المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

يكون المكلّف متوفرا عليها فهو حينئذ مجتهد مطلق وإلاّ فليس هو بمجتهد ، ولا برزخ بين الحالتين. وكذا لو كان المراد من الاجتهاد هو الاقتدار الفعلي وانّه ليس من قبيل الملكة ، وانما هو استفراغ الوسع لغرض الوصول للنتيجة الشرعية فإنّه غير قابل للتجزؤ لبساطته.

وأجاب السيد الخوئي رحمه‌الله عن هذه الدعوى بأن التجزؤ في الاجتهاد يعني التبعيض في أجزاء الكلّي لا أنّه التبعيض في أجزاء الكل ، بمعنى انّ الملكة تنحل الى ملكات بعدد أفراد المسائل فكلّ مسألة يحتاج استنباط حكمها الى ملكة ، لأنّ الملكة أشبه بالكلّي ويكون الاقتدار على كل مسألة من قبيل الجزئي لذلك الكلّي فهو عينا كعلاقة أفراد الانسان بطبيعة الإنسان لا كعلاقة المركب بأجزائه.

فنحن وان كنا نسلّم بأن الملكة أمر بسيط غير قابل للتجزئة إلاّ انّ موضوع هذه الملكة هو كل مسألة مسألة من المسائل الشرعية ، ولهذا قد يكون المكلّف متوفرا على الملكة في مسألة لقلة مقدماتها وسهولة الوصول الى نتيجتها ولا يكون واجدا للملكة في مسألة اخرى لكثرة مقدماتها وصعوبة الوصول الى نتيجتها ، وهذا هو معنى التجزي في الاجتهاد ، وواضح انّ هذا المعنى لا يلزم منه تجزئة الأمر البسيط.

ولا يخفى انّ المراد من واجدية المكلّف للملكة في بعض المسائل معناه التوفّر على تمام ما يتصل بالمسألة وإلاّ لم يكن واجدا لملكة الوصول لنتيجتها ، فمثلا : واجدية المكلّف لملكة الاجتهاد في مسألة حرمة لحم الأرنب معناه التوفّر على مجموعة من المقدمات ، منها انّ له رأيا عن علم بحجيّة خبر الثقة وحجيّة الظهور وان النهي ظاهر في الحرمة وان الرواية معتبرة سندا وانه ليس لها معارض او

٤٦١

انّ معارضها ساقط عن الحجيّة أو انّه مرجوح جهة أو مضمونا وهكذا سائر ما يتصل بالمسألة ، ولهذا لا يبعد تداخل المسائل في الجملة من حيث انّ الاقتدار على بعضها اقتدار على البعض الآخر. وبهذا اتّضح مدرك القائلين بامكان التجزي في الاجتهاد.

وأما ما ادعاه صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ التجزّي في الاجتهاد ضروري الوقوع قبل الوصول لمرحلة الاجتهاد المطلق فمنشؤه ما ذكره من استحالة الطفرة ، ولذلك لا بدّ وان يمر المجتهد بمرحلة التجزي قبل الوصول لمرحلة الاجتهاد.

وأجاب عنه السيد الخوئي رحمه‌الله بأن الاجتهاد في كلّ مسألة لا يتصل بالاجتهاد في مسألة اخرى ، وعليه يمكن عقلا ان يتوفر المكلّف على ملكات المسائل في عرض واحد ولو بنحو الإعجاز ، ولا يلزم من ذلك الطفرة بعد ان كانت ملكات الاقتدار على المسائل مستقلة وعرضية ، نعم لا يتفق عادة حصول الملكة والاقتدار على كل المسائل في عرض واحد ، فلو كان صاحب الكفاية رحمه‌الله يقصد من الوجوب الوجوب العادي فكلامه تام إلاّ انّ المستظهر من كلامه ينافي أن يكون هذا مقصوده ، وذلك لاستدلاله على الوجوب باستحالة الطفرة.

وأما الجهة الثانية : فالبحث فيها يقع عن ثلاث مسائل :

المسألة الاولى : في جواز عمله برأيه في المسائل التي يتمكن من الوصول لنتائجها. وقد بنى جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمه‌الله على جواز استقلاله في العمل برأيه وانّ رجوعه الى غيره في المقدار الذي استنبطه عن علم وملكة يكون من رجوع العالم الى مثله ، وهو غير جائز ، لأنّه في موارد الاختلاف يحرز انّ ما عليه المجتهد الآخر خطأ وغير مطابق للواقع ، وفي موارد الاتفاق لا يكون ثمة مسوغ

٤٦٢

شرعي للرجوع للمجتهد الآخر ، وذلك لأنّ أدلة جواز التقليد قاصرة عن الشمول لمثله في ذلك المقدار الذي تمكن من الوصول لنتائجه.

المسألة الثانية : في جواز رجوع الغير له في الموارد التي هو مجتهد فعلا فيها. وقد تبنى السيد الخوئي رحمه‌الله عدم الجواز ، وذلك لقصور أدلة جواز التقليد عن الشمول لهذا المورد ، فإنّ الظاهر من الأدلة ترتيب جواز التقليد على المجتهد المطلق والذي هو العارف بمقدار كبير ومعتد به من الأحكام الشرعية ، كما هو المستظهر من عنوان الفقيه وأهل الذكر والعارف بالأحكام.

وأما السيرة العقلائية الجارية على الرجوع للعالم في المقدار الذي يعلمه وان كان يجهل مقدارا آخر كما هو الحال في الطبيب الذي لا يعلم بسوى جهة خاصة من الطبابة. فإنّ هذه السيرة وان كانت مسلّمة إلاّ انّ ثبوت حجية السيرة العقلائية منوط بامضاء الشارع لها ، وهو غير محرز في المقام خصوصا مع ملاحظة ما هو المستظهر من أدلة جواز التقليد والتي رتبت جوازه على صدق عنوان العارف بالأحكام والفقيه ، وهو غير صادق على المتجزّي والذي لا يعلم بسوى مقدار محدود من الأحكام.

المسألة الثالثة : في جواز تصدّي المتجزّي للقضاء بناء على القول بلزوم التوفر على ملكة الاجتهاد في المتصدي لهذا المنصب. وهنا أيضا تبنّى السيد الخوئي رحمه‌الله عدم الجواز ، وفي المقابل تبنى البعض الجواز فيما لو كان المتجزي مجتهدا في مقدار معتد به من الأحكام على ان يكون منها المسائل المتصلة بالقضاء.

واستدلّ السيد الخوئي رحمه‌الله على عدم الجواز بقصور أدلة جواز التصدّي للقضاء عن الشمول للمتجزّي ، فإنّها رتبت جواز القضاء على العالم والعارف بالاحكام.

٤٦٣

١٨٨ ـ تحقيق المناط

قد أوضحنا المراد من المناط تحت عنوان تنقيح المناط وخلصنا هناك إلى أنّ المراد من المناط هو العلّة ، وذلك لإناطة الشارع الحكم بها. بمعنى أنّ الشارع إنّما جعل الحكم على موضوع بسبب اشتماله على علّة أوجبت ذلك.

وما يهمّنا في المقام هو بيان المراد من عنوان تحقيق المناط ، وقد ذكر له معنيان :

الأوّل : هو التحقّق من اشتمال موضوع من الموضوعات على مناط حكم ثابت لموضوع آخر بالنصّ أو الإجماع.

بمعنى أنّ المجتهد بعد أن يقف على مناط حكم لموضوع ثبت بواسطة النصّ أو الإجماع يسعى للتحقّق من وجود ذلك المناط في موضوع آخر ، وحينما يتحقّق من اشتمال ذلك الموضوع على المناط يسرّي ذلك الحكم المنصوص على مناطه إلى الموضوع الآخر الواجد لنفس ذلك المناط.

ومثاله الحكم بوجوب قطع يد السارق ، فإنّ مما لا ريب فيه أنّ المناط في ذلك نصّا أو إجماعا هو السرقة ، فهي منشأ الحكم بوجوب قطع يد المتلبّس بها ، وعندئذ لو وقع البحث عن إيجاب قطع يد النابش للقبر فإنّ ذلك يكون بحثا عن اشتمال النبش على مناط الحكم بوجوب القطع فإن وجد أنّ النبش للقبر مشتمل على مناط وجوب القطع فإنّه بذلك يحكم بوجوب قطع يده.

فوجوب قطع يد النابش ثبت بواسطة تحقيق المناط ، والعمليّة الاجتهاديّة التي مارسها المجتهد في الفرض المذكور تتمحّض في التحقّق من اشتمال نبش القبر على مناط الحكم المنصوص أو المحرز بواسطة الإجماع.

الثاني : هو التحقّق من مصداقية بعض الأفراد للموضوع الكلّي

٤٦٤

المنصوص أو المجمع على حكمه ، فالعمليّة الاجتهاديّة هنا تتمحّض في تشخيص أفراد الموضوع الكلّي المجعول عليه الحكم. ومثاله قوله تعالى : ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) فالآية الشريفة توجب التكفير بواحد من الأنعام الثلاثة على المحرم عند ما يقدم على قتل واحد من الحيوانات على أن يراعي في التكفير المماثلة بين الحيوان المقتول وبين ما يكفّر به من النعم.

فالمماثلة هنا موضوع كلّي جعل عليه الحكم بوجوب التكفير ولم تتصدّ الآية لبيان مصاديق ذلك الموضوع ، لذلك لو اتّفق أنّ قتل المحرم حمارا وحشيّا فإنّ على المجتهد تحديد ما يجب على المحرم التكفير به من الأنعام ، هذا النحو من التحديد هو ما يعبّر عنه بتحقيق المناط.

فتحقيق المناط يعني الاجتهاد في تشخيص أفراد الموضوع الكلّي المجعول عليه الحكم.

ويمكن أن نعرّف تحقيق المناط بالمعنى الثاني ببيان آخر ، وهو الاجتهاد في تحديد صغريات قاعدة شرعيّة كلّيّة منصوص عليها أو مجمع على ثبوتها في الشريعة ، ومثاله : ( كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ) فعند ما تشكّ في حرمة نوع من الطعام ولا تجد دليلا محرزا على حرمته فإنّه يكون مصداقا لهذه القاعدة وصغرى لهذه الكبرى الكلّيّة.

والمعنى الأوّل من تحقيق المناط من أقسام القياس الفاقد للحجّيّة بنظر الإماميّة وذلك لأنّ القطع بالمناط لا يصحّح تسرية الحكم من موضوعه إلى موضوع آخر بعد عدم القطع باشتمال الموضوع الآخر على مناط الحكم في الموضوع الأوّل ومجرّد الظن لا يغني من الحقّ شيئا.

نعم لو قطع المجتهد باشتمال الموضوع الآخر على مناط الحكم في

٤٦٥

الموضوع الأوّل فإنّ ذلك يصحّح تسرية الحكم منه إلى الموضوع الآخر إلاّ أنّ ذلك غير متاح غالبا لاحتمال أنّ لخصوصيّة الموضوع الأوّل دخل في ثبوت الحكم ، وحينئذ تكون تسرية الحكم من الاجتهاد الظنّي الفاقد للاعتبار.

وقد تبيّن ممّا ذكرناه أنّ تحقيق المناط بالمعنى الأول لم يشترط في تصحيح التعدّي القطع بواجديّة الموضوع الآخر لمناط الحكم في الموضوع الأوّل بل إنّه لو كان ثمّة قطع بذلك فإنّه لا نحتاج إلى الاجتهاد في تحقيق المناط ، فهذا الفرض خارج عن تحقيق المناط بالمعنى الأوّل.

وأمّا المعنى الثاني لتحقيق المناط فهو وإن عدّ من أقسام القياس إلاّ أنّ الواقع أنّه ليس منه أو لا ينبغي أن يكون منه لأنّه لا يزيد على تطبيق الموضوع على مصاديقه المحرز أنّها من مصاديقه ، ومع الشكّ في ذلك أي في مصداقية فرد للموضوع الكلّي فإنّ القاعدة الكليّة لا تتكفّل إثبات مصداقيّة ذلك الفرد للقاعدة بل لا بدّ من إحراز ذلك بقطع النظر عن القاعدة ، فلو كان الخطاب الشرعي هو وجوب إكرام العلماء فإنّ هذا الخطاب لا يتكفّل إثبات أنّ زيدا من العلماء وأنّ بكرا ليس منهم.

* * *

١٨٩ ـ تخريج المناط

المراد من عنوان تخريج المناط هو استنباط علّة الحكم من خطاب شرعي لم يتصدّ لبيان العلّة وإنّما يحدسها المجتهد حدسا ويرتّب على ذلك تعدية الحكم لموضوع آخر لاشتماله على العلّة المستنبطة.

ويمثّل لذلك عادة بتحريم الربا في البرّ وهذا الخطاب لم يتصدّ لبيان مناط الحرمة ولكنّ المظنون أنّ المناط هو أنّ البرّ من المكيل لذلك تثبت حرمة الربا لمطلق المكيل.

٤٦٦

وبما ذكرنا يتّضح منشأ التعبير عن هذا النحو من الاجتهاد بتخريج المناط ، إذ أنّ المجتهد يتصدّى بنفسه لاستخراج المناط من الحكم الثابت لموضوع منصوص. دون أن يعتمد في ذلك على نصّ صريح أو حتّى غير صريح. وهذا بخلاف تنقيح المناط فإنّ المجتهد يعتمد في استنباطه للعلّة على ملاحظة النصّ كما أوضحنا ذلك في محلّه.

وعلى أيّ حال فإنّ هذا النحو من الاجتهاد فاقد للحجّيّة بنظر الإماميّة لأنّه لا يعدو الظنّ بالمناط والذي لا يغني من الحق شيئا. نعم قد يقتضي الفهم العرفي إلغاء خصوصيّة الموضوع إلاّ أنّ ذلك يكون من الاستظهار الذي قام الدليل القطعي على حجّيّته.

* * *

١٩٠ ـ التخصّص

هو الخروج الموضوعي عن موضوع الحكم ، فكلّ موضوع مغاير لموضوع الحكم فخروجه عن موضوع الحكم بالتخصّص.

مثلا : الدليل المستفاد منه حرمة الغناء لا يشمل الحداء ، وذلك للتباين بين مفهوم الحداء ومفهوم الغناء ، ولهذا يقال انّ خروج الحداء عن موضوع الحرمة بالتخصص ، وهذا بخلاف الغناء للعرائس فإنّ خروجه عن دليل الحرمة بالتخصيص ، أي بإخراج بعض أفراد الموضوع عن حكم الموضوع فلو لا الإخراج لكان ذلك الفرد مشمولا لحكم الموضوع.

والتعرّف على الخروج الموضوعي لا يناط بالخطاب الشرعي بل هو منوط بمعرفة حدود موضوع الحكم ، وعندئذ يترتب على ذلك عدم شمول الحكم لكلّ ما هو خارج عن حدود الموضوع ، إذ انّ الأحكام تابعة لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، ولمّا كان موضوع الحكم منتفيا وغير صادق على الموضوعات الخارجة عن

٤٦٧

حدوده فهذا يقتضي انتفاء الحكم الثابت للموضوع عنها.

ولهذا لا نحتاج في الخروج الموضوعي الى تحرير الموضوعات الاخرى بل يكفي إحراز حدود الموضوع ، فكل ما هو خارج عن الحد لا يكون مشمولا للحكم ويكون خروجه بالتخصص. راجع عنوان « الورود ».

* * *

١٩١ ـ التخصيص

وهو عبارة عن اخراج بعض أفراد موضوع الحكم العام بواسطة القرينة الدالة على ذلك ، فلو لا القرينة لكان الحكم العام الواقع على الطبيعة شاملا لتلك الأفراد. فالتخصيص كالتقييد ، غايته ان التخصيص يطلق في حالات إخراج بعض أفراد موضوع الحكم العام والذي ثبت عمومه بواسطة الوضع.

ثم انّ التخصيص تارة يكون بنحو التخصيص المتصل واخرى يكون بنحو التخصيص المنفصل ، وكلاهما ينقسم الى قسمين ، فتارة يكون التخصيص بمخصص لفظي واخرى يكون بمخصص لبّي.

* * *

١٩٢ ـ التخصيص بالمتصل

وهو عبارة عن إخراج بعض أفراد الطبيعة عن حكم العام بواسطة القرينة المتصلة بالكلام الدال على العموم ، ولا ريب في تقديم المخصص على العموم ، وانما الكلام عمّا هو الوجه الصناعي لهذا التقديم.

وقد صنّف السيد الصدر رحمه‌الله التخصيص بالمتصل الى ثلاثة أقسام :

القسم الاول : ان يكون المخصّص المتصل واقعا في اطار الطبيعة المدخولة لأداة العموم ، فيكون المخصص من توابع القضية المدخولة لأداة العموم ، فلا هو كلام مستأنف

٤٦٨

متصل بالكلام الدال على العموم ولا هو من أركان القضية الدالة على العموم ، وهذا ما يعبّر عنه بالفضلة في اصطلاح النحاة ، كوصف الطبيعة المدخولة للعموم أو تمييزها أو نصب حال لها وهكذا.

ومثاله : ان يقال : « أكرم كل العلماء العدول » أو يقال : « أكرم كل أعلم فقها واصولا » أو « أكرم كل العلماء زاهدين في الدنيا » ، فالاول نعت والثاني تمييز والثالث حال.

وهنا يكون التقديم على أساس انّ موضوع الحكم العام واقعا ليس هو الطبيعة المدخولة للأداة فحسب بل انّ موضوع الحكم العام هو مجموع الطبيعة والمتصل بها من نعت أو حال ، وبتعبير آخر ان موضوع الحكم روحا هو الطبيعة المتحيثة بالنعت أو التمييز وليس هو الطبيعة على سعتها.

وواضح انّ ذلك لا يؤثر على افادة الأداة للعموم ، إذ انّ مفادها هو عموم مدخولها ، والمقام يكون مدخولها هو الطبيعة مع ملاحظة القيود المذكورة لها ، ومن هنا تكون دائرة العموم من أول الامر مختصة بالطبيعة المتحيثة بتلك القيود ، وتكون الأفراد الخارجة ـ عن الحكم الثابت للطبيعة ـ خارجة حتى في مرحلة المدلول التصوري فضلا عن المدلول الاستعمالي والجدّي.

واذا صحّ ان نطلق على هذا القسم عنوان التخصيص بالمتصل فهو بمعنى تضييق دائرة الطبيعة المدخولة للأداة من أول الأمر.

القسم الثاني : التخصيص بنحو الاستثناء ، وهو بطبيعته تكملة للقضية المثبتة أو المنفيّة ويقتضي حكما منافيا للحكم الثابت او المنفي عن المستثنى منه فهو إفراز لبعض أفراد المستثنى منه بحكم مستقل عن حكم المستثنى منه ، وهذه الأفراد هي المعبّر عنها بالمستثنى.

٤٦٩

وواضح انّه في حالات الاستثناء ـ اذا كانت الطبيعة مدخولة لأداة العموم ـ يكون الحكم الثابت للمستثنى منه منعقدا في العموم ولو بدوا ويكون مجيء أداة الاستثناء موجبا لنفي هذه الدلالة على العموم ، لأنّه يقتطع جزء من الطبيعة المدخولة للعموم ويفرد لها حكما منافيا للحكم الثابت للطبيعة في عقد المستثنى منه ، وهذا ما يوجب التنافي البدوي في داخل الجملة الاستثنائية إلاّ انّ هذا التنافي لا يبقى طويلا ، إذ يتنقح عند المتلقي للجملة الاستثنائية دلالة ثانية مستلهمة من سياق مجموع الجملة ، هذه الدلالة السياقية هي الموجبة لرفع التنافي الواقع بين عقد المستثنى منه وعقد المستثنى وكأنّه لا تنافي أصلا وانّما هو نحو من التفنّن في الكلام ، الغرض منه ابراز حكمين أحدهما ثابت لمدخول أداة العموم والآخر ثابت لمدخول أداة الاستثناء ، ويستقر المتلقي على هذه الدلالة ، وهذا هو مبرّر الالتزام بتقديم التخصيص بالمتصل في مثل هذه الحالة.

وبتعبير آخر : انّ موضوع الحجيّة للظهور هو الدلالة النهائية للكلام ، إذ لا معنى للتمسّك بما ينقدح بدوا من الكلام قبل تمامه ، ولما كانت الحالة السياقية القاضية بتضييق موضوع الحكم المدخول لأداة العموم واعطاء حكما منافيا للافراد المقتطعة عن الطبيعة هي الدلالة الاخيرة المستفادة من تمام الكلام فهذا يقتضي ان تكون الحجية ثابتة لهذا المقدار من الدلالة.

القسم الثالث : التخصيص بجملة مستأنفة إلاّ انّها متصلة بالجملة الاولى الدالة على العموم ، على ان تكون النسبة بين موضوع حكم العام وموضوع حكم المخصص هي نسبة العموم والخصوص المطلق.

ومثاله : ما لو قال المولى : « أكرم كل العلماء ولا تكرم العالم الفاسق ».

وفي هذا القسم بذلت محاولات

٤٧٠

عديدة لإبراز المبرّر الفنّي لتقديم هذا النحو من المخصص على العام. منها ما ذكرناه في القسم الثاني. ومنها دعوى أظهرية الخاص على العام ، فيكون التقديم بملاك تقديم الأظهر على الظاهر. ومنها ما ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله :

انّ التمسّك بأصالة الظهور في الإرادة الاستعمالية وكذلك الإرادة الجدّية انّما هو في ظرف الشك في مراد المتكلم ، أما مع إحراز عدم إرادة المتكلم لظاهر كلامه في مرحلة المدلول الاستعمالي أو الجدّي فإنّه لا معنى للتمسك بالظهور التصوري وترتيب الأثر على مقتضاه ، إذ انّ موضوع الحجيّة انّما هو المراد الجدّي كما هو مقتضى البناء العقلائي ، ومتى أحرزنا عدم الإرادة الجدّية للظهور التصوري فإنّ العقلاء لا يرتبون الأثر على ذلك الظهور التصوري الوضعي ، نعم البناء العقلائي قاض بأصالة التطابق بين الظهور التصوري والظهور الاستعمالي والجدّي في ظرف الشك في الإرادة الاستعمالية والجديّة ، ويعبّر عن هذا الأصل العقلائي في الإرادة الاولى بأصالة الحقيقة وفي الثانية بأصالة الجهة أو الجد ، وهم انما يلجئون الى هذين الأصلين في ظرف الشك في المراد.

ومع اتضاح هذه المقدمة نقول : انّ العموم إذا اكتنف بقرينة قطعية على عدم الإرادة الاستعمالية والجدية للعموم فإنّه لا معنى للتمسك بالعموم اعتمادا على الظهور التصوري المستفاد بواسطة الوضع ، إذ لا مبرّر لذلك بعد إحراز عدم الإرادة ، واللجوء الى اصالة الحقيقة وأصالة الجهة والجد انّما هو في ظرف الشك والفرض انّه لا شك بعد ان كانت القرينة مفيدة للقطع بعدم المراد ، وهكذا الكلام لو كانت القرينة ظنية إلاّ انّه قام الدليل القطعي على حجيتها ، كما لو كانت خبر ثقة ، فهي

٤٧١

قرينة قطعية ثابتة بواسطة التعبّد ، غايته انّ تقدم القرينة القطعية يكون بالورود ، وأما التقدم بالقرينة الظنية يكون بالحكومة.

والمراد من ذلك انّ الحجيّة الثابتة للعموم انّما هي في ظرف الشك من جهة انّه مراد جدا أو لا ، فإذا قامت القرينة القطعية فإنّها تلغي موضوع الحجيّة حقيقة ، فلا موضوع لثبوت الحجيّة للعموم ، إذ انّ موضوعها الشك في إرادة العموم ولا شك عند قيام القرينة القطعية بل هو قطع بعدم إرادة العموم.

وأما القرينة الظنية فإنّها لا تلغي الشك في إرادة العموم وجدانا إلاّ انّها تلغيه تعبدا ، وهذه هي الحكومة المتصرفة في عقد الوضع « أي الموضوع ».

ومن هنا يتقدم المخصص على العموم بالحكومة ، بمعنى انّ دليل حجية المخصص حاكم على دليل حجية العام.

* * *

١٩٣ ـ التخصيص بالمخصّص اللبّي

والمراد من المخصص اللبّي هو دليل معتبر غير لفظي تكون علاقته بالعموم علاقة العموم والخصوص المطلق مثل الإجماع والدليل العقلي والسيرة العقلائية والمتشرعية.

وتقديم المخصّص اللبّي ـ لو تمت دليليته وأخصيته ـ على العام لم يقع محلا للإشكال. وأما الوجه الصناعي لذلك فيمكن تعدية بعض المحاولات المذكورة في تقديم المخصص المتصل وكذلك المنفصل. كمحاولة السيد الخوئي رحمه‌الله التي ذكرناها في القسم الثالث من أقسام المخصص المتصل.

ثم انّ المخصص اللبّي قد يكون في قوة المخصص المتصل وقد يكون في قوة المخصص المنفصل ، فلو كان المخصص اللبّي من قبيل الدليل العقلي الذي هو من الوضوح بحيث لا ينعقد معه ظهور في العموم إلاّ بعد تحيّث

٤٧٢

مدخول أداة العموم بغير المخصص فهو في قوة المخصص المتصل ، ولو لم يكن كذلك فهو في قوة المخصص المنفصل والذي ينعقد معه ظهور في الإرادة الاستعمالية للعموم.

* * *

١٩٤ ـ التخصيص بالمنفصل

وهو عبارة عن إخراج بعض أفراد الطبيعة عن حكم العام بواسطة القرينة المنفصلة عن الكلام الدال على العموم ، ومثاله : لو قال المولى : « أكرم العلماء » ثم في مجلس آخر قال : « لا تكرم العلماء الفساق ».

وهنا ذهب صاحب الحدائق رحمه‌الله الى انّ المرجع هو أحكام باب التعارض ، وذكر هذا العلاج صاحب الكفاية رحمه‌الله بنحو الاحتمال ، والمعروف بين العلماء هو تقديم المخصص المنفصل على العام إلاّ انّهم اختلفوا في توجيه ذلك صناعيا.

وتبنّى السيد الخوئي رحمه‌الله نفس التقريب المذكور في المخصص المتصل من القسم الثالث ، وذكر البعض انّه لا فرق بين المخصص المتصل والمخصص المنفصل بعد ان تعارف عن المشرع الإسلامي اعتماد القرائن المفصلة في مقام بيان مراداته ، وعليه لا بدّ من ان يعامل المخصص المنفصل وكأنّه متصل بالكلام ، ويكون تحديد المراد من الخطاب الشرعي بعد الجمع بين القرينة وذي القرينة ، ولا يصح التعويل على العموم ابتداء.

* * *

١٩٥ ـ التخطئة والتصويب

المراد من التخطئة ـ اجمالا وسيأتي ايضاحها ـ ان الأحكام التي يصل اليها المجتهد بواسطة بذل الوسع والتنقيب في الأدلة ليس من الضروري ان تكون جميعها متطابقة مع الواقع ، فقد يكون الحكم الذي وصل اليه المجتهد مصيبا للواقع وقد يكون مخطئا للواقع.

٤٧٣

فالتخطئة تعني امكان ان لا يطابق ما وصل اليه المجتهد ما عليه الواقع أي إمكان ان يخطئ المجتهد الواقع. وأما التصويب فهو يعني صوابية كل ما يصل اليه المجتهد من أحكام.

ولكي يتضح المراد من التخطئة والتصويب أكثر لا بأس بذكر تمهيد أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله :

انّ الامور الواقعية لا يمكن ان تنقلب عما هي عليه ، من غير فرق بين ان تكون من قبيل الجواهر والاعراض أو ان تكون من قبيل الامور العقلية الثابتة كالمدركات العقلية النظرية أو العملية ، فهي امور ثابتة في نفس الأمر والواقع أدركها مدرك أو لا ، كما انّها لا تتغيّر بالاعتبار ، فالموجود واقعا لا يكون معدوما بالاعتبار كما انّ المعدوم لا يكون موجودا بالاعتبار ، كما انّ القطع بوجود شيء لا يصيّره موجودا لو كان ذلك الشيء في نفس الأمر والواقع معدوما.

ومن هنا لا يتعقل التصويب في الامور الواقعية وإلاّ لزم اجتماع الضدين أو النقيضين ، فلو كان شخص يقطع بوجود شيء والآخر يقطع بعدمه فإنّ القول بصوابية كلا القطعين معناه اجتماع النقيضين ، وهكذا لو قطع شخص بوجود الليل وقطع آخر بأن الوجود فعلا للنهار فإنّ افتراض صوابية القطعين معناه اجتماع الضدين ، فلا بدّ من ان يكون أحدهما مخطأ للواقع.

وهذا المقدار لا إشكال فيه ولا خلاف وانّما الخلاف في الامور الاعتبارية كالاحكام الشرعية ، فهل هي كالامور الواقعية بحيث لا يمكن أن يكون الحكمان المتخالفان الواردان على موضوع واحد من جهة واحدة مصيبين بل لا بدّ من خطأ أحدهما ، أو انّ الحال في الامور الاعتبارية يختلف عن الامور الواقعية ، فمن الممكن أن

٤٧٤

يكون كلا الحكمين مصيبين للواقع بل انّ ذلك هو المتحقّق خارجا.

والاول هو المعبّر عنه بالتخطئة والثاني هو المعبّر عنه بالتصويب ، والقول بالتخطئة هو مذهب الامامية ، وأما القول بالتصويب فهو مذهب جمع من الاشاعرة والمعتزلة على خلاف بينهما ، سيأتي ايضاحه تحت عنوان « التصويب الاشعري » و « التصويب المعتزلي ».

ومنشأ القول بالتخطئة عند الامامية هو ما ثبت بالنصوص الشرعية انّ لله عزّ وجل في كل واقعة حكم ، وأنّ أحكام الله عزّ وجل تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وبهاتين المقدمتين يثبت القول بالتخطئة ، وذلك لأن الاحكام إذا كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، مثل الحج والصلاة والصوم فإنّ منشأ ايجابها هو ما تشتمل عليه من مصالح واقعية ، وكذلك مثل شرب الخمر وأكل الميتة والكذب فإنّ منشأ تحريمها هو ما تشتمل عليه واقعا من مفاسد.

واذا كان كذلك فإنّ الاحكام وان كانت امورا اعتبارية إلاّ انّ لهذه الاعتبارات مناشئ واقعية ، وحينئذ لو صح ان تكون الصلاة واجبة ومحرمة لكان معنى ذلك انّ الصلاة في الوقت التي هي ذات مصلحة هي ذات مفسدة ، وهذا هو اجتماع الضدين المحال ، على انّه لو سلّم انّ أحكام الله عزّ وجل ليست تابعة للملاكات الكامنة في متعلقاتها فإنّ التصويب محال أيضا لاستلزامه اجتماع النقيضين أو الضدين ، وذلك لانّ كل واقعة فلله عزّ وجل فيها حكم ، فلو صوبنا ما ذهب اليه المجتهد من حرمة شيء وصوبنا ما ذهب اليه المجتهد الآخر من عدم حرمة ذلك الشيء أو وجوبه لكان معنى ذلك انّ الله عزّ وجل في الوقت الذي يعتبر انّ هذا الشيء حرام

٤٧٥

يعتبره أيضا غير حرام أو واجبا ، وهذا من اجتماع النقيضين أو الضدين ، إذ انّ المعتبر وان كان غير واقعي وان وعاءه عالم الاعتبار إلاّ انّ نفس الاعتبار من الامور الواقعية كما هو واضح ، فلا يصح ان يكون للمولى اعتباران متباينان في عرض واحد ، ولو صح فهو من العبث الذي يتنزّه عنه المولى جلّ وعلا ، وهذا الجواب الاخير انما يرد على التصويب الاشعري ـ كما سيأتي.

هذا بالنسبة للأحكام الواقعية ، وأما بالنسبة للأحكام الظاهرية فتارة يقع البحث عنها من جهة عالم الجعل واخرى من جهة عالم المجعول المعبّر عنه بالفعلية ، والقول بالتخطئة انّما هو في عالم الجعل دون عالم المجعول.

وبيان ذلك : انّ عالم الجعل هو الذي تجعل فيه الاحكام على موضوعاتها المقدرة الوجود ، فالبراءة مثلا من الاحكام الظاهرية المجعولة على موضوعها المقدر وهو ما لو افترض وقوع الشك في الحكم الواقعي ، كما انّ الاحتياط كذلك. فهنا لو بنى أحد المجتهدين على انّ البراءة هي المجعولة في ظرف الشك وبنى آخر على انّ الاحتياط هو المجعول في ظرف الشك فإن من المستحيل أن يكون كلا المجتهدين مصيبا للواقع وإلاّ لزم اجتماع الضدين ، فلا بدّ وان يكون أحد المجتهدين قد أخطأ الواقع.

وأما مرحلة الفعلية فلا يتعقل فيه إلاّ التصويب ، وذلك لأنّ مرحلة الفعليّة تعني تحقق الموضوع خارجا ، وعندئذ يكون المكلف مسئولا عن ترتيب الحكم ، ولا مجال للتردد في مثل هذا الظرف ، فالمكلّف الذي كان يبني على البراءة في ظرف الشك تكون وظيفته البراءة متى ما تحقق الشك وتكون وظيفة من يبني على الاحتياط هي الاحتياط ، ولا معنى للخطإ في هذه الحالة ، إذ انّ هذه الحالة ليست

٤٧٦

أكثر من ترتيب الحكم المتبنّى على موضوعه المتحقّق قطعا ، فهو مصيب فيما هي الوظيفة الفعلية في حقه ، واحتمال الخطأ والصواب انّما هو في عالم الجعل ، وحتى لو تغيّر رأيه فيما هي الوظيفة في ظرف الشك وبنى على الاحتياط بعد ان كان يبني على البراءة فإنّه لم يكن مخطئا في الجريان على البراءة سابقا ، إذ انّه رتبها على موضوعها ، غايته انّه كان مخطئا في البناء على البراءة وانّ الواقع لم يكن كذلك.

وبتعبير آخر : لا يقال لمن شرب العصير العنبي بانيا على البراءة انّه لا ينبغي له أن يشربه ، نعم يصح ان يقال انّه لا ينبغي له البناء على البراءة ، لأنّ الواقع هو لزوم البناء على الاحتياط في ظرف الشك.

فالتخطئة انما تتعقل في مرحلة الجعل لا مرحلة المجعول.

* * *

١٩٦ ـ أصالة التخيير

وهو من الاصول العملية العقلية ، ومجرى هذا الاصل هو حالات العلم الإجمالي الذي يتعذر معه الاحتياط ، كموارد دوران الامر بين المحذورين مثل دوران الامر بين الوجوب والحرمة ، وسيأتي تفصيل هذا البحث بما يناسب الغرض ان شاء الله تعالى تحت عنوان « دوران الامر بين المحذورين ».

* * *

١٩٧ ـ التخيير الشرعي والعقلي

المراد من التخيير بين شيئين أو أشياء هو جعل المكلّف في سعة من جهة اختيار أحد البدائل الواقعة متعلقا للأمر.

ويقصدون من التخيير الشرعي هو التخيير الذي تصدّى الشارع للنص عليه وعلى أطرافه ، كما في

٤٧٧

التخيير بين خصال الكفارة والتخيير بين الخبرين المتعارضين المستفاد بواسطة روايات العلاج.

وأما التخيير العقلي فهو الذي تتم استفادته بواسطة العقل كما في حالات ايقاع الأمر على الطبيعة بنحو الاطلاق البدلي وكما في حالات التزاحم بين المتساويين.

وسيأتي مزيد توضيح وتعميق للفرق بين التخييرين تحت عنوان « الواجب التخييري ».

* * *

١٩٨ ـ التخيير العقلي الشرعي

هو الذي عبّر عنه السيد الخوئي رحمه‌الله بالتخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي ، ومراده انّه لو ورد خطاب شرعي ودار الأمر بقرينة خارجية بين سقوط أصل الخطاب وسقوط اطلاقه المقتضي للتعيين فإنّ المتعين هو سقوط الاطلاق ، لأنّه القدر المتيقن من القرينة الخارجية ، إذ انّها لا تقتضي أكثر من ذلك.

وبتعبير آخر : لو دار الأمر بين سقوط الحكم وسقوط تعيّنه فإنّ العقل يحكم بسقوط التعيّن دون أصل الحكم ، لأنه القدر المتيقن.

ومثاله لو ورد خطاب شرعي مفاده وجوب صلاة الجمعة ، وكان مقتضى اطلاقه هو الوجوب التعييني ، وورد خطاب آخر مفاده وجوب صلاة الظهر ، وكان مقتضى اطلاقه هو الوجوب التعييني ، ودلّت القرينة الخارجية على عدم وجوب الصلاتين تعيينا ، فاما أن يكون الوجوب ساقط عنهما أو يكون الوجوب ثابت لهما تخييرا والاول يقتضي سقوط الخطابين رأسا ، والثاني يقتضي سقوط الاطلاق ـ المقتضي للتعيين ـ عن كلا الخطابين ، وهنا يكون القدر المتيقن هو سقوط الاطلاق ، إذ القرينة لا تستوجب سقوط كلا الخطابين ،

٤٧٨

نعم هي لا تقتضي التخيير أيضا إلاّ انّه القدر المتيقن من مفاد القرينة بعد دوران مفادها بين سقوط الخطابين وعدم سقوط كلا الخطابين بواسطة ثبوت الوجوب لهما تخييرا.

وذكر السيد الخوئي رحمه‌الله مثالا آخر نذكره ليتّضح المراد أكثر ، وحاصله :

انّه لورود خطاب شرعي عام وكان له اطلاق احوالي إلاّ انّه قامت القرينة الخارجية على خروج فردين من العموم ، الاّ انّ القرينة لا تتكفل ببيان نحو خروجهما ، وهل وانهما خارجان عن العموم مطلقا أو انّ خروجهما عن حكم العام بمعنى عدم صحة ترتيب حكم العام عليهما في عرض واحد ، وأما ترتيب حكم العام على أحدهما عند عدم ترتيب الحكم على الآخر فهو مما لا تنفيه القرينة.

فهنا يكون القدر المتيقن هو الثاني دون الاول ، مثلا : لو قال المولى : « أكرم كل العلماء » فإنّ هذا العموم له اطلاق أحوالي ، بمعنى انه يجب اكرام الفرد الاول حتى في حالة اكرام الثاني وهكذا يجب اكرامه حتى في حالة اكرام الاول والثالث ، فلو كانت هناك قرينة مقتضية لعدم وجوب اكرام زيد وخالد من العلماء إلاّ انّه لم يحرز نحو الخروج لهذين الفردين عن حكم العام ، وهل انّه لا يجوز اكرامهما معا أو انّه لا يجوز إكرام زيد في حالة اكرام خالد ، كما لا يجوز اكرام خالد في حالة اكرام زيد.

فإنّ مفاد القرينة يدور بين اخراج كلا الفردين عن حكم العام أو اخراجهما عن حكم العام تخييرا ، والقدر المتيقن من القرينة هو الخروج التخييري ، وذلك لأنّ القرينة لا تكشف عن أكثر من عدم إرادة الإطلاق الاحوالي في الفردين الخارجين فهي لا تثبت خروجهما معا عن حكم العام ، بمعنى انّه وان كنا نسلّم بأن مقتضى الاطلاق الاحوالي

٤٧٩

في الفردين هو وجوب اكرام كل فرد حتى في حال اكرام الآخر إلاّ انّه ثمّة علم بعدم إرادة الاطلاق ، إما من جهة عدم وجوب اكرامهما من رأس فيكون الاطلاق ساقط عنهما لخروجهما عن حكم العام ، أو انّ الإطلاق الاحوالي هو وحده الساقط عن الفردين دون العموم ، وحينئذ يتعين الاحتمال الثاني ، إذ لا مقتضي لاسقاط حكم العام عنهما معا بعد عدم دلالة القرينة على ذلك ، نعم هي محتملة لذلك إلاّ انها محتملة للمعنى الآخر أيضا ، ولمّا كان المعنى الآخر هو القدر المتيقن فإن العقل يحكم بتعيّنه ، لتمامية العموم وعدم وجود ما يوجب سقوطه عن الفردين رأسا.

* * *

١٩٩ ـ التخيير الفقهي والاصولي

المراد من التخيير الفقهي هو انّ المكلّف في سعة ابتداء من جهة اختيار أحد التكليفين وتطبيقه في مقام العمل ، بمعنى انّ وظيفته هي اختيار أحد التكليفين ابتداء ، فالنصّ الشرعي المتكفل لبيان التخيير الفقهي يحدّد التكاليف الواقع كلّ واحد منها طرفا للتخيير ، ويكون المكلّف عندها مسئولا عن اتخاذ أحد التكاليف وتطبيقها في مقام الامتثال.

وأما التخيير الاصولي فهو بمعنى جعل الحجيّة لأحد الدليلين تخييرا ، ومع اختيار أحد الدليلين بعد ثبوت الحجيّة له تخييرا يكون المكلّف مسئولا عن العمل بالتكليف المستفاد بواسطة الدليل المختار ، ويكون ذلك التكليف هو المتعين عليه بعد اختيار دليله ، وكأنّه لا يوجد تكليف آخر مفاد بواسطة دليل آخر.

وبتعبير آخر : التخيير الاصولي لا نظر له الى مؤدى الدليلين وما يشتملان عليه من تكليفين ، وانّما نظره الى نفس الدليلين وجعل الحجية لهما

٤٨٠