المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

أيضا في تفسيره عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليهم‌السلام عند تفسير قوله تعالى : ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي يقدّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة وله فيه البداء والمشيئة ، يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والارزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء » (١٥).

فالمراد من البداء هو انّ لله تعالى المشيئة فيما يقضيه ويقدّره ، إلاّ انّ ذلك لا يعني ان مشيته التي قد تقتضي التقديم أو التأخير أو عدم وقوع المعلّق عند عدم وقوع المعلّق عليه نشأت عن عدم علمه بمجاري الامور حيث يظهر له بعد ذلك انّ الأوفق هو تقديم ما قدّر تأخيره أو تأخير ما قدّر تقديمه ، وانما مشيئته اقتضت تدبير خلقه بهذا النحو من التدبير.

ولهذا أكدت الروايات على هذا المعنى :

منها : ما رواه الصدوق في إكمال الدين باسناده عن أبي بصير وسماعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من زعم انّ الله عزّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرءوا منه » (١٦).

ومنها : ما رواه العياشي عن ابن سنان عن ابي عبد الله عليه‌السلام يقول : « انّ الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده ام الكتاب ، وقال فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل ان يصنعه ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه ، انّ الله لا يبدو له من جهل » (١٧).

هذا هو مراد الإمامية من البداء ، والطعن عليهم انما جاء من عدم فهم مرادهم ومع انفهامه لا معنى لعرض أدلتهم ومن أراد فليراجع.

* * *

١٦٩ ـ البراءة

وهي احدى الاصول العملية

٤٠١

الجارية في ظرف الشك في التكليف الواقعي ، وبها تتحدّد الوظيفة العملية للمكلّف تجاه التكليف المشكوك دون ان يكون لها كشف عن الحكم الواقعي.

والوظيفة المقررة بواسطة البراءة هي السعة وعدم لزوم امتثال التكليف المشكوك. ومجرى هذا الاصل هو الشبهات البدوية الحكمية والموضوعية فمورد هذا الاصل هو الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به إذ انّ الثاني مجرى لاصالة الاشتغال ، وسيأتي توضيح ذلك فيما بعد.

ثم انّ الشك في التكليف والذي هو مجرى لأصالة البراءة ـ أو قل هو موضوع لجريان هذا الاصل ـ يمكن تقسيمه الى ثمانية أقسام كما ذكر الشيخ الانصاري رحمه‌الله ، وذلك لأن الشك تارة يكون في الوجوب وعدمه ، وتارة يكون الشك في الحرمة وعدمها ، وكلّ واحد من القسمين ينقسم الى أقسام أربعة ، إذ انّ الشك في الوجوب وكذلك الشك في الحرمة تارة ينشأ عن فقدان الدليل وتارة ينشأ عن اجماله وثالثة ينشأ عن تعارض الأدلة وعدم وجود مرجّح لأحدهما على الآخر ، وقد يكون الشك ناشئا عن اشتباه الامور الخارجية.

وصاحب الكفاية رحمه‌الله استعاض عن تقسيم أنحاء الشك بإعطاء ضابطة عامة وهي انّ مجرى أصالة البراءة هو الشك في التكليف وهو يشمل تمام الأقسام المذكورة ، إلاّ انّه استثنى من هذه الاقسام قسما واحدا لم يرتض جريان البراءة في مورده ، وهو ما لو كان منشأ الشك هو تعارض النصين حيث يبني هو رحمه‌الله على انّ المرجع في حالات التعارض هو التخيير اعتمادا على مجموعة من الروايات.

وأما السيد الخوئي رحمه‌الله فأورد على الشيخ الانصاري رحمه‌الله بأنّ مجرى أصالة البراءة ليس منحصرا في هذه الأقسام

٤٠٢

الثمانية ، إذ قد يكون الشك دائرا بين الوجوب والحرمة والإباحة ، ولا ريب في جريان أصالة البراءة في هذا المورد أيضا ، وبه تكون الأقسام اثني عشر قسما ، لأنّ هذا النحو من الشك ينشأ أيضا إمّا عن فقدان الدليل أو إجماله أو تعارض الأدلة أو اشتباه الامور الخارجية.

وأما الاخباريون باستثناء الاسترآبادي فالأقسام عندهم منحصرة في خمسة ، وذلك لبنائهم على عدم جريان أصالة البراءة في موارد الشك في الحرمة إلاّ أن تكون الشبهة موضوعية.

* * *

١٧٠ ـ البراءة الأصلية

المراد من البراءة الأصلية هي « أصالة خلو الذمة من الشواغل الشرعية » كما هو تعبير المحقق الحلّي رحمه‌الله. ويعبّر عنها بأصالة النفي ، وهي عينها أصالة البراءة الأعم من العقلية والشرعية ، ولهذا تجدهم ـ قدماء الاصوليين ـ يستدلّون عليها تارة بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق ، وتارة اخرى يستدلون عليها بالروايات.

نعم البراءة الأصليّة العقلية كانت تصنف في ضمن الادلة العقلية القطعية ، وذلك لأنّهم كانوا يرجعون البراءة الأصلية الى استصحاب حال العقل ، وحيث انّ دليله عندهم هو قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق لذلك كانت البراءة الأصليّة ـ كاستصحاب حال العقل ـ من الأدلة العقلية القطعية. ثم انّها بعد ذلك صنّفت في ضمن الأدلة الظنية ، وذلك تبعا للاستصحاب أيضا حيث انّه اعتبر من الأدلة الظنية لإفادته الظن ببقاء الحالة السابقة ، فحيث انّ الحالة السابقة كانت عدم التكليف فإن ذلك يوجب الظن ببقاء الحالة على ما هي عليه.

٤٠٣

وكيف كان فأصالة براءة الذمة عن كل تكليف الزامي محتمل لم تكن موضع خلاف على امتداد تاريخ الفقه الامامي وان كان تبلور هذا الاصل لم يكن بالصورة التي هي عليه فعلا ، نعم فصل الاخباريون في ذلك فقبلوا بالبراءة الاصلية في موارد الشبهات الوجوبية وبنوا على جريان أصالة الاحتياط الشرعي في الشبهات الحكمية التحريمية.

والمتحصل انّ البراءة الأصلية هي عبارة عن أصالة نفي الحكم الإلزامي المحتمل ما لم يقم دليل على إثباته فهي إذن من الاصول النافية للتكليف والمؤمنة عن العقاب لو اتفق ثبوته واقعا ولا شأن لها بإثبات حكم ظاهري.

وقد استعرضنا تاريخ هذا الاصل بشيء من التفصيل تحت عنوان « البراءة العقلية » ، كما أوضحنا المراد من قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق تحت عنوان « استصحاب حال العقل ».

* * *

١٧١ ـ البراءة الشرعيّة

وهي البراءة المستفادة بواسطة الأدلة الشرعية وهي الكتاب والسنة وكذلك الاستصحاب ، فإنّ كبرى حجية الاستصحاب مستفادة عن الشارع ، ولذلك صحّ ان يعد الاستصحاب من الأدلة الشرعية على حجيّة البراءة.

أمّا الكتاب المجيد فقد استدل به على البراءة بمثل قوله تعالى ( ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (١٨) وكذلك قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١٩).

وأما السنة الشريفة فقد استدلّ لها بروايات كثيرة ، منها حديث الرفع وحديث السعة وروايات الحل.

٤٠٤

وأما الاستصحاب فقد ذكرت له ثلاثة تقريبات :

التقريب الأول : استصحاب عدم الجعل الثابت قبل الشريعة ، فحينما نشك في وجوب شيء أو حرمة شيء ، فإنّ جعل الوجوب لمّا كان متيقن العدم ـ قبل ان يصدع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ـ كان ذلك مستوجبا لجريان استصحاب عدم الجعل في ظرف الشك.

وقد صاغ السيد الخوئي رحمه‌الله هذا التقريب بصياغة اخرى حاصلها : انّ تشريع الاحكام لم يكن دفعيا بل كان بنحو التدرّج ، وعندئذ لو وقع الشك في جعل المولى الوجوب على شيء فإن لحاظ الصدر الاول من التشريع يورث القطع بعدم جعل الوجوب لهذا الفعل حينذاك فلو وقع الشك بعد ذلك فإنّه يمكن استصحاب عدم الجعل.

والإيراد على هذا التقريب بأنّ عدم الجعل الذي كنا على يقين منه انما هو عدم محمولي بمفاد ليس التامة ، أي انّ المتيقن هو عدم وجود جعل لعدم وجود الشريعة ، وحينئذ لا يكون استصحابه منتجا للعدم النعتي إلاّ بناء على حجيّة الأصل المثبت ، بمعنى انّ استصحاب عدم الجعل المحمولي ينتج عدم الجعل المحمولي ولازمه عدم الجعل النعتي المنتسب للشريعة ، فحينما نشك في ايجاب الشارع لصلاة الجمعة فإنّ عدم وجوب صلاة الجمعة في الشريعة ليست له حالة سابقة متيقنة حتى تستصحب ، نعم نحن على يقين من عدم وجوب صلاة الجمعة حينما لم تكن شريعة إلاّ انّ ذلك لا ينفع لمعالجة الشك الفعلي ، إذ انّ الشك الفعلي في وجوب صلاة الجمعة انّما هو شك في عدم الوجوب المنتسب للشريعة والمستصحب انما هو عدم الجعل الثابت قبل الشريعة ، نعم لو كنّا نبني على حجيّة اللازم العقلي للمستصحب لكان استصحاب عدم الجعل الثابت

٤٠٥

قبل الشريعة نافعا ، وذلك لأن لازم استصحاب عدم الوجوب الثابت قبل الشريعة هو عدم الوجوب في الشريعة إلاّ انّ الإشكال من جهة عدم حجية اللوازم العقلية للمستصحب.

هذا الإيراد لو تمّ فإنّه لا يرد بناء على صياغة السيد الخوئي رحمه‌الله لهذا التقريب ، وذلك لافتراض انّ العدم الذي نحن على يقين منه عدم نعتي ، إذ انّ المفترض هو انّ اليقين بعدم الجعل منتسب للشريعة لأنه انما كان بلحاظ الصدر الاول من الشريعة حيث لم تشرّع فيه أكثر الاحكام. فالمتيقن سابقا هو عدم الجعل المتصف به الشارع.

التقريب الثاني : هو استصحاب عدم فعلية التكليف والذي كان متيقنا حينما لم يكن المكلّف بالغا.

التقريب الثالث : استصحاب عدم فعلية التكليف والذي كان متيقنا حينما لم تكن شروط التكليف متحقّقة ، والمراد من الشروط هنا هي الشروط الخاصة بالتكليف المشكوك ، كما لو شك في وجوب صلاة العيد يوم العيد فإنّ له ان يستصحب عدم الوجوب المتيقن قبل يوم العيد أي قبل تحقق موضوعه لو كان ثابتا واقعا. بمعنى انّ صلاة العيد لو كانت واجبة لكانت فعلية الوجوب منوطة بتحقق يوم العيد ، فقبل يوم العيد لا يكون وجوب الصلاة فعليا جزما فعند ما يقع الشك يوم العيد في تحقق الفعليّة فإنّه يمكن استصحاب عدم الفعليّة الثابت قبل يوم العيد.

وقد استدلّ أيضا لحجيّة البراءة بالإجماع ، وذكرت للإجماع على حجية البراءة ثلاثة تقريبات :

التقريب الأوّل : هو دعوى انّ الطائفة مجمعة على انّ الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري حينما لا يصل للمكلف ، فإنّ الوظيفة المقرّرة له حينئذ هي البراءة.

٤٠٦

وهذه الدعوى وان كانت تامّة كبرويا إلاّ انّ الإشكال من جهة الصغرى حيث يدعي الأخباريّون ـ القائلون بعدم جريان البراءة في الشبهات التحريميّة ـ انّ الحكم الظاهري بالنسبة لموارد الشك في الحرمة واصل للمكلّف وهو الاحتياط الشرعي ، ففي كلّ مورد يشك فيه المكلّف في حرمة شيء فإنّ حكمه الظاهري هو الاحتياط الشرعي كما دلّت على ذلك الروايات ، وحينئذ لا تكون هذه الكبرى الكلية المجمع عليها نافعة لإثبات البراءة في موارد الشبهات التحريمية.

التقريب الثاني : انّ الطائفة مجمعة على انّ الحكم الظاهري الثابت في حالات الجهل بالحكم الواقعي هو الترخيص والسعة ، وهذا الإجماع لو تم فإنّه نافع لإثبات حجية البراءة إلاّ انّ الإشكال فيه من جهة عدم قبول الإخباريين لذلك في حالات الجهل بالحرمة.

التقريب الثالث : هو دعوى الإجماع على قبح المؤاخذة على ترك تكليف لم يكن معلوما.

والإشكال على هذا التقريب انّه معلوم المدركية أو لا أقل انّه محتمل المدركية ، فلا يكون اجماعا تعبديا ، إذ لا يبعد انّ الاتفاق على قبح المؤاخذة على ترك التكليف غير الواصل ناشئ عمّا يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان ، أو انّ المنشأ هو البناء العقلائي على ذلك ، بناء على انّ الحسن والقبح من الآراء المحمودة وليس من مدركات العقل العملي.

* * *

١٧٢ ـ البراءة العقليّة

وهي المستفادة بواسطة ما يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وهو من مدركات العقل العملي المقتضي لتحديد حق الطاعة للمولى جلّ وعلا

٤٠٧

وانّ مورده يختص بحالات العلم بالتكليف ، ففي كل مورد لم يصل التكليف للمكلف وصولا علميّا فإنّ المكلّف مؤمّن عن العقاب من جهة ذلك التكليف.

والمؤمّن عن العقاب والمؤاخذة هو ما يدركه العقل من قبحه حين عدم البيان ، فالمسألة إذن من صغريات قاعدة الحسن والقبح العقليين.

ومن المناسب هنا تقرير ما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله في تاريخ هذه القاعدة والتي هي من مهمات المباحث الاصولية ، فقد ذكر السيد الصدر رحمه‌الله انّ هذه القاعدة لم تكن معروفة بل ولا مذكورة قبل الشيخ المفيد رحمه‌الله وما ذكره الشيخ الصدوق رحمه‌الله من جريان أصالة الإباحة في موارد الشك لا يقتضي اعتماده على هذه القاعدة بل من القريب جدا انّه عوّل في ذلك على الروايات الدالة الإباحة فيكون مراده من الإباحة هي الإباحة الشرعية.

وأما الشيخ المفيد رحمه‌الله وكذلك الشيخ الطوسي رحمه‌الله فكانا يبنيان على خلاف هذه القاعدة ، فقد ذهبا الى التوقف وعدم إدراك العقل للإباحة أو الحظر ، بمعنى انّهما لا يريان انّ العقل في حالات عدم إدراك المصلحة أو المفسدة يحكم بالاباحة أو الحظر. ومن هنا رتّب الشيخ الطوسي رحمه‌الله على ذلك لزوم الاحتياط في مقام العمل وأفاد أنّ ذلك من مدركات العقل حينما لا يكون ثمة مؤمّن من الوقوع في المفسدة ، فالعقل يحكم في مورد لا يؤمن معه من المفسدة بالاحتياط ولزوم التجنّب عن الخوض فيه ، وهذا انّما هو في مقام العمل ، وأما انّ الاشياء على الإباحة أو الحظر فهو مما لا يدركه العقل.

ثم انّه بعد ان اعتبر الاحتياط أصلا أوليا ذكر انّ هذا الأصل لا يصح الخروج عنه إلاّ ان يقوم دليل شرعي على الحلية في حالات الشك كما هو كذلك بمقتضى ما وصل من أدلة

٤٠٨

تقتضي الإباحة أو البراءة الشرعية.

وحتى يتجلّى مبنى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي رحمهما الله نقول : انّه نشأ عن خلاف بين علماء الاصول والذين يبنون على التحسين والتقبيح العقليين ، فهم يذهبون الى انّ الفعل اذا كان حسنه تاما ـ بنظر العقل ـ فحكمه الشرعي هو الوجوب ، أما اذا كانت مرتبة الحسن فيه ضعيفة فإنّ حكمه الاستحباب الشرعي ، وهذا بخلاف ما لو كان الفعل قبيحا ـ بنظر العقل ـ وكان قبحه شديدا فإنّ حكمه لا محالة يكون الحرمة ، ولو كان القبح ضعيفا فإنّ حكمه الكراهة.

وهذه الحالات لا إشكال في إدراك العقل لأحكامها والخلاف انّما هو في حالة يكون العقل فيها غير مدرك لما عليه الفعل وهل هو ذو مصلحة أو هو ذو مفسدة. وهنا اختلف العلماء فيما يحكم به العقل وهل هو القبح المساوق للحظر أو هو عدم القبح المساوق للإباحة. والشيخ المفيد وكذلك الشيخ الطوسي قالا بالتوقف وعدم إدراك العقل لواحد منهما.

والمتحصّل انّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لم يكن لها ذكر في تلك الحقبة ، وبعد مائة عام من هذه الحقبة جاء الشيخ ابن زهرة رحمه‌الله وبنى على حكم العقل بالبراءة إلاّ انّه لم يكن يقصد من حكم العقل بالبراءة هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل هو قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق ، وهي لا تتصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ التكليف بلا بيان ليس من التكليف بما لا يطاق بعد ان كان التكليف غير المعلوم مما يمكن امتثاله بواسطة الاحتياط المعبّر عنه بالامتثال الإجمالي.

والشيخ الأنصاري رحمه‌الله يفهم من كلام ابن زهرة رحمه‌الله انّ التكليف بقصد الامتثال إذا لم يكن معلوما تكليف بما لا يطاق ، إذ انّه لا يمكن قصد الامتثال

٤٠٩

والانبعاث عن الأمر بعد ان كان التكليف غير معلوم ، والاحتياط لا يحقق الامتثال المطلوب بعد تعذّر قصد الامتثال المعتبر في الامتثال ، ومن هنا يقبح التكليف بالامتثال مع قصد الامتثال لانّه تكليف بما لا يطاق. ولمزيد من التوضيح راجع « استصحاب حال العقل ».

وكيف كان فلا صلة لما ذكره ابن زهرة رحمه‌الله ـ حتى بناء على توجيه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ثم انّ المحقق الحلّي رحمه‌الله والذي يأتي في مرحلة متأخرة عن الشيخ ابن زهرة رحمه‌الله ذكر انّ المدرك لحجية البراءة هو استصحاب حال العقل ، بمعنى انّ المكلف كان محرزا لبراءة ذمته عن التكليف فحين الشك يستصحب البراءة الأصلية إلاّ ان يقوم دليل على الخلاف ، وهذا الذي بنى عليه المحقق الحلّي رحمه‌الله تلقّاه كثير ممن جاء بعده بالقبول حيث بنوا على انّ حجية البراءة إنّما نشأت عن الاستصحاب والذي هو حجّة بحكم العقل بمقتضى كاشفية الحالة السابقة عمّا عليه الواقع في ظرف الشك ، وهذا لا يتصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثم انّ للمحقق رحمه‌الله كلاما آخر حاصله :

انّ الفقيه عند ممارسته لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته يبحث عن الحكم في الأدلة التي يعلم انّ الشارع قد ارتضاها وسائل للوصول للحكم الشرعي ، فهو يبحث عن الحكم في الكتاب والسنة والإجماع فإذا لم يجد في هذه الأدلة ما يساعد على ثبوت أو نفي الحكم المبحوث عنه بحيث يحصل له القطع ـ من جرّاء الفحص ـ بعدم وجود دليل على الحكم المبحوث عنه فإنّ بامكانه نفي هذا الحكم ، أي نفي التكليف به ، وذلك لأنّ التكليف بما لا دليل عليه تكليف بما لا يطاق.

ودعوى انّه قد يكون هناك دليل لم

٤١٠

يتم العثور عليه خلف ما افترضناه من انّ الفقيه يحصل له الجزم بعدم الدليل بعد الفحص والتنقيب في الأدلة.

وهنا تمسك المحقق رحمه‌الله بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق في دائرة أضيق من الدائرة التي تمسك ابن زهرة رحمه‌الله بالقاعدة في موردها ، حيث انّ المحقق الحلّي رحمه‌الله يرى انّ الرجوع لهذه القاعدة انما هو في حالة الجزم بعدم الدليل ، وأما الشيخ ابن زهرة رحمه‌الله فافترض انّ جريان هذه القاعدة يتم في حالة عدم العلم بوجود دليل يثبت الحكم المشكوك حتى لو كنا نحتمل دليل لم يتيسر لنا الاطلاع عليه. وعلى أيّ حال فلا صلة لما أفاده المحقق الحلّي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ثم انّه تلت هذه المرحلة مرحلة اخرى بنى فيها الاصوليون على انّ البراءة من الأدلة الظنية ، وذلك لانها مستفادة من الاستصحاب ، وحجية الاستصحاب انّما هي لافادته الظن ببقاء الحالة السابقة. وبتعبير أدق : انّ الحالة السابقة كاشف ظني على البقاء في ظرف الشك.

وتلاحظون انّ ذلك عدول عما كانت عليه المرحلة السابقة من اعتبار البراءة من الأدلة القطعية ، وكيف كان فقد شاع هذا المبنى في زمن الشيخ صاحب المعالم والشيخ البهائي رحمهما الله ولم ينقل عن أحدهم البناء في حجية البراءة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فأول من استدلّ بهذه القاعدة على البراءة هو الشيخ الوحيد البهبهاني رحمه‌الله إلاّ انّها لم تكن متبلورة بالشكل الذي هي عليه الآن ، فإنّ الإتجاه في فهم هذه القاعدة كان يبدو اتجاه لغويا ، ولهذا وقع التشكيك في اطلاق هذه القاعدة وعدم اطلاقها كما استشكل جمع من المحققين في امكان التمسك بالقاعدة في الشبهات المفهومية كما في قوله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (٢٠) فإنّ مفهوم الكعب دائر

٤١١

بين كونه قبة القدم أو المفصل الواقع بين الساق والقدم ، فهنا هل يمكن التمسك بالقاعدة لنفي لزوم المسح الى المفصل أو لا يصح التمسك بالقاعدة ، فقد استشكل جمع من المحققين في امكان التمسك بالقاعدة بدعوى انّ موضوعها عدم البيان ومفروض المثال انّ البيان على لزوم المسح واضح ، غايته انّ المفهوم مجمل وهذا لا يتصل بالقاعدة.

ثم تبلورت القاعدة بشكل أكبر ، حيث أفاد بعض المحققين انّ المراد من البيان هو البيان بلحاظ المتلقي للخطاب فإذا لم يكن يفهم فإنّ البيان لم يتحقق في حقه ، فيكون مشمولا للقاعدة.

وواضح مما ذكرناه انّ الاعلام اتجهوا في فهم القاعدة على أساس لغوي وكأنّها من الخطابات الشرعية.

هذا وقد ذهب بعض العلماء بعد ذلك الى عدم جريان القاعدة في موارد الشبهات الموضوعية ، لأنها ليست من شئون المولى ، إذ ليس عليه سوى بيان الحكم الكلّي وأما تنقيح موضوع الحكم والتحرّي من وجوده خارجا فهو من شئون المكلّف.

ثم انّ القاعدة أخذت منحى عقليّا أكثر دقة وعمقا حين فسّر البيان فيها على أساس ما يدركه العقل حيث ادعي انّ المدرك بالعقل العملي هو استقباح المؤاخذ والإدانة على ترك تكليف لم يصل للمكلف وصولا علميا ولهذا لا تختص القاعدة بالشبهات الحكمية بل تعم الشبهات الموضوعية أيضا.

وسيأتي ايضاح أكثر للقاعدة تحت عنوان « قبح العقاب بلا بيان ».

* * *

١٧٣ ـ البراءة في المستحبات

قد يقال بعدم امكان تصوير جريان البراءة فيما لو كان الشك في الاستحباب ، وذلك لأنّ البراءة

٤١٢

العقلية انّما تقتضي نفي المؤاخذة والعقوبة عند عدم البيان ، وواضح انّ ذلك إنّما يختص بالتكاليف الإلزامية ، إذ هي التي يترتب على مخالفتها المؤاخذة والعقوبة ، وبهذا تكون البراءة العقلية مؤمّنة عن العقاب والمؤاخذة في حالات عدم العلم بالتكليف واتفاق مخالفته واقعا ، أما التكاليف غير الإلزامية فتركها غير مستوجب للمؤاخذة والعقوبة في ظرف العلم فضلا عن حالات عدم العلم ، فعليه لا معنى لإجراء البراءة العقلية لنفي التكليف غير الإلزامي ، لأنّه أشبه بتحصيل الحاصل.

وأما البراءة الشرعية فكذلك لا معنى لجريانها لو كان دليلها مثل قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٢١) وقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (٢٢) وكذلك قوله عليه‌السلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » (٢٣).

فكل النصوص التي مفادها نفي الإدانة عن ترك التكليف في ظرف الشك لا يتعقل شمولها للتكاليف غير الإلزامية.

إلاّ انّه مع ذلك يمكن تصوير جريان البراءة في المستحبات بلحاظ النصوص التي مفادها رفع التكليف في مرحلة الظاهر في ظرف عدم العلم كحديث الرفع وحديث الحجب ، والرفع والوضع يتعقلان في حالات الجهل بالتكليف غير الإلزامي ، وعندئذ لا يكون ثمة مانع عن ظهورهما في الاطلاق ، غايته انّ رفع التكليف بلحاظ الاحكام الإلزامية يقتضي عدم وجوب الاحتياط ، واما رفع التكليف بلحاظ التكاليف غير الإلزامية يلازم عدم استحباب الاحتياط ، إذ من غير المعقول ان يكون التكليف مرفوعا في مرحلة الظاهر ومع ذلك يكون الاحتياط واجبا أو مستحبا ، إذ الإحكام متضادة فيما بينها حتى في مرحلة

٤١٣

الظاهر. وعليه تكون نتيجة جريان البراءة في المستحبات هي رفع الاستحباب عن الاحتياط.

والسيد الخوئي رحمه‌الله وان كان قد ذكر هذا التصوير وارتضاه إلاّ انّه أورد عليه بأن رفع الاستحباب عن الاحتياط في المستحبات الاستقلالية غير ممكن ، وذلك للقطع باستحباب الاحتياط في حالات الشك.

وأورد عليه السيد الصدر رحمه‌الله انّه لا معنى للجزم باستحباب الاحتياط حتى في موارد الشك في الاستحباب ، وذلك لأنّ دليل الاستحباب للاحتياط ان كان هو أخبار التثليث فواضح انّها غير شاملة للمستحبات ، نعم ما نقله الشيخ الانصاري رحمه‌الله عن الشهيد رحمه‌الله انّ الامام عليه‌السلام قال : « ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط » (٢٤) وكذلك ما نقله عن ابن الشيخ الطوسي رحمه‌الله في أماليه عن الإمام عليه‌السلام « أخوك دينك فاحتط لدينك » (٢٥) يمكن استفادة شمولهما للمستحبات إلاّ انّ الروايتين غير معتبرتين سندا. وأما أخبار من بلغ فمفادها ـ بنظر السيد الخوئي رحمه‌الله في أحد قوليه ـ هو الاستحباب النفسي ولكن لا لنفس الفعل وانّما للعنوان الثانوي وهو البلوغ ، وهذا لا يمنع من عدم استحباب الاحتياط لنفس الفعل بعنوانه.

والمتحصل هو امكان تصوير جريان البراءة في المستحبات حتى بالنسبة للاستقلالي منها ، وتكون نتيجة البراءة في موردها هو نفي استحباب الاحتياط. فلو شككنا في استحباب صلاة الغفيلة ـ مثلا ـ فإنّ اجراء البراءة يقتضي عدم استحباب الاحتياط في موردها.

وأما المستحبات الضمنية والتي يكون استحبابها تابعا لاستحباب المركب الواقعة في ضمنه فقد تبنى السيد الخوئي رحمه‌الله إمكان جريان البراءة

٤١٤

في موردها ، بمعنى انّ المكلّف لو شك في جزئية جزء للمركب الاستحبابي أو شك في شرطية شرط له فإنّ بامكانه إجراء البراءة عنه ، وبالتالي يمكنه أن يأتي بالمركب الاستحبابي بقصد أمره دون أن يكون معه الجزء أو الشرط المشكوك ، وذلك لأنّ هذا الجزء أو الشرط وإن لم يحتمل كونه واجبا نفسيا إلاّ انه يحتمل كونه واجبا شرطيا ، بمعنى اشتراط أن يكون المركب الاستحبابي متوفرا عليه ومع عدم توفره عليه لا يكون المكلّف قد جاء بما هو مستحب أو يكون ما جاء به تشريعا محرما ، فإجراء البراءة ينفع لرفع هذا الوجوب الشرطي.

ومن هنا يصح للمكلّف أن يأتي بالمركب الاستحبابي دون الالتزام بالشرط أو الجزء ويقصد منه امتثال أمره ولا يكون بذلك مخلا بالمأمور به كما لا يستوجب التشريع المحرم.

فلو كانت السورة جزء من النافلة لكان ذلك معناه وجوب السورة وجوبا شرطيا بحيث لا يكون المكلّف ممتثلا للاستحباب إلاّ مع الالتزام بالسورة ، والإتيان بالنافلة مجردة عن السورة مع قصد الأمر الاستحبابي تشريع محرم إلاّ انّه لو وقع الشك في استحباب السورة فإنّ إجراء البراءة عنها يصحح الإتيان بالنافلة مجردة عنها مع قصد الأمر ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بعدم جريان البراءة فإنّه من غير الممكن الإتيان بالمركب مع قصد الأمر ، نعم يمكن الإتيان به مع السورة أو بدونها برجاء المطلوبية.

* * *

١٧٤ ـ البرهان اللمّي والبرهان الإنّي

يطلق البرهان في مصطلح المناطقة على خصوص القياس ، وذلك لأنّه الوسيلة الوحيدة بنظرهم لتحصيل اليقين بالنتيجة ، إلاّ انّ المقصود من

٤١٥

القياس البرهاني هو ما يتألّف من كبرى وصغرى يقينيتين من جهة المادة والصورة ، وحينئذ يكون منتجا لليقين بالمطلوب المعبّر عنه بالمجهول التصديقي.

ومنتجيّة القياس لليقين بالمطلوب ينشأ عن الحدّ الأوسط ، إذ هو علّة اليقين بثبوت الأكبر للأصغر « النتيجة » ، وذلك لوجود علقة ثبوتيّة واقعيّة بين الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر ينشأ عنها صلاحيّة الحدّ الأوسط للوسطيّة في الإثبات ، أي انّ صلاحيّة الحدّ الأوسط للكشف عن ثبوت الأكبر للاصغر ينشأ عن العلاقة الواقعيّة بين الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر ، فلا بدّ وأن يكون الحدّ الأوسط علّة للحدّ الأكبر أو معلولا له أو تكون بينهما ملازمة واقعيّة ناشئة عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة.

وباتضاح ذلك نقول : انّ الحدّ الأوسط إذا كان علّة لوجود الأكبر فإنّ كاشفيّته عن ثبوت الأكبر للأصغر يعبّر عنها بالبرهان اللمّي ، وحينئذ يكون الحدّ الأوسط بالإضافة الى انّه واسطة ثبوتيّة هو واسطة في الإثبات ، فهو واسطة في الثبوت لافتراضه علّة لوجود الأكبر ، وهو واسطة في الإثبات باعتبار كاشفيّته عن ثبوت الأكبر للأصغر.

فالبرهان اللمّي هو الحدّ الأوسط الكاشف عن ثبوت الحدّ الأكبر للأصغر على أن تكون علاقته بالحدّ الأكبر علاقة العلّة بالمعلول ، وبتعبير آخر : انّ البرهان اللمّي هو ما يكون واسطة ثبوتيّة وواسطة إثباتيّة في آن واحد.

وبهذا يتّضح بأنّ الوصول للنتيجة في البرهان اللمّي يتوقف على احراز عليّة الحدّ الأوسط للحدّ الأكبر ، وهذا ما يكون واقعا موقع الكبرى في القياس البرهاني ، كما يتوقف على احراز وجود الحدّ الأوسط والذي هو العلّة للأكبر ، وهذا ما يكون في موقع صغرى القياس البرهاني ، وعندها

٤١٦

نصل للنتيجة والتي هي ثبوت الحدّ الأكبر للأصغر.

فعند ما نحرز انّ النار علّة للحرارة والتي هي الكبرى ونحرز انّ النار موجودة ، وهذه هي الصغرى يمكن بذلك استكشاف وجود الحرارة ، فاستكشاف وجود الحرارة نشأ عن احراز وجود النار والتي هي علّة وواسطة ثبوتيّة لوجود الحرارة.

وتلاحظون انّ النار هي الحدّ الأوسط المنتج للكشف عن ثبوت الوجود للحرارة ، أي ثبوت الحدّ الأكبر وهو الوجود لحرارة وهي الأصغر ، كما تلاحظون انّ العلاقة بين الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر هي علاقة العلّة بالمعلول ، فالنار هي علّة الوجود للحرارة ، ولهذا كانت النار واسطة ثبوتيّة بالإضافة الى انّها واسطة إثباتيّة.

وأمّا البرهان الإنّي فهو الحدّ الأوسط والذي تكون علاقته بالحدّ الأكبر علاقة المعلول بعلّته ، فالمعلول هو الحدّ الأوسط وعلّته هي الحد الأكبر ، أو تكون العلاقة بينهما علاقة المعلولين لعلّة ثالثة ، وحينئذ لا يكون الحد الأوسط واسطة ثبوتيّة بل يتمحّض دوره في الوسطيّة في الإثبات والكاشفيّة عن ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر ، وهذا يتقوّم باحراز نحو العلاقة بين الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر وانّها من قبيل علاقة المعلول بعلّته أو علاقة المعلولين لعلّة ثالثة ، وهذا ما يقع موقع الكبرى في القياس البرهاني ، كما يتقوّم باحراز وجود المعلول ، وهذا ما يكون في موقع الصغرى.

فحينما نحرز وجود النهار والذي هو معلول لشروق الشمس أو أنهما معلولان لعلّة ثالثة فإنّه يمكن استكشاف شروق الشمس ، وذلك بواسطة ضمّ الصغرى والتي هي احراز وجود النهار الى الكبرى والتي هي التلازم بين وجود النهار وشروق الشمس.

٤١٧

١٧٥ ـ بساطة المشتق

المراد من المشتق إجمالا ـ وسيأتي ايضاحه تحت عنوانه ـ هو المبدأ أو الحدث المتّحد مع الذات بنحو من أنحاء الاتحاد كمفهوم الضارب.

والبحث في المقام عن انّ مفهوم المشتق هل هو بسيط أو مركب ، بمعنى انّ مفهوم المشتق مثل مفهوم العالم هل هو بسيط بحسب التحليل العقلي أي مفهوم واحد بحسب الدقة العقلية أو هو مفهوم اندماجي ومركب من شيئين أو أكثر ، فمحل النزاع هو ما عليه المفهوم الاشتقاقي بحسب التحليل العقلي ، وليس محل النزاع ما يظهر من كلمات صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ البساطة والتركب المبحوث عنهما للمشتق هي البساطة والتركب باعتبار ما يحدثه المشتق من تصور عند اطلاقه مثلا المعبّر عنه باللحاظ الإدراكي.

أي ان قلنا انّ الصورة المرتسمة في الذهن عند اطلاق المشتق هي صورة مفهوم وحداني فهذا معناه انّ مفهوم المشتق بسيط وان قلنا انّ ما يرتسم في الذهن عند اطلاق المشتق هي مجموعة مفاهيم مثل الذات والمبدأ « الحدث » فهذا معناه انّ مفهوم المشتق مركب ، إذ انّه لا ريب في انّ ما ينقدح في الذهن من اطلاق المشتق ليس إلاّ معنى واحدا ، وليس هذا محل خلاف بين الأعلام ، فالبساطة بحسب الإدراك والتصوّر لا تتنافى مع التركيب بحسب التحليل العقلي ، والذي يكون البحث فيه عن واقع المفهوم الاشتقاقي وهو الذي يقتضيه الوجدان وما عليه المتفاهم العرفي من غير فرق بين المشتق وسائر الألفاظ ، فالبساطة إذن بحسب الإدراك والتصور ليست محور النزاع بين الأعلام كما انّها لا تتنافى مع التركب بحسب التحليل العقلي.

فمحل البحث هو ما عليه واقع

٤١٨

المفهوم الاشتقاقي ، وهل انّ واقعه هو البساطة أو التركب.

ومع تحرّر محل النزاع نقول : انّه وقع الخلاف بين الأعلام فيما هو واقع المشتق ، فمذهب مشهور الفلاسفة والمتأخرين من الاصوليين هو انّ مفهوم المشتق مفهوم بسيط ، وفي مقابل دعوى المشهور ذهب جمع منهم المحقق الاصفهاني والسيد الخوئي رحمهما الله الى تركّب المفهوم الاشتقاقي.

فالقائلون ببساطة المشتق ادعوا انّ المشتق بحسب التحليل العقلي ليس الاّ المبدأ وأما الذات المنتسبة له فهي والنسبة خارجان عن مدلول المشتق ، وعليه لا فرق بين المشتق والمصدر إلاّ بالاعتبار ، فكما انّ مدلول المصدر هو الحدث فكذلك مدلول المشتق ، فكلاهما لم تؤخذ الذات والانتساب اليها في مدلولهما.

فالمتحصل انّ مدلول المصدر ومدلول المشتق معنى واحد بسيط وهو الحدث إلاّ انّه لمّا لم يكن من الممكن حمل الحدث على الذات جيء بالمشتق لغرض التمكن من حمله على الذات. فكما انّ النطق بمادة « ش ـ ر ـ ب » لا يتيسر الاّ بواسطة هيئة المصدر وليس معنى ذلك انّ الهيئة دخيلة في مدلول المادة فكذلك هيئة المشتق انّما وضعت لغرض التمكن من الحمل على الذات الاّ انّ ذلك لا يقتضي انّ الذات والنسبة دخيلان في مدلول المشتق.

فالنتيجة انّه لا فرق بين المصدر والمشتق إلاّ من جهة اعتبارية ، وهي ـ كما قالوا ـ البشرطلا واللابشرط ، فالمشتق لا بشرط من جهة الحمل ، وهذا يقتضي صحة حمل الذات عليه وعدم إبائه للحمل فيقال « زيد عالم » ، وهذا بخلاف المصدر فإنّ شأنه الإباء للحمل وهو معنى البشرطلا. وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان المشتق والمبدأ.

وهناك معنيان للبساطة ذكرهما المحقق العراقي رحمه‌الله.

٤١٩

المعنى الاول : هو انّ مدلول المشتق عبارة عن المبدأ أيضا ولكن لا بنحو مطلق بل بنحو القضية الحينية ، بمعنى انّ مدلوله المبدأ حين قيامه بالذات ، فقيام المبدأ بالذات ليس مأخوذا في مدلول المشتق بنحو القضية التقييدية إلاّ انّ المبدأ لا يكون مدلولا للمشتق إلاّ حين قيامه بالذات واتحاده معها.

ويمكن تنظيره ـ لغرض التوضيح فحسب ـ بالقمر ، فإنّ الليل ليس دخيلا في مدلوله إلاّ انّه لا يكون القمر قمرا إلاّ حينما يكون مظروفا لليل. وهذا هو المراد من التوأمة في عبائر المحقق العراقي رحمه‌الله ، فكما انّ التوأم ليس مقوّما للتوأم الآخر فكذلك الذات والنسبة لا يقوّمان مدلول المشتق ، نعم تحقق مدلول المشتق « المبدأ » يكون حين قيامه بالذات.

المعنى الثاني : انّ مدلول المشتق عبارة عن المبدأ مع لحاظ جريانه على الذات لحاظا آليا ، وهذا اللحاظ دخيل في مدلول المشتق.

وبتعبير آخر : انّ المشتق معناه المبدأ والنسبة الربطية بينه وبين الذات على ان تكون الذات خارجة عن مدلوله وتكون النسبة داخلة. فبساطة المشتق بهذا المعنى إنّما هي من جهة عدم دخالة الذات في مدلوله وإلاّ فالمشتق بهذا المعنى مركب من المبدأ بالاضافة الى قيامه بالذات والذي عبرنا عنه بالنسبة الربطية. وهذا المعنى منسوب الى المحقق الشريف وتبنّاه المحقق العراقي رحمه‌الله.

وأمّا القائلون بتركب المفاهيم الاشتقاقية فادعوا انّ مفهوم المشتق بحسب التحليل العقلي مركّب من المبدأ والذات المنتسبة الى المبدأ على انّ النسبة بينهما نسبة اندماجية ناقصة كما هو الحال في الجمل الناقصة بحسب مبنى بعض الاعلام في الجمل الناقصة ـ وليس هذا محلا للنزاع عند القائلين

٤٢٠