المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

تخييرا ، ويكون لزوم العمل بتكليف دون آخر مترتبا على اختيار أحد الحجتين ، وبعد اختيار احدى الحجتين تكون وظيفة المكلّف العمل بمؤداها تعيينا.

* * *

٢٠٠ ـ التخيير بين الأقل والأكثر

والبحث فيه يقع عن امكان وقوع التخيير بين الأقل والأكثر ، وقد اختلف الأعلام في ذلك ، فذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى امكانه وذهب آخرون الى عدم الامكان.

وتحرير البحث يستدعي ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ تصنيف التخيير بين الأقل والأكثر الى ثلاث صور :

الصورة الاولى : ان يفترض عدم وجود الأقل في ضمن الاكثر وانّ وجود الأقل يغاير وجود الأكثر. وفي هذه الصورة لا ريب في امكان التخيير بين الأقل والأكثر ، وذلك لانّ واقع التخيير بينهما تخيير بين متباينين.

ومثاله : لو أمر السيد عبده بايجاد خطين ، إما خط طويل أو خط قصير ، وواضح انّ الخط القصير مباين للخط الطويل ، فلا يقال انّ الخط الطويل مشتمل على خطين قصيرين ، وذلك لأن الاتصال في كل خط يقوّم الوحدة للخط بنحو الدقة العقلية وبحسب النظر العرفي.

أما بحسب الدقة العقلية فلأنّ عدم القول بالوحدة في الخط المتصل معنا القول بوجود الجزء الذي لا يتجزأ ، إذ كلّ جزء تفترضه مهما صغر فهو قابل للتجزئة العقلية على الأقل ، ومع عدم القول بالوحدة في الخط المتّصل معناه القول بالكثرة الوجودية للخط المتصل ، وحينئذ لا بدّ من الرجوع الى منشأ الكثرة الوجودية وليست هي سوى الوحدات التي تنشأ عن اجتماعها الكثرة وهذه الوحدات هي الجزء الذي لا يتجزأ والذي أطبق

٤٨١

الفلاسفة على استحالته.

وأما بحسب النظر العرفي فإننا نجد بالوجدان انّ الحبل الطويل غير الحبل القصير ، ولا يقال انّ الحبل الطويل مشتمل على حبلين قصيرين. على انّه قد يتعلّق غرض المولى بالإتيان بحبلين أحدهما قصير والآخر طويل إلاّ انّه ولمعرفته بضيق قدرة المكلّف عن الإتيان بهما معا يأمره بأن يأتي بأحدهما بنحو التخيير.

الصورة الثانية : ان يفترض امكان وجود الأقل في ضمن الأكثر إلاّ انّ غرض المولى قد تعلّق بايجاد الأقل بشرط لا ، أي بشرط عدم الزيادة.

وفي هذه الصورة لا ريب في امكان التخيير بين الأقل والأكثر ، إلاّ انّ التخيير بينهما شكليا والواقع انّ التخيير بينهما من التخيير بين المتباينين.

ومثاله : التخيير بين القصر والتمام ، فإنّ الركعتين وان كانتا في ضمن الأربع لو جاء بالصلاة الرباعية إلاّ انّه لمّا اعتبر فيهما عدم الزيادة تكون الأربع مباينة للركعتين.

الصورة الثالثة : ان يفترض امكان وقوع الأقل في ضمن الأكثر مع عدم اعتبار البشرطلا في الأقل ، بمعنى عدم اشتراط عدم الزيادة أو قل انّ الأقل مأخوذ بنحو اللابشرط من جهة الزيادة.

وفي هذه الصورة يستحيل التخيير بين الأقل والأكثر ، وذلك لأنّه حينما يأتي بالأقل يكون قد امتثل الأمر وتحقق بذلك الغرض وسقط الوجوب عن المكلّف ، فلا معنى لاعتبار الأكثر مصداقا للواجب ، نعم يمكن ان يكون الأكثر مستحبا.

ومثاله : التخيير بين التسبيح مرة أو ثلاث مرات لو كان التسبيح مرة مأخوذا بنحو اللابشرط.

* * *

٤٨٢

٢٠١ ـ التخيير في باب التعارض

ذكرنا في بحث تأسيس الأصل الثانوي عند تعارض الأخبار انّ جمعا من الأعلام ـ كصاحب الكفاية رحمه‌الله ـ ذهبوا الى انّ المرجع عند تعارض الأخبار هو التخيير ، اعتمادا على بعض روايات العلاج ، وفي مقابل هذه الدعوى ذهب المشهور الى انّ التخيير لا تصل النوبة إليه إلاّ بعد فقدان المرجحات.

وكيف كان فقد وقع البحث عن هذا التخيير من جهات نشير الى جهتين منها :

الجهة الاولى : انّ التخيير بناء على مرجعيته في حالات التعارض بين الاخبار هل هو من التخيير في المسألة الفقهية أو هو من التخيير في المسألة الاصوليّة؟

المعروف بينهم انّ التخيير في الاخبار المتعارضة هو التخيير في المسألة الاصوليّة ، وهذا معناه انّ أدلّة العلاج المفيدة للتخيير جعلت الحجيّة التخييريّة للخبرين ، والمناسب لجعل الحجية التخييريّة ـ كما ذكر المشهور ـ هو جعل الحجيّة المشروطة ، بمعنى انّ الشارع أناط حجيّة الدليل الذي له معارض بالتزام المجتهد به أو المكلّف ، فمتى ما التزم المكلّف بأحد الخبرين فإنّ الحجيّة تثبت لذلك الخبر الملتزم به دون الآخر ، وهكذا لو التزم بالآخر فإنّ الحجيّة تثبت له دون الاول.

الجهة الثانية : انّ التخيير ـ والذي هو المرجع عند تعارض الاخبار ـ هل هو ابتدائي أو استمراري؟

فبناء على الاول تكون الحجيّة التخييريّة ثابتة قبل اختيار أحد الخبرين والالتزام به أما بعد اختيار أحدهما والالتزام به فإنّه ليس للمجتهد اختيار الخبر الآخر ، بل يكون ساقطا عن الحجيّة بمجرّد الالتزام بالأوّل مثلا ، وهذا بخلاف ما لو بنينا على استمرارية التخيير فإنّ

٤٨٣

للمجتهد ان يختار أولا أحدهما ثم بعد ذلك يختار الآخر.

وقد ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى استمرارية التخيير وانّه لا يسقط بمجرّد اختيار أحدهما والالتزام به ، واستدلّ لذلك باستصحاب التخيير المتيقن ثبوته قبل اختيار أحد الخبرين ، هذا بالاضافة الى اطلاقات أدلة التخيير فإنّها تقتضي صحة اختيار الآخر حتى في حال اختيار الاول قبل ذلك.

* * *

٢٠٢ ـ تداخل الأسباب والمسبّبات

والبحث في المقام عمّا لو تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فهل انّ القاعدة تقتضي تداخل الأسباب والتي هي الشروط أو عدم التداخل؟ والمراد من التداخل هو ترتّب جزاء واحد من مجموع الأسباب فيكون كلّ سبب جزء علّة بعد ان كان علّة مستقلّة في ظرف الانفراد. وعدم التداخل معناه التحفّظ على استقلاليّة الأسباب واقتضاء كلّ واحد منها جزاء مستقلا.

ومع البناء على تداخل الأسباب لا تصل النوبة للبحث عن تداخل المسبّبات انّما الكلام لو كان البناء هو عدم التداخل بين الأسباب فهل القاعدة تقتضي تداخل المسبّبات ، بمعنى انّ المكلّف وان كانت ذمّته مشغولة بتكاليف متعدّدة إلاّ انّ بامكانه الخروج عن عهدة هذه التكاليف المتعدّدة بواسطة امتثال تكليف واحد ، أو انّ القاعدة تقتضي عدم تداخل المسبّبات وانّ الجزاء يتعدّد بتعدّد أسبابه وانّ المكلّف يكون مسئولا عن امتثال تمام التكاليف المتعدّدة بعد تحقّق أسبابها.

والثمرة المترتّبة على هذا البحث ـ كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ هي انّه بناء على القول بتداخل الأسباب يكون الجزاء واحدا ، وعليه يكون الإتيان

٤٨٤

بالجزاء متعددا تشريعا محرما ، إذ لا أمر بأكثر من تكليف بعد البناء على التداخل.

وأمّا بناء على عدم تداخل الأسباب مع البناء على تداخل المسبّبات فإنّ المكلّف وإن كان بإمكانه الاكتفاء بتحصيل جزاء واحد إلاّ انّ الإتيان بالجزاءات الاخرى لا يكون تشريعا محرما ، إذ انّ تداخل المسبّبات لا يقتضي أكثر من الرخصة. ومع البناء على عدم تداخل المسبّبات يكون المكلّف مسئولا عن تحصيل تمام الجزاءات المتعدّدة بتعدّد أسبابها.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو اجتمعت على المكلّف مجموعة من الأسباب الموجبة للغسل كالجنابة ومسّ الميت والحيض فهل القاعدة تقتضي تداخل هذه الأسباب ، وعندئذ لا يترتّب عن مجموع هذه الأسباب إلاّ وجوب غسل واحد ، أو انّ القاعدة تقتضي عدم التداخل وانّ كلّ سبب يوجب غسلا مستقلا ، ومع البناء على عدم تداخل الأسباب فهل القاعدة تقتضي تداخل المسبّبات ، بمعنى كفاية غسل واحد للخروج عن عهدة التكليف بالأغسال الثلاثة ، أي انّ المكلّف وان كان مسئولا عن ثلاثة أغسال إلاّ انّ الإتيان بواحد يكفي عن الأغسال الاخرى ، أو انّ القاعدة تقتضي عدم التداخل ، وعندئذ يجب على المكلّف الإتيان بثلاثة أغسال وانّ الإتيان بغسل واحد لا يوجب الخروج عن عهدة الأغسال الاخرى.

ثمّ انّ محلّ البحث عن تداخل الأسباب والمسبّبات وعدم تداخلها مختصّ بحالات قابليّة الأسباب والمسبّبات للتعدّد كما في المثال ، أمّا لو كان السبب غير قابل للتعدّد كالإفطار في نهار شهر رمضان ، فإن الإفطار غير قابل للتعدّد ، إذ بعد أن يأكل الصائم في المرّة الاولى يكون قد أفطر ، وعندئذ لا يقال للأكل الثاني انّه افطار

٤٨٥

كما هو واضح ، أو كان المسبّب غير قابل للتعدّد كما في القصاص بالقتل مثلا فإنّ هذين الفرضين خارجان عن محلّ البحث.

* * *

٢٠٣ ـ الترادف

وهو في اللغة بمعنى التتابع ، وأردفت الرجل إذا أركبته خلفك فوق الدابة.

والمراد من الترادف في المقام هو اشتراك لفظين متغايرين في معنى واحد ، والمترادف هو ما يكون فيه المعنى قد وضع له أكثر من لفظ لغرض الدلالة عليه. ومثاله : الحيوان المفترس فإنّ له مجموعة من الالفاظ قد وضعت للدلالة عليه ، مثل لفظ الأسد والليث والهزبر.

والبحث في المقام من جهتين :

الجهة الاولى : في امكان الترادف في اللغة :

فقد يقال بعدم امكان الترادف في اللغة ، وذلك لأنّه لا معنى لوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد بعد ان كان الغرض من الوضع هو تفهيم المعنى ، وهو يحصل بوضع لفظ واحد لافادة المعنى المراد ، ومن هنا يكون وضع أكثر من لفظ لافادة معنى واحد مناف لحكمة الوضع ، والمفترض من واضع اللغة انّه حكيم لا يقدم على ما هو عبث ومناف للحكمة.

إلاّ انّ هذه الدعوى غير تامة بعد شهادة الوجدان على وقوع الترادف في اللغة ، والوقوع أقوى شاهد على الامكان ، على انّ ذلك لا ينافي مقتضى الحكمة من الوضع ، إذ ما هو المحذور في أن يتوسّل الواضع أو المتكلّم بأكثر من لفظ لإفادة المعنى المراد عنده.

والمتحصل انّ امكان الترادف في اللغة مما لا ينبغي الإشكال فيه على تمام المباني فيما هو واقع الوضع ، نعم يمكن الاستشكال في امكانه بناء على

٤٨٦

نظرية التعهد في الوضع والتي يتبناها السيد الخوئي رحمه‌الله ، وذلك لانّ المتعهد اذا التزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ إذا جاء بهذا اللفظ فهذا يعني انّه لا يكون ملتزما بتعهده إذا جاء باللفظ الآخر المرادف وقصد تفهيم نفس المعنى إلاّ أن يكون قد التزم بالتزامين ، وهو ان لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ ان يات بهذا اللفظ ثم يلتزم التزاما آخر بأن لا يقصد نفس المعنى إلاّ إذا جاء باللفظ الآخر المرادف.

ولا يخفى التهافت بين الالتزامين ، إذ انّ أحد الالتزامين ينافي الآخر ، نعم يمكن ان يلتزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ إذا جاء بكلا اللفظين وهذا الالتزام وان كان ممكنا إلاّ انّه خلاف المتعارف ، إذ من غير المألوف الالتزام بالإتيان بكل المترادفات لغرض تفهيم معنى واحد.

الاّ انّه يمكن التفصي ـ كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله بأحد حلول ثلاثة نذكرها بنحو الإجمال.

الأوّل : افتراض تعدد الواضع ، بمعنى تعدد المتعهدين بتعدد المترادفات. وهذا الجواب لو تمّ فإنّه يصلح لتفسير المترادفات في اللغة بناء على مسلك التعهد.

الثاني : هو افتراض اتحاد المتعهد إلاّ انّ التعهّد يكون بهذه الكيفيّة ، وهي ان يتعهد بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ اذا جاء بأحد هذه الألفاظ المترادفة.

الثالث : افتراض اتحاد المتعهد أيضا إلاّ انّ التعهد يكون مشروطا ، بمعنى ان نفترض انّ المتعهد يتعهد بأن لا يقصد تفهيم المعنى إلاّ أن يأت بهذا اللفظ ولكن بشرط ان لا يات باللفظ الآخر ثم يتعهد تعهدا آخر بان لا يقصد تفهيم المعنى إلاّ أن يأت باللفظ الآخر على ان لا يأت باللفظ الأوّل.

وبهذا البيان اتضح امكان الترادف في اللغة على جميع المباني.

٤٨٧

الجهة الثانية : فيما هو منشأ وقوع الترادف في اللغة ، وقد ذكر لذلك احتمالان :

الاحتمال الاول : أن يكون ذلك قد نشأ عن تصدي الواضع لوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد ، أمّا في عرض واحد أو على فترات متعاقبة ، وقد قلنا انّ ذلك لا محذور فيه ولا منافاة معه لحكمة الوضع.

الاحتمال الثاني : أن يكون ذلك قد نشأ عن اختلاف الواضع ، بمعنى انّ كل قبيلة من قبائل العرب قد وضعت للمعنى المراد لفظا خاصا ثم انّه لما جمعت الفاظ اللغة أو تداخلت القبائل فيما بينها صار للمعنى الواحد ألفاظ متعددة.

وهذان الاحتمالان يمكن أن يكون أحدهما هو المنشأ لوقوع الترادف في اللغة ، كما يمكن أن يكون مجموعهما هو المنشأ لذلك ، بمعنى انّه من الممكن أن يكون بعض المترادفات نشأ عن الاحتمال الاول وبعضها نشأ عن الاحتمال الثاني.

على انّ هنا احتمالا لا ينبغي اغفاله ، وهو انّ الوضع قد يكون تعيّنيا ، بمعنى انّه ينشأ عن كثرة استعمال لفظ في معنى ولا يكون لأحد تصد للوضع ، وإذا كان كذلك فمن الممكن ان يكثر استعمال لفظ في معنى بدرجة ينشأ عن هذه الكثرة الاستعمالية الوضع ، ثم يكثر استعمال لفظ آخر من نفس القبيلة ـ في المعنى نفسه فينشأ عن ذلك وضع آخر.

* * *

٢٠٤ ـ الترتّب

المراد من الترتب هو التكليف بالمهم بشرط عدم امتثال التكليف بالأهم ، فيكون التكليف بالأهم مطلقا من جهة امتثال التكليف بالمهم أو عدم امتثاله ، وأما التكليف بالمهم فهو مشروط بعدم امتثال الأهم أو قل انّه مشروط بعصيان الأهم ، وبهذا

٤٨٨

تكون فعلية التكليف بالمهم منوطة بعصيان التكليف الأهم.

ثم انّ مورد الأمر الترتبي هو حالات التزاحم وضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين وإلاّ فلو كان المكلّف قادرا على الجمع بين التكليفين في عرض واحد فلا معنى للأمر الترتبي ، وليس المقصود من ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين هو ضيق القدرة عن امتثال أحدهما حتى في طول الآخر بل انّ الترتب يتصوّر حتى في حال قدرة المكلّف على الجمع بين التكليفين طوليا اذا كان عاجزا عن الجمع بينهما في عرض واحد ، كما في الواجب الموسع والمضيق ، فلو وقعت النجاسة في المسجد عند زوال الشمس فإنّ هنا يمكن تصوير الأمر الترتيبي ، بأن يقال انّ فعلية الأمر بالصلاة ـ والذي هو الواجب الموسع ـ مشروط بعدم امتثال الأمر بالإزالة ، وهذا بخلاف الأمر بالإزالة فانّه مطلق من جهة امتثال الأمر بالصلاة أو عدم امتثاله. فمورد الأمر الترتبي هو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين المتضادين ـ بنحو الضد الخاص ـ في عرض واحد.

وباتضاح ذلك نقول : انّ البحث عن الترتب انما هو عن امكانه وامتناعه ، بمعنى انّ البحث عنه بحث ثبوتي ، وواضح انّه لو ثبت امتناعه فإنّه لا تصل النوبة للبحث الإثباتي انما الكلام فيما لو ثبت امكانه فقد أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله انّ ثبوت الامكان للأمر الترتبي كاف في ثبوت وقوعه بلا حاجة الى تجشم عناء البحث الإثباتي ، وذلك يتّضح بهذا البيان :

إنّ افتراض مسئولية المكلّف عن تكليفين يعجز عن الجمع بينهما في عرض واحد مستحيل لاستحالة التكليف بغير المقدور ، أو قل انّ الأمر بالضدين بنحو يكون كلّ واحد منهما

٤٨٩

مطلق من جهة امتثال الآخر أو عصيانه مستحيل لاستحالة طلب الجمع بين الضدين ، فالأمر بانقاذ الغريق الاول بنحو مطلق ، والأمر بانقاذ الغريق الثاني بنحو مطلق ـ رغم ضيق قدرة المكلّف عن امتثال الأمرين ـ مستحيل وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق ، وحينئذ لا بدّ من أحد علاجين ، إمّا البناء على سقوط الأمر بالمهم من رأس ، بمعنى انّ المكلّف مسئول عن امتثال التكليف بالأهم فحسب وليس مسئولا عن التكليف بالمهم سواء امتثل الأمر بالاهم أو لم يمتثله ، وأما الالتزام بتقييد الأمر بالمهم ، أي الالتزام بمسئولية المكلّف عن الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم ، وهذا معناه سقوط الإطلاق عن الأمر بالمهم دون سقوط أصل الأمر به.

وتلاحظون انّ كلّ واحد من هذين الحلّين يرتفع معه محذور التكليف بغير المقدور ، إلاّ انّ الاول لا مبرّر له بعد امكان التفصّي عن محذور التكليف بغير المقدور بواسطة الحلّ الثاني.

وبتعبير آخر : يدور الأمر بين سقوط أصل الأمر بالمهم وبين سقوط اطلاقه ، ولا معنى للالتزام بسقوط أصل الأمر بالمهم بعد ان كان واجدا لملاك جعله ، وبعد امكان التفصّي عن محذور التكليف بغير المقدور بواسطة تقييد الأمر بعدم امتثال التكليف بالأهم.

ومن هنا يتعيّن سقوط الإطلاق عن الأمر بالمهم ، لأنّه القدر المتيقن الذي تقتضيه القرينة العقلية والتي هي استحالة التكليف بغير المقدور. وقد أوضحنا ما يتصل بهذا البيان تحت عنوان « التخيير العقلي الشرعي ».

وبهذا يتمحض البحث في الترتب عن إمكانه وامتناعه ، وقد اختلف الأعلام في ذلك ، ونسب السيد الخوئي رحمه‌الله الى الشيخ الانصاري رحمه‌الله

٤٩٠

القول بامتناعه خلافا لجمع من الأعلام كالمحقق النائيني رحمه‌الله. هذا وقد استدلّ صاحب الكفاية رحمه‌الله للقول بالامتناع بما ملخصه :

انّه يلزم من الأمر الترتبي طلب الجمع بين الضدين ، وذلك في زمان فعلية الأمر بالمهم ، أي حين عصيان الأمر بالأهم أو العزم على تركه وعصيانه ، إذ من الواضح عدم سقوط الأمر بالأهم بمجرّد عصيانه أو العزم على عصيانه ، وحينئذ يكون كلّ من الأمر بالأهم والامر المهم فعليا ، وهذا معناه مسئولية المكلّف عن كلا التكليفين ، إذ انّ كلا منهما يدعو لامتثال نفسه حينئذ ، إذ انّ ذلك هو مقتضى افتراض فعلية كل منهما.

وأما ما استدل به على إمكان الترتب فوجوه إلاّ انّ عمدة القول بإمكانه يتضح بهذا البيان ـ بعد الاستدلال عليه بالوجدان وملاحظة الخطابات العرفية ـ وهو انّ المفترض هو عدم التنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم ذاتا ، بمعنى انّه ليس ثمة محذور من جعل الوجوب على الفعل الأهم وجعل الوجوب على الفعل المهم ، وذلك لكون كل واحد منهما واجدا لملاك جعله ، نعم التنافي انّما هو من جهة ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين متعلقي الجعلين ، وحينئذ لو كان كلا التكليفين مطلقين لكان المكلّف عاجزا عن امتثالهما ، أمّا لو افترضنا انّ فعليّة التكليف بالمهم مقيّدة بعدم امتثال الأهمّ فإنّه لا محذور من جهة استحالة التكليف بغير المقدور ، وذلك واضح عند ما يمتثل المكلّف الأمر بالأهم ، حيث لا مسئولية على المكلّف من جهة التكليف بالمهم بعد ان لم تكن فعليته متحققة بسبب انتفاء موضوعها وهو عصيان الأمر الأهم ، إذ المفترض انّه لم يعص الأهم.

وأما حينما يعصي التكليف بالأهم فكذلك لا محذور من جهة لزوم

٤٩١

التكليف بغير المقدور ، إذ انّ المكلّف لم يكن مسئولا عن غير التكليف بالأهم ، فالتكليف بالأهم ليس مزاحما بتكليف آخر ، وذلك لأنّ التكليف بالمهم لا يدعو لايجاد موضوعه وهو عصيان الأمر بالأهم فلا يكون التكليف بالمهم منافيا ومعاندا للتكليف بالأهم ، غايته انّ المكلّف لمّا شاء عدم امتثال التكليف بالأهم تنقح موضوع التكليف بالمهم ، فالمكلّف إذن قادر على امتثال الأهم بواسطة اعدام موضوع الأمر بالمهم.

وبتعبير آخر : لمّا لم تكن التكاليف مقتضية لايجاد موضوعاتها ، إذ هي لا تدعو إلاّ الى امتثال نفسها في ظرف اتّفاق تحقق موضوعاتها خارجا ، لما لم يكن كذلك فالأمر بالمهم لا يزاحم الأمر بالأهم ، إذ انّ الأمر بالمهم لا يكون كذلك إلاّ اذا افترضنا اقتضائه لايجاد موضوعه وهو معصية الأمر بالأهم ، والأمر ليس كذلك حيث قلنا انّ الأمر بالمهم لا يدعو لمعصية الأمر بالأهم.

وحينئذ نقول : إذا لم يكن الأمر بالمهم نافيا للأمر بالأهم فما هو المانع من الأمر به بنحو الترتب ، بأن يقال :

تجب عليك الإزالة مطلقا ولكن اذا عصيت الأمر بها وجبت عليك الصلاة ، فالأمر بالصلاة لا يزاحم الأمر بالإزالة ، إذ انّه لا يدعو لعصيان الأمر بالإزالة وانّما يدعو للإتيان بالصلاة لو عصى المكلف الأمر بالإزالة ، وواضح انّه حين عصيانه الأمر بالإزالة قادر على امتثال الأمر بالصلاة تكوينا وشرعا ، اما تكوينا فواضح ، وأما شرعا فلأن ترك الإزالة لم يكن مستندا الى الشارع بعد ان لم يكن الأمر بالصلاة مقتضيا وداعيا لعصيان الأمر بالإزالة.

* * *

٢٠٥ ـ الترجيح بالأحدثية

والمقصود من الترجيح بالأحدثية

٤٩٢

هو لزوم التعبّد بالخبر المتأخّر صدورا في ظرف تعارضه مع المتقدم صدورا ، وليس المراد من ذلك هو لزوم التعبّد بالمتأخر مطلقا حتى مع امكان الجمع العرفي بين الخبر المتقدم والمتأخّر.

وقد تبنى بعض الفقهاء هذا المرجح في ظرف التعارض إلاّ انّ المعروف بينهم هو عدم الترجيح بالأحدثية ، لأنّ المتأخّر لو كان ناسخا فإنّه يلزم التعبّد به دون المتقدم بقطع النظر عن مرجحات باب التعارض ، وذلك لأن الناسخ ليس من قبيل المرجحات وانما هو من قبيل الكاشف عن انتهاء أمد الحكم المتقدم وصيرورة الحكم المتأخر هو الحكم الفعلي والذي يلزم العباد التعبّد به إلاّ انّه لو سلّمنا امكان النسخ بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ من المقطوع به عدم ثبوت النسخ إلاّ بدليل قطعي ، وهذا موجب آخر لخروج الترجيح بالأحدثية عن مرجحات باب التعارض ، وذلك لأن الخبر المقطوع الصدور واجد للحجيّة بنحو لا يصلح الخبر الواحد لمعارضته ولو كان هذا الخبر معتبرا سندا.

ولو كان المراد من الترجيح بالأحدثية هو التخصيص والتقييد للاطلاقات المتقدمة صدورا فهذا خروج أيضا عن مرجحات باب التعارض ، إذ انّ التخصيص والتقييد انّما يكونان في حالات امكان الجمع العرفي ، وعندئذ لا يكون الأحدث مرجحا.

على انّ بعض الروايات التي استدلّ بها على الترجيح بالأحدثية مشتملة على خصوصية نحتمل دخالتها في الترجيح بالمتأخر ، وهو العلم بصدور الخبرين المتعارضين ، وهذا ما لا نتوفر عليه فعلا ، وذلك لتساوي الخبرين عندنا من حيث احتمال صدورهما وعدم صدورهما ، وايّهما صدر لبيان الحكم الواقعي وأيّهما صدر تقيّة مثلا.

على انّ الرواية اشتملت على قرينة

٤٩٣

تكشف عن انّ الملاك من لزوم الأخذ بالمتأخر هو التقيّة وانّ الامام عليه‌السلام قد يعطي حكما لمسألة ثم في وقت آخر يعطي حكما آخر لنفس المسألة وقد يكون المتأخر هو المناسب للتقيّة ومع ذلك يلزم التعبّد به ، وذلك لمناسبة زمن صدور الخبر للتقيّة ، وواضح انّه لو كان كذلك فإنّ العمل بالخبر المتأخّر انّما هو لتشخيص الامام عليه‌السلام الأعرف بمجاري الامور وانّ المناسب في ذلك الوقت هو العمل بالتقيّة وإلاّ فالخبر المتقدم هو الذي صدر لبيان الحكم الواقعي ، ولو كان الخبر المتقدّم هو الذي صدر لبيان الحكم الواقعي فإنّ لزوم العمل به انّما هو لأجل كونه الحكم الواقعي وانّ الخبر المتقدم صدر لمناسبات اقتضتها التقية ، وعليه لا يكون الخبر المتأخر مترجحا بسبب تأخره بل انّ الترجيح انّما نشأ اما عن كون المتأخر صدر لبيان الحكم الواقعي وامّا لأنّه كان مناسبا للتقية في ظرف صدوره.

أما نحن فلمّا لم نكن مطلعين على أيّ الخبرين صدر تقيّة وأيهما صدر لبيان الحكم الواقعي فإن اللازم هو الرجوع لمرجح آخر للتعرّف بواسطته على ما يلزم العمل به منهما.

* * *

٢٠٦ ـ الترجيح بالتقيّة

المراد من الترجيح بالتقيّة هو انّه لو تعارضت روايتان تعارضا مستحكما موجبا للعلم بمنافاة احداهما للواقع وكانت كلا الروايتين واجدتين لشرائط الحجيّة بقطع النظر عن التعارض فإنّه يلاحظ مفاد كلا الروايتين فإن كانت احداهما موافقة لروايات العامة والاخرى مخالفة أو غير موافقة فإنّ الموافقة لروايات العامة تسقط عن الحجيّة بسبب التعارض.

ومنشأ الترجيح هو انّه من غير

٤٩٤

المعقول ان تكون كلا الروايتين صادرتين لبيان الحكم الواقعي ، فلا بدّ وان تكون احداهما صادرة تقيّة أو انها غير صادرة ، ولمّا كان عدم الصدور ينافي اعتبار السند ووثاقة جميع رواته فيتعين صدور احداهما تقيّة ، ولمّا كان الأقرب للتقيّة هي الرواية الموافقة لروايات العامة تعين عدم صدورها لبيان الحكم الواقعي ، وهذا ما يوجب سقوطها عن الحجيّة.

وبهذا اتّضح المراد من الترجيح بالتقيّة وانّه عبارة عن ترجيح الرواية المنافية للتقيّة أو غير المناسبة لها في مقابل الرواية المناسبة للتقيّة.

ثمّ انّ الترجيح بالتقيّة هل يختص باتفاق موافقة احدى الروايتين لروايات العامة ـ كما هو مقتضى معتبرة الراوندي ـ أو تشمل الموافقة لفتاوى العامة المستندة لغير الروايات كالمستندة للقياس أو الاستحسان.

الظاهر من كلمات الفقهاء ان الترجيح بالتقيّة لا يختص بموافقة احدى الروايتين المتعارضتين لروايات العامة بل يشمل الموافقة لفتاواهم المستندة لمدارك اخرى غير الروايات ، وذلك بمقتضى اطلاق بعض الروايات كمقبولة عمر بن حنظلة ، على انّ ذلك هو مقتضى مناسبات الحكم والموضوع ، إذ انّ المستظهر من روايات الترجيح بالتقيّة انّ ذلك ليس حكما تعبديا صرفا بل انّه نشأ عن الظروف التي اكتنفت عصر النص ، حيث كان العامة ذووا شوكة واقتدار فتكون مناوئتهم واظهار ما ينافي متبنياتهم مسوغا لإساءتهم أو لا أقل استيحاشهم والذي قد يترتب عليه التشنيع والتوهين ، وقد تفضي مخالفتهم للوقوع في الضرر والذي كان يحرص أهل البيت عليهم‌السلام على التحفظ من ايقاع شيعتهم في محذوره.

واذا كان هذا هو الملاك للترجيح

٤٩٥

بالتقيّة فأيّ فرق بين موافقة الخبر لروايات العامة أو موافقته لفتاواهم الغير المستندة لأخبارهم.

ثم انّ الترجيح بالتقيّة انّما يأتي في مرحلة متأخرة عن الترجيح بالموافقة للكتاب المجيد والسنّة القطعيّة ، فلو تعارض خبران وكان أحدهما موافقا للكتاب المجيد والآخر مخالفا للكتاب فإنّ الذي يسقط عن الحجيّة هو الخبر المخالف للكتاب وان كان مخالفا للعامة وكان الخبر الموافق للكتاب موافقا للعامة ، فالترجيح بالتقيّة إذن انّما هو في حالة عدم موافقة ومخالفة كلا الخبرين للكتاب المجيد كأن لم يكن الكتاب المجيد متصديا لحكم المسألة المشتمل عليها الخبران المتعارضان ، وعندئذ يلاحظ الموافق لمذهب العامة فيكون مرجوحا.

وهذه الطولية مستفادة من معتبرة الراوندي (١).

* * *

٢٠٧ ـ الترجيح بالشهرة

وقد ورد الترجيح بالشهرة في مقبولة عمر بن حنظلة (٢) والمرفوعة التي رواها ابن ابي جمهور الإحسائي (٣).

هذا وقد اختلف الفقهاء في المراد من الشهرة الواردة في الروايتين ، فقد ذهب البعض الى انّ المراد من الشهرة هي الشهرة الروائية ، بمعنى اشتهار نقل الرواية في المجاميع الروائية بحيث تكون الرواية بالغة حد التواتر أو الاستفاضة ، وحينئذ يكون صدورها مطمئنا به وتكون الرواية الواقعة في مقابلها شاذة.

ومن هنا يخرج الترجيح بالشهرة عن مرجحات باب التعارض ، لأنّ الترجيح بالشهرة ـ بهذا المعنى ـ يكون من قبيل ترجيح الحجة على اللاحجة ، إذ لا ريب في سقوط الرواية الشاذة المنافية للرواية المشتهرة والتي هي مقطوعة الصدور.

٤٩٦

واستدلّ السيد الخوئي رحمه‌الله لذلك بأن الظاهر من الشهرة في المقبولة والمرفوعة هو الوضوح ، وذلك لأنّ التعبير في المقبولة بالمجمع عليه ونفي الريب عما هو مجمع عليه ثم تصنيفها في قسم الأمر البين الرشد يؤكد المعنى المذكور وانّ التعارض انّما هو بين السنة القطعيّة والخبر الشاذ ، وواضح انّ كل خبر ينافي السنة القطعية يكون ساقطا عن الحجيّة من أول الأمر وانّ التقديم حينئذ يكون من باب الأخذ بما هو حجة والاعراض عمّا هو ساقط عن الحجيّة.

وأما افتراض اشتهار كلا الخبرين في المقبولة فهو بمعنى الاجماع على نقلهما وانّهما مقطوعا الصدور ، ومن هنا يكون الافتراض خارج عن محل الكلام باعتبار انّ البحث انّما هو عن الخبرين الظنيين.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب المشهور الى ان المراد من الشهرة وان كان هو الشهرة الروائية إلاّ انّه مع ذلك تكون الشهرة من المرجحات في باب التعارض لا أنّ تقدمها من باب تمييز الحجة عن اللاحجّة ، وذلك لأنّ المراد من الشذوذ في الخبر المقابل للمشهور انما هو قلة النقل ، والتعبير عنه بالشذوذ انّما هو بالإضافة للخبر المشهور النقل ، كما انّ التعبير عن المشهور بأنّه من المجمع عليه لا يعني أكثر من اشتار النقل ، فليس المقصود منه الإجماع الاصطلاحي ، وذلك بقرينة وجود ما يقابله ، فإنّه منقول أيضا في كتب الرواة ، غايته انّ نقله أقل من نقل الخبر المقابل له ، ومن هنا يكون التعبير بنفي الريب عن الخبر المشهور معناه نفي الريب بالاضافة الى الخبر الآخر.

وأما السيد الصدر رحمه‌الله فقد أبرز قرينتين على انّ الشهرة المقصودة في المرفوعة هي الشهرة الفتوائية ، ومقصوده من الشهرة الفتوائية هي

٤٩٧

الشهرة الفتوائية العملية والتي تعني استناد الفتوى والعمل الى رواية.

القرينة الاولى : انّ زرارة رحمه‌الله حينما أمره الامام عليه‌السلام بالأخذ بما اشتهر بين الاصحاب افترض ان يكون كلا الخبرين مشهورين ، وهذا الافتراض انّما يناسب الشهرة الفتوائية العملية ، وذلك بقرينة انّ الامام عليه‌السلام أمر حين اتفاق هذا الافتراض بالأخذ بما يقول به أعدلهما وأوثقهما ، فلو كان المراد من الشهرة هي الشهرة الروائية ـ والتي تقتضي قطعيّة صدور كلا الخبرين ـ لما كان من المناسب الترجيح بالأعدلية والاوثقية بعد القطع بصدورهما ، إذ انّ الترجيح بالأعدليّة والأوثقية ـ والتي هي من صفات الراوي ـ انما تناسب الظن بالصدور.

* * *

٢٠٨ ـ الترجيح بالصفات

والمراد من الترجيح بالصفات هو الترجيح بصفات الراوي ، فلو كان راوي أحد الخبرين المتعارضين أعدل أو أفقه أو أصدق أو أوثق من الراوي للخبر الآخر ـ على ان يكون الراوي للخبر الآخر ثقة ـ فإنّ ذلك يكون موجبا لترجيح الخبر المروي عن المتفوق في الصفات المذكورة.

وعمدة ما يستدل به على الترجيح بالصفات هو مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة ابن ابي جمهور الاحسائي.

وقد اورد على الاستدلال بالمقبولة انّها بصدد ترجيح أحد الحكمين على الآخر وهو ممّا لا يتصل بمحل الكلام ، ويؤيد ذلك اهمال الشيخ الكليني رحمه‌الله للترجيح بالصفات رغم انّه في مقام تعداد المرجحات. وأجاب الشيخ الانصاري رحمه‌الله عن ذلك باحتمال أن يكون اهماله نشأ عن وضوح الترجيح بالصفات.

ونقض عليه السيد الخوئي رحمه‌الله بأنّ عدم ذكره الترجيح بالصفات لو كان

٤٩٨

ناشئا عن الوضوح لكان قد أهمل ذكر الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، إذ لا ريب في وضوحهما بل أوضحيتهما على الترجيح بالصفات ، على انّ الشيخ الكليني رحمه‌الله في مقام تعداد المرجحات فلا يكون الوضوح حينئذ مسوغا لاهماله هذا المرجح لو كان يتبنى صلاحيته للترجيح.

وأما المرفوعة فهي ساقطة سندا فلا يصح التعويل عليها.

* * *

٢٠٩ ـ الترجيح بالظن غير المعتبر

ويقع البحث في المقام عن صلاحية المرجحات الظنيّة غير المنصوصة لترجيح الخبر ذي المرجح على الخبر الفاقد له ، فلو اتّفق تعارض خبرين وكان أحدهما مشتملا على قرينة ظنيّة مقتضية لا قربية مطابقته للواقع بالنسبة للخبر الآخر على ان تكون هذه القرينة من غير المرجحات المنصوصة فهل يصح التعويل على هذه القرينة لترجيح ذي القرينة على الفاقد لها؟.

ذهب الشيخ الانصاري رحمه‌الله لذلك ، وقرّب ذلك بوجهين :

الوجه الاول : انّ المستظهر من الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة هو انّ ملاك الترجيح في الأخبار المتعارضة هو ما يوجب الأقربيّة للواقع ، ومن هنا يكون اشتمال أحد الخبرين على قرينة ـ موجبة لأقربيّته بالنسبة للآخر للواقع ـ سببا لترجّحه على الآخر ، فلا موضوعية للمرجحات المنصوصة بعد ان كانت الأقربية هي ملاك الترجيح.

الوجه الثاني : انّ المراد من نفي الريب عن الرواية المشهورة هو نفي الريب بالإضافة للرواية الاخرى الشاذة لا نفي الريب المساوق لليقين والاطمئنان ، وعليه يكون الخبر المكتنف بالقرينة المقوّية لاحتمال

٤٩٩

صدوره ممّا لا ريب فيه بالاضافة الى الخبر المعارض والذي هو فاقد لتلك القرينة ، وهذا ما يوجب ترجحه عليه بعد ان لم يكن الملاك في الترجيح هو عدم الريب المطلق ، وانّما هو عدم الريب الإضافي ، وهذا ما يتفق في غير المرجحات المنصوصة.

إلاّ انّ الإشكال على التقريب الاول هو ان المرفوعة ساقطة سندا ، والمقبولة انّما هي متصدّية لبيان ما هو المرجح لأحد الحكمين على الآخر ، فلا صلة لها بمحل الكلام.

وأما الإشكال على التقريب الثاني فهو عدم التسليم بأن المراد من نفي الريب هو نفي الريب الاضافي وانّ الصحيح هو القطع بصدور الرواية التي نفى الامام عليه‌السلام عنها الريب ، وبه تكون المقبولة بصدد تمييز الحجة عن اللاحجّة.

وبسقوط كلا التقريبين لا يكون ثمّة مبرر للترجيح بالظن غير المعتبر.

٢١٠ ـ الترجيح بموافقة الكتاب المجيد

عالجت مجموعة من الروايات العلاجيّة التعارض في الأخبار بواسطة الأمر بلزوم الأخذ بالخبر الموافق لكتاب الله جلّ وعلا وترك الخبر المخالف لكتاب الله عزّ وجل أو بلزوم ترجيح الموافق على المخالف.

والطائفة الاولى خارجة عن محلّ الكلام لظهورها في تمييز الحجّة عن اللاحجّة ، إذ انّ محلّ الكلام انّما هو الروايات المتكافئة والواجدة لشرائط الحجيّة لو لا التعارض.

ومن هنا لا بدّ من بيان المراد من الموافقة والمخالفة في الروايات المتصدّية لعلاج التعارض بين الأخبار الواجدة للحجيّة في نفسها لو لا التعارض. فنقول :

انّ الظاهر بدوا من الموافقة هي مطابقة مفاد أحد الخبرين لكتاب الله

٥٠٠