المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

دلالة اللفظ على المعنى الثاني نشأ عن الوضع التعيّني.

وأما المرتبة الثالثة لكثرة الاستعمال فهي التي لا توجب النقل ولا توجب الاشتراك لكنّها تستوجب نشوء علاقة بين اللفظ وبين بعض حصص الطبيعة ، هذه العلاقة تبلغ حدّا من الاستيثاق تكون معه صالحة للقرينية ، ومن هنا يكون الانصراف الناشئ عن هذه المرتبة من الكثرة الاستعمالية مانعا عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، وان كان لا يقتضي الظهور في المعنى المنصرف اليه.

ومن مناشئ الانصراف مناسبات الحكم والموضوع وكذلك القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهذا ما سيتم بيانه في محله ان شاء الله تعالى.

* * *

١٦٣ ـ الانعكاس في التعريف

وهو أحد الشرائط المذكورة للتعريف في علم المنطق ، بمعنى انّ التعريف لا يكون تاما إلاّ أن يتوفر على مجموعة من الشرائط منها الانعكاس.

والمراد منه جامعية التعريف لتمام أفراد وخصوصيات المعرّف ، فمتى ما كان التعريف قاصرا عن الشمول لبعض أفراد أو خصوصيات المعرّف فهذا يعني انّه غير منعكس.

* * *

١٦٤ ـ انقلاب النسبة

مورد البحث في مسألة انقلاب النسبة هو ما لو وقع التعارض بين أكثر من دليلين وكانت النسب بينهم متفاوتة وتختلف باختلاف كيفية ملاحظة العلائق بينهم ، فحينما تلحظ الأدلة في عرض واحد تكون النسب بينهم مغايرة عمّا لو لوحظ دليلان منهم ـ مثلا ـ في عرض واحد ثم لوحظت النسبة بين أحدهما والدليل الثالث بعد

٣٨١

ملاحظة النتيجة المتحصلة عن النسبة بين الدليل الاول والدليل الثاني.

فالمراد من انقلاب النسبة هو تبدّل النسبة عند ملاحظتها بين أحد الدليلين والدليل الثالث في طول ملاحظة النسبة بين الدليلين الأولين تبدلها عمّا كانت عليه عند ملاحظة الأدلة الثلاثة في عرض واحد.

والنزاع الواقع بين الأعلام هو في كيفية ملاحظة الأدلة المتعارضة ، فهل تلاحظ تمام الأدلة في عرض واحد أو تلاحظ النسبة بين الدليلين الأولين وبعد تقرّرها يلاحظ الدليل الثالث مع الدليل الاول المراعى معه علاقته بالدليل الثاني ، وعندها تنقلب النسبة عما لو لوحظت الأدلة في عرض واحد.

مثلا : لو ورد دليل مفاده « تصدق على الفقراء » وورد دليل آخر مفاده « لا تتصدّق على الفقير الفاسق » وورد دليل ثالث « لا تتصدق على الفقير الشاب ».

فحينئذ لو لاحظنا الأدلة في عرض واحد لاقتضت تلك الملاحظة تقييد الدليل الاول بالثاني والثالث ، فيكون حاصل الجمع بين هذه الأدلة هو وجوب التصدّق على الفقير غير الفاسق وغير الشاب ، وذلك لأنّ النسبة بين الدليل الاول والدليل الثاني هي العموم المطلق وكذلك النسبة بين الدليل الاول والثالث.

أمّا لو لاحظنا النسبة بين الدليل الاول والدليل الثالث بعد ملاحظة النسبة بنى الدليل الاول والثاني ومراعاة تلك النسبة حين ملاحظة العلاقة بين الدليل الاول والثالث فإنّ النسبة تنقلب من العموم المطلق الى العموم من وجه ، وذلك لأن حاصل الجمع بين الدليل الاول والثاني هو وجوب التصدّق على الفقير العادل ، وعندئذ لو لاحظنا النسبة بين الفقير العادل والفقير والشاب لوجدنا انّها

٣٨٢

العموم من وجه.

فمورد الافتراق في الدليل الاول هو الفقير العادل الشيخ ، حيث يكون مشمولا للدليل الاول ولا يكون مشمولا للدليل الثالث ، ومورد الافتراق في الدليل الثالث هو الفقير الشاب الفاسق حيث يكون مشمولا للدليل الثالث ولا يكون مشمولا للدليل الاول ، ومورد الاجتماع بين الدليلين الاول والثالث هو الفقير الشاب العادل ، فمقتضى الدليل الاول هو وجوب التصدّق عليه ومقتضى الدليل الثالث هو حرمة التصدّق عليه.

ونذكر مثالا آخر ليكون المطلب أكثر وضوحا : إذا ورد دليلان بينهما عموم من وجه وكان أحدهما مخصّص بدليل ثالث ، فلو لوحظت الأدلة في عرض واحد فإنّ النتيجة هي استحكام المعارضة بين العامين من وجه في مورد الاجتماع وتخصيص الدليل الذي له مخصّص بمخصّصه.

أما لو خصّصنا الدليل الذي له مخصّص بمخصّصه ثم لاحظنا نسبته بعد تخصيصه مع الدليل الآخر فإنّ النسبة سوف تنقلب الى العموم المطلق.

مثلا : لو ورد دليل مفاده استحباب اكرام الفقراء وورد دليل آخر مفاده حرمة اكرام الفساق ، وورد دليل ثالث مفاده وجوب اكرام الفقراء العدول. فإنّه تارة نلاحظ الأدلة الثلاثة في عرض واحد ، وحينئذ يقع التعارض بين الدليل الاول والدليل الثاني في مادة الاجتماع وهي « الفقراء الفساق » ، فمقتضى الدليل الاول هو استحباب اكرامهم لكونهم فقراء ، ومقتضى الدليل الثاني هو حرمة اكرامهم لكونهم فساقا ، ونخصّص الدليل الاول بالدليل الثالث بقطع النظر عن علاقة الدليل الاول بالثاني.

أما لو لاحظنا النسبة بين الدليل الاول مع الدليل الثالث وخصصنا

٣٨٣

الدليل الاول بالثالث ثم لاحظنا العلاقة بين الدليل الاول ـ بعد التخصيص ـ وبين الدليل الثاني فإنّ النسبة بينهما سوف تنقلب وتصبح من العموم المطلق ، وذلك لأنّ النتيجة الحاصلة من ملاحظة العلاقة بين الدليل الاول والثالث هي استحباب إكرام الفقراء إلاّ أن يكونوا عدولا فإنّه يجب ، وهذا معناه انّ مفاد الدليل الاول هو استحباب اكرام الفقراء الفساق ، وحينئذ تكون نسبته الى الدليل الثاني هي العموم المطلق أي انّ الدليل الاول أخص مطلقا من الدليل الثاني ، إذ انّ مفاد الدليل الثاني هو حرمة اكرام الفساق ، فيكون حاصل الجمع بينهما هو حرمة إكرام الفساق إلاّ الفقراء منهم.

وبعد اتضاح المراد من انقلاب النسبة وما هو محل النزاع بين الاعلام نقول : انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ذهب الى عدم انقلاب النسبة وانّ الأدلة المتصدية لعلاج موضوع واحد تلاحظ في عرض واحد ويكون المتبع هو ما تقتضيه تلك النسبة الملحوظة في عرض واحد ، وذلك لعدم وجود ما يبرّر ملاحظة النسبة بين دليلين ثم ملاحظة أحد الدليلين بعد تخصيصه مثلا مع الدليل الثالث ، فإنّ الثابت بحسب ما تقتضيه طريقة أهل المحاورة هو ملاحظة الظهورات الاوليّة لتمام الأدلة في عرض واحد وانّ القرائن المنفصلة لا تهدم الظهور ، ولذلك التزم بأنّ العام حجة في الباقي.

وبيان ذلك : انّه حينما يرد دليل مفاده « استحباب النفقة على الأقرباء » و « حرمة النفقة على الفساق » و « وجوب النفقة على الأولاد الصغار » فأيّ مبرّر يقتضي تقديم ملاحظة الدليل الاول مع الدليل الثالث ومن ثم تخصيص الاول بالثالث ، ثم ملاحظة الاول بعد تخصيصه مع الثاني ، ولما ذا لا تلاحظ

٣٨٤

الأدلة الثلاثة في عرض واحد فتكون النتيجة هي استحكام التعارض في مورد الاجتماع وهو القريب الفاسق فيلتزم بالترجيح أو التخيير وفي نفس الوقت نلتزم بوجوب النفقة على الأولاد الصغار » لعدم وقوعه طرفا في المعارضة وعندئذ يكون حاصل الجمع هو وجوب النفقة على الاولاد الصغار واللذين هم من الاقرباء واستحباب النفقة على الاقرباء غير الفساق ، وأما القريب الفاسق فحكمه تابع لما هو المبنى من الترجيح أو التخيير فإن كنا نبني على الترجيح وكان الراجح هو الدليل الاول فإن المتعيّن حينئذ هو استحباب النفقة على القريب الفاسق وان كان الراجح هو الدليل الثاني يكون المتعين هو حرمة النفقة على القريب الفاسق وان لم يكن ثمة مرجح لاحد الدليلين الاول والثاني فالنتيجة هي التساقط والرجوع الى الاصل العملي إن لم يكن ثمة عموم فوقاني.

ودعوى انّ الدليل الثالث يكون قرينة على الدليل الاول لأنّه أخص منه مطلقا غير مسموعة ، وذلك لأن الدليل الثالث انّما هو قرينة منفصلة ، والقرينة المنفصلة لا تهدم الظهور ، فعليه يبقى الاول ظاهرا في العموم ، وهذا ما يوجب بقاء النسبة بينه وبين الدليل الثاني العموم والخصوص من وجه.

وفي مقابل ما ذهب اليه صاحب الكفاية رحمه‌الله ذهب جمع من الأعلام الى انقلاب النسبة واستدلّ لهم السيد الخوئي رحمه‌الله بما حاصله : انّ الثابت في محلّه هو انّ القرائن المنفصلة تكشف عمّا هو المراد الجدّي فإذا ورد دليل عام ثم ورد بعد ذلك دليل خاص فإنّه يكشف عن انّ العموم لم يكن مرادا جدّا من أول الأمر. ومن الواضح انّ الحجيّة الثابتة للظهور انّما هي ثابتة لخصوص ما تقتضيه الإرادة الجدّية للمتكلّم ، وعندئذ لا يمكن ان يعارض

٣٨٥

دليل ثالث عام بهذا الدليل العام ، وذلك لعدم كونه مرادا جدّا ، أي انّه غير حجة في العموم ، وغير الحجة لا يعارض ما هو حجّة ، نعم هو حجّة في الخصوص باعتبار انّ الخصوص هو المراد الجدي للمتكلّم.

والخصوص حينما يلاحظ مع الدليل الثاني العام تنقلب النسبة عمّا لو كانت الملاحظة للنسبة بين العام قبل التخصيص والدليل الثاني العام.

إذن لمّا كان الدليل الصالح لوقوعه طرفا في المعارضة هو الدليل الحجة فهذا يقتضي تخصيص العام قبل ملاحظة علاقته بالدليل الثالث ، وهذا ما ينتج انقلاب النسبة أي تبدلها عما لو لوحظت الادلة في عرض واحد.

* * *

١٦٥ ـ الانقياد

المراد من الانقياد هو الطاعة الاعتقادية مع اتفاق عدم الأمر واقعا ، وذلك في مقابل التجرّي والتي هي المعصية الاعتقادية ، بمعنى انّ المكلف حينما يكون بصدد الإتيان بما يعتقد كونه مطلوبا للمولى ويتفق عدم مطابقة اعتقاده للواقع يكون بذلك منقادا ، وهذا في مقابل التصدي لمخالفة ما يعتقد لزوم الالتزام به شرعا مع اتفاق عدم مطابقة معتقده للواقع ، فإنّه عندئذ يكون متجريا.

فالتجري هو مخالفة ما يعتقد لزومه شرعا مع منافاة المعتقد للواقع ، والانقياد هو موافقة ما يعتقد مطلوبيته شرعا مع منافاة المعتقد للواقع ، على انّه يمكن ان يقال انّ دائرة الانقياد أوسع من دائرة التجري ، وذلك لأنّ الانقياد يصدق في حالة التصدّي لموافقة ما يحتمل مطلوبيته شرعا ، وهذا بخلاف التجري فإنّه لا يصدق إلاّ في حالة المخالفة لما يعتقد لزومه شرعا ، نعم التجري لا يختص بحالات المخالفة لما هو مقطوع اللزوم بل يشمل

٣٨٦

المخالفة لما قامت الحجة الشرعية على لزومه.

فحينما يكون مقتضى الاستصحاب أو الاشتغال هو اللزوم فإنّ مخالفة المكلف لما هو مقتضى الاستصحاب يعدّ تجريا لو اتفق عدم مطابقة مؤدى المنجّز الشرعي للواقع ، وهذا بخلاف الانقياد فإنّه لو كان الجاري في مورد من الموارد أصل البراءة المقتضية للسعة إلاّ انّ المكلف وبسبب احتماله للمطلوب الشرعي عمل بما هو مقتضى احتماله فإنّه يعدّ منقادا.

وكيف كان فالانقياد يكشف عن حسن سريرة المنقاد ، وهل يستحق المثوبة على ذلك أو لا؟

يحتمل عدم الاستحقاق ، وذلك لأن الثواب مترتب على موافقة المأتي به للامر المولوي. كما يحتمل الاستحقاق للثواب ، وذلك لأن بناء العقلاء قاض بترتب الثواب بمجرّد كون العبد في مقام الجريان على وفق ما تقتضيه عبوديته لمولاه. ومن هنا ذهب جمع من الأعلام الى استحقاق المكلّف للمثوبة على الانقياد ومنهم الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية رحمهما الله.

* * *

١٦٦ ـ الأوامر الإرشاديّة

تنقسم الأوامر سواء المدلول عليها بالصيغة أو بالمادّة أو بشيء آخر إلى قسمين : أوامر مولويّة وأوامر إرشاديّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تكشف عنه الأوامر.

أمّا الأوامر المولويّة : فهو ما يكون مدلولها حكما من الأحكام التكليفيّة الطلبيّة والتي هي الوجوب والاستحباب ، ومولويّتها ناشئة عن أنّ المولى يجعل هذه الأحكام على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلّف مبعوثا نحو تحقيق متعلّقاتها أداء لحقّ المولويّة للمولى ، غايته أنّ المولى قد

٣٨٧

يرخّص في ترك بعض متعلّقات هذه الأوامر إلاّ أنّ الترخيص لا يسقطها عن الطلب.

وأمّا الأوامر الإرشاديّة : فهي ما يكون مدلولها حكما عقليّا أو حكما شرعيّا وضعيّا.

وتوضيح ذلك : أنّ الأمر سواء المدلول عليه بالصيغة أو بالمادّة ظاهر ـ كما قلنا ـ في الوجوب أي ظاهر في الأمر المولوي إلاّ أنّه قد تقوم قرينة تصرف هذا الظهور إلى مدلول آخر تبعا للقرينة. فمن الموارد الذي استعمل فيها الأمر في غير الأوامر المولويّة الوجوبيّة هو هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو « الأوامر الإرشادية » وهي التي لا يكون متعلّقها مبعوثا نحوه ومطلوبا من المكلّف تحصيله ، وإذا كان فيه طلب فهو ليس من مقتضيات نفس الأمر الإرشادي ، إذ الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

وبتعبير آخر : الأمر الإرشادي دوره دور الكاشف وليس له دور البعث نحو متعلّق الأمر كما في الأوامر المولويّة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الأوامر الإرشاديّة يمكن تقسيمها إلى قسمين :

القسم الأول : ما يكون فيه الأمر كاشفا عن مدرك من المدركات العقليّة ، أو قل عن حكم من الأحكام العقليّة والتي يكون لها تقرر وثبوت في مرحلة سابقة على صدور الأمر ويكون دور الأمر الإرشادي فيها دور المنبّه والمرشد إلى الحكم العقلي وبالتالي يكون المطلوب في مثل هذه الأوامر ليس مطلوبا مولويّا بل هو مطلوب يقتضيه العقل ، وذلك كقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) فإنّ صيغة الأمر هنا استعملت في الأمر الإرشادي ، والذي صرف ظهور هذه الصيغة عن الأمر المولوي الوجوبي هو

٣٨٨

وجود قرينة عقليّة تمنع من هذا الظهور بل وتكوّن ظهورا آخر وهو الظهور في الإرشاديّة ، وهذه القرينة هي حكم العقل باستحالة أن يكون هذا الأمر مولويّا إذ لو كانت طاعة الله عزّ وجلّ مستندة إلى أمر الله جلّ وعلا لكنّا قد احتجنا إلى أمر يبعثنا نحو طاعة أمر الله الذي يقتضي طاعة الله.

وهكذا الكلام في هذا الأمر الأخير ، فإمّا أن يدور أو يتسلسل وكلاهما مستحيل ، أما إذا استندت طاعة الله عزّ وجلّ إلى ما يقتضيه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا انتفى كلا المحذورين ، وهذه القرينة هي التي صرفت صيغة الأمر عن ظهورها في الوجوب وكوّنت ظهورا جديدا للأمر وهو الظهور في الإرشاديّة ، فالمراد من الإرشاديّة إذن في المقام هو التنبيه على ما يحكم به العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا ، إذن الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

القسم الثاني : ـ من الأوامر الإرشاديّة ـ ما يكون مدلوله حكما وضعيّا ـ وقد قلنا ـ أنّ الأحكام الوضعيّة هي مجعولات شرعيّة لا تتّصل بفعل المكلّف مباشرة ، أي أنّها ليست حكما تكليفيّا مجعولا على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلف مبعوثا نحوها ومطلوبا منه إيجادها ، نعم قد تكون موضوعا لحكم تكليفي ـ كما بيّنّا ذلك في محلّه ـ ، والأحكام الوضعيّة هي مثل الطهارة والنجاسة والملكيّة والصحة والفساد لأن هذه المجعولات الشرعيّة لا يكون المكلّف مسئولا عن تحصيلها ، ولهذا لو صدر أمر وكان متعلّقه أحد هذه المجعولات الشرعيّة فإنّ هذا الأمر يكون إرشاديّا ، والقرينة على إرشاديّته هي معرفة عدم مطلوبيّته بنفسه من المكلّف ، فلو قال المولى : « طهّر ثوبك من الدم بالماء » فإنّ هذا الأمر ليس ظاهرا في الوجوب ، وذلك لوجود قرينة صارفة

٣٨٩

عن ظهور هذا الأمر في الوجوب ، وهذه القرينة هي أنّ متعلّق الأمر وهو الطهارة ليس مطلوبا من المكلّف تحصيله ، إذ أنّ للمكلّف أن لا يطهّر الثوب عن الدم ولا يكون بذلك قد خالف أمر المولى ، إذن يكون هذا الأمر مرشدا إلى حكم وضعي وهو أنّ الدم من النجاسات وأنّ الماء من المطهّرات.

* * *

١٦٧ ـ إيجادية المعنى الحرفي

ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله الى انّ المعاني الحرفية معان إيجادية. ومقصوده انّ المعاني الحرفية ليست استقلالية وليس لها تقرّر في عالم المفهوم بل انّ وجودها منوط بوقوعها في اطار مركب لفظي ، فهي نظير الأعراض من جهة انّها وجودات غير مستقلة ولا يكون لها وجود إلاّ في إطار موضوع ، وافتراض وجود عرض في غير موضوع مستحيل ، فوجوده متقوم دائما بوجود موضوعه.

وهكذا الكلام في المعاني الحرفية فإنّها وجودات منوط وجودها بوقوعها في اطار مركبات لفظية وهذا هو شأنها مطلقا ، فليس من وعاء من الاوعية تكون فيه الحروف وجودات مستقلة ، ولها تجد انّ اطلاقها بصورة مستقلة عن المركب اللفظي لا يعبّر عن أيّ معنى ، فلا ينخطر من اطلاقها أيّ مضمون ، وهذا كما أفاد المحقق النائيني رحمه‌الله ناشئ عن نقصان في ذاتها ، فعدم استقلاليتها ليس ناشئا عن لحاظها لحاظا آليا فحسب بل لكونها وجودا ناقصا متدلّيا ومتقوما بالغير كما هو الحال في الوجودات العرضية كالمقولات التسع.

والفائدة المناطة بالوجودات الحرفية هي الربط بين المفاهيم الاسمية المستقلّة ، وذلك لأنّ المفاهيم الاسمية

٣٩٠

مفاهيم متباينة في نفسها من جهة ، ومن جهة اخرى انّ المفاهيم الاسميّة مفاهيم استقلالية ومتقرّرة في عالم الذهن ، ومن هنا لا يتأتى للاسماء ايجادها بعد ان كانت اخطارية أي مستقلّة ومتقرّرة لا في موضوع.

وبتعبير أدق : انّها ليست من الوجودات الربطية حتى تتأهل للايجادية ، فلا بدّ لايجادها من معان ربطية تؤلف بين هذه المعاني المتباينة والمتقرّرة في نفسها في الذهن ، وهذا ما تتصدى المعاني الحرفية لايجاده.

ومن هنا كانت المعاني الحرفية ايجادية أي انها توجد الربط بين المفاهيم الاسمية المستقلة والمتباينة والتي يستحيل ان تنوجد بواسطة الاسماء والتي تتمحض وظيفتها في ابراز المعاني المستقلة المتباينة والفاقدة للرابط الذاتي فيما بينها ، فلا بدّ من وجود روابط بين هذه المعاني المستقلة ، وليس ثمة وجودات ربطية سوى ما ينخلق بواسطة المعاني الحرفية.

على انّ المعاني الحرفية ـ كما ذكرنا ـ يستحيل أن يكون لها نصيب من الوجود غير الوجود الربطي ، إذ لو افترضت استقلالية لكانت مفتقرة الى وجود ربطي وليس سوى الاسماء وقد افترضناها استقلالية. ومن هنا يتمحض وجودها بالوجود الربطي التعلّقي ، وهذا ما أهلها لايجاد الربط بين المعاني الاسميّة.

فكلمة « في » وضعت لإيجاد معنى ربطي بين الظرف ومظروفه ولولاها لما كانت بين المعنيين الاسميين المستقلين « الظرف والمظروف » أيّة رابطة ، وهكذا كلمة « من » إذ انّها وضعت لإيجاد الربط بين المبتدأ به والمبتدأ منه.

على انّ ذلك لا يختص بالمعاني الحرفية النسبية مثل « من ، في ، الباء » بل يشمل المعاني الحرفية غير النسبية

٣٩١

مثل حروف النداء والتمنّي والترجّي ، فحرف التمنّي يربط بين المتمنّي ـ بصيغة الفاعل ـ والمتمنّى وهو متعلّق التمنّي.

وبما بيناه اتضح انّ المعاني الحرفية معان ربطية لا استقلال لها في عالم المفاهيم بل وفي تمام العوالم ، فهي متقومة دائما بالمركبات ولا وعاء لها سوى ذلك ، وتتمحّض وظيفتها في ايجاد الربط بين المعاني الاسمية المستقلّة.

وهذا ما عبّرت عنه الرواية المنسوبة لأمير المؤمنين على ابن أبي طالب عليه‌السلام « انّ الحرف ما أوجد معنى في غيره ».

٣٩٢

هوامش حرف الألف

(١) سورة النساء : ٣٠.

نواقض الوضوء ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل : باب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات.

(١٧) الوسائل : باب ٤٤ من أبواب النجاسات الحديث ١.

(٣) اصول الكافي : ١ / ١٠٩ الحديث ٣.

(١٨) سورة المائدة : ١.

(٤) اصول الكافي : ١ / ١٣٠ الحديث ٤.

(١٩) سورة المائدة : ١.

(٥) سورة الحجر : ٣٠.

(٢٠) سورة المائدة : ٣.

(٦) سورة الأنفال : ٢٠.

(٢١) الوسائل : باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس الحديث ١.

(٧) سورة المائدة : ٩٦.

(٢٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٨) سورة الزمر : ١٨.

(٢٣) سورة التوبة : ١١١.

(٩) سورة الزمر : ١٨.

(٢٤) سورة البقرة : ٢٤٥.

(١٠) سورة الزمر : ١٧ ـ ٢٠.

(٢٥) سورة الأنفال : ٢٠.

(١١) سورة يونس : ٢٥.

(٢٦) سورة الأنفال : ٢٠.

(١٢) سورة الزمر : ٥٥.

(٢٧) سورة طه : ١٣٢.

(١٣) سورة الزمر : ٥٣ ـ ٥٦.

(٢٨) سورة المائدة : ٢.

(١٤) مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة الحديث ٣٤١٨.

(٢٩) سورة المائدة : ٩٥.

(١٥) سورة النجم : ٢٨.

(٣٠) الوسائل : باب ٣٦ من أبواب مقدّمات النكاح الحديث ١٠.

(١٦) مستدرك الوسائل : باب ١ من أبواب

٣٩٣
٣٩٤

حرف الباء

٣٩٥

عناوين حرف الباء

١٦٨ ـ البداء

١٦٩ ـ البراءة

١٧٠ ـ البراءة الأصلية

١٧١ ـ البراءة الشرعيّة

١٧٢ ـ البراءة العقليّة

١٧٣ ـ البراءة في المستحبات

١٧٤ ـ البرهان اللمّي والبرهان الإنّي

١٧٥ ـ بساطة المشتق

٣٩٦

حرف الباء

١٦٨ ـ البداء

البداء في اللغة بمعنى الظهور ، يقال « بدا لي أمر » أي ظهر بعد خفائه أو بعد ان لم يكن ظاهر.

والبداء بهذا المعنى مستحيل على الله تعالى ، إذ لا يتفق ذلك إلاّ لمن يجوز عليه الجهل وهو تعالى منزّه عن النقص فهو الكمال المطلق الغير المتناهي ، واذا كان كذلك فهو عالم بكلّ شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو عليم بذات الصدور.

فليس ثمة عالم من العوالم إلاّ وهو تعالى محيط به ومطلع عليه ، على انّ علمه تعالى أزلي بأزلية ذاته المقدسة ، هذا ما عليه الإمامية « رفع الله شأنهم ».

وأما قولهم بالبداء فليس المقصود منه الظهور بعد الخفاء ، إذ انّهم مجمعون قاطبة ودون استثناء على استحالة ذلك على الله تعالى ، فما نسب اليهم من المصير الى هذا القول محض افتراء وإرجاف فهذه كتبهم تعبّر عن فساد هذه النسبة ، والى الله المشتكى ربنا « ان كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ».

والبداء الذي تقول به الامامية انّما هو الإظهار بعد الإخفاء ، والتعبير عن

٣٩٧

ذلك بالبداء انّما هو مجرّد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح. ومنشأ الاصطلاح عليه بالبداء هو علاقة المشاكلة ، والتي تعني ـ كما ذكر علماء البديع ـ « ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا ».

كما في قوله تعالى : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (١) ، فإنّ نسبة المكر الى الله تعالى ليس بمعنى المكر المنسوب الى الكفار والذي يستبطن معنى الخديعة ، إذ هو تعالى منزّه عنها ، فالمكر المنسوب الى الله تعالى يعني الغلبة والقهر ، وانّما جيء بلفظ المكر لغرض المشاكلة بمعنى انّه استعاض عن لفظ الغلبة والقهر أو ما يراد فهما بلفظ المكر لمناسبته ومشاكلته للفظ المكر المستعمل ـ في صدر الآية الشريفة ـ في معناه الحقيقي.

هذا فيما تكون فيه المشاكلة تحقيقية ، وقد تكون تقديرية كما في قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (٢) ، فإنّ تمييز الخبيث من الطيب منوط بالامتحان ، وهذا يعني الجهل بالواقع قبل الامتحان ، وهو مستحيل على الله تعالى ، إلاّ انّ استعمال لفظ التمييز هنا للمشاكلة التقديرية حيث لم يذكر لفظ التمييز بمعناه الحقيقي في نفس الكلام إلاّ انّه مقدّر بمعنى انّ المولى أراد تقريب المعنى المراد عنده تعالى بالمعنى المألوف للتمييز وهو المعنى المناسب للإنسان.

واستعمال لفظ البداء في الإبداء من قبيل المشاكلة التقديرية ، والتي هي مجرّد استبدال لفظ بلفظ دون ان يكتسب المعنى الذي استعمل اللفظ فيه مجازا ما يعبّر عنه المعنى الحقيقي للفظ ، غايته انّ هذا اللفظ لمّا كان مألوفا أكثر ومعناه الحقيقي أقرب للفهم اتّخذ هذا اللفظ معبرا وطريقا لإفهام المعنى الآخر الادق والذي هو الإبداء.

٣٩٨

على انّ هذا الاستعمال لسنا مختصين به بل ذكر في روايات السنة أيضا ، فقد نقل البخاري في صحيحه باسناده عن أبي عمرة انّ أبا هريرة حدّثه انّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول « انّ ثلاثة في بني اسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا لله عزّ وجل أن يبتليهم ... » (٣).

وكيف كان فالمراد من البداء هو انّ المشيئة الالهيّة اقتضت تدبير بعض الامور على أساس القابلية للتغيّر أو التقديم والتأخير وربط بعض المقدرات باخرى بنحو التعليق ، على انّه تعالى مطلع من الأزل على المتقدم منها من المتأخر وعلى انّ المعلّق منها هل سيتم لتحقق المعلّق عليه أو انّه لن يتم لأنّ المعلّق عليه لن يتحقق.

فالمحو والإثبات والتغيير والتأخير والتقديم والتعليق لا يتنافى مع علمه بما ستصير اليه الامور ، وانّما اقتضت حكمته وشاءت إرادته تدبير خلقه بهذا النحو من التدبير « لا يسأل عمّا يفعل ».

وقد دلّت على هذا النحو من المشيئة آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (٤) ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ ) (٥) ، ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (٦) ، ( إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) (٧) ، ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) (٨) ، ( اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) (٩) ، ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) (١٠) ، ( وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ) (١١) ، ( وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ ) (١٢).

فالبركات المنفتحة عن السماء والنصر الذي يؤيد الله به أنصاره

٣٩٩

والنور المفاض عن الله تعالى على المؤمنين وتعجيل الخير بدلا عن تأخيره وتأخير العذاب بدلا عن تعجيله كلها مظاهر للقدرة الالهية والتي هي مكنونة في مخزون علمه ، غايته انّ حكمته اقتضت التعجيل أو التأخير أو التعليق.

فالتعبير عن ذلك بالبداء نشأ عن انّه تعالى يظهر مشيئته لعباده فيظهر لهم ما كان خفيا عنهم ، فقد يعدهم بالنصر فيؤخره عنهم لأنّ مشيئته اقتضت تعليق النصر على التوكل على الله ، فلمّا خلت نفوسهم عنه أخّر النصر عنهم ، فتظهر لهم مشيئته في التأخير بعد ان لم تكن ظاهرة لهم لوعده ايّاهم بالنصر ، وهذا لا يستلزم الكذب لانّه علّق وعده بالنصر على التوكل وهم قد خلو منه وقد لا يصرّح بالمعلّق عليه لمصلحة اقتضتها حكمته البالغة.

ويعبّر عن هذا النحو من القضاء ـ في تمام الموارد التي ذكرناها ـ بالقضاء غير المحتوم وبالقضاء الموقوف ، وهو المقصود من لوح المحو والإثبات المستفاد من الآية الكريمة ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (١٣).

وقد دلّت على البداء بهذا المعنى روايات كثيرة من طرقنا :

منها : ما عن علي بن ابراهيم في تفسيره عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فإذا أراد الله ان يقدّم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك ان يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي أراده ، قلت : وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب الله ، قال : نعم ، قلت : فأي شيء يكون بعده ، قال : سبحان الله ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى » (١٤).

ومنها : ما عن علي بن ابراهيم

٤٠٠