المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

عزّ وجلّ ، إلاّ انّ هذا الظهور يزول بمجرّد الالتفات الى انّ القرآن الكريم لم يتصد لبيان كثير من تفاصيل الأحكام الشرعيّة وأوكل ذلك للسنّة الشريفة ، فلو كان المراد من الموافقة هو المطابقة لكانت فائدة هذا المرجح محدودة جدا ، وهذا ما ينافي التأكيد عليه كثيرا في روايات العلاج ، ومن هنا لا يستبعد ان يكون المراد من الموافقة هو عدم المنافاة لكتاب الله جلّ وعلا ، وذلك في مقابل الخبر المنافي لكتاب الله عزّ وجل ، وحينئذ يلاحظ الخبران فإن كان أحدهما مخالفا للكتاب والآخر غير مناف له فإنّ الترجيح يكون للخبر الغير المنافي للكتاب.

ولو لم يقبل هذا الاستظهار فإنّ الموافقة لا تعني التطابق التام بين مفاد الكتاب العزيز ومفاد أحد الخبرين بل يكفي دخوله تحت عمومات أو اطلاقات الكتاب المجيد ، وحينئذ يلاحظ الخبران فلو كان مؤدى أحدهما مشمولا لعمومات أو اطلاقات الكتاب وكان مؤدى الآخر منافيا أو غير موافق ـ ولو بهذا النحو من الموافقة ـ فإنّ الترجيح يكون للاوّل.

وأمّا المخالفة لكتاب الله عزّ وجلّ فإنّ من المقطوع به عدم إرادة المباينة لمفاد الكتاب المجيد ، وذلك لأنّه لو كان المراد منه ذلك لكان من تمييز الحجّة عن اللاحجة ، إذ لا ريب في انّ الخبر المخالف بنحو المباينة للكتاب المجيد يكون ساقطا عن الحجيّة حتى مع عدم وجود المعارض ، وذلك للروايات المتواترة القاضية بسقوط المخالف لكتاب الله عزّ وجل ـ بهذا النحو من المخالفة ـ عن الحجيّة في نفسه وبقطع النظر عن التعارض ، في حين انّ البحث انّما هو عن الروايات المتعارضة والتي تكون متكافئة من حيث واجديتها للحجيّة في نفسها لو لا التعارض.

٥٠١

وحينئذ يتعين أن يكون المراد من المخالفة هو المخالفة التي لا تنافي الجمع العرفي بين مفاد الكتاب المجيد وبين الرواية ، بحيث لو لا التعارض لكان على المجتهد ان يجمع بين مفاد الكتاب والرواية جمعا عرفيا ويعمل بمفادهما معا بعد الجمع العرفي إلاّ انّه وبسبب التعارض يسقط الخبر المنافي للكتاب ـ بهذا النحو من التنافي ـ عن الحجيّة وتكون الحجيّة حينئذ للخبر الآخر الغير المنافي للكتاب ولو بهذا النحو من التنافي.

مثلا : لو كان الخبر مخصّصا أو مقيّدا للعمومات أو اطلاقات الكتاب المجيد أو كان حاكما أو واردا أو مشتملا على قرينة صارفة لظهور الكتاب عن ظهوره الأولي فإنّ ذلك لا يوجب سقوط الرواية عن الحجيّة بل انّها حينئذ تصلح للتصرف في الظهور الأولي لمفاد الكتاب المجيد ، إلاّ انّه لو كانت هذه الرواية معارضة برواية اخرى ليست منافية للكتاب ولو بهذا النحو من التنافي أو كانت موافقة للكتاب المجيد فإنّ ذلك يستوجب ـ بمقتضى روايات العلاج ـ سقوط الرواية الاولى عن الحجيّة ، والسقوط هنا لم ينشأ إلاّ بسبب التعارض وإلاّ فالرواية الاولى واجدة للحجيّة في نفسها ، غايته انّ الرواية الثانية مترجحة عليها ويلزم العمل بها دون الاولى بسبب وقوع الاولى طرفا في المعارضة.

وهنا أمر نبّه عليه السيد الصدر رحمه‌الله وهو انّ معتبرة الراوندي جعلت المرجّح هو مجموع الموافقة والمخالفة ، وحينئذ لو كنا نفهم من الموافقة هي التطابق ولو بنحو الدخول تحت اطلاق أو عموم الآية فهذا معناه ان يكون أحد الخبرين مطابقا والآخر منافيا وإلاّ لم يصح ترجيح أحدهما على الآخر ، إذ انّ هذا هو مقتضى كون المرجح هو مجموع

٥٠٢

الأمرين ، إلاّ انّه مع الالتفات الى قلّة الأحكام التي تصدّى القرآن الكريم لبيانها يستظهر من الرواية كفاية اشتمال أحد الخبرين على ما ينافي اطلاقات أو عمومات الكتاب المجيد لترجيح الخبر الآخر حتى وان لم يكن موافقا بالنحو المذكور للموافقة كأن كان مفاده ممّا سكت القرآن الكريم عن بيانه.

* * *

٢١١ ـ التزاحم

هو التنافي بين الأحكام التكليفية الإلزاميّة في مقام الامتثال على ان يكون منشأ التنافي هو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بينهما في مقام الامتثال.

ومثاله ما لو اتفق ان عجز المكلّف عن الجمع بين وجوب النفقة على الزوجة ووجوب النفقة على الأب فإنّه يحصل التنافي في مقام الامتثال بين الوجوبين ، أي انّ امتثال أحد الوجوبين يفضي الى العجز عن امتثال الوجوب الآخر.

ومن هنا يتضح الفرق بين التزاحم والتعارض ، إذ انّ التعارض معناه التنافي بين مؤدى الدليلين في مرحلة الجعل ، بمعنى انّ كل مدلول ينفي واقعية مدلول الدليل الآخر بعد ان يثبته لنفسه ، ومن هنا تكون مرجحات باب التعارض موجبة لطرح الدليل المرجوح ، وهذا بخلاف التزاحم فإنّه لا تنافي بين مؤدى الدليلين في مورده بل يمكن الجزم بصدورهما ومطابقة مضمونهما للواقع ، غايته انّ المكلف عاجز عن امتثالهما معا. وهذا ما أوجب دعوى انّ امتثال أحدهما مقتض لسقوط فعلية الآخر ، لافتراض عدم قدرته بعد امتثال الاول على امتثال الثاني ، فيكون سقوط التكليف الثاني بسبب انتفاء موضوعه وهو القدرة ، وهذا لا يتصل بأصل جعله وصدوره لبيان الحكم

٥٠٣

الواقعي بل لأن الأحكام مجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود ، فحينما لا يكون الموضوع متحققا خارجا لا يكون الحكم المجعول فعليا.

فالتزاحم إذن يوجب انتفاء فعلية أحد الحكمين بسبب اقتضائه لانتفاء موضوعه ، وهذا بخلاف التعارض فإنّ الحكم في كل دليل ينفي ـ في مورد التعارض ـ الحكم في الدليل الآخر حتى لو اتفق تحقق موضوعه خارجا وحتى لو كان المكلّف قادرا على الجمع بين مؤدى الدليلين المتعارضين ، كما في بعض حالات التعارض العرضي فإنّ بإمكان المكلف ان يصلّي الجمعة والظهر ، وأما في فرض التزاحم فإنّ هذه الحالة لا تتفق أصلا.

ثم انّ هنا منبه آخر على الفرق بين التزاحم والتعارض ، فالتزاحم يختلف باختلاف المكلفين ، فقد يتفق ان يكون المكلّف قادرا على الجمع بين التكليفين فلا تكون أحكام التزاحم جارية في حقّه بخلاف مكلف آخر كانت قدرته أضيق من ان تجمع بين تكليفين ، فالمكلّف الاول مثلا قادر على ان يجمع بين امتثال وجوب النفقة على الزوجة ووجوب النفقة على الأب وأما الآخر فإنّه لا يقدر على الجمع بين الوجوبين ، كما قد تنعكس الحالة فيصبح القادر عاجزا والعاجز قادرا ، وهذا يعني انّ حالة التزاحم قد لا تظلّ مطردة في المكلّف الواحد فقد تعرضه ثم تزول عنه ثم تعرضه وهكذا ، فتكون أحكام التزاحم جارية في حقه متى ما طرأت حالة التزاحم عليه ومتى ما زالت يكون مسئولا عن الجمع بين التكليفين.

وأما التعارض فليس كذلك ، إذ انّ ترجح أحد الدليلين لا يختلف باختلاف المكلفين ، فلو كان المرجح مقتضيا لتقديم الدليل الاول على الآخر فإنّ ذلك يكون مطردا في تمام الأزمنة ولتمام المكلفين.

٥٠٤

وبهذا اتضح انّ الفرق بين التزاحم والتعارض بيّن جدا ، ومن هنا لا يقع الشك في مورد من جهة انّه من باب التعارض أو التزاحم ، ولهذا لا تكون هناك حاجة لتأسيس أصل يكون مرجعا في حالات الشك كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ونقل انّ المحقّق النائيني رحمه‌الله كان يقول : بأنّ القول ان الأصل في موارد الشك هو التعارض أو التزاحم أشبه شيء بان يقال : انّ الاصل في الاشياء الطهارة أو صحة بيع الفضولي.

وهنا أمر يجدر التنبيه عليه ، وهو انّ خروج التزاحم عن التعارض يرتكز على كبريين لا بدّ من التسليم بهما في مرحلة سابقة وإلاّ فمع عدم التسليم بهما أو باحداهما يكون التزاحم داخلا في التعارض.

الاولى : هي إمكان الترتب بين الاحكام المتزاحمة ، بأن تقول انّ المكلّف لو عصى التكليف الاول الاهم ـ مثلا ـ فإنّ التكليف المهم يصبح فعليا في حقه ، وهذا هو الترتب المقتضي لترتب الفعلية للتكليف الآخر عند عدم امتثال التكليف الاول.

فلو بنينا على عدم امكان الترتب لافضى ذلك الى التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والذي هو التعارض ، وذلك لأنّه لمّا كان كل حكم مشروط بالقدرة على امتثاله ، فهذا معناه تحقق القدرة على التكليفين في ظرف عدم امتثالهما فيكون التكليفان فعليين في ظرف عدم الامتثال ، وهو مستحيل ، لأنه من غير المعقول ان يكونا مشروطين بالقدرة ومع ذلك يكونان فعليين في ظرف عدم امتثال الاهم ، إذ انّه لو بادر لامتثال الاهم فإنّه يكون عاجزا عن امتثال الآخر ، ومن هنا لا بدّ من الالتزام بأن التكليف المهم ينفي اطلاق الأهم لحالات عدم امتثاله وانّ التكليف الأهم ينفي تشريع المهم وجعله حتى في ظرف القدرة على

٥٠٥

امتثاله والتي هي حالة عدم امتثال الأهم ، وهذا هو التعارض.

وأما لو قلنا بامكان الترتب فإنّ عدم امتثال الأهم ينقّح موضوع المهم وهو القدرة على امتثاله ، وعندها يكون وجوبه فعليا ، ومع امتثال الأهم يكون المنفي هو فعليّة المهمّ لانتفاء موضوعه لا انّه منتف عن موضوعه.

الثانية : انّ كلّ حكم فهو مقيّد بالقدرة على امتثاله ، وبتعبير آخر : انّ كلّ حكم فهو غير مطلق من جهة لزوم امتثاله حتى مع الاشتغال بواجب آخر أهم منه ، وعليه يكون كلّ تكليف مشروط بعدم امتثال ضدّه الأكثر أهميّة منه ، وحين الالتزام بذلك لا يكون التكليف نافيا لجعل التكليف المهمّ وانّا هو ناف لموضوعه عند الاشتغال بالتكليف الأهم ، فغاية ما يصنعه الاشتغال بالتكليف الأهم هو نفي الفعليّة عن التكليف المهمّ.

أمّا لو لم نلتزم بهذه الكبرى وقلنا انّ كلّ تكليف فهو مطلق ، أي سواء اشتغلت بالتكليف الأهم أو لم تشتغل فهذا معناه انّ اطلاق الأمر بالتكليف الاول ينفي اطلاق الأمر بالتكليف الثاني وهكذا العكس ، وهذا هو التعارض.

وبتعبير آخر : انّ مقتضى اطلاق الأمر بالتكليف الاول هو انه لا شيء من التكاليف المضادة يضاهيه في الأهمية وانّه يلزم امتثاله على كل تقدير حتى لو استوجب ترك تكليف آخر وحتى لو اشتغلت بالتكليف الآخر الموجب للعجز عن التكليف الاول فالعجز لا يمنع عن بقاء الخطاب بالتكليف الاول. كما انّ مقتضى اطلاق الأمر بالتكليف الثاني كذلك ، وليس لهذا معنى سوى التنافي بين التكليفين في مقام الجعل وان كل واحد منهما ينفي جعل الآخر ، وبهذا اتّضح تقوم التزاحم بهاتين الكبريين.

* * *

٥٠٦

٢١٢ ـ تزاحم الملاكات

وهو التزاحم الواقع بين ملاكات ومقتضيات الأحكام ، وهذا يتصور على صورتين :

الصورة الاولى : هو ان يفترض اشتمال الفعل على ملاك مقتض لجعل الوجوب عليه إلاّ انّ هذا الملاك مزاحم بملاك آخر يقتضي تحريم هذا الفعل أو يقتضي اباحته بالإباحة بالمعنى الأعم التي تجامع اشتمال الفعل على مزية مقتضية لإيجابه ، غايته انّ هذه المزية مزاحمة بما يستوجب عدم مراعاتها ، كما لو زوحمت مصلحة الإيجاب بمصلحة التسهيل المقتضية للإباحة ، وكذلك قد يشتمل الفعل على مفسدة شديدة إلاّ انّها مزاحمة بمصلحة تستوجب عدم جعل الحرمة على الفعل وهكذا.

وهذا النحو من التزاحم لا ارتباط له بالمكلّف ، إذ انّ وظيفته هي امتثال الحكم المجعول على الفعل بقطع النظر عن ملاكه ، فحتى لو كان الحكم خاليا عن الملاك في متعلقه أو نفس جعله أو كان الملاك منافيا لمقتضى الحكم فإنّ المكلّف مسئول عن امتثاله وليس عليه البحث عن توفره على الملاك المناسب أو عدم توفره بعد إحراز صدور الحكم عن المولى وان جعله جدّيّ.

وملاحظة ملاكات الاحكام ومزاحماتها وما هي النتيجة المترتبة عن التزاحم انّما هي راجعة للمولى وهو المشرع للأحكام ، ومن هنا لا تكون أحكام التزاحم جارية في تزاحم الملاكات.

الصورة الثانية : ان يكون الفعل مشتملا على ملاك مقتض للإيجاب مثلا أو مقتض للحرمة إلاّ انّه مزاحم بملاك في فعل آخر بحيث تكون هذه المزاحمة مقتضية لملاحظة مجموع الفعلين وما يشتملان عليه من

٥٠٧

ملاكات للخلوص بنتيجة هي ترجيح أحد الملاكين مثلا أو الموازنة بينهما بحيث يترتب على ذلك جعل حكم لا يتناسب مع الملاك الاول لو قطع النظر عن الملاك الثاني وهكذا ، ومثاله : صلاة الفريضة في الوقت المشتملة على مصلحة مقتضية لايجابها واتفق تحقق موضوع صلاة الآيات والتي هي مشتملة أيضا على ملاك مقتض لايجابها إلاّ انّ المولى يعلم بضيق قدرة المكلف عن الجمع بينهما. فهنا يتزاحم الملاكان ، وعندها يلاحظ المولى مجموع الملاكين المتزاحمين ويناسب بينهما بالنحو الذي يتفق مع غرضه. وهذا النحو من التزاحم أيضا لا يتصل بالمكلّف.

ثم انّ هذا النحو من التزاحم مبني على القول بأن الاحكام ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها أو في نفس جعلها. ومن هنا يكون لصدور الحكم عن المولى مدلولين الاول مطابقي وهو نفس الحكم ، والثاني التزامي وهو اشتماله على الملاك التام المناسب له.

* * *

٢١٣ ـ التزاحم في المستحبات

والبحث في المقام عن امكان وقوع التزاحم في المستحبات ، فقد يقال بعدم امكانه كما هو مبنى السيد الخوئي رحمه‌الله بحسب نقل السيد الصدر رحمه‌الله وانه ذكر ذلك خارج بحثه. وقرّب ذلك بما حاصله :

انّ المكلّف لمّا كان في سعة من جهة ترك المستحبات حتى مع اتفاق عدم التزاحم فإنّ ذلك يقتضي عدم وجود مانع عن التحفظ على اطلاقها حتى في ظرف التزاحم ، إذ انّ المحذور من الإطلاق في الأحكام الإلزاميّة انّما هو التكليف بغير المقدور ، فلو كان الحكمان الإلزاميان مطلقين حتى في ظرف عدم القدرة ـ يعني انّه يلزم امتثالهما حتى في ظرف العجز ـ لكان

٥٠٨

معنى ذلك التكليف بغير المقدور ، وهو مستحيل ، ومن هنا ينشأ التزاحم ، إلاّ انّ هذا المحذور لا يأتي في المستحبات لو التزمنا باطلاق استحبابهما حتى في ظرف التزاحم وعدم القدرة على الجمع بين المستحبين ، وذلك لجواز ترك المستحب حتى مع عدم التزاحم ، فلا محذور يلزم من القول باستحبابهما في ظرف عدم القدرة على الجمع بينهما.

وبتعبير آخر : انّ التكليف بغير المقدور والذي هو قوام التزاحم لا يتصوّر في المستحبات بعد عدم الإلزام بامتثالهما مطلقا ، فلا معنى للقول بأن المستحب المهم ـ مثلا ـ يكون فعليا في حال عدم امتثال المستحب الأهم ، إذ انّ للمكلّف الإتيان بالمهم ابتداء كما له تركهما معا.

وأجاب السيد الصدر رحمه‌الله عما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله بأنّ كلامه لا يتم على اطلاقه ، فعدم جريان التزاحم في المستحبات أو جريانه يختلف باختلاف المباني. فبناء على القول بأنّ المناط في وقوع التزاحم هو محذور طلب الجمع بين الضدين ـ كما تبنى ذلك القائلون باستحالة الترتب ـ بناء على هذا المبنى لا يختلف الحال بين الاوامر الإلزامية والاوامر الاستحبابية ، فكما انّ ايجاب الصلاة مثلا وايجاب الإزالة بنحو مطلق يكون من طلب الجمع بين الضدين فكذلك الأمر استحبابا بالصوم يوم الخميس واجابة دعوة المؤمن على الطعام يوم الخميس يكون من طلب الجمع بين الضدين ، وهذا ما يستوجب ترتيب أحكام التزاحم حتى في الاوامر الاستحبابية.

وكذلك يثبت التزاحم في الاوامر الاستحبابية لو كان البناء هو انّ الاوامر مطلقا انما تكون لغرض البعث والتحريك نحو متعلّق الأمر الأعم من الوجوبي والاستحبابي ، فإنّ غرض البعث والتحريك لا يتعقل في ظرف

٥٠٩

الاشتغال بالضد المساوي أو الأهم ، من غير فرق بين البعث الإلزامي أو البعث الاستحبابي ، والتفاوت بينهما انّما هو من جهة شدة البعث وضعفه.

وبتعبير آخر : انّه من غير الممكن أن يبعث المولى المكلّف نحو فعل حال انبعاثه نحو امتثال أمر آخر مساو للمأمور به الثاني أو أهم منه الاّ ان يكون غرضه صرف المكلّف عن المأمور به الاول المساوي أو الأهم ، وهذا غير معقول إلاّ في حال التنازل عن الأمر الاول ، وهو خلف الفرض ، وعليه يكون التزاحم وأحكامه جارية حتى في الاوامر الاستحبابية.

نعم لو كان المبنى في الأوامر الاستحبابية هو انها لا تعبّر عن أكثر من محبوبية المولى لمتعلق هذه الاوامر لكان التزاحم غير جار في موردها ، وذلك لأنّ الاشتغال بأحد المحبوبين لا ينفي محبوبيّة متعلّق الاستحباب الآخر.

والمتحصل انّ جريان التزاحم واحكامه في الاوامر الاستحبابية يختلف باختلاف المباني.

* * *

٢١٤ ـ التزاحم في الواجبات الضمنيّة

والمراد من التزاحم بين الواجبات الضمنيّة هو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين امتثال جزءين مثلا من أجزاء مركب واجب ، كما لو دار الأمر عند المكلف بين الصلاة قائما مع الإيماء للركوع والسجود أو بين الصلاة عن جلوس مع الركوع والسجود الاختياريين. وقد يكون التزاحم بين جزء وشرط ، وقد يكون بين شرطين.

ومثال الاول : ما لو كان المكلّف قادرا إمّا على التحفظ على الاطمئنان دون القيام ـ بأن كان غير قادر على الاطمئنان إلاّ في حال الجلوس ـ أو التحفظ على القيام ولكن دون الاطمئنان.

ومثال الثاني : ما لو كان المكلّف

٥١٠

قادرا إمّا على طهارة اللباس أو طهارة البدن ، وليس قادرا على مراعاة كلا الشرطين ، وذلك كما لو كان الماء الذي بحوزته لا يكفي إلاّ لتطهير أحدهما.

وفي هذا النحو من التزاحم ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله الى انّ المرجع هي مرجّحات باب التزاحم ، وأمّا السيد الخوئي رحمه‌الله فنفى أن يكون التزاحم في الواجبات الضمنيّة من التزاحم المبحوث عنه ، وبنى على دخوله تحت التعارض ، وذلك لان الوجوب عند ما يتعلّق بالمركّب فإنّ الواجب هو تمام الأجزاء والشرائط ، فلو تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء والشرائط يكون تمام المركب غير مقدور ، إذ انّ عدم القدرة على بعض الأجزاء أو الشرائط معناه عدم القدرة على تمام المركب ، ولهذا يسقط المركّب من رأس ويكون ايجاب الناقص مفتقرا الى دليل ، فلا معنى حينئذ للتزاحم بين أجزاء المركب بعد ان كان الوجوب ساقطا بتعذّر امتثال تمام المركب.

نعم في خصوص الصلاة قام الدليل الخاص على انها لا تسقط بحال ، وعليه لو عجز المكلّف عن الجمع بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط يكون المرجع هو ملاحظة أدلة الأجزاء والشرائط ، وذلك للعلم بعدم وجوب أحدها في ظرف العجز عن الجمع ، إذ من غير المعقول أن يكون كلا الجزءين واجبين رغم عدم القدرة على امتثالهما معا ، وهذا ما يعبّر عن عدم واقعية أحد الوجوبين ، وحينئذ يحصل التنافي بين دليلي الجزءين ، إذ كلّ واحد يثبت الجزئية لمتعلقه وينفيها عن الآخر ، وهذا هو التعارض الموجب لملاحظة الأدلة والتوفيق بينها ان امكن الجمع العرفي أو الترجيح بأحد المرجحات إن كان وإلاّ كان المرجع هو ما تقتضيه القاعدة عند استحكام التعارض وعدم وجود المرجح من تساقط أو تخيير على الخلاف.

٥١١

٢١٥ ـ التسامح في أدلة السنن

والمراد من قاعدة التسامح في أدلة السنن هو ان ما يعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر من وثاقة الراوي أو احتفافه بما يوجب الوثوق بصدوره غير معتبر في الأخبار المتضمنة للمستحبات وكذلك المكروهات على قول.

فالمراد من التسامح هو التساهل وعدم متابعة السند للتعرّف على وثاقة الواقعين في سلسلته ، وكذلك التساهل في تحصيل القرائن الموجبة للوثوق بصدور الخبر.

والمراد من أدلة السنن هي الروايات الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام المتصدّية لبيان المستحبات والمكروهات.

ومدرك هذه القاعدة مجموعة من الروايات ، وفيها ما هو معتبر سندا ، كمعتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه » (٤).

وهذه الروايات يعبّر عنها بروايات « من بلغ » ، ومفادها كما اتضح من معتبرة هشام انّ كلّ من بلغه انّ الفعل الكذائي يترتب على الإتيان به الثواب ففعله فإنّ له ذلك الثواب وان كان ما بلغه لا يطابق الواقع.

وتقريب الاستدلال بروايات من بلغ على القاعدة هو انّ هذه الروايات تصحح العمل بكل رواية متضمنة لحكم استحبابي ، وهذا هو معنى جعل الحجية لاخبار السنن أيّا كان اسنادها ودرجة الوثوق بصدورها.

هذا وقد ذهب جمع من الأعلام الى عدم صلاحية أخبار من بلغ لاثبات حجية الخبر الضعيف المتصدي لبيان حكم استحبابي ، ولهذا تكون شرائط الحجيّة معتبرة حتى في موارد اثبات الأحكام الاستحبابية ، فلا يجوز للمجتهد ان يفتي باستحباب شيء إلاّ

٥١٢

ان يكون الخبر الدال على الاستحباب واجدا لشرائط الحجيّة. ولهذا تعارف عنهم القول بلزوم الاتيان ببعض الآداب والسنن برجاء المطلوبية ، إذ لم يثبت استحبابها بدليل معتبر.

* * *

٢١٦ ـ التشريع

المراد من التشريع ـ بحسب ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله ـ هو اسناد حكم الى الشارع بغير علم بقطع النظر عن علم المكلّف بعدم كون الحكم من الشارع أو انّه يظن بصدوره عن الشارع أو يشك في ذلك ، في تمام هذه الصور يكون اسناد الحكم الى الشارع من التشريع حتى لو اتفق واقعية هذا الحكم المنسوب للشارع ، فمناط التشريع هو النسبة للشارع بغير علم.

وفي مقابل ما ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله ذهب البعض الى انّ التشريع عبارة عن نسبة الحكم الى الشارع بغير علم مع اتفاق عدم مطابقة هذه النسبة للواقع ، وبناء على هذا التعريف يكون الإسناد بغير علم حين اتفاق مطابقته للواقع تجريا ، بخلافه بناء على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله فإنّ مجرّد الإسناد بغير علم يكون تشريعا محرما حتى مع اتفاق مطابقة النسبة للواقع.

وهناك تعريف ثالث للتشريع ، وهو عبارة عن البناء القلبي بأنّ حكما معينا صادر عن الشارع مع العلم بعدم صدوره أو الشك في صدوره ، وبناء على هذا التعريف يكون التشريع فعلا جوانحيا لا يناط تحريمه بترتيب أثر عملي عليه من قول أو فعل.

وكيف كان فقد استدلّ على حرمة التشريع ـ كما عن الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ بالأدلة الأربعة ، وبملاحظة هذه الأدلة يتّضح انّ المراد من التشريع هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله.

فقد استدلّ على حرمة التشريع

٥١٣

بقوله تعالى ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (٥) فإنّ عدم الإذن بالاسناد لا يختص بما لو اتفق عدم مطابقة الإسناد للواقع ، إذ انّ هنا صورتين افترضتهما الآية الشريفة الإذن والافتراء ، فكل ما لا يكون عن إذن فهو افتراء إمّا حقيقة كما لو اتفق عدم المطابقة وامّا حكما كما لو اتفقت المطابقة ، فمع مطابقة الإسناد للواقع لا يكون الإسناد بغير علم مأذونا به ، فهو إذن في حكم الافتراء ، وبذلك يثبت المطلوب ، وهو الحرمة حتى مع اتفاق مطابقة الإسناد بغير علم للواقع لعدم وجود حالة ثالثة لا يكون فيها الإسناد بغير علم مأذونا به ومع ذلك لا يكون افتراء.

واستدلّ أيضا بقوله عليه‌السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار » فرغم مطابقة قضائه للواقع إلاّ انّه مع ذلك يكون قد ارتكب محرما بمجرّد انّ قضاءه كان بغير علم.

كما استدلّ لذلك بما يدركه العقل من قبح إسناد العبد للمولى حكما بغير علم ، إذ انّ ذلك ظلم للمولى وخروج عن مقتضى العبودية.

ثم انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ذهب الى انّ الآيات المانعة عن التشريع ليس لها دلالة على الحرمة المولوية ، وانّما هي إرشاد الى ما يدركه العقل من قبح التشريع ، نظير قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) (٦). إلاّ انّ المحقق النائيني رحمه‌الله ذهب الى دلالتها على الحرمة المولوية ، وذلك لأنّ ضابطة الاوامر والنواهي الإرشادية هو ما كان متعلّقها حكما عقليا واقعا في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، أما لو كانت واقعة في سلسلة علل الاحكام الشرعية فإنّها حينئذ راجعة الى ما يدركه العقل من الحسن والقبح والذي ينشأ عن إدراك المصالح والمفاسد ، وهذا ما يقتضي كون الخطابات الشرعية في مواردها خطابات تأسيسيّة ، بمعنى ان

٥١٤

الاوامر والنواهي في موردها مولوية ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الأمر الإرشادي ».

ومع اتضاح ذلك يتضح انّ ما يدركه العقل من قبح التشريع لا يصيّر النواهي الواردة في الآيات إرشادية بل هي مولويّة ومقتضية للحرمة المولوية.

وبيان ذلك : انّ قبح التشريع حكم مدرك بالعقل ابتداء لاشتماله على المفسدة التامة ، وليس ناشئا عن حكم الشرع بشيء مثلا ثمّ يدرك العقل قبح مخالفته ، فيكون واقعا في سلسلة معلولات الحكم الشرعي ، كما هو الحال في إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية ، إذ انّ هذا المدرك منوط بصدور أمر عن الشارع ، وحينئذ يدرك العقل حسن الطاعة ، ولو لم يكن أمر لما أدرك العقل حسن الطاعة لعدم وجود موضوع للطاعة ، وهكذا الكلام في إدراك العقل لقبح المعصية فإنّه منوط بوجود نهي.

وأما المقام فليس من هذا القبيل ، فإنّ إدراك العقل لقبح التشريع ليس منوطا بوجود حكم شرعي في مرحلة متقدّمة على إدراك العقل بل انّ قبح التشريع مدرك عقلي بقطع النظر عن وجود حكم شرعي في مرحلة سابقة على المدرك العقلي بل انّ هذا المدرك يكون سببا وعلة في جعل حكم شرعي هو حرمة التشريع ، فقبح التشريع واقع في سلسلة علل الحكم الشرعي بحرمة التشريع.

* * *

٢١٧ ـ التشريع العملي

ما ذكرناه سابقا يعبّر عنه بالتشريع القولي ، وأما التشريع العملي فهو ان يمارس المكلّف فعلا بعنوان انّه من الدين مع عدم العلم بكونه من الدين ، كما لو كان المكلّف يجهل بجزئية السورة في الصلاة أو يعلم بعدم جزئيتها ومع ذلك يأتي بها بقصد الجزئيّة.

٥١٥

وهذا النحو من التشريع يتفق حكما مع التشريع القولي المعبّر عنه بالإسناد ، وذلك لما يدركه العقل من قبح التصرّف في سلطنة المولى جلّ وعلا ، إذ من الواضح انّ صيرورة الشيء من الدين من شئون المولى جلّ وعلا وليس لأحد إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إذ انّ في ذلك تجاوز عن حدود العبودية وتقمص لرداء الربوبية ، وليس من شيء أشنع من التجاسر على حق المولى جلّ وعلا.

* * *

٢١٨ ـ التصويب الأشعري

وهو التصويب الذي يبني عليه جمع من الاشاعرة ، وحاصله : انّه ليس لله عزّ وجل أحكام واقعية يصيبها المجتهد أو يخطئها بل انّ الاحكام تابعة لما تقتضيه الأدلة والأمارات ، فقيام الأمارة هو السبب في نشوء مصلحة في مؤداها ويترتب عن هذه المصلحة جعل الحكم الشرعي بنحو يتطابق مع مؤدى الأمارة ، ومن هنا يكون كلّ مجتهد مصيبا ، وذلك لأنّه عوّل فيما تبناه على ما أدت اليه الامارة والمفترض انّه ليس ثمة واقع وراء الامارة حتى نحتمل عدم مطابقتها له ، فالأحكام انّما تتخلّق عن الأمارة ، فالمجتهد الذي بنى رأيه على هذه الأمارة يكون رأيه هو الواقع ، والمجتهد الآخر الذي بنى رأيه على أمارة أخرى ـ متصلة بنفس موضوع الامارة الاولى ـ يكون ما بنى عليه هو الواقع وهكذا لو قامت أمارة ثالثة مباينة في مؤداها للأمارتين ، فيمكن ان يكون للواقعة الواحدة حكمان أو ثلاثة أو أكثر ، وتكون تمام هذه الأحكام مصيبة للواقع ، لأن الواقع انّما يتخلّق عن قيام الامارة.

وهذا الرأي مناف للنصوص الشرعيّة الكثيرة الدالة على انّ لله عزّ وجل أحكام واقعية ، وانّ له في كل

٥١٦

واقعة حكم ، وانّ التعرّف عليها يتمّ بواسطة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا بسؤاله وأمّا ان يبدأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين فيبيّن لهم الأحكام فهو الذي يعلّمهم الكتاب والحكمة ، كما انّ هناك أحكام ناسخة واخرى منسوخة وهو ما يعبّر ان لله أحكام في نفس الأمر والواقع بقطع النظر عن قيام الأمارة كما هو واضح بأدنى تأمّل.

* * *

٢١٩ ـ التصويب المعتزلي

وهو التصويب الذي تعتمده المعتزلة ، وحاصله : التسليم بأن لله جلّ وعلا أحكاما في نفس الأمر والواقع ، وأنّ هذه الأحكام ناشئة عن مصالح ومفاسد في متعلقاتها إلاّ انّ هذه الأحكام إنشائية غير بالغة مرحلة الفعلية والتنجّز ، ولا تبلغ هذه المرحلة إلاّ أن تقوم الأمارة على طبقها ، وحينما تكون الأمارة مؤدّية لمعنى غير ما عليه الواقع فإنّ قيامها يكون سببا في نشوء مصلحة في مؤداها أقوى من مصلحة الواقع ، وهذا ما يؤهلها للحجيّة ولزوم العمل على طبقها دون الواقع ، فيبقى الواقع مجرّد حكم إنشائي لا يصلح لأن يتعبّد به بعد ان كان مرجوحا بسبب قيام الأمارة على خلافه.

وهذا الرأي غير مقبول عند الاماميّة وان كان ممكنا في نفسه ، إذ من الممكن ان تكون فعلية الأحكام الواقعيّة منوطة بكشف الامارة عنها ، فتكون فعليّة الأحكام الواقعيّة خاصة بالعالمين بها ويكون الجاهل غير مشمول لهذه الأحكام ، إلاّ انّ ذلك مناف لما عليه اجماع الطائفة من أنّ أحكام الله مشتركة بين العالم والجاهل ، وانّ الامارة انما لها دور الكشف عن الواقع فقد تصيبه وقد تخطئه ، ومع تخطيها الواقع ومجاوزتها له لا يكون ذلك مقتضيا لنشوء مصلحة في مؤداها أقوى من مصلحة

٥١٧

الواقع ، نعم يكون المكلّف معذورا في ارتكابه ما ينافي الواقع.

هذا وقد ادعى الشيخ الانصاري رحمه‌الله تواتر الأخبار على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل ، ولعلّه ـ كما أفاد بعض الاعلام ـ يشير الى روايات الاحتياط الكثيرة جدا والتي تعبّر عن راجحية التحفظ على الواقع حتى في ظرف الجهل به ، فلو كانت الأمارة مقتضية لمصلحة أقوى من مصلحة الواقع فما معنى الاحتياط لغرض التحفظ على الواقع ، وما معنى الحث البالغ حد التأكيد عليه في الشبهات البدوية وحد الوجوب في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فذلك يعبّر عن انّ الواقع لا يترجح عليه شيء ، غايته ان المكلف لا يكون مسئولا عنه في ظرف الجهل ، إلاّ ان ذلك غير دعوى انّ الواقع مختص بالعالم به وانّه مرجوح لمن قامت عنده الامارة على خلافه.

والذي يؤكد دعوى الإجماع والروايات الكثيرة الدالة على الاحتياط هي اطلاقات الأدلّة ، حيث رتبت الأحكام على موضوعاتها دون ان تأخذ العلم قيدا في تلك الموضوعات ، فالحرمة ثابتة للخمر والميتة والزنا علم المكلّف أو لم يعلم وكذلك النجاسة فإنها ثابتة للبول والدم بقطع النظر عن علم المكلّف أو عدم علمه وهكذا استحقاق الولد للميراث فإنّه غير منوط بعلمه.

وأما دعوى استلزام ذلك لاجتماع حكمين متضادين في مورد الجهل ـ وهما الحكم الواقعي والظاهري ـ فهو ممّا لا محصل له ، وقد اجيب عنه في بحث امكان التعبد بالظن.

* * *

٢٢٠ ـ التضاد

التضاد هو التنافي والتباين التام بين الامرين الوجوديين بحيث لا يصدق

٥١٨

أحدهما على شيء من الآخر ، ومن هنا يستحيل اجتماعهما ، أي تصادقهما على موضوع واحد من جهة واحدة وفي زمان واحد وان جاز ارتفاعهما عنه ، بمعنى انسلابهما معا عن الموضوع.

ويمكن التعرّف على علاقة التضاد بين عنوانين بواسطة ما ينشأ عن ملاحظتهما من قضايا ، فإن كانت ملاحظتهما منتجة لقضيّتين سالبتين كليتين يكون موضوع احداها أحد العنوانين ومحمولها العنوان الآخر ، وموضوع الثانية العنوان الثاني ومحمولها العنوان الاول كان معنى ذلك انّ العنوانين متضادّان.

مثلا : لو كان العنوانان اللذان نبحث عن علاقتهما هما الاسود والأبيض فإنّ ما ينحل عن ملاحظتهما هو قضيتان سالبتان كليتان ، فيقال : « لا شيء من الاسود أبيض » ، ويقال : « لا شيء من الابيض أسود » ، فنلاحظ انّ موضوع القضيّة الاولى هو محمول القضيّة الثانية كما انّ محمول القضية الاولى هو موضوع القضية الثانية.

ثم انّ هنا أمرين لا بدّ من الإشارة اليهما :

الأمر الاول : انّ العلاقة بين المفاهيم ـ بالحمل الأولي ـ دائما تكون بنحو التضاد حتى وان كانت العلاقة بينهما بالحمل الشائع هي علاقة التساوي ، كما في مفهومي الإنسان والناطق ، فإنّ العلاقة بينهما بالحمل الشائع هي علاقة التساوي إلاّ انّهما في عالم المفاهيم متضادان ، وذلك يتّضح بواسطة الضابطة التي ذكرناها للتعرّف على علاقة التضاد ، فمفهوم الإنسان بقطع النظر عن وجوده الخارجي لا يلتقي مع مفهوم الناطق ولو بنحو الموجبة الجزئية.

الأمر الثاني : انّ استحالة اجتماع الضدين من القضايا الأوليّة البديهيّة ، والتي يكفي في الإذعان والتصديق بواقعيتها مجرّد تصوّر طرفيها والنسبة

٥١٩

بينهما ، ولهذا تكون قاعدة استحالة اجتماع الضدين من المراجع التي تحاكم بها القضايا النظرية ، إذ انّه كلّما آلت قضيّة نظرية الى قضية بديهيّة فهذا يعبّر عن تماميتها وإلاّ فهي غير تامّة ، إذ لا يمكن إثبات قضية نظرية بقضية نظرية وإلاّ لزم الدور أو التسلسل ـ كما هو محرّر في محله ـ ولهذا قالوا انّ كلّ ما هو نظري لا بدّ وان يرجع الى ما هو بديهي.

* * *

٢٢١ ـ التضاد بين الأحكام التكليفيّة

لا ريب انّ الاحكام التكليفيّة متضادة فيما بينها ، فليس ثمّة حكم من الأحكام التكليفيّة يمكن ان يجتمع مع حكم آخر على موضوع واحد ، وذلك لأن الأحكام ليست اعتبارات محضة وجزافية بل انّها ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها ، وحينئذ يكون الالتزام بامكان اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد معناه اشتمال الموضوع الواحد على ملاكين متنافيين وهو مستحيل كما هو واضح.

فالوجوب الثابت لفعل معناه اشتمال الفعل على مصلحة تامّة ومحبوبيّة شديدة ، وحينئذ يستحيل ثبوت الحرمة أو سائر الاحكام التكليفيّة لذلك الفعل ، إذ انّ ثبوت الحرمة له معناه اشتماله على المفسدة التامة والمبغوضيّة الشديدة ، وهو غير معقول ، كما انّ افتراض ثبوت الاستحباب له معناه انّ المصلحة المشتمل عليها غير تامة وان محبوبيته ليست شديدة ، وهكذا افتراض سائر الأحكام له.

وبهذا يتبيّن انّ دعوى التضاد بين الأحكام لا تكون تامة إلاّ مع افتراض تبعية الاحكام للملاكات في متعلّقاتها وإلاّ فلو كانت الاحكام اعتبارات محضة لما كان هناك أيّ محذور في

٥٢٠