأمارات فإنّه يؤول روحا الى التعارض بين الأدلّة المحرزة.

* * *

٢٣٣ ـ التعارض بين الإطلاق والعموم

من الواضح انّ أحكام التعارض انّما تجري في ظرف استحكامه ، أما مع امكان الجمع العرفي بالتخصيص أو الحكومة أو الورود أو غير ذلك فإنّ أحكام التعارض من الرجوع الى المرجّحات أو التخيير أو التساقط لا تجري.

إلاّ انّه وقع البحث صغرويا في بعض الموارد ، وهل انها من حالات التعارض المستحكم أو انّها من التعارض البدوي والذي يمكن معه الجمع العرفي. ومن هذه الموارد ما لو وقع التعارض بين عام ومطلق.

كما لو ورد عام مفاده يجب اكرام كلّ العلماء ، وورد مطلق مفاده يحرم اكرام الفساق ، فإنّ مقتضى العموم هو وجوب اكرام العلماء الفساق ، ومقتضى الاطلاق هو حرمة اكرام العلماء الفساق ، فالتنافي بينهما في مادة الاجتماع.

والكلام هنا عن انّه هل يمكن الجمع العرفي بين الدليلين بحيث ترتفع

٥٣٩

المنافاة بينهما أو انّ التعارض بينهما مستحكم ، وعليه يكون المرجع هو أحكام باب التعارض.

والمعروف بين العلماء انّ حالة من هذا القبيل تكون موردا للتعارض البدوي الذي يكون علاجه بواسطة الجمع العرفي. وقد وجّهت هذه الدعوى بما حاصله :

انّ العموم لمّا كانت دلالته على الاستيعاب والشمول وضعية فظهوره في ذلك يكون تنجيزيا ، بمعنى انّه غير منوط بشيء آخر غير ما يقتضيه الوضع اللغوي لألفاظ العموم. وأما الاطلاق فظهوره في الاستيعاب والشمول منوط بتمامية مقدمات الحكمة ، والتي منها عدم وجود قرينة صارفة للكلام عن الاطلاق ، فظهوره إذن في الإطلاق تعليقي أي معلّق على مقدمات الحكمة ، وحينئذ يكون المقدم في المقام هو العموم ، إذ انّه قرينة على عدم إرادة الإطلاق جدا أو لا أقل ان العموم صالح للقرينيّة على عدم إرادة الإطلاق ، فتكون النتيجة هي وجوب اكرام العلماء حتى الفساق ، ويكون مفاد الدليل الآخر « المطلق » هو حرمة اكرام الفساق من غير العلماء.

إلاّ انّ الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله لم يقبل بهذه الدعوى وذهب الى استحكام المعارضة في مادة الاجتماع ، وقرّب ذلك بأنّ الاطلاق وان كان انعقاده معلّقا على تماميّة مقدمات الحكمة والتي منها عدم وجود ما يصلح للقرينية إلاّ انّ ذلك ليس للأبد وإلاّ لم ينعقد اطلاق أصلا ، وذلك لاحتمال وجود قرينة لم يتم العثور عليها. والمتحصل انّ الظهور في الاطلاق ينعقد بمجرّد انتهاء المتكلم من كلامه مع عدم نصب قرينة على عدم إرادة الإطلاق جدا وعدم وجود قرينة لبيّة محتفة بالكلام بحيث تصلح لأن يتكل عليها المتكلم في مقام البيان.

٥٤٠