المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأما دعوى وجوب التبعيض في الاحتياط فلأنه إذا تمّت مقدمات الانسداد بما فيها حرمة الاحتياط التام فإنّ المتعين هو التبعيض في الاحتياط وليس حجية مطلق الظن ، إذ لا صلاحية لتمامية مقدمات الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن بعد التمكن من التبعيض في الاحتياط ، كما انّ العقل ليس له شأن الحكم بحجية الظن المطلق كما اتّضح ذلك مما ذكرناه في بحث الانسداد وبحث الحكومة الانسدادية.

وأما البناء على جواز التبعيض في الاحتياط فلأنّه بعد سقوط دعوى الحرمة والقول بحجية الظن المطلق بناء على الحكومة أو الكشف فإنّه لا مانع من التبعيض في الاحتياط إذا لم يكن منافيا لحجية الظن ، كالتبعيض في الاحتياط في التكاليف المحتملة.

* * *

١٨٢ ـ التبعيض في الحجيّة

والمراد من التبعيض في الحجيّة هو ثبوت الحجية لبعض الخبر وسقوطها عن البعض الآخر منه.

والبحث في المقام عن امكان التبعيض في الحجية وعدم امكانه.

الصورة الاولى : ان يكون الخبر مشتملا على أكثر من مدلول ويكون أحد مدلولاته منافيا لمضمون الكتاب أو السنة القطعية أما المدلولات الاخرى فليس بينها وبين الكتاب والسنة الشريفة أي منافاة.

وهنا لا ريب في امكان التبعيض في الحجية ، بمعنى إمكان ان تجعل الحجيّة لمدلولات الخبر الغير المنافية للكتاب والسنة ويكون المدلول المنافي لهما هو الساقط عن الحجية على ان لا تؤدي منافاة بعض مدلولات الخبر للكتاب والسنة الى إحراز كذب المخبر كأن نحتمل عدم إرادة المنافي جدا وواقعا

٤٤١

أو انّ المخبر قد اشتبه في النقل فأضاف ما لم يسمع الى ما سمع ، وحينئذ يكون منشأ سقوط الحجية عن المنافي هو إحراز المنافاة ويكون ثبوت الحجية لغير المنافي مبنيا على وثاقة الراوي وأصالة عدم الغفلة والاشتباه في النقل ، وهذا هو المصحح لشمول أدلة الحجيّة للمقدار غير المنافي ، إذ لا مانع من شمولها لغير المنافي بعد امكان صدقه وعدم اشتباهه وبعد توفره على شرط الحجيّة وهي الوثاقة.

أما امكان صدقه فلعدم وجود ما يحرز معه الكذب في المدلول المنافي ، وأما عدم اشتباهه فللأصل العقلائي القاضي بأصالة عدم الاشتباه والغفلة في ظرف الشك في وقوعهما ، واحتمال الكذب والاشتباه ليس مختصا بالحالة المفترضة بل يشمل كل الاخبار المظنونة الصدور والتي جعل الشارع لها الحجيّة لتوفرها على شرط الحجيّة وهي وثاقة الراوي إلاّ أن يدعى انّ منافاة بعض مدلولات الخبر للواقع تستوجب عدم الوثوق بصدور تمام الخبر ، وهذا غير مبرّر في كثير من الأحيان.

الصورة الثانية : أن يكون الخبر مشتملا أيضا على أكثر من مدلول وتكون بعض مدلولاته منافية لخبر آخر ، واتفق ان كان المدلول المنافي موافقا للعامة وكان مدلول الخبر الآخر بعضه أو تمامه غير موافق لمذهب العامة.

وهنا أيضا لا مانع من ثبوت الحجيّة لمدلولات الخبر غير المنافية للخبر الآخر ويكون الساقط عن الحجيّة هو المدلول المنافي. ومنشأ سقوطه هو المرجح الجهتي القاضي بترجّح الخبر الغير الموافق للعامة على الموافق لمذهبهم. والتفكيك في الحجيّة بين المدلول المنافي والمدلولات غير المنافية لا محذور فيه ، وذلك لعدم قصور أدلة الحجيّة عن الشمول

٤٤٢

لمدلولات الخبر غير المنافية لعين ما ذكرناه في الصورة الاولى.

الصورة الثالثة : ان يكون الخبر مشتملا أيضا على أكثر من مدلول إلاّ انّ بعض مدلولاته محتملا لاكثر من معنى بحيث لا يمكن استظهار واحد من المحتملات ، وهذا بخلاف المدلولات الاخرى للخبر فإنّها ظاهر في معانيها.

وهنا لا إشكال في سقوط المدلول المجمل دون سائر المدلولات ، إذ لا مبرّر لسقوط الحجيّة عن سائر المدلولات بعد افتراض ظهورها في معانيها ، ثم انّ سقوط المدلول المجمل عن الحجيّة لا يختلف الحال فيه بين أن يكون منشأ اجماله هو عدم وضوحه بنفسه أو يكون منشأ الإجمال مسبّب عن أدلة اخرى.

الصورة الرابعة : أن يكون للخبر مدلول واحد استقلالي إلاّ ان لهذا المدلول مدلولات تضمنية متعددة ، ويتفق أن يكون أحد المدلولات التضمنيّة منافيا لمدلول تضمني واقع في اطار مدلول خبر آخر ، وهذا هو المعبّر عنه بالتباين الجزئي أو التعارض بين العامين من وجه.

ومثاله : ما لو كان لسان الخبر الاول هو وجوب اكرام كل العلماء ، وكان لسان الدليل الثاني هو حرمة اكرام كل الفساق ، فالتنافي بين مدلول الخبر الاول ومدلول الخبر الثاني انّما هو في مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق ، فإنّ مقتضى العموم في الخبر الاول هو وجوب اكرامه ومقتضى العموم في الخبر الثاني هو حرمة اكرامه.

ونتيجة التعارض هنا تحتمل أحد احتمالات أربعة :

الاول : هو سقوط الخبرين بتمام مدلوليهما عن الحجيّة ، وهذا معناه عدم الإيمان بالتبعيض في الحجيّة في هذا المورد.

الثاني : سقوط أحدهما بتمام مدلوله

٤٤٣

عن الحجيّة اعتمادا على أحد المرجحات ، وهذا معناه أيضا عدم الإيمان بالتبعيض في الحجيّة.

الثالث : الحكم بالتخيير بين الخبر الاول بتمام مدلوله أو الخبر الثاني بتمام مدلوله ، وهذا معناه عدم التبعيض في الحجيّة أيضا.

الرابع : التسليم بثبوت الحجيّة لكلا الخبرين في مادة الافتراق ، وأما مادة الاجتماع فلها عدة احتمالات :

الاول : سقوط الحجيّة عن الدليلين في مادة الاجتماع.

الثاني : ثبوت الحجيّة لهما في مادة الاجتماع ولكن بنحو التخيير.

الثالث : الرجوع للمرجحات الجهتية والمضمونية دون الصدورية في مادة الاجتماع ، وعندها تسقط الحجيّة عن الفاقد للمرجح دون الواجد ، والساقط عن الحجية هو خصوص المدلول التضمني المنافي للواجد للمرجح.

فلو افترض مثلا انّ المدلول المرجوح جهة أو مضمونا هو حرمة اكرام العالم الفاسق فحينئذ يكون الساقط عن الحجيّة هو خصوص هذا المدلول ، وعليه يثبت وجوب اكرام العالم الفاسق بواسطة الدليل الاول.

الرابع : الرجوع بالإضافة الى المرجحات الجهتية والمضمونيّة الى المرجحات الصدورية في مادة الاجتماع فيكون الساقط عن الحجيّة هو المدلول التضمني المرجوح.

والإيمان بأحد هذه الاحتمالات الأربعة من الاحتمال الرابع معناه الإيمان بالتبعيض في الحجيّة ، وذلك لأنّ الاحتمال الاول معناه ثبوت الحجيّة لبعض مدلول الخبر الاول وبعض مدلول الخبر الثاني والمعبّر عنهما بمادتي الافتراق وسقوط الحجيّة عن بعض مدلول الخبر الاول وبعض مدلول الخبر الثاني وهما مادة الاجتماع.

٤٤٤

والاحتمال الثاني معناه التبعيض في الحجيّة في الخبر الذي لم يختر المكلف مدلوله التضمني ، فتكون مادة الافتراق فيه حجّة دون مادة الاجتماع.

وأما الاحتمال الثالث والرابع فمعناه ثبوت الحجيّة لبعض الخبر المشتمل على المدلول التضمني المرجوح فالمقدار الواجد للحجيّة هو مادة الافتراق.

وكيف كان فالاحتمالات الثلاثة للصورة الرابعة وان كانت ممكنة إلاّ انّها ساقطة جزما ، وذلك لعدم وجود مبرر لسقوط الخبرين أو أحدهما عن الحجيّة من رأس بعد افتراض عدم التعارض التام بينهما وبعد ان لم تكن أدلة الحجيّة قاصرة عن الشمول لمادتي الافتراق فيهما.

وأمّا الاحتمال الرابع والقاضي بالتبعيض في الحجيّة فالاحتمال الاول منه وهو سقوط الحجيّة عن مادة الاجتماع في الخبرين مبني على القول بتساقط المتعارضين وعدم شمول روايات الترجيح لهذا الفرض ، والاحتمال الثاني مبني على القول بأنّ المرجع عند التعارض هو التخيير مطلقا حتى مع وجود المرجحات المنصوصة كما هو مبنى صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وأما الاحتمال الثالث فمبني على انّ المرجع عند التعارض هو المرجحات بعد افتراض امكان ان يصدر بعض الخبر تقية أو بنحو لا يكون مرادا جدا ، وعندئذ لا مانع من شمول أدلة الحجيّة لمادتي الافتراق وثبوتها أيضا للمدلول الواجد للمرجح الجهتي أو المضموني.

وأما عدم الرجوع للمرجح الصدوري مثل الشهرة أو الصفات فلأنّه يلزم منه أحد محذورين ، أما المحذور الاول فهو إسقاط أحد الخبرين من رأس ، فالخبر الذي يكون راويه أعدل أو أصدق أو أفقه

٤٤٥

تثبت له الحجيّة دون الخبر الآخر الذي يكون راويه عدلا أو صادقا ، ومن الواضح انّ ذلك لا يمكن قبوله ، إذ يلزم منه اسقاط الحجيّة عن الخبر المرجوح في مادة الافتراق وهو غير مبرّر بعد ان لم تكن مادة الافتراق طرفا في المعارضة ، واذا قلت : نرجع للمرجح الصدوري في مادة الاجتماع فحسب فهذا معناه التبعيض في السند ، وهذا هو المحذور الثاني ، إذ من غير المعقول ان يتعبدنا الشارع بصدور بعض الخبر دون البعض ، فالخبر له مدلول واحد فإمّا ان يكون صادرا أو لا يكون صادرا ، فالحجيّة من حيث السند لا يتصور فيها التبعيض بخلاف الحجيّة من جهة المضمون ، إذ من الممكن أن يكون بعض مدلول الخبر ليس جديا ، وكذلك الحجيّة من حيث الجهة ، إذ من الممكن أن يكون بعض مدلول الخبر صدر تقية أمّا ان يتعبدنا الشارع بصدور بعض الخبر دون بعضه الآخر فهذا ما لا نتعقله ، هذا حاصل ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله.

وأجاب عنه السيد الخوئي رحمه‌الله بأنّ الرجوع الى المرجحات الصدورية لا يلزم منه التبعيض في السند ، أي التبعيض في الصدور ، فالرجوع الى المرجح الصدوري لا يعني القول بأن بعض الكلام صادر وبعضه غير صادر بل انّ الرجوع الى المرجح الصدوري معناه انّ الشارع جعل الحجيّة لبعض المدلول ولم يجعلها للبعض الآخر من مدلول الخبر.

وبيان ذلك : انّ الحكم الشرعي تارة يكون موضوعه الدال وتارة يكون موضوعه المدلول ، فإذا كان موضوعه الدال فحينئذ لا يتعدد الحكم بتعدّد المدلول ، ومثاله حرمة الكذب ، فإن موضوعه الدال أي الخبر بقطع النظر عن تعدد مدلوله أو اتحاده ، فلا فرق بين أن يقول زيد : « مات عمرو » أو ان يقول : « مات كل

٤٤٦

من في القرية » فإنّه في كلا الإخبارين لو كانا كاذبين يكون قد ارتكب حراما واحدا وان كان المدلول متعددا في الإخبار الثاني ، أي انّه كما لو أخبر بالخبر الاول يكون قد ارتكب كذبا واحدا فكذلك في الإخبار الثاني يكون قد كذب كذبة واحدة ، فدعوى انحلال الحرمة بعدد مدلولات الخبر غير معقولة بعد ان كان موضوع حرمة الكذب هو الدال وهو واحد كما هو الفرض.

وأما لو كان موضوع الحرمة هو المدلول فتعدد الحرمة واتحادها منوط بتعدد المدلول واتحاده ، فلو كان المدلول متعددا لكانت الحرمات متعددة بعدده لافتراض انّ موضوع الحرمة هو المدلول ، ومثاله : حرمة الغيبة ، فإنّ موضوع الحرمة هو المدلول ، فلو قال زيد : « كل من في القرية فساق » فإنّ الحرمة تتعدد بعدد أفراد من في القرية ، إذ انّ ذلك ينحل الى نسبة الفسق لكل فرد من أفراد من في القرية ، أي ينحل هذا الخبر الى مدلولات بعدد أفراد الطبيعة ، وهذا ما يعني تعدد الحرمات باعتبار انّ موضوعها المدلول كما هو الفرض.

وباتضاح هذه المقدمة نقول : انّ الحجيّة حكم يعرض الخبر من حيث مدلوله ، واذا كان كذلك فهي متعددة بتعدد المدلول ، ولا يكون اتحاد الدال موجبا لاتحاد الحجيّة ، بمعنى ان تكون ثابتة أو غير ثابتة بل انها قد تكون ثابتة لبعض مدلول الخبر ولا تكون ثابتة للبعض الآخر ، وذلك لأن كل مدلول من مدلولات الخبر يكون موضوعا مستقلا للحكم بالحجية.

ومن هنا لو رجعنا للمرجحات الصدورية في مادة الاجتماع لا يكون ذلك موجبا لطرح الخبر من رأس بل انّ الساقط هو خصوص المدلول التضمني المرجوح وتكون مادة الافتراق باقية على الحجيّة ، لأنّها

٤٤٧

موضوع مستقل لها ولم تقع طرفا في المعارضة حتى يستوجب ذلك سقوطها عن الحجيّة بالمرجح الصدوري ، فالرجوع للمرجح الصدوري لا يوجب التبعيض في السند بل هو موجب للتبعيض في الحجيّة ، باعتبار انّ موضوعها المدلول فيكون معنى الرجوع للمرجح الصدوري هو اثبات الحجيّة لمدلول دون مدلول.

ونبّه على ذلك بمجموعة من الامثلة ، منها : انّه لو قامت البيّنة على انّ ما في يد زيد من عشرة دراهم هي لعمرو ، ثم قامت بيّنة اخرى على انّ خمسة منها لخالد ، فإنّه لا ريب في انّ الخمسة الاولى من الدراهم تكون لعمرو ، وما ذلك إلاّ لأنّ الحجيّة الثابتة للبيّنة ثابتة لمدلولاتها كل مدلول على حدة ، بمعنى ان كل مدلول يكون موضوعا مستقلا للحجية ، ولمّا لم تكن الخمسة الاولى طرفا في المعارضة فإنّه لا مانع من ثبوت حجيّة البينة لها دون الخمسة الاخرى الواقعة طرفا في المعارضة.

وبهذا يتضح وجه الاحتمال الرابع من انّه لا مانع من الرجوع للمرجحات الصدوريّة في مادة الاجتماع ، ولا يلزم من ذلك التبعيض في السند.

ويتضح أيضا مما ذكرناه الفرق بين التبعيض في الحجيّة من حيث المدلولات التضمنيّة وبينه من حيث المدلولات الالتزامية ، فإنّ الاول لا مانع عنه ، أما الثاني فيمكن المنع عنه باعتبار تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية ثبوتا وانتفاء ، فالمدلولات التضمنيّة لا يتصل أحدها بالآخر ، إذ ليس أحدها منتجا للآخر ، بخلاف المدلول الالتزامي فإنّ منشأه هو المدلول المطابقي ، ولهذا يمكن ان يقال بأن سقوط المدلول المطابقي موجبا لسقوط المدلول الالتزامي.

٤٤٨

ثم انّ ما ذكرناه مختص بحالات التعارض الجزئي إذا كان كلا الخبرين عاما ، أما لو كان التعارض بين عام ومطلق فقد ذكرنا انّ المشهور هو تقديم العام في مادة الاجتماع على المطلق ، وأما لو كان التعارض الجزئي بين اطلاقين فهو ما سيأتي الحديث عنه مستقلا ان شاء الله تعالى.

الصورة الخامسة : أن يكون للخبر مدلول التزامي واتفق سقوط المدلول المطابقي عن الخبر بعد ثبوته ، فهنا يمكن القول ببقاء المدلول الالتزامي على الحجيّة ، وبهذا يثبت التبعيض في الحجيّة ، فيكون المدلول الالتزامي حجة ويكون المدلول المطابقي ساقطا عن الحجيّة ، وقد فصلنا ذلك تحت عنوان « تبعية الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة ».

وهناك صور اخرى أعرضنا عن ذكرها لاتضاحها بما تقدم من صور ، فتأمل.

* * *

١٨٣ ـ تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية

لم يقع خلاف بين الأعلام في تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الثبوت إذا كان المدلول الالتزامي للإمارة دون الأصل ، نعم لم يقبل السيد الخوئي رحمه‌الله بذلك في غير الامارة التي تكون من قبيل الاخبارات ، حيث ذهب الى انّ الأمارة ليست حجة في مثبتاتها إلاّ ان تكون خبرا أو بينة.

وكيف كان فقد وقع الخلاف بين الأعلام في تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط ، بمعنى انّه لو اتفق سقوط المدلول المطابقي للأمارة عن الحجية فهل يسقط المدلول الالتزامي عن الحجية أيضا أو انّ سقوط المدلول المطابقي للأمارة لا يستلزم سقوط مدلولها الالتزامي.

ذهب جمع من الأعلام الى عدم

٤٤٩

التلازم في السقوط وان اتفقوا على التلازم في الثبوت ، بمعنى انّه كلّما كان للامارة مدلولان مطابقي والتزامي فإنّ ثبوت الحجية للاول يلازم ثبوت الحجيّة للثاني إلاّ انّ سقوط الحجيّة عن الاول لا يلازم سقوط الحجيّة عن الثاني.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب آخرون كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله الى التلازم في السقوط أيضا.

ولكي يتحرر محل النزاع نبيّن أقسام المدلول الالتزامي :

انّ المدلول الالتزامي إما أن يكون مساويا للمدلول المطابقي وأمّا أن يكون أخصّ منه أو يكون أعمّ منه.

أما ما كان منه مساويا للمدلول المطابقي فهو ما كان علة منحصرة للمدلول المطابقي أو معلولا أو لازما كذلك ، بمعنى انّ كلّ واحد منحصر بالآخر. ومثاله الإخبار عن انّ زيدا يرى فإنّ لازمه انّ لزيد عينا يبصر بها ، إذ انّ الرؤية معلول منحصر بامتلاك الرائي لجارحة العين المبصرة.

وهنا لا خلاف في سقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة لو اتفق العلم بسقوط المدلول المطابقي عن الحجيّة ، وذلك لأنّ المدلول الالتزامي منحصر ثبوته بتحقق المدلول الالتزامي ، فمع انتفائه لا شيء يوجب بقاء أو تحقق المدلول الالتزامي بعد افتراض ان تحققه منحصر بتحقق المدلول المطابقي ، فيكون العلم بسقوطه علما بسقوط المدلول الالتزامي.

وأما ما كان منه أخص من المدلول المطابقي فهو ما كان معلولا أو لازما منحصرا للمدلول المطابقي مع كون المدلول المطابقي علة للوازم اخرى. ومثاله الإخبار عن موت زيد فإنّ لازمه توقف نفس زيد ، وهذا اللازم أخص من المدلول المطابقي ، إذ انّ لموت زيد مدلولات التزامية اخرى

٤٥٠

بالإضافة الى توقف نفسه وهي مثلا امتناعه عن الكلام والأكل والشرب والحركة الإرادية.

وهنا أيضا لا بدّ من الالتزام بسقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجيّة ، وذلك لعين ما ذكرناه في القسم الاول ، إذ انّهما يشتركان في كون اللازم منحصرا بالمدلول المطابقي ، بمعنى انّه لا موجب للمدلول الالتزامي غير هذا المدلول المطابقي ، نعم هما يفترقان من حيث انّ القسم الاول يكون فيه المدلول المطابقي منحصرا أيضا باللازم ، وهذا بخلاف هذا القسم ، فهو وان كان اللازم فيه منحصرا بالمدلول المطابقي بحيث لا يوجد عن غيره إلاّ انّ المدلول المطابقي غير منحصر باللازم فهو يوجد اللازم ويوجد غيره من اللوازم الاخرى ، إلاّ انّ هذا الفرق لا يؤثر في النتيجة بعد افتراض كون اللازم منحصرا.

فانحصار اللازم بالمدلول المطابقي هو الذي يوجب العلم بسقوط اللازم عند سقوط المدلول المطابقي ، وهذا هو المبرّر للقول بتبعية المدلول الالتزامي للمطابقي في السقوط عن الحجيّة في كلا القسمين.

وبهذا يتّضح خروج القسمين الاول والثاني عن محل النزاع ، إذ لم يختلف أحد في التبعية.

وأما القسم الثالث ـ وهو ما كان اللازم في أعم من المدلول المطابقي ـ فهو ما كان معلولا أو لازما مع امكان ان ينشأ هذا اللازم عن ملزوم آخر أو علة اخرى ، ومثاله الإخبار عن غرق زيد في الماء فإنّ لازمه موت زيد ، وهذا اللازم أعم من المدلول المطابقي ، إذ انّ الغرق ليس هو الموجب الوحيد للموت بل قد يحدث الموت بموجب آخر غير الغرق من الاحتراق أو السقوط من شاهق.

وهذا القسم هو الذي وقع فيه

٤٥١

الخلاف بين الأعلام ، حيث ذهب المشهور الى التبعية في السقوط عن الحجيّة وذهب آخرون الى عدم التلازم بين سقوط المدلول المطابقي وسقوط المدلول الالتزامي.

واستدلّ لصالح القول بالتلازم بما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله وحاصله :

انّ الإخبار عن الملزوم ـ والذي هو المدلول المطابقي ـ يؤول روحا الى الإخبار عن مدلولين ، الاول هو المدلول المطابقي والثاني هو المدلول الالتزامي ، وكل واحد منهما موضوع مستقل للحجية ، فلو اتفق سقوط المدلول المطابقي عن الحجية بسبب التعارض أو العلم باشتباه المخبر في خصوص المدلول المطابقي فإنّ ذلك لا يستوجب سريان سقوط الحجيّة الى المدلول الالتزامي بعد ان كان المدلول الالتزامي موضوعا مستقلا للحجيّة.

وأجاب السيد الصدر رحمه‌الله عن ذلك بأن كلا المدلولين المطابقي والالتزامي ينشأ احراز مطابقتهما للواقع عن الأصل العقلائي وهو أصالة عدم الاشتباه في النقل وكذلك ينشأ عن احراز عدم الكذب لافتراض وثاقة الراوي ، أما إذا أحرزنا اشتباه الناقل في المدلول المطابقي فإن احراز اشتباهه في المدلول الالتزامي لا يعني افتراض اشتباه آخر.

ففي المثال الذي ذكرناه ـ وهو الاخبار بغرق زيد والذي لازمه الإخبار بموته ـ لا يكون الحكم باشتباه الناقل في الإخبار بالموت مستتبعا لافتراض اشتباه آخر غير الاشتباه الثابت لنقله بغرقه ، إذ انّ الاصل العقلائي لمّا لم يكن جاريا في المدلول المطابقي فهو غير جار في المدلول الالتزامي ، إذ انّ منشأ الأصل العقلائي هو استبعاد اشتباه الناقل ، وهذا الاستبعاد نشأ عنه المدلولان معا ومع احراز الاشتباه يكون الأصل العقلائي غير جار في المدلولين ، لأنّه

٤٥٢

لا معنى للاستبعاد حينئذ بعد إحراز الاشتباه في المدلول المطابقي والذي تولّد عنه المدلول الالتزامي. ومن هنا اتّضح وجه التبعية في السقوط.

* * *

١٨٤ ـ تبعية الدلالة للإرادة

لا خلاف بين الاعلام في تبعية الدلالة الاستعمالية التفهيميّة وكذلك الدلالة التصديقية الجدّية للإرادة ، فإن الدلالة التفهيميّة والتي تعني ظهور حال المتكلم انّه في مقام تفهيم المعنى من اللفظ لا تكون إلاّ مع إحراز إرادة المتكلّم للتفهيم ، غايته ان إحراز الإرادة لا يتوقف على تصريحه بل يكفي ظهور حاله انّه في صدد التفهيم مع عدم وجود قرينة ـ أو ما يصلح للقرينية ـ تقتضي غير ذلك ، وهكذا الكلام في الدلالة التصديقيّة الجديّة فإنّها تعني ظهور حال المتكلم في انّ ما قصد تفهيمه باللفظ يريده جدا وواقعا ، وهذا كما هو واضح منوط باحراز كون المتكلم بصدد ذلك.

فتبعية الدلالة للإرادة في الدلالتين ليس محلا للنزاع بين الاعلام ، انّما الكلام في الدلالة الوضعية فقد وقع البحث في تبعيّتها للإرادة ، بمعنى انّ دلالة اللفظ على المعنى هل هي منوطة بقصد المتكلم تفهيم المعنى من اللفظ أو انّ دلالة اللفظ على المعنى ليست متوقفة على إرادة المتكلم تفهيم المعنى من اللفظ بل الدلالة الوضعية تتحقّق حتى مع عدم إرادة المتكلّم لذلك بل وحتى لو صدر اللفظ من غير عاقل أو من غير ذي الشعور.

فبناء على الرأي الاول تكون الدلالة الوضعية دائما دلالة تصديقيّة ، وأما بناء على الرأي الثاني فالدلالة الوضعية دلالة تصورية لا تستوجب أكثر من انخطار المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ من غير فرق بين ان يكون اللافظ قاصدا لتفهيم المعنى من

٤٥٣

اللفظ أو لم يكن قاصدا ، كما لو صدر منه غفلة أو حال نومه ، والرأي الثاني هو مذهب المشهور.

ولعلّ أول من أثار هذا البحث هو الخواجة نصير الدين الطوسي والشيخ الرئيس ابن سينا رحمهما الله حيث انّ المستظهر من عبائرهما هو تبعية الدلالة للإرادة ، إلاّ انّ الاعلام اختلفوا في أي الدلالات هي التابعة للإرادة في نظرهما ، فبعضهم استظهر انّ مرادهما هو تبعية الدلالة التصديقية للإرادة واستظهر البعض الآخر من كلامهما تبعية الدلالة الوضعية للإرادة ، وذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ مقصودهما هو تبعيّة الدلالة الوضعية ـ والتي لا تكون إلاّ تصديقيّة ـ للإرادة.

أما دعوى انّ التبعية المقصودة هي تبعية الدلالة التصديقيّة ـ الاولى والثانية ـ للإرادة فلاستبعاد أن تكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني المرادة بحيث تكون الإرادة جزء المعنى الموضوع له اللفظ ، إذ انّ الوجدان قاض بأن الالفاظ موضوعة لنفس المعاني بقطع النظر عن إرادتها ، ولهذا نجد ان دلالة الألفاظ على معانيها تتحقق ولو مع إحراز عدم إرادتها من اللافظ ، كأن كان يقصد معنى غير المعنى الموضوع له اللفظ أو كان اللافظ من غير ذي الشعور ، مع انّه يلزم كون الوضع دائما من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، لأنّه يستلزم دائما تقيّد المعنى بالإرادة الحقيقيّة والتي هي جزئية فيكون الموضوع له وهو المعنى المراد خاصا والوضع عاما إلاّ أن يكون المقصود من الإرادة هو مفهومها لا واقعها ، وهذا معناه عدم توقف الدلالة على الإرادة الحقيقيّة المستوجبة لكون المتكلم ملتفتا ، فتكون الدلالة تصورية ، غايته انّ المعنى المدلول عليه باللفظ هو عبارة عن المعنى بالإضافة الى مفهوم

٤٥٤

الإرادة ، وهو غير مقصود حتما ، فيكون المستفاد من لفظ الأسد عند اطلاقه الحيوان المفترس بالاضافة الى مفهوم الإرادة وهذا غير مقصود حتما.

وبهذا يتعيّن كون المراد من التبعيّة هو تبعيّة الدلالة التصديقيّة للإرادة ، وواضح انّ ذلك لا يتّصل بالوضع ، إذ انّ الدلالة التصديقيّة « الاستعمالية والجديّة » انّما تستفاد من الظهور الحالي السياقي للمتكلم وانّه في مقام تفهيم المعنى من اللفظ وانّ مراده الجدي مطابق للدلالة الاستعمالية التفهيميّة.

وأما دعوى انّ التبعية المقصودة هي تبعية الدلالة الوضعيّة ـ والتي لا تكون إلاّ تصديقيّة ـ للإرادة فهي دعوى السيد الخوئي رحمه‌الله ، ومنشؤها هو انكاره للدلالة التصورية والتي تعني انخطار المعنى من اللفظ بمجرّد اطلاقه ولو من غير ذي الشعور ، حيث يرى ان مثل هذه الدلالة ليست أكثر من دلالة انسية نشأت عن كثرة الاستعمال أو عن منشأ آخر وليست ناشئة عن الوضع ، والدلالة التي تنشأ عن الوضع لا تكون إلاّ اختيارية ، أما على مسلكه في الوضع ـ وانّه عبارة عن الالتزام والتعهد بأن لا ياتي باللفظ إلاّ إذا كان قاصدا لتفهيم المعنى ـ فواضح ، إذ من غير المعقول ان تحصل الدلالة الوضعيّة دون ان يكون المتكلم عاقلا ملتفتا ومريدا لتفهيم المعنى من اللفظ ، إذ لو كانت الدلالة تحصل من غير ذلك لما كان الوضع بمعنى التعهد والالتزام والذي يستبطن الإرادة والاختيار.

ومن هنا كانت الدلالة الوضعية دائما تصديقيّة بمعنى انّ العلقة بين اللفظ والمعنى لا تكون إلاّ في حالة قصد تفهيم المعنى باللفظ ، ومع عدم القصد لا تكون هناك علقة وضعية بين اللفظ والمعنى ، فتقوّم الدلالة الوضعية بالإرادة حتمي بناء على مسلك التعهد.

٤٥٥

وأمّا بناء على مسلك الاعتبار فهل الدلالة الوضعية تابعة للإرادة أيضا ، ذهب السيد الخوئي رحمه‌الله لذلك بدعوى انّ الغرض من الوضع انّما هو تفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا الداعي من اعتبار اللفظ دالا على المعنى يكون هو المحدد لدائرة الدلالة الوضعية ، إذ لا معنى لان يكون الاعتبار أوسع من الداعي والغرض من الوضع ، فلو كانت الدلالة الوضعية مفيدة لانخطار المعنى من اللفظ مع عدم إرادة تفهيم المعنى لكان ذلك يعني كون الاعتبار أوسع من الوضع وهو لغو لا يتعقل من مثل الواضع الحكيم.

فالمتحصل انّ الدلالة تابعة للإرادة مطلقا وعلى تمام المباني وان مقصود المحقق الطوسي والشيخ الرئيس رحمهما الله هو تبعية الدلالة الوضعيّة ـ والتي لا تكون إلاّ تصديقيّة ـ للإرادة. هذا هو مبنى السيد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

١٨٥ ـ تتميم الكشف

وهو مسلك المحقّق النائيني رحمه‌الله فيما هو المجعول في الامارات وتبعه السيد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله : انّ الامارات والطرق والتي هي معتمدة عند العقلاء في مقام التعرف على الواقعيات ليس لها الاّ دور الكشف عن الواقع كما هو الحال في الوسائل العلمية والتي تكشف عن الواقع كشفا قطعيا ، غايته انّ الامارات والطرق تكشف عن الواقع كشفا ظنيا ، ولهذا يحتاج التعبد بها الى جعل من الشارع.

وباتضاح ذلك نقول : انّ الحجيّة لمّا لم تكن ذاتية للأمارات لافتراض النقص في كاشفيتها عن الواقع ـ بخلاف الوسائل العلمية فإنّ حجيّتها ذاتيّة ـ فحينئذ يكون جعل الحجيّة لها من قبل الشارع ـ ولو بواسطة امضاء ما عليه العقلاء اعتماد الطرق والامارات ـ معناه إلغاء احتمال منافاة

٤٥٦

مؤدى الامارة للواقع ، وهذا الإلغاء والذي يثبت بواسطة جعل الحجيّة للامارة هو المراد من تتميم الكشف ، إذ انّ جعل الحجيّة للامارة يؤول روحا الى انّ الشارع قد تمم الكشف الناقص الذي عليه الأمارة ، وهذا التتميم يعني انّ الشارع قد أعطى للأمارة ما للعلم من صلاحية الكشف عن الواقع.

ومبرّر دعوى ان المجعول في الامارات هو الطريقية وتتميم الكشف هو انّ الطرق والامارات المعتمدة عند الشارع ليست من اختراع الشارع بل انها جميعا معتمدة عند العقلاء ، فهي المعوّل عليها في مقام ابلاغ المقاصد والتعبير عن المرادات وفي مقام المعوّل عليها في مقام ابلاغ المقاصد والتعبير عن المرادات وفي مقام الإدانة. ونلاحظهم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع اتفاقا.

وواضح انّ ذلك ليس ناشئا عن الاحتياط ورجاء إدراك الواقع ، إذ انّه لو كان كذلك لما اعتمدوا عليها في الموارد الخطيرة كمسائل الدماء والأعراض والاموال الخطيرة والذي يكون الاحتياط في موردها مقتضيا لعدم الاعتماد على الطرق والامارات الظنيّة مما يعبّر عن انّ منشأ الاعتماد على الطرق والامارات ليس هو الاحتياط ، كما انّ منشأ الاعتماد لا يمكن ان يكون هو العلم بمطابقة مؤديات الامارات للواقع ، إذ ان مما لا ريب فيه انّ الامارات لا تكشف عن الواقع كشفا قطعيا كما يشهد لذلك الوجدان ، وهذا ما يؤكد انّ المنشأ لتعويلهم على الطرق والأمارات هو انّها بنظرهم كالوسائل العلمية من حيث غالبية مطابقة مؤدياتها للواقع ، بمعنى انّ هذا الاعتبار العقلائي نشأ عن مبرّر هو من الاستحكام والإتقان بحيث اقتضى اعتبار الامارات كالوسائل العلمية.

٤٥٧

ومن هنا جاء الجعل التشريعي على أساس صوابية هذا البناء العقلائي ، وهذا ما استفدناه بواسطة الامضاء ، فالامضاء وقع على ما هو البناء العقلائي من الغاء احتمال الخلاف فيما تكشف عنه الامارة.

* * *

١٨٦ ـ التجرّي

التجرّي هو العمل على خلاف ما قامت الحجة على تنجّزه ، على ان يكون المتنجّز بالحجة غير مطابق للواقع وإلاّ فلو طابق الواقع لكان معصية ، فالفرق بين المعصية والتجرّي انّما هو من حيث مطابقة المتنجّز بالحجة للواقع وعدم مطابقته ، ففي ظرف المطابقة يكون الفعل المنافي لما عليه الحجة معصية وفي ظرف عدم المطابقة للواقع يكون الفعل المنافي للحجة تجرّيا.

وبهذا اتضح انّ التجرّي لا يختص بمورد مخالفة ما يقتضيه القطع ، فهو وان كان أجلى مصاديق التجرّي إلاّ انّ التجرّي لا يختص به بل يشمل مخالفة كل حكم قام الدليل على تنجّزه على المكلف ، ومن هنا لو خالف المكلّف ما تقتضيه الامارة المعتبرة أو ما يقتضيه الاستصحاب مثلا أو الاشتغال أو أجرى البراءة عن الحكم الإلزامي قبل الفحص فإنّه حينئذ يكون متجريا لو اتفق عدم مطابقة هذه الحجج للواقع.

ثم انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه ليتحرّر معنى التجرّي أكثر ، وهو انّ القطع أو الظن المعتبر انما يكونان قواما لتحقق التجرّي لو انكشف الخلاف انما يكونان كذلك لو لوحظا على انّهما طريقان لإحراز الواقع ، بمعنى انّ القطع مثلا لم يكن سوى كاشف عن الواقع وهكذا الظن ، أما لو كان القطع ـ أو الظن ـ موضوعيا بمعنى أخذه موضوعا أو جزء موضوع للحكم

٤٥٨

بحيث يكون مساهما في توليد الحكم لا الكشف عنه ـ كما هو في القطع الطريقي ـ فإنّ التجرّي لا يكون حينئذ متصورا حتى مع انكشاف منافاة القطع للواقع.

فلو قال المولى : إذا قطعت بأن هذا الحكم ليس شرعيا فيحرم عليك اسناده للشارع ، فلو قطع المكلف بذلك ومع ذلك أسند الحكم للشارع فإنّه يكون عاصيا حتى لو انكشف انّ هذا الحكم مطابقا للواقع ، فإن مطابقته للواقع لا ينفي عن المكلّف المعصية ويصيّره متجريا ، وذلك لأن حرمة الإسناد انّما هي مترتبة على القطع وهو متحقق وجدانا كما هو الفرض وعليه تكون حرمة الاسناد ثابتة واقعا وعدم مطابقة المقطوع للواقع لا ينفي موضوعية القطع للحرمة ، وهكذا الكلام في الظن اذا كان موضوعيا.

وبهذا اتضح انّ القطع الموضوعي والظن الموضوعي وكذلك الاحتمال الموضوعي مما يترتب على مخالفتهما المعصية حتى لو لم يكن متعلقها مطابقا للواقع ، فالتجري انما يتصور في القطع والظن الطريقيين.

ثم انّ هنا حالة وقع الكلام في انّها داخلة تحت عنوان التجرّي أو انّها خارجة عنه. وهذه الحالة هي ما لو قامت الامارة أو المؤمن الشرعي على اباحة شيء فمن الواضح انحفاظ احتمال منافاة الاباحة للواقع فلو انّ المكلّف ارتكب هذا الفعل برجاء ان يكون حراما واقعا ، اي انّ الدافع من ارتكاب الفعل المباح ظاهرا هو رجاء ان يكون محرما في نفس الأمر والواقع.

مثلا : لو قامت البينة على انّ هذا المائع خلّ فشربه المكلّف برجاء أن يكون خمرا ، فهل انّ هذا المكلّف الجسور على المولى جلّ وعلا يعدّ متجريا وانّ الفعل الذي ارتكبه

٤٥٩

متجرى به أو لا؟

ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله الى انّ هذا المكلّف متجر ، ومن هنا يكون مشمولا للأحكام المترتبة على المتجري ، وعلّق السيد الصدر رحمه‌الله على دعوى المحقق النائيني رحمه‌الله بأنّ التجرّي اذا كان بالإضافة الى نفس الفعل فدعوى المحقق النائيني رحمه‌الله ليست تامة ، وذلك لافتراض انّ الفعل الذي ارتكبه مؤمّن عنه شرعا ، وان كان التجرّي بلحاظ ما عليه المكلّف من خبث نفساني من حيث رغبته فيما يسخط المولى جلّ وعلا يكون ما أفاده المحقق النائيني تاما ويكون المكلف في الفرض متجريا على حدود الحق المولوي والمقتضي لعدم التعرّض لإسخاط وانتهاك حرمة المولى جلّ وعلا.

* * *

١٨٧ ـ التجزّي

وقد عرّف الاجتهاد بنحو التجزّي بأنّه الاقتدار على استنباط بعض الاحكام دون بعض ، وذلك في مقابل الاجتهاد المطلق فإنّ الواجد له يقتدر على استنباط تمام الاحكام على اختلاف أبوابها وتفاوتها من حيث الصعوبة والسهولة وابتناؤها على مقدمات كثيرة أو قليلة.

والبحث عن الاجتهاد بنحو التجزّي يقع في جهتين : الجهة الاولى في امكانه ، والجهة الثانية في حكم المتجزي :

أما الجهة الاولى : فهي مورد خلاف بين الأعلام حيث ذهب بعضهم الى استحالة التجزي وذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى وجوبه عقلا ، وأما المعروف بين الاصوليين فهو الإمكان.

أما القائلون بالاستحالة فاستدلّوا على ذلك بأنّ الاجتهاد ملكة يقتدر بها المجتهد على استنباط الاحكام أمر بسيط غير قابل للتجزئة ، فإمّا ان

٤٦٠